ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

المولد الشريف

ميلادهُ في الكعبةِ الشريفه

إذ كُشفت أستارُها المنيفه

عن وجهه المنيرِ بالآياتِ

وأجملِ الصفاتِ والسماتِ

تحملهُ « فاطمةٌ بنتُ اسد »

ما ضمّت الكعبةُ قبله ولد

فبوركت والدةٌ تقيه

طاهرةٌ عفيفةٌ نقيّه (١)

أكرمها النبيُّ يومَ دفنها

أَلبسها قميصه لأمنها

سمّت وليدَها العظيمَ « حيدره »

تيمناً بالأكرمين البرره

جاءت به كالقمر المنيرِ

« لشيبةِ الحمدِ وللبشيرِ » (٢)

فابتسمَ النبيُّ حين شاهدا

في وجهه وصيَّهُ المجاهدا

وراح يرعاه بكلّ حُبِّ

فيه يرى آمالَهُ عن قربِ

__________________

(١) ولد الإمام علي عليه‌السلام ، في الثالث عشر من شهر رجب قبل البعثة باثني عشر سنة ، وقد ورد في كتب التأريخ ، أن ولادته كانت في جوف الكعبة ، حيث جاءت أمه فاطمة بنت أسد الى الكعبة فانشق جدارها ودخلت فولدته في تلك البقعة المشرفة ، وتلك منزلة لم ينلها سواه ، وكرامة لم يحرزها غيره. الفصول المهمة / ٢٠ ، مناقب علي بن أبي طالب / ٧ كشف الغمة ١ / ٦٠

عندما توفيت فاطمة بنت أسد ، حزن عليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حزناً شديداً ، ونزل في قبرها وألبسها قميصه. أماناً لها من ضغطة القبر.

(٢) شيبة الحمد لقب لعم الرسول أبي طالب رضوان الله عليه ، وقد قدم أبو طالب للرسول والرسالة خدمات كبيرة ، حيث دفع كيد قريش عن النبي ، ووفر له الحماية الكافية ، كما مرّ بنا في القسم الأول من هذه الملحمة.

١٠١
 &

يُمضغهُ الطعامَ والحنانا

ويفتحُ القلبَ له أمانا

في حجره يَرفلُ بالكمالِ

يتبعهُ في الحلِّ والترحالِ (١)

* * *



__________________

(١) كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يرعى الإمام علي رعاية خاصة ، فقد كان يعده لمستقبل الرسالة من بعده ، بأمر من الله تعالى ، وقد وصف الإمام علي هذه الرعاية في خطبته القاصعة بقوله : وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل.

١٠٢
 &

أولُ القوم إسلاماً

وحين جاء الوحيُّ بالرساله

والخيرِ والإيمانِ والعداله

كان « عليٌّ » أولَ الرجالِ

صدّقَ بالدين ولم يُبالِ (١)

ويوم أُنذر الأُلى في « الدارِ »

قام عليٌ مؤمناً بالباري

وقال : صدّقتُك يا محمّدُ

أنتَ النبيُّ المصطفى المسدّدُ

فقال : أنتَ يا عليٌ بعدي

خليفتي ووارثي في عهدي

فسخر القومُ وقالوا في غضب

تباً وكان القولُ من « أبي لهب »

لكنما الفتى عليٌ صمدا

بوجههم مؤازراً محمّدا

وفي الخفاءِ كان من يَدعمُهُ

ذاك « أبو طالب » وهو عمُّهُ

يَفديه بالأموالِ والبنينا

حيث غدا ناصره الأمينا

فانطلقَ الرسولُ بالأصحابِ

يشقُّ درباً حُفَّ بالصعابِ

حيث عليٌ صنوهُ في السيرِ

ومعه ينشرُ كلَّ خيرِ

محتملاً أذى قريش المّرا

مدّرعاً إيمانه والصبرا

فالشِعبُ شاهداً على الوفاءِ

وحرقةُ الرمالِ والصحراءِ (٢)

__________________

(١) كان أول من دخل في الإسلام من الرجال الإمام علي عليه‌السلام وقد قال الإمام في حديثه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته القاصعة ما يبين هذه الحقيقة : ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فاراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام ، غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة وأنا ثالثها‌ ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة.

(٢) عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفته ووصيه من بعده ، يوم الدار في مكة ، حين دعا عشيرته الى الإسلام ، ولم يبادر في مؤازرة الرسول إلا الإمام علي عليه‌السلام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا. راجع القسم الاول من هذه الملحمة.

١٠٣
 &

مبيته في فراش النبي

ويوم هاجر النبيُّ ناما

في بيتهِ يحتضنُ الحُساما

مضحيّاً بالروحِ دون أَحمدا

في موقف تحالفت فيه العدى(١)

حيث تحدّى صولة الطغيانِ

مهاجراً رغم « أبي سفيانِ »

ليثربٍ حيثُ غدا فتاها

وقطبها دارت به رَحاها

* * *



__________________

(١) مبيت الإمام علي في فراش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يعدّ موقفاً رسالياً خالداً في تأريخ الإسلام ، ولعظمة هذا الموقف ، فقد أنزل الله تعالى فيه قرآناً ، وهو قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) البقرة / ٢٠٧.

وكان موقفه في غاية الإيثار والبطولة. فعندما اكتشف رجال قريش ، ان خطتهم باءت بالفشل ، وقف أمامهم بصلابة وقوة ، وواجههم بكل شجاعة عندما سألوه عن الرسول ، حيث قال لهم : « أَجعلتموني عليه رقيبا ؟ ».

١٠٤
 &

فضائلهُ ومواقفه عليه‌السلام

وحينَ آخى بينهُ « المختارُ »

وبينهُ توجّهُ الفخارُ

مدّخراً صمصامه للوثبه

وواهباً للمسلمين قلبه

في يوم « بدرٍ » يحملُ اللواءا

والنصرُ في عيونه تراءا (١)

ويومَ « أُحدٍ » يَدفعُ الجموعا

بسيفهِ ويهتكُ الدروعا

فأحمدُ يدعو له بالنصرِ

بكلّ موطنٍ بوجهِ الكفرِ

في غزوةِ « الأحزابِ » حيث جدَّلا

بسيفهِ « عمرو بنَ ودِّ » البطلا

أودى « بذي الفقار » فيها « مرحبا »

في « خيبرِ » اليهود لمّا غضبا

ويوم « فتح مكة » قد عُرفا

محطّماً أَصنامها والخزفا

وفي « حُنين » موقفٌ كبيرُ

إذ هُزم الأصحابُ والعشيرُ

سوى عليٍّ ورجال بَرَره

قد بايعت من قبلُ تحتَ الشجَرَه

وفي « تبوكٍ » لم يكن قد حضرا

اذ أنه في يثرب قد أُمّرا

وبعدها مبلّغا « براءه »

وراغماً في ذلكم أَعداءه (٢)

* * *

__________________

(١) في معركة بدر تلك الوقعة الحاسمة ، كان الإمام علي عليه‌السلام ، بطل الإسلام الأوحد ، فقد كان لبطولته الدور الكبير في نصر المسلمين ، وقد أشرنا الى ذلك في الجزء الأول من هذه الملحمة كما أشرنا الى دوره في بقية المعارك التي خاضها المسلمون ضد المشركين واليهود.

(٢) ذكرنا في الجزء الأول من هذه الملحمة ، كيف أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر ليبلغ سورة براءة للمشركين ، ثم أبدله بالإمام علي.

لقد فعل الرسول ذلك بناءً على أمر من الله تعالى ، لرسوله حيث أمره إما أن يبلّغ هو أو رجل من أهل بيته.

١٠٥
 &

إمامته عليه‌السلام

ويوم « خُمٍّ » أُعطيَ الوساما

حين غدا خليفةً إماما

لكنهم عندَ وفاةِ « المصطفى »

قد أغفلوا بيعته دون وفا

وهو الذي قام به الإسلامُ

مشمّراً وغيرُهُ نيامُ

يا أُمةً قد ضيّعت رائدها

واتخذت مقودَها قائدها

ولم تكن بذاك بالوفيه

إذ تركت أنوارها القدسيّه

الصبرُ كان مسلكَ الوصيِّ

بعد ضياع حقَّه الجليِّ

فسالم القومَ لحفظ الأمه

ممتحناً حتى انكشاف الغُمّه

حتى مضى « الأولُ » ثمّ « الثاني »

وجاءت « الشورى » بما يُعاني

فيا لها من محنةٍ عصيبه

وقصّة غريبة عجيبه

حتى مضى « ثالثهم » مقتولا

مخلّفا عبئاً غدا ثقيلا

وعمّت الفتنةُ كلَّ الناسِ

وأستسلمت آمالها للياسِ

حين رأت خلافةَ الإسلامِ

خاويةً بغيرِ ما إمامِ (١)

__________________

(١) في حجة الوداع أخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين البيعة للإمام علي في مكان يسمى بغدير خم ، وقد سميت هذه البيعة بيعة الغدير ، كما مرّ بنا في الجزء الأول ، لكن الذي حدث يوم وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ترك المسلمون جثمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسجى ، وراحوا يتنافسون على الامارة ، والإمام علي عليه‌السلام مشغول بتجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد تمت البيعة لأبي بكر بسرعة وفي ظروف قلقة ، حتى وصفها عمر بن الخطاب بأنها كانت فلتة ، وعارض جماعة من كبار الصحابة هذه البيعة ، لكن جماعة الخلافة فرضوا عليهم البيعة.

=

١٠٦
 &



__________________

=

بقي الإمام علي عليه‌السلام ما يقرب من ستة أشهر لا يبايع ، ثم وجد أن الظروف الاسلامية تستدعي منه أن يبايع أبا بكر حفظاً لوحدة الصف الإسلامي فبايع على مضض.

بعد وفاة أبي بكر عهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب ، فصار خليفة بموجب عهد أبي بكر ، وهو الذي عارض بشدة أن يكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً يوكد فيه خلافة الإمام علي عليه‌السلام ومنع الرسول من هذه الخطوة بعد اتهامه بأنه يهجر ، في حين أن الرسول لا ينطق عن الهوى بنص القرآن الكريم.

وعندما حضرت عمر الوفاة عهد بالخلافة إلى ستة أشخاص ليختاروا من بينهم الخليفة ، وقد كان الإختيار يشير منذ البداية الى أن الأمر قد زوي عن الإمام علي ، كما صرح بذلك لعمه العباس ، لقد تحدث الإمام علي عن تلك التجربة في خطبته الرائعة الشقشقية حيث قال عليه‌السلام : أما والله لقد تقمّصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا. ينحدر عني السيل ، ولا يرقى اليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ..

فياعجباً ! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطرا ضرعيها ، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها ، والإعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيالله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الاول منهم حتى صرت أقرن الى هذه النظائر .... نهج البلاغة / ٤٩.

١٠٧
 &

خلافته عليه‌السلام

الى عليٍّ مالت الحشودُ

وأقبلت للبيعةِ الوفودُ

حتى غدت مثلَ « ربيضة الغنم »

وهو يقول : لا ، وقد قالت : نعم

فمَدَّ كفه لكي تُبايعا

وكان قلبهُ العظيمُ خاشعا

بايعَ من بايع إلا عُدّه

قد رفضوا بيعته بشدّه

منهم اسامة بن زيدٍ وسعد

وكعبٌ بن مالك ومن قعد

وفارسُ الحلبة في الاشعارِ

حسان بن ثابت الانصاري

لكنما أولئك الفتيانُ

وآ أسفي ماتوا وهم عميانُ

فقام بالامر بكلّ عزمِ

وأعلن العدل بكلِّ حزمِ

ووجه القضاة للأمصارِ

وأرسل الولاة للأقطارِ

وذكّرَ الناسَ بسيرة النبيِّ

وعدلهِ وعطفهِ المحبّبِ (١)

* * *

__________________

(١) كانت بيعة الإمام علي عليه‌السلام ، هي البيعة الوحيدة في تأريخ الإسلام التي تميزت بالجماهيرية والإقبال الملّح ، فلقد انهال عليه الناس يريدون بيعته وهو يقول لهم : دعوني والتمسوا غيري.

وهم يزدادون عليه إقبالا ، فلقد اثبتت لهم تجارب الايام أنه الشخص الذي يستطيع أن يسير بهم على خطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكل دقة وحزم.

١٠٨
 &

معركة الجمل

فخرج البغاة نحو « البصره »

وهُرعت « عائشةٌ » للنصره (١)

واجتمعوا لأمرهم في الحرمِ

وسعيُهم كان إراقةُ الدمِ

وقد أجابهم جفاةُ العربِ

مَن جحدوا « خمّاً » وخالفوا النبيّ

شعارُهم كان لأخذ الثارِ

بقتل عثمان بيوم « الدارِ »

وهو شعارٌ كاذبٌ خدَّاعُ

وخلفه يحتدمُ الصراعُ

« فطلحةٌ » يطمعُ بالإماره

وهو يخبّي في الحنايا ناره

__________________

(١) كانت أم المؤمنين عائشة من خصوم عثمان ، وكانت تعلن عن معارضتها علناً ، وأنه خالف القرآن والسنة ، وقد اطلقت عليه قولها المشهور : « اقتلوا نعثلا فقد كفر » تقصد بذلك عثمان ، لكنها عندما سمعت بأن الإمام علي صار هو الخليفة ، غيّرت موقفها تماماً ، فإذا بها تعلن ظلامة عثمان ، وتقف موقف المعارض من الإمام علي.

وجدت عائشة في طلحة والزبير ما يحقق أهدافها ، فقد حرمهما الإمام علي من الامتيازات الخاصة التي كانا يتمتعان بها على عهد عثمان ، إذ كانت سياسة الإمام المالية تقوم على أساس الموازين الشرعية بعيداً عن المحاباة والعصبيات ، وهذا ما جعل طبقة المنتفعين على عهد عثمان ، تعارض حكم الإمام علي ، وإلى جانب ذلك كان في الشام معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان يمتلك طموحات عريضة ويخطط لجعل الخلافة ملكاً أموياً خاصاً ، فقد أخذ معاوية يغذي هذا الإتجاه المعارض ويتأهب لكسب الجولة.

نشط معارضو الإمام علي بشكل مكثف ، وتحركوا باتجاه البصرة ، وكانت عائشة على ظهر جمل يدعى « عسكر » وكان شعارهم الأخذ بدم عثمان ، والغريب أن الذين رفعوا هذا الشعار ضد الخليفة المقتول هم الذين اشتركوا في قتله ، في حين كان الإمام علي يحاول منعهم من قتل الخليفة.

١٠٩
 &

وخلفهُ « الزبيرُ » يتبعُ ابنه

ويا لها من فتنة ومحنه (١)

فرّقتِ الأُمَةَ بعدَ جمعِ

وصمّت الآذان بعدَ سمعِ

تقودهم « عائشةٌ » على الجمل

تاركةً بذاك أفضلَ العمل

فيا « لعسكر » ويا ليومهِ

تمزقت أمتنا من شؤمهِ (٢)

سار بها مزمجراً في غضبِ

حتى أتى بها لماء « الحوأَبِ »

فنبحتها عنده الكلابُ

وناح خلف رحلها الغرابُ

تذكرت قول « النبيِّ » فيها

إيّاكِ « يا حمراءُ » أن تأتيها

فصرخت ردّوا الرحال إني

نادمةٌ فالشرُّ جاء منّي

لكنّهم قد أحضروا الشهودا

واقسموا زوراً لكي تعودا

فواصلوا المسير حتى « البصره »

مختلفين عندها في الإمره

وقتلوا حُرّاس بيت المالِ

فذبحوا صبراً بلا قتالِ

واشتبكَ البغاة « بابنِ جَبله »

وصارت البصرةُ فيءَ القتله

فنهبوا الديار والأموالا

وأرعبوا النساء والأطفالا

وذاك يومُ « الجمل الصغيرِ »

اذ بقي الحقُّ بلا نصيرِ

واقبل الإمامُ بالحشودِ

خيلٍ وآلاف من الجنودِ

خاطبهم وأكثرَ الخطابا

وعجزوا أن يُفصحوا الجوابا

وعاتب الزبيرَ ثم ذكّره

بموقف خوّفه وأنذره

فغادر الزبير منه خجلا

مستبعداً عن حربه معتزلا

وقامت الحربُ على أشُدِّها

يطحنُ فيها هزلها بجدِّها

فطاحت الاكفُ والاعناقُ

وبترَ العضدُ بها والساقُ

__________________

(١) طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام.

(٢) عسكر : اسم الجمل الذي كانت أم المؤمنين عائشة تركبهُ أثناء القتال في البصرة.

١١٠
 &

والجملُ المشؤوم ظلَّ واقفا

وجيشه المهزوم بات خائفا

وصاح حيدرُ : ألا اعقروهُ

وحطّموا الشيطان وانحروهُ

فانهزم الجيش وطاح « الجملُ »

وحوله جمعٌ كثيرٌ قتلوا

وأَنزلوا « الهودج » باحترامِ

واستسلمت « عائشُ » للإمامِ

فأُرجعت لبيتها مكرّمه

نادمةً على انتهاكِ الحُرمه

واتّجه « الأمامُ » نحو القتلى

مخاطباً يُلقي عليهم سؤلا

بالله هل وجدتُم ما وُعِدا

حقاً فأني قد وجدتُ الرشدا ؟

ودفنَ القتلى وعاد صابرا

في مسجد البصرةِ صلّى حاسرا (١)

__________________

(١) ورد ذكر كلاب الحوأب في عدة أحاديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منها ما رواه ابن عباس حيث قال : قال رسول الله : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تسير تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يسارها وعن يمينها خلق كثير. تأريخ ابن كثير ٦ / ٢١٢.

وعندما سارت عائشة لقتال الإمام مرت بماء الحوأب ، فنبحتها الكلاب فقالت : « ردوني ردوني هذا الماء الذي قال لي رسول الله : لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب ، فأتاها القوم بأربعين رجلا فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب » فاقتنعت عائشة وسارت معهم.

تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٧.

قام ناكثو البيعة والخارجون على الإمام علي ، بأعمال النهب والإعتداء في البصرة ، وارتكبوا جرائم قتل بحق أهلها ، ومنهم والي الإمام علي في البصرة ، وقد سميت تلك الحوادث بالجمل الصغير.

وبذل الإمام علي عليه‌السلام كل محاولاته من أجل منع وقوع المعركة ، وأراد أن يعيد الخارجين الى جادة الصواب ، لكنهم كانوا مصرّين على العناد. وكان مما قام به أن طلب التحاور مع الزبير بن العوام ، فالتقى به وسط الجيشين ، وذكره بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الزبير بأنه سيخرج على الإمام علي ذات يوم وهو ظالم له.

تذكر الزبير تلك الحادثة وندم على موقفه ، فاعتذر من الامام علي عليه‌السلام ، فانسحب من المعركة ، وقبل انسحابه أراد ابنه عبد الله أن يثنيه عن موقفه ، ويزج به في المعركة ، لكنه قرر الإنسحاب ، وليته فعل ذلك قبل حشد الحشود وجمع الجيوش لقتال علي عليه‌السلام.

=

١١١
 &

وأمّر ابن عمه العباسِ

حتى يصلي بعده بالناسِ (١)

* * *



__________________

=

دارت المعركة ضارية شرسة بين المعسكرين ، وقد تفانى أصحاب الجمل في الدفاع عن جملهم ، حتى قتل عدد كبير منهم ، فصاح الإمام علي عليه‌السلام يأمر أصحابه بقتل الجمل ، لانهاء المزيد من الدماء ، وعندما قتل الجمل انتهت المعركة بانتصار جيش الإمام ، وقد أمر عليه‌السلام بمعاملة عائشة باحترام رغم كل ما بدر منها في هذه الفتنة المدمرة.

حدد الإمام علي عليه‌السلام الموقف الشرعي في التعامل مع قتال المسلمين « البغاة » حيث أعلن العفو العام بقوله : ألا لا يجهز على جريح ، ولا يتبع مولياً ، ولا يطعن في وجه مدبر ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ولا يستحلن فرج ولا مال ، وانظروا ما حضر به الحرب من آنية فاقبضوه ، وما كان سوى ذلك فهو لورثته ، ولا يطلبن عبد خارج من المعسكر ، وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم ، وليس لكم أم ولد ، والمواريث على فريضة الله ، وأي امرأة قتل زوجها فلتعتد أربعة أشهر وعشراً.

فقال بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم ولا تُحَلّ لنا نساؤهم ؟. فقال عليه‌السلام : كذلك السيرة في أهل القبلة. تأريخ اليعقوبي : حرب البصرة.

(١) عين الإمام علي عليه‌السلام عبد الله بن عباس والياً على البصرة بعد انتهاء حرب الجمل.

١١٢
 &

الكوفة العاصمة الجديدة

وودّع البصرةَ نحو « الكوفه »

بخطبةٍ بليغة معروفه

فأصبحت عاصمةَ الاسلامِ

مزهرةً بطلعةِ الإمامِ (١)

العدلُ في أجواءها يرفُّ

والخيرُ في أعطافها يحفُّ

إمامُها شعارهُ التواضعُ

قد شرفت من خطوه الشوارعُ

يجولُ في أسواقها مذكّرا

يأمرُ بالحق ويُردي المنكرا

يشهدُ محرابٌ له ومنبرُ

بانه هو الإمام الأكبرُ

أمامهُ الغنيُّ والفقيرُ

تساويا والعبدُ والأميرُ

يقضي بما جاء به القرآنُ

وعدلهُ في حكمه ميزانُ

يعطفُ بالحبِّ على اليتامى

فكم وضيع عندهُ تسامى

وكم عزيز ذلَّ للعداله

من بعد أن حكمُ « الإمامِ » طاله

أتباعُهُ المستضعفون طُرّا

عبدُهُم ساوى لديه الحُرّا

ومعه المهاجرون الأُولُ

لم ينقضوا بيعته أَو يعدلوا

فهو لهم كهفاً غدا وقدوه

ومثلا بعدَ الرسول أُسوه

والشامُ في اللعنةِ أضحت ثاويه

يحكم فيها بطراً « معاويه »

يُكذِّبُ القرآنَ والسماءا

يبعثُ بالأُمةِ كيف شاءا

__________________

(١) الإمام علي عليه‌السلام : هو أول من نقل عاصمة الدولة الإسلامية في تأريخ الإسلام ، وهي خطوة على قدر كبير من الأهمية في مقياس التخطيط الحضاري ، فقد كانت الدولة في توسع وتطور ، وهذا ما كان يستدعي نقل العاصمة الى موقع يمكنها من مواكبة هذا التوسع الثقافي والسياسي والاداري الهائل.

١١٣
 &

محرّفاً في سُنةِ النبيِّ

وخارجاً عن طاعةِ « الوصيِّ » (١)

ورافعاً « قميصَ عثمان » رحى

تطحنُ بالفتنةِ ما قد وضحا

وحوله جموعُه المغفّله

تلك التي مَوّه عنها حِيله

يُعينهُ « مروانُ » « وابن العاصِ »

وزمرةٌ باعت له النواصي

ما دخل الإسلامُ في قلوبهم

ولا يزالُ الكفرُ من عيوبهم (٢)

* * *



__________________

(١) كانت سياسة معاوية تقوم على أساس المكر والخداع والتحريف ، وقد مارس أخطر عملية في تأريخ الاسلام ، وهي تحريف حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقائق التأريخ ، فقد اشترى جماعة من طلاب الدنيا وأغدق لهم العطاء ، فسارعوا إلى رواية الحديث عن رسول الله ، بما يناسب سياسة معاوية. واتسعت هذه العملية حتى اختلط الحديث الصحيح بالموضوع ، مما دفع العلماء الى وضع مقاييس دقيقة لمعرفة الحديث الصحيح من الموضوع.

على أن هناك الكثير من الأحاديث والوقائع التأريخية لا تزال في قسم من كتب السيرة والتأريخ ، تعتمد الروايات المكذوبة ، تحت تأثير سياسة الأمويين في التحريف والتزوير.

(٢) مروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، كانا ضمن الزمرة التي أحاطت بمعاوية ، وقد كانت هذه الزمرة ، من أكبر ما أبتلي بها الإسلام والمسلمون ، حيث كادت لأهل الحق ، ومزقت الأمة ، وظهرت آثارها التخريبية فيما بعد على واقع الحياة الاسلامية.

١١٤
 &

معركة صفين

فقد تجمعوا لحربِ الدينِ

وأزمعوا السيرَ الى « صفّينِ »

يَنوون قتل معدن الإمامه

والطهرِ والنقاءِ والكرامه

وكاتبوا الإمام بالتحدّي

وابتدأوا بالغيِّ والتعدّي

فجمع الإمامُ مَن كان معه

وهُم لعمري أُمةٌ مجتمعه

أُولئك الأعلام في المسارِ

من « أشترِ » الحرب ومن « عمّارِ » (١)

توثبوا لوقعةِ رهيبه

كتبيةٌ تحدو بها كتيبه

حتى اذا ما وصلوا « صفّينا »

وعسكروا هناك غاضبينا

ففوجئوا بشاطئ الفرات

اضحى لدى الطغمةِ والعتاةِ (٢)

ومنعوهم يومذاك الماءا

كيما يموتوا عنده ظماءا

فكرّ جيشُ الله لا يُبالي

بكثرة السيوف والابطالِ

__________________

(١) اشتر : مالك بن الحارث الاشتر النخعي ، وكان قائد جيش الإمام علي في صفين.

عمار : عمار بن ياسر الصحابي الجليل ، وأمه سمية أول شهيدة في الإسلام.

(٢) عند نهر الفرات التقى الجيشان ، وقد سيطر جيش القاسطين بأمر معاوية على ضفة النهر لمنع جيش الإمام علي من التزود بالماء. حاول الإمام أن يصل الى الماء بالطرق السلمية ، لكن معاوية أصرّ على منعهم من الماء بهدف إنهاكهم عطشاً ، مما اضطر جيش الإمام الى استعمال القوة ، فانهزم جيش معاوية ، وسيطرت قوات المسلمين على ضفة النهر. وهنا كان للامام عليه‌السلام موقفه العظيم الذي يجسد حلم الإسلام ورفعة اخلاقه ، إذ فسح المجال لجيش معاوية بالتزود بالماء بكل حرية. ابن أبي الحديد : شرح النهج : ١ / ٢٣.

١١٥
 &

يقدمهم « أشعثها » والأشترُ

« وسعدُ بين قيس » ذاك القسورُ (١)

فانكشفت زمرةُ أهلِ الشامِ

وابتسم « الفراتُ » للإمامِ

واحتدمت معركةٌ طويله

صدّت بها القبيلةُ القبيله

وكثرت بنارها الضحايا

وتعبت في قبضها المنايا

وحيدرٌ يقودها غضبانا

يجالدُ الأبطالَ والفرسانا

وحوله من هاشمٍ رجالُ

أعزةٌ وقادةٌ أبطالُ

« الحسنان » الطهرُ « وابنُ جعفرِ »

وبعدهم « محمدُ بن حيدرِ » (٢)

قد أوقدوا الحرب بوقفةِ الفدا

وقد تحدوا ما يخبئُ الردى

معركةٌ طالبت شهوراً عده

وكلَّ يوم تستزيد شدّه (٣)

* * *



__________________

(١) الاشعث بن قيس الكندي رئيس قبيلة كنده ، وسعد بن قيس بن عباده الانصاري.

(٢) المقصود به محمد بن الحنفية ، ابن الامام علي وأحد أبطال الإسلام ، كان معروفاً بفروسيته ، وقوته البدنية ، لكن المرض أقعده في فترة ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام ، فلم يتمكن لشدة مرضه من المشاركة فيها.

(٣) كانت المعركة طويلة متواصلة بلا هوادة ، لكن مقدماتها وتحركاتها دامت عدة أشهر.

١١٦
 &

مصرع عمار بن ياسر

« عمّارُ » فيها صارخٌ يُنادي

أين أُهيلُ بيعةِ الرشادِ

« اليوم نضربهم على تأويلهِ

كما ضربناهم على تنزيلهِ »

« اليوم ألقى الصحبَ والاحبّه

المصطفى محمداً وحزبه »

ثم هوى وصدّق الرسولا

بقولة لا تقبلُ التأويلا

تقتلهُ بعضُ الفئاتِ الباغية

فانشطرَ الجيشُ على « معاويه » (١)

لكنه احتال لهم بقولهِ

قاتلُه مخرجُهُ من أهلهِ

والحرب ما زالت تشبُّ نارُها

من بعدما غادرها « عمّارُها »

« فمالكٌ » يخترقُ الصفوفا

وسيفهُ يملؤُها حتوفا

وليلةُ « الهريرِ » ليس تُنسى

يقاتلُ الرجالُ فيها همسا

__________________

(١) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر بأن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية ، في حديث معروف ورد عنه : يا عمار تقتلك الفئة الباغية وسيكون آخر شرابك ضياحاً من لبن.

وعندما سقط عمار شهيداً في أرض المعركة ، وشاع خبر قتله ، حدث اضطراب في جيش معاوية ، لأنهم وجدوا مصداق حديث الرسول قد تحقق ، لكن عمرو بن العاص خدعهم بقوله بأن الفئة الباغية التي قتلته هي التي خرج معها ، واستطاع بذلك أن يخدع أهل الشام ويعيد التماسك الى صفوفهم فلطالما خدع معاوية وابن العاص أهل الشام ، حتى أنهم لم يكونوا يعرفون أن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة. فلقد مارس معاوية سياسة التجهيل بكل الوسائل والسبل.

١١٧
 &

ويا لها من ليلة حمراءِ

تلفعّت بالخوفِ والدماءِ

حتى إذا « الاشترُ » عادَ ثانيَه

وقاربت ضربته « معاويه »

أراد أن يلوذَ بالفرارِ

وان يظلَّ سبةً للعارِ (١)

* * *



__________________

(١) ليلة الهرير ، إحدى وقعات المعركة كانت حامية شديدة البأس وللوقوف على تفصيلات معركة صفين ، راجع (وقعة صفين) لنصر بن مزاحم وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

١١٨
 &

خدعة رفع المصاحف

تداركوا الأمرَ برفع المصحفِ

وأضمروا أمراً مبيّتاً خفي (١)

وقيل : هذا حَكمٌ ما بيننا

نرضى بما يُرضي الأله ربَّنا

فانخدع الضعافُ من جيش « عليّ »

غيرُ قليل ثبتوا مع « الوليّ »

وهو ينادي : حيلةٌ معروفه

قد انطلت على رجالِ الكوفه

اني انا المصحفُ والتأويلُ

والعهدُ والكتابُ والتنزيلُ

فشهرت بوجههِ السيوفُ

عشرةُ آلاف بها الحتوفُ

وقيل : لا حكم لغير الله

وتلك من عظائم الدواهي

فأرسلَ الإمامُ خلف « مالكِ »

أن عدْ فقد أُحطتُ بالمهالكِ

__________________

(١) لاحت بوادر النصر لجيش الإمام علي ، وشارف مالك الأشتر على إنهاء جيش الخارجين على حكم الإمام ، وإذا بمعاوية وابن العاص يلجأون إلى خدعة رفع المصاحف على الرماح والسيوف. وقد أحدث ذلك لغطاً في جيش الامام ، فحاول الامام ايضاح المسألة وأنها خدعة من خدع معاوية ، لكن ضعاف النفوس لم يفهموا حقيقة الأمر ، ومارسوا ضغطهم على الإمام لإيقاف الحرب ، بل أنهم هددوا الإمام بالقتل إن لم يصدر أوامر لمالك الأشتر بالتوقف عن الزحف .. وهكذا أضاع هؤلاء على أنفسهم وأجيالهم النصر المؤزر وجنوا فيما بعد نتاج تصرفهم الخاطىء هذا.

١١٩
 &

فقال : أمهلني فواق ناقه

فالنصرُ في رايتنا الخفاقه (١)

لكنه عاد مطيعاً غاضبا

منكسراً وكان فيها الغالبا

يصيحُ قد خُدعتمُ بالحيله

فلم يجد في جمعهم مثيله

* * *



__________________

(١) عندما بلغ الخبر مالك الاشتر بالتوقف عن الزحف ، طلب مالك مهلة وجيزة جداً ، بقدر « فواق ناقة » أي وقت حلبها وهو تعبير عن قصر الفترة الزمنية التي يحتاجها لتحقيق النصر ، لكنه بعد أن علم أن حياة الإمام علي عليه‌السلام في خطر توقف عن الزحف وعاد يختزن في قلبه حزناً كبيراً وحسرة أكبر وجرحاً لا يندمل ، لإنه الرسالي الذي يعرف حقيقة الأمور كما تعلمها في مدرسة الإمام علي عليه‌السلام.

١٢٠