ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

حكايةُ المأمون

وقال لابنيه تعالوا سلموا

على الامام عمكم وعظموا

واستفسر المأمون باستغرابِ

من الذي شيّعتهُ للبابِ

فقال يا بني هذا موسى

أضحى لطه جذرهُ مغروسا

هو الامام الحق والوليُّ

والطاهر المطهر التقيُّ

انا الامام عنوةً وهذا

صار لكل أمةٍ ملاذا

والله إنه أحقُ مني

بالأمر أن يقوم فيه عني

فالملك ذا يا ولدي عقيمُ

لعدتَ مذبوحاً بغير نعشِ

والله لو نازعتني بالعرشِ

ولا يُهابُ الملكُ الرحيمُ

خلال ذاك سعت السعاةُ

ووشيت بالكاظِمِ الوشاةُ

بأنه قد جمّع الاموالا

وعبأ الجنودَ والرجالا

وانه يهمُ بالخلافة

وكاتماً في سره أهدافه

وانه وارثُ علم المصطفى

وانه دبر أمراً في الخفا (١)

__________________

(١) انها قصة روتها كتب الاقدمين ، وقد وردت على صورتين :

الصورة الاولى : عن سفيان بن نزار قال : كنتُ يوماً عند رأس المأمون ابن هارون فقال وهو يحدّث جمعاً من الحاضرين : أتدرون مَنْ علمني التشيّع ؟

فقال القوم جميعاً : لا والله ما نعلمُ

فقال المأمون : علمنيه والدي الرشيد

قلنا له : وكيف ذلك والرشيد يقتلُ اهل هذا البيت ؟!

قال : كان يقتلهم على المُلك لأن الملك عقيم ، ثم قال :

=

٥٠١
 &



__________________

=

حججتُ يوماً مع ابي هارون فلما وصل الى المدينة ، ثم اذ دخلَ علينا شيخٌ قد انهكته العبادة كأنه شنٌّ بالٍ ، فلما رآه ابي ترجلَّ من حماره ، واجلسه على بساطه ، فنظرنا اليه بالاجلال والاعظام ، فأقبل والدي يحدّثهُ ويُقبل بوجهه عليه ، فما اسرع الشيخ الى ان نهض فنادانا ابي هارون انا واخي الامين واخي المؤتمن : يا عبد الله ، يا محمد ، يا إبراهيم قدموا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه ، وسووا عليه ثيابه ، وشيعوه الى منزله ، فلما خلا المجلس قلتُ لأبي هارون : يا امير المؤمنين ، مَنْ هذا الرجل الذي عظّمته واجللته ؟ فقال لي : هذا إمام الناس وحجّةُ الله على خلقه وخليفته على عباده ، فقلتُ : يا امير المؤمنين اوليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟!

فقال : انا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر وهذا موسى بن جعفر إمام حقٍ والله يا بنيّ انه لأحقُّ بمقام رسول الله هذا مني ومن الخلق جميعا والله لو نازعتني انت على هذا الامر لأخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم. الاحتجاج٢ / ١٦٥.

الصورة الثانية : عن الريان بن شبيب حيث قال :

قال المأمون : دخل الناس على ابي هارون فكان آخر من اذن له موسى بن جعفر عليه‌السلام فلما نظر اليه نهض له وقرب منه وجثا على ركبتيه وعانقه ثم اخذ يسأله عن احواله فلما نهض موسى عانقه ابي وودعه ..

قال المأمون : فقلتُ : يا امير المؤمنين ، رأيتك قد علمتَ لهذا الرجل شيئاً ما عملته مع احدٍ قطّ ، فمن هذا الرجل ؟

فقال هارون : يا بُني هذا وارث علم النبيين هذا موسى بن جعفر ان اردت العلم الصحيح فعند هذا.

قال المأمون : عند ذلك انغرس حبّه في قلبي وحبّ اهل بيته. حلية الابرار ٢ / ٢٦٩.

٥٠٢
 &

الرشيد يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وذات يوم قصدَ الرشيدُ

مدينة الرسولِ يستعيدُ

ذكرى رسول الله والصحابة

وقبة قدسيةٍ مهابة

مسلماً وكلُهُ احتشامُ

عليك يا ابن عمنا السلامُ

فبادر الامام ثم قاما

ليرفع التبجيل والسلاما

قال سلام الله يا جداهُ

يا ابتي وانهمرت عيناه

فغضب الرشيد من خطابه

وقد توارى الرشد من صوابه

فقال هل انت قريب منهُ

اكثر منا ام بعيدٌ عنه ؟

فابتسم الامامُ ثم قالا

بكلمة توضحُ السؤالا

نحن بنوه دون كل الناسِ

وانتم الاعمام بالعباس (١)

* * *

__________________

(١) نقلت المصادر التاريخية ان هارون اعتمر في شهر رمضان عام ١٧٩ هـ فلما عاد الى المدينة دخل الى قبر النبي ليزوره مع الناس فلما وصل الى القبر وقف وقال : السلام عليك يا رسول الله يا ابن العم ، حينئذٍ دنا ابو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام من القبر ثم قال : السلام عليك يا أبه ، فتغير وجه هارون ثم قال والحقدُ يملأ قلبه : هذا هو الفخرُ يا ابا الحسن ، ثم سكت هارون لبرهة بعدها اضاف قائلاً له : لِمَ صرت اقرب الى رسول الله منّا ؟! فأجابه الإمام عليه‌السلام : لو بُعث رسول الله حياً وخطب منك كريمتك هل كنت مُجيبه الى ذلك ؟ فلم يتفوه هارون بكلام.

كانت حادثة زيارة هارون لقبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولقاء الإمام به بحيث أغضب الرشيد حتى قال بعدها مخاطباً الرسول : بأبي أنت وامي إني أعتذر اليك من أمر عزمت عليه ، اني اريد ان آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين امتك حرباً يسفك بها دماءهم. الغيبة للطوسي / ٢٨.

٥٠٣
 &

حدود فدك

وذات يوم سأل الرشيدُ

عن ( فدكٍ ) وهل لها حدودُ

قال نعم فحدّها من عدنِ

الى سمرقندَ وتلك المدنِ

ثم الى الجبال من أفريقية

وحد سيف البحر من أرمينية

فغضب الرشيد باصفرارِ

وقال قد ذهبتَ بالامصارِ

وظل في أحقاه يفورُ

مفكراً في أمره يدورُ

فاضمر الرشيدُ أمر سجنه

ولم يمر النوم فوق جفنه

وضاق صدره بأمر الكاظمِ

فقرر الولوغ في المآثمِ (١)

* * *

__________________

(١) تشير المصادر ان هارون قال للإمام ابي الحسن عليه‌السلام : حدّد « فدك » حتى اردَّها عليك ؟

فقال عليه‌السلام : الحدّ الاول عدن ، والحدُّ الثاني سمرقند ، والحدُّ الثالث افريقية ، والحدُّ الرابع سيف البحر مما يلي ارمينية.

فقال هارون : لم يبق لنا شيء ؟ انها الدنيا كلّها. مقتبس من المناقب ٤ / ٣٢٠ ـ ٣٢١

اشار الامام الكاظم عليه‌السلام في جوابه هذا الى اغتصاب الخلافة من خلال ارض فدك التي تصادرت من الامام علي لئلا تكون له مصدراً اقتصادياً يقف بطريقهم.

والمصادر تُشير كذلك ان الرشيد يومها عزم على قتل الإمام عليه‌السلام وقالوا : ان هذه القضية احد الاسباب المهمة التي اعجلت الرشيد لزج الإمام عليه‌السلام في السجن او التخلص منه.

ومن المفيد ذكره هنا ان قضية فدك في التاريخ الاسلامي شهدت حالات مدّ وجزر بين هذا الخليفة او ذاك ، وعلى طول التاريخ فهذا يغتصبها سرعان ما يردُّها غيره ، كما فعل عمر بن عبد العزيز الاموي عندما ارجعها الى العلويين ، لكن سرعان ما اغتصبت ثانية بعد موته.

أجل انها لم تكن قطعة ارض بل رمز لكل الكيان الاسلامي المغتصب.

٥٠٤
 &

اعتقالُ الامام عليه‌السلام

فبعث السجان والازلاما

في الليل كي يعتقل الاماما

فقطعوا صلاته عليه

ووضعوا القيودَ في يديه

وسار فيه الركبُ نحو البصرة

ويثرب ملأى بألف حسرة

يسوقهم « حسانُ » وهو « السرويُّ »

وهو لعمري مجرم وملتوي (١)

* * *

__________________

(١) وبعد زيارة الرشيد لقبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه بالإمام أمر الطاغية هارون باعتقال الإمام عليه‌السلام وفعلاً القي القبض على الإمام عليه‌السلام وهو قائم يصلي عند رأس جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يمهلوه لإيمامهم.

فحمل وقيّد فشكى الإمام لجدّه الرسول قائلاً : اليك اشكو يا رسول الله.

وبعد اعتقال الامام غدت الناس تتحدث فيما بينها باستنكار هذا الحدث المهم فتألمت الامة كثيراً فلم يبق قلب الا وتصدّع من الأسى والحزن فخافت السلطات أن يكون اعتقال محفزاً للثورة عليها ، فحمل جملين ، واحداً الى البصرة ، وهو يحمل الامام عليه‌السلام وكان قائد ركب الشرطة اسمه حسان السروي ، والجمل الثاني الى الكوفة لغرض الايهام على الناس ، لئلا يعرف محل حمل الإمام عليه‌السلام في أيّهما. اعلام الهداية ٩ / ١٦٢.

٥٠٥
 &

سجن البصرة

وصار في البصرة أمر موسى

لابن ابي جعفر وهو عيسى

مضيقاً عليه في محبسه

اذ صار فيه يومه كأمسهِ

وأقبل الامام في العبادة

والصوم اذ أضحى لديه عادة (١)

* * *

__________________

(١) وهكذا اصبح الإمام عليه‌السلام حبيس سجن البصرة عند عيسى ابن المنصور ومكث عنده سنة من الضيق والتشديد حيث لا يفتح له الباب الا للوضوء وادخال الطعام فصار عليه‌السلام يقضي ساعات سجنه بين الصلاة والصوم وقراءة القرآن والتضرع الى الله بمناجاته سبحانه حتى عُرف عنه بانه صاحب السجدة الطويلة والمناجاة الخاشعة وكثيراً ما كان يحمد الله ويشكره على هذا التفرغ لعبادته بقوله عليه‌السلام :

اللهم إنك تعلم اني كنت سألتك أن تفرغني لعبادتك وها أنت قد فعلت فلك الحمد.

المناقب ٤ / ٣٤٣.

٥٠٦
 &

من السجن ينشرُ علومه

ورغم سجنه وما يقاسي

من ظلم سجان بني العباس

قد واصل الرواة بالحديث

سراً بسعي مجهدٍ حثيثِ

فمنهم ياسينٌ الزياتي

روى وكان أوثق الرواةِ

وانتشرت أخبار سجن الكاظمِ

واصبحت حديث كل العالمِ

وخاف هارون حدوث الفتنة

وكان ان يطفي ضياء السنة

فاصدر الامر بقتل موسى

لما غدا في سجنه محبوسا (١)

* * *

__________________

(١) ففي اثناء حبسه عليه‌السلام عرف بالعبادة ، وبثّ الحديث ، ونشر مكارم الاخلاق ، وكان يكاتب ويراسل بعض ثقاته من اصحابه.

ولما شاع خبر اعتقال الإمام في البصرة وعلم الناس بمكانه هبّت اليه العلماء وغيرهم لغرض الاتّصال به من طريق خفيّ فاتصل به ياسين الزيات الضرير البصري وروى عنه.

النجاشي / ٤٥٣.

لقد قهر الإمام عليه‌السلام بصبره وعبادته وثقته بالله سبحانه كل وسائل الجور وشدائد الحبس ، ففي اثناء حبسه عُرف بالعبادة وبثّ الحديث ونشر مكارم الاخلاق ، وكان يُكاتب ويُراسل بعض ثقاته من اصحابه ، بل تؤكد المصادر انه عليه‌السلام اخذ يؤثر بعبادته وتقواه حتى على اعوان هارون ، ولا سيما سجانه عيسى بن المنصور الذي اخبر الرشيد بضرورة نقل الإمام عليه‌السلام من سجنه لكونه لم يرَ منه شيئا سوى العبادة والخير الكثير ، وهذا مما افزع هارون خصوصاً بعد شيوع خبر سجنه بين الناس ، فأستشعر هارون حدوث امر لا تحمد عُقباه مما جعله يفكر ويسرع في التخلص منه ، وكذلك تشير المصادر انه عليه‌السلام قد اثر ايضاً على الفضل بن يحيى لما نُقل الى سجنه مما جعله يرأف بحال الإمام عليه‌السلام ويخفّف عنه مما ادى الى عقوبة الفضل من قبل هارون وبالتالي نقل الإمام الى سجنٍ آخر.

٥٠٧
 &

موقفُ عيسى

فرد عيسى رغبة الاميرِ

بأن موسى ليس بالشريرِ

وليس فيه مطمع الولاية

ولا الخروج كان منه غاية

ولا دعا قط على الرشيدِ

وليس بالحقود والعنيدِ

فاطلب العفو من الاميرِ

عن قتله وأمره الخطيرِ

أو انني أَبعثهُ اليه

أو اطلقَ الحديدَ من يديه (١)

* * *

__________________

(١) واوعز الرشيد الى عيسى يطلب منه فوراً القيام باغتيال الإمام عليه‌السلام لكن لمّا وصلت أوامر الرشيد لعيسى باغتياله الإمام ثقل عليه الأمر ، وجمع خواصّه وثقته فرض عليهم الأمر فأشاروا عليه بالتحذير من ارتكاب الجريمة فاستصوب رأيهم ، وكتب الى الرشيد رسالة يطلب فيها اعفاءه عن ذلك. اعلام الهداية ٩ / ١٦٣.

٥٠٨
 &

سجنُ الفضل في بغداد

وبعد عامٍ كاملٍ في السجنِ

سار لبغداد بكل حزنِ

وسجن الامامُ عند الفضل

ينوء في الحبس بكل ثقل

لكنه يلهجُ بالقرآن

تلاوةً قدسية الالحانِ

ويكثر الصلاة والصياما

ويعشق السجود والقياما

قد عجب السجان من عبادته

واهتزت الجدران من تلاوته

بجسمه المعذب النحيلِ

وصبره المجرب الطويلِ (١)

* * *

__________________

(١) استجاب الرشيد لطلب عيسى وخاف من عدم تنفيذه لطلبه أن يساهم في أطلاق سراح الإمام عليه‌السلام ويخلي سبيله ، فأمره بحمله الى بغداد ، وفرح عيسى بذلك ، ولما وصل الإمام عليه‌السلام الى بغداد أمر الرشيد باعتقاله عند الفضل ، فأخذه وحبسه في بيته.

وأشرف هارون على سجن الإمام إذ كان يتوجس في نفسه الخوف من الإمام فلم يثق بالعيون التي وضعها عليه في سجنه. اعلام الهداية ٩ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

٥٠٩
 &

روايةُ القزويني

فقد روى عن فضله القزويني

وهو لعمري رجل ذو دينِ

قال : دخلتُ مرةً للفضل

في داره جئت لبعض شغلِ

فقال لي يا صاحبي ادنُ مني

وانظر من الدار بعيداً عني

ماذا ترى في البيت يا صديقي

قلت كثوبٍ أسودٍ رقيقِ

قال تأمل لتراه واضحا

فقلتُ عبداً ساجداً مسبحا

فقال : هل تعرفه فقلت : لا

فقال ذا مولاك قد تكبلا

رايتهُ في الليل والنهارِ

في سجدةٍ تطول للاسحارِ

عبادة ما مثلها عبادة

وسيد ليس كباقي السادة

يعرفه الليل بطول السهرِ

والفجر مفتونٌ بطول السور (١)

* * *

__________________

(١) عن المولى التقي احمد بن عبد الله القزويني عن ابيه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطحٍ فلما حاذيته قال لي : اشرف على الدار وانظر ! قلتُ : ارى ثوباً مطروحاً فلما تأملته فإذا هو رجلٌ ساجد فقال لي : اتعرفه ؟

فقلتُ : لا

قال : هذا مولاك ابو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام والله اني اتفقده في الليل والنهار فلم اجده الا ساجداً هكذا وهكذا دأبه في الليل والنهار منذ ان حُولَّ اليَّ.

فقال القزويني فقلتُ له : اتق الله يا فضل فيه ولا تحدث له حدثاً يكون فيه زوال نعمتك.

فقال الفضل : قد ارسلوا لي غير مرة كل اقتله فلم اجبهم الى ذلك ولو قتلوني ما اجبتهم الى ما سألوني. المناقب ٢ / ٣١٨.

٥١٠
 &

دعاءُ الامام بالفرج

حتى اذا قد ضاق صدره بما

كان يقاسي فدعا رب السماء

يا مخرج النار من الحديدِ

ومخرج الزرع برمل البيدِ

ومخرج الحليب من فرث ودم

ومخرج الجنين من جوف الرحم

يا رب خلصني من « الرشيدِ »

والقيد والظلام والحديد

وقد أجيبت دعوة المكروبِ

ودعوة المعذب الغريبِ

فغادر السجن مع التكريم

في وجلٍ الطاغيةِ اللئيمِ

فكل اسبوع يراه مره

كي لا يخّبي عنه موسى سره (١)

* * *

__________________

(١) كان الإمام عليه‌السلام قد اتخذ من هذه السجون محاريب للعبادة وقراءة القرآن ، وكان الجميع يسمعون منه دعاءه : الهي قَبح الذنبُ من عبدك فليحسن العفو من عندك.

ولما طالت مدة الحبس على الإمام عليه‌السلام وهو رهين السجون ، قام في غلس الليل البهيم فجدّد طهوره وصلى لربه أربه ركعات وأخذ يدعو بهذا الدعاء :

( يا سيدي نجني من حبس هارون ، وخلّصني من يده ، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلص الروح من بيت الاحشاء والامعاء ، خلصني من يد هارون ).

واستجاب الله دعاء العبد الصالح عليه‌السلام فأنقذه من سجن الطاغية هارون وأطلقه في غلس الليل. لقد مكث الإمام عليه‌السلام في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعيّنها لنا التأريخ.

وبقي عليه‌السلام بعد إطلاق سراحه في بغداد لم يخرج منها الى يثرب ، وكان يدخل على الرشيد في كل اسبوع مرة يوم الخميس. اعلام الهداية ٩ / ١٦٤.

٥١١
 &

الاعتقال مرة اخرى

ورغب الامام بالزياره

ليثرب لكي يرى انصاره

واهله والصحب والعيالا

من سفرٍ عند الرشيد طالا (١)

لكنهُ أرجعهُ للسجن

عند ابن يحيى في أذىً وحزنِ

لكنما الفضل بن يحيى اكرمه

وفك من قيوده ونعّمه

فوصل الامر لسمع الطاغية

فنالت الفضل بن يحيى الداهية

اذ أمر الرشيد باعتقاله

لما انتهى اليه من فعاله

* * *

__________________

(١) ولما شاع ذكر الإمام وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد ، ضاق الرشيد من ذلك ذرعاً ، وخاف منه فاعتقله ثانية فاودعه في بيت الفضل بين يحيى.

ولما رأى الفضل عبادة الإمام واقباله على الله انشغاله بذكره أكبر الإمام ، ولم يضيّق عليه وكان في كل يوم يبعث اليه بمائدة فاخرة من الطعام ، وقد رأى من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في بقية السجون.

ولمّا أوعز الرشيد للفضل باغتيال الإمام امتنع ولم يجبه الى ذلك وخاف من الله لأنه كان ممّن يذهب الى الإمامة ويدين بها ، وهذا هو الذي سبب تنكيل الرشيد بالفضل واتهام البرامكة بالتشيع. مقاتل الطالبيين / ٥٠٣ ـ ٥٠٤.

٥١٢
 &

سجنُ السندي بن شاهك

وبعدها أرجعهُ للقيد

وكان حبسهُ بدار « السندِي »

مضيقاً عليه بالقيود

ومثقلاً إياهُ بالحديدِ

وهو برغم ذا من العُبّادِ

أهل التقى وخيرةِ الزهادِ

قد حوّل الحبس الى محرابِ

بالرغم من قساوة العذابِ

يُكاتبُ الامصار من زنزانته

يوزع الاموال من خزانته

ويبعث المقرّبين الوكلا

بأمره وعلمه الى الملا

وطالت المدة في المطمورة

وهي لعمري قصة مشهورة

وقد أبى ان يسأل الرشيدا

فكاكه ويكسرَ القيودا

في موقف كموقفِ الرسولِ

وغضبةٍ كغضبة البتولِ

فقد أبى ان ينحني للظالمِ

فكان حقاً وصفه بالكاظمِ (١)

* * *

__________________

(١) لما ضاقت السبلُ بهارون في كيفية التخلص من الإمام عليه‌السلام ولما استطاع الإمام عليه‌السلام بصبره وتقواه وإيمانه على تحطيم سلاسل سجون هارون من ضيقٍ وتشديد وارهاب ، واستطاع الإمام عليه‌السلام سواء بالعبادة او بتأثيره على سجانيه كعيسى بن المنصور ، والفضل ابن يحيى ، والفضل بن الربيع ، اخيراً قرر هارون تسليمه الى مدير شرطته السندي ابن شاهك ، وكان رجلاً ، فظاً ، قاسياً ، خبيث الاصل ، حيث ضيق على الإمام كثيراً واثقله بالقيود ، لكن الإمام عليه‌السلام استمرَّ على ديدنه في العبادة ، والخشوع لله ، وقراءة القرآن ، حتى حول زنزانته الى محراب كبير للعبادة وكان عليه‌السلام وهو في هذا المكان يبث علومه ويوزع صدقاته عن طريق الثقات من وكلائه المقربين.

٥١٣
 &

رسالةُ الامام عليه‌السلام

وفي رسالةٍ الى الرشيدِ

واضحة البيان بالوعيدِ

يقول : ما ان ينقضي يومُ عَنا

عنيَ الا ينقضي يومُ هَنا

عنك الى ان نغتدي جميعا

لساعة لا تقبلُ الرجوعا

يخسرُ فيها المبطلون رغما

محمّلين ظلمهم والأثما (١)

* * *

__________________

(١) ولما احس الإمام عليه‌السلام ان هارون عازمٌ على قتله لا محالة ولأثبات الحجة عليه وبموقفٍ قل نظيره كتب اليه عليه‌السلام وهو في سجنه ، وهو على يقين من استشهاده ورحيله قريباً.

عن محمد بن اسماعيل قال : بعث موسى بن جعفر الى الرشيد من الحبس رسالة كانت :

انه لي ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء ، حتى نقضي جميعاً الى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون.

وبعد ما مكث الامام زمناً طويلاً في سجن هارون تكلّم معه جماعة من خواص شيعته فطلبوا منه ان يتكلم مع بعض الشخصيات المقرّبة عند الرشيد ليتوسط في اطلاق سراحه ، فامتنع وترفّع عن ذلك وقال لهم :

حدثني أبي عن آبائه أن الله عزّ وجل أوحى الى داود ، يا داود إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ، وعرفت ذلك منه الا قطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته. تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٦١.

٥١٤
 &

اغتيالُ الامام عليه‌السلام

فقرر الرشيدُ أن يغتاله

بخطةٍ لئيمةٍ محتاله

فدس سُماً ناقعاً في الرُطبِ

من أجل فتكٍ آثمٍ بابن النبي

وكان امرُ الله فيه قد مضى

وهو شهيد في السجون قد قضى

فارتجت السماء والكون انتحب

لخمسةٍ بقين من شهر رجب (١)

__________________

(١) هنا بلغت المؤامرة فصلها الاخير ، اذ قرّر هارون التخلص من الإمام عليه‌السلام بعد ان يأس ممن يقوم بهذه المهمة ، وبعد فشل محاولاته للتخلص منه اثناء سجونه.

فبعدما عصى الفضل بن يحيى الرشيد في قتله الإمام عليه‌السلام امر الرشيد بتسليم الإمام عليه‌السلام الى السندي بن شاهك ، ثم جلس مجلساً حافلاً ثم قال : ايها الناس ان الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي فالعنوه ، فلعنه الناس من كل ناحية ، فلما بلغ يحيى بن خالد والد الفضل الخبر ركب الى الرشيد ودخل عليه وقال له : يا امير المؤمنين ان الفضل حدثٌ وانا اكفيك ما تريد ، فإنطلق وجه هارون سروراً ثم خرج يحيى حتى بلغ بغداد ، ثم دعا السندي وامره بقتل الإمام عليه‌السلام فأمتثل السندي لامره وسمَّ الإمام عليه‌السلام في طعامٍ قدمه اليه ، وقيل انه جعله في رطبٍ اكل منه الإمام عليه‌السلام فأحسَّ بالسم ولبث بعده موعوكاً ثلاثة ايام ومات عليه‌السلام في اليوم الثالث. اعلام الورى ٢ / ٣٣ ـ ٣٤.

كانت وفاة الإمام سنة ١٤٣ هـ لخمس بقين من شهر رجب. الطبري ١٠ / ٧٠.

وحيث ان الامامة خط موصول فلم ينقطع بموت الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام فقد اكدت المصادر التاريخية بان الامام الكاظم عليه‌السلام أوصى بالامامة الى ولده الامام أبي الحسن علي الرضا عليه‌السلام ومن هذه المصادر : عن سليمان بن المروزي قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا اريد أن أسأله عن الحجة عن الناس بعده فلمّا نظر إلي ابتدأني وقال : يا سليمان إن علياً ابني وصيي والحجة على الناس بعدي ، وهذا افضل ولدي فإن بقيت بعدي فأشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي المستخبرين عن خليفتي من بعدي.

وعن داود الرقي قال : قلت لأبي لموسى عليه‌السلام : أني قد كبرت سني ودقّ عظمي واني سألت أباك فأخبرني بك ، فأخبرني من بعدك ؟ فقال : هذا ابو الحسن الرضا. الكافي ١ / ٣١٢ ـ ٣١٣

وهذا غيض من فيض في النصوص الدالة على امامة الرضا عليه‌السلام بعد أبيه الامام الكاظم عليه‌السلام

٥١٥
 &

على الجسر ببغداد

وحمل الامامُ نحو الجسرِ

سراً ببغداد بُعيدَ الفجرِ

يحملهُ أربعةٌ رجالُ

وهو الذي ناءت به الجبالُ

قد رفعوا اصواتهم بصيحة

لم تخل من شفاههم بفرحة

قد صرخوا في الناس في بغدادِ

هذا ابو الرافضةِ المعادي

قد مات حتف أنفه في الحبسِ

هارون باقٍ وهو ميت يُمسي (١)

* * *

__________________

(١) وحسب الأوامر المعدّة سلفاً من قبل هارون كما تدل عليها القرائن ، لاجل أن يتنصل عن قتله للإمام ، ليس أمام الشيعة فحسب وإنما أمام الأمة الإسلامية كلّها ، وأن تكون طريقة التخلي من مسؤولية الحادث بأن يستبطن أن المقتول ما هو إلا رجل عادي لا وزن له ، فعلام هذا التضخيم والتهويل والتشكيك ؟

فتخطى السندي بن شاهك بالاسلوب التالي : حيث وضع الإمام على جسر الرصافة وهو ميت ينظر إليه القريب والبعيد وتتفرّج عليه المارّة قد أحاطت بجثمانه المقدّسة شرطة الطاغية القاتل وكشفت وجهه للناس قاصدين بذلك انتهاك حرمته والحط من كرامته والتشهير به.

وقد أمر السندي جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام بذلك النداء المؤلم الذي تذهب النفوس لهوله أسى وحسرة : هذا إمام الرافضة فاعرفوه.

هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً.

متى قالت الشيعة إن الإمام موسى لا يموت ؟

نعم قالت الواقفية بذلك والشيعة منهم براء وهارون وجلاوزته أعلم من غيرهم بهذه الحقيقة. لكنه وسيلة من وسائل التشهير وإلصاق التهم بالشيعة بسبب أن الواقفية تذهب الى أن الإمام موسى حي لم يمت وأنه رفع الى السماء كما رفع المسيح عيسى بن مريم.

اعلام الهداية ٩ / ١٧٩.

٥١٦
 &

موقفُ سليمان

فهرعت شيعته اليهِ

حتى سليمان بكى عليهِ

وارسل الغلمان للجموعِ

لياخذوا التابوت في خشوعِ

ففرقوا الحُرّاس في شجاعة

ولم تخفهم تلكم الجماعة

ورفعوا قبل أذان المغربِ

جنازةً للطيب ابن الطيب

فخرجت بغداد بالاحزانِ

تبكي على الاسلام والقرآنِ

نادبةً إمامها العظيما

لتستعيدُ حزنها القديما

فيا له من موكب فجيعِ

سار وراء ذلك التشييعِ (١)

* * *

__________________

(١) نقل الطبري : ان سليمان بن ابي جعفر المنصور عم هارون اخذه مع اتباعه بالقوة من شرطة هارون ثم تولى تغسيله عليه‌السلام وتكفينه ومشى في جنازته حافياً الى مقابر قريش فدفنه هناك.

كان سليمان بن ابي جعفر المنصور رجلاً محنّكاً وذا عقل متزن. وقد رأى أن الاعمال التي قام بها هارون ما هي إلا لطخة سوداء في جبين العباسيين ؛ فإن هارون لم يكتف باغتيال الإمام ودسّ السمّ إليه بل ارتكب جملة من الأعمال الوحشية التي تدل على أنه لا عهد له بالشرف والنبل والمعروف والانسانية من هنا بادر سليمان حين سمع نبأ اخراج جنازة الإمام الى الجسر والنداء الفظيع على جثمانه الطاهر ، وحاول ان يتلاقى الموقف بالتي هي احسن. وانطلق أبناء سليمان وغلمانه الى الشرطة فأخذوا جثمان الإمام عليه‌السلام منهم ، ولم تبد الشرطة معهم أية معارضة ، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الاسر العباسية وأمره مطاع عند الجميع ، وحمل الغلمان نعش الإمام عليه‌السلام فجاءوا به الى سليمان فأمر في الوقت ان ينادى في شوارع بغداد : ألا من أراد ان يحضر جنازة الطيب بن الطيب موسى بن جعفر فاليحضر. عيون الاخبار ١ / ٩٩.

٥١٧
 &

في ذمة الخلود

ودفن الامام في مرقدهِ

وارتفع الضياء من مشهدهِ

وصار معلماً مدى الايامِ

يروي صمود الكاظم الامامِ

ألف سلام عابقٍ معطرِ

يغدو على الكاظمِ حتى المحشرِ

سلام عاشقٍ حزينٍ دامِ

على ضياع امة الاسلامِ (١)

* * *

__________________

(١) وقام سليمان بتجهيز الإمام فغسّله ، وكفّنه ، ولفّه بحبرة قد كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلّفته الفين وخمسمائة دينار. كمال الدين / ٣٦.

وهكذا جرى القضاء على الإمام عليه‌السلام وفق العلم الالهي ليمضي عليه‌السلام الى ربه شهيداً ، مظلوماً ، صابراً ، مسموماً ، ليصبح فيما بعد رمزاً لتحدي الطغاة والمصاعب والسجون ، وليصبح معلماً يعرفه اهل الشرق والغرب ، يمثل حلقةً من سلسة طويلة لرجالٍ من اهل هذا البيت العظيم مضوا سِراعاً الى ربهم بعد ان قارعوا الظلم والظالمين ، وفي نهاية المطاف ليكون بقعة مُقدسة تُرفع عندها الصلوات وتقضى عندها الحاجات.

قال ابن خلكان في وفيات الاعيان : وقبرُ الإمام موسى بن جعفر هناك مشهور معروف يُزار وعليه مشهدٌ عظيم تعلوه قناديل الذهب والفضة وفيه انواع الفُرش ما لا تُحدّ.

وقال ابن بطوطة الاندلسي في رحلته الى بغداد عام ٧٢٧ هـ :

وفي الجانب الغربي من بغداد قبر موسى الكاظم عليه‌السلام والى جانبه قبر الجواد ابن ابنه وعلى مرقده نرى الخشب المُلبّس بالذهب والفضة .

فسلام عليك يا بن رسول الله يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حياً وسلام عليك في الاولين والاخرين ورحمة الله وبركاته.

٥١٨
 &

الجزء العاشر

الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام

٥١٩
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٥٢٠