ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الجزء التاسع

الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام

٤٤١
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٤٤٢
 &

الإِهْدَاء

أقدم هذا الجزء من ملحمة قوافل النور ..

الى اعتاب جدي الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ..

راجياً له ان يقبّل سلاسل القيود في يديه ..

وتمتمات الرفض والاصرار في شفتيه ..

وهو يحوّل عتمة السجن الى نافذة مشرعة

بالنور ، والخشوع ، والامل.

٤٤٣
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٤٤٤
 &

اضاءة

ما زال مشروع ملحمة قوافل النور يتواصل عبر محطات حياة الائمة الاطهار وحركتهم الدائبة وعطائهم الفذ الذي لا ينضب ، فهم معدن الرسالة ، وعدل القرآن ، وخلفاء الرسول وامناء الامة ، وحفظة التراث الاصيل الخالد.

وان الشعر في هذه الملحمة ليزداد اشراقاً ، وعظمة ، وهو يسطر مواقف وبطولات اولئك العظام ، ويتواصل مع عشاقهم رغم ما اراده الطغاة من تعتيم وطمس لمعانيهم المشرفة وحياتهم وبطولاتهم التي لا تحجبها بوابات الزنازين ، ولا جدران السجون المظلمة ، ولا عيون الرقباء والمنافقين فها هي « قوافل النور » في حلقتها التاسعة من السلسلة الذهبية التي ابتدأت بالنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله مروراً بعلي وفاطمة ، والحسنين ، والسجاد ، والباقر ، والصادق عليهم‌السلام لتتصل بحلقات سجن موسى بن جعفر وتابوته المثقل بالحديد والاقفال ، وجسده النحيل الذي لا يكاد المرء ان يميزه عن ثوبه.

ان ثقل الامامة وتحمل اعباء الرسالة اعظم بكثير من ثقل أوزان القصائد والملاحم.

وأنى لحروف موزونة ان تحتوي ذلك العالم الفسيح المترع بالنور والقداسة والشهادة .. لكن لا بد للملحمة من ان تتواصل شعرا ، وادباً ، وتاريخاً حتى تستطيع الاجيال ان تحفظ مقاطعها كشعارات يومية تصاغ من خلالها شخصياتهم ، وتتبلور ذواتهم ، وفق منهج رباني سليم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

نسأل الله تعالى ان يوفق الجميع لخدمة اوليائه ، وان يسدد خطانا على طريق مرضاته ، وان يحفظ العراق وأهله من كيد الاعداء انه سميع مجيب.

( رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ )

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

٤٤٥
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٤٤٦
 &

المولد المبارك

في موسمٍ للحجِ والعباده

ضمت قوافلُ الحجيج الساده (١)

الصادقُ الامامُ كان فيها

مبرّزاً مقدماً وجيها

ومعه « حميدة » التقيه

زوجتهُ العفيفةُ النقيه (٢)

كان يقولُ دائماً في وصفها

مؤكداً على سجايا عطفها

« حميدةٌ سبيكة من ذهبِ »

مذخورةً من زمنٍ لابن النبي

بعيدةٌ عن كلِ نقصٍ يُعرفُ

قد طهرت ثوباً وطاب الشرفُ

علّمها الصادقُ من هُداهُ

فكرُمت وزانها تُقاهُ

في قافلاتِ الحج عادت معه

تحملُ في أحشائها مطمعه

__________________

(١) ذكرت المصادر المعتبرة على ان الامام الكاظم عليه‌السلام ولد في موسم الحج ، وكان آنذاك والده الامام الصادق عليه‌السلام برفقة أصحابه قاصداً بيت الله الحرام فوضعته أمه يوم الاحد السابع من شهر صفر سنة ١٢٨ هـ بمنطقة الابواء بين مكة والمدينة ، وهو مكان مبارك دُفنت فيه آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) هي حميدة بنت صاعد الاندلسي ، ويقال عنها انها من بيت يوحي بالعز والمجد والكرامة ، ويظهرُ من بعض الروايات ان الامام الصادق عليه‌السلام كان يأمر النساء بأخذ الاحكام منها ، ومن جملة تصريحات الامام الصادق عليه‌السلام يظهر لنا انها سيدة طاهرة ، جليلة القدر ، تقية ، مطهرة ، معروفة بالصلاح والعفاف.

قال عنها الامام الصادق عليه‌السلام : حميدة مصفاة من الادناس كسبيكة الذهب ما زالت الاملاك « الملائكة » تحرسها حتى أديت اليَّ كرامة من الله وللحجة من بعدي.

وروي عن الامام الباقر عليه‌السلام أنه قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقولُ لها : أنت حميدة في الدنيا محمودة وفي الاخرة. الكافي١ / ٤٧٧.

٤٤٧
 &

فجاءها المخاضُ في « الأبواءِ »

وظهرت ارادةُ السماءِ (١)

فوضعت وليدَها المباركا

مصلياً مسبّحاً وما بكى

بادرهُ الامامُ بالأذانِ

إنشودةً على مدى الزمانِ

تغمرهُ الفرحةُ والسعاده

مذ طبّق البِشرُ بها ميلاده

قال الإمام حامداً مُصليا

هذا الذي يغدو خليفةً ليَّا

قد وهبَ الله لنا غلاما

يُصبحُ بعدي لكمُ إماما

__________________

(١) وامتد الزمن بعد زواج الامام جعفر الصادق بـ ( حميدة المصفاة ) وسافر الى بيت الله الحرام لاداء فريضة الحج ، فحملها معه ، وبعدي الانتهاء من مراسيمه قفلوا راجعين الى المدينة ، فلما انتهوا الى ( الابواء ) احست حميدة بالطلق ، فارسلت خلف الامام تخبره بالامر ، لانه قد عهد اليها ان لا تسبقُه بشأن وليده ، وكان ابو عبد الله عليه‌السلام يتناول الطعام مع جماعة من اصحابه ، فلما وافاه النبأ المسرّ قام مبادراً من ائمة أهل البيت عليهم‌السلام.

لقد اشرقت الدنيا بهذا المولد المبارك الذي ما ولد ـ في عصره ـ أيمن ، ولا أكثر عائدة ولطفاً على الاسلام منه.

لد ولد أبر الناس ، وأعطفهم على الفقراء ، وأكثرهم عناداً ومحنة في سبيل الله ، واعظمهم عبادة وخوفاً من الله.

وبادرة الامام ابو عبد الله عائداً الى اصحابه ، وقد علت على ثغره ابتسامة فبادره اصحابه قائلين :

أسرك الله ، وجعلنا فداك ، يا سيدنا ما فعلت حميدة ؟

فبشرهم بمولده المبارك ، وعرفهم عظيم أمره قائلاً : قد وهب الله لي غلاماً ، وهو خير من برأ الله.

أجل انه خير من برأ الله علماً ، وتقوى ، وصلاحاً ، وتحرّجاً في الدين ، وأحاط الامام اصحابه علماً بأن وليده من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين فرض الله طاعتهم على عباده قائلاً : فدونكم ، فوالله هو صاحبكم. بحار الانوار ٨ / ٢.

وكان ذلك في ايام حكم عبد الملك بن مروان.

٤٤٨
 &

حتى إذا ما اقتربَ الحجيجُ

من « يثربِ » وقد علا الضجيجُ (١)

مستقبلين الصادقَ الامينا

وشبلَه المطهرَ الميمونا

بالبشرِ والسلامِ والتحيه

قد أقبلت شيعتهُ الوفيه

ثلاثةً قد أَو لَم الامامُ

في فرحٍ قد بُذل الطعامُ (٢)

سماهُ « موسى » وكفى بذاكا

فخراً بأن قد بلغَ الافلاكا

سمّيُّ من كلّمهُ الرحمنُ

ومن له عصاتُهُ ثعبانُ (٣)

« الصابرُ » الصبورُ في محنته

« والزاهرُ » الانوار في جبهته

والعابدُ الصالحُ في تقاهُ

وفي جهادهِ وفي هُداهُ

والسيدُ « الشريفُ » في الأئمة

ومن له دانت خيارُ الأمة

وهو « الوفي » « والامين » « الكاظمُ »

برغم ما جار عليه الظالمُ

__________________

(١) يعتبر الحجُ من العبادات المهمة ذات المضامين العبادية ، والاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية ، وهو دورة تربوية عظيمة لبناء الانسان الفرد والمجتمع.

(٢) كم استبشر الإمام الصادق عليه‌السلام لما ولد ولده موسى عليه‌السلام وعمه فرح شديد وبذلك بشر اصحابه وأولم الولائم لهم.

فقد ذكر البرقي عن منهال القصاب : خرجت من مكة وانا اريد المدينة فمررتُ بالابواء وقد ولد لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ولده عليه‌السلام فرأيته وقد اطعم الناس ثلاثاً. المحاسن / ٤١٨.

ونقل الشيخ عباس القمي عن أبي البصير انه قال : لما بُشر ابو عبد الله الصادق عليه‌السلام بولده موسى عليه‌السلام قام فرحاً مسروراً ، ضاحكاً سنه وقال عليه‌السلام : وهب الله لي غلاماً وهو خير من برأ الله ثم وضع الغداء فأكلنا. بصائر الدرجات ٩ / ٤٦٠.

(٣) سمى الامام جعفر الصادق عليه‌السلام ولده ـ ابا الحسن ـ بأسم ( موسى ) سميّ كليم الله النبي موسى عليه‌السلام الذي اخبرنا الله تعالى عنه بمواضع متعددة في القرآن الكريم ، وقد أكرمه معجزة العصا ، قال تعالى :

( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) طه ١٧ ـ ٢٠.

وقال تعالى : ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) الاعراف ١٠٧.

٤٤٩
 &

« ونفسهُ الزكيةُ » الحليمه

وروحهُ الابيةُ الكريمه

بابُ الحوائج الذي قد فتحا

لكلِ مذنبٍ عصا واجترحا

يُفرّجُ الله به الكروبا

ويُفرحُ الحزين والمكروبا

كنيته معروفةٌ أبو الحسن

وهو الإمامُ الهاشمي المؤتمن

لم يستجر في قبره المقدس

إلا وقد صار شفاء الأنفسِ

فذا « ابو عليٍ الخلّالُ »

الحنبلي العالم المفضالُ

يقولُ : ما أهمّني من خطرِ

إلا قصدتُ تربةَ ابن جعفرِ

فسهّل الله تعالى أمري

فقبرُ موسى في الدعاءِ ذخري

ومرةً قال : الإمام الشافعي

لكل ناطقٍ وكلِ سامعِ

قبرُ ابنُ جعفرِ هو « الترياقُ »

مجربٌ يؤمهُ المشتاقُ (١)

__________________

(١) قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي :

هو الامام الكبير القدر ، العظيم الشأن الكبير المجتهد ، الجاد في الاجتهاد ، المشهور بالعبادة ، المواظب على الطاعات المشهور بالكرامات ، يبيت الليل ساجداً وقائماً ، ويقطع النهار متصدقا وصائما ، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي ( كاظماً ) كان يجازي المسيء باحسانه اليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه ، ولكثرة عبادته كان يسمى ( العبد الصالح ) ويعرف بالعراق بـ ( باب الحوائج ) لنجح مطالب المتوسلين الى الله تعالى به كرامته تحار من العقول وتقضي بان له عند الله قدم صدق لا تزال ولا تزول. مطالب السؤول / ٨٣.

اما القابه فتدل على بعض مظاهر شخصيته ، وجملة من جوانب عظمته وهي كما يلي :

ـ الصابر : لانه صبر على الآلام والخطوب التي تلقاها من حكام الجور ، الذين قابلوه بجميع الوان الاساءة والمكروه.

ـ الزاهر : لانه زاهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء الذي مثّل به خُلق جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ـ العبد الصالح : لكثرة عبادته واجتهاده في الطاعة ، حتى صار مضرب المثل في عبادته ،

=

٤٥٠
 &

وعاش موسى في هدى النبوه

وشبَّ في مواطنِ الفتوه

ينهلُ من منابع المعارفِ

ما بان من أسرارها وما خفي

قد أتقن الحكمة والتأويلا

وعلّم الاياتِ والتنزيلا (١)

__________________

=

وقد عرف بهذا اللقب عند رواة الحديث فكان الراوي عنه يقول : حدثني العبد الصالح.

ـ السيد : لانه من سادات المسلمين ، وأمام من أئمتهم.

ـ الوفي : لانه كان وفياً ، باراً بأخوانه وشيعته ، وباراً حتى بأعدائه والحاقدين عليه.

ـ الامين : لقد مثل هذا اللقب كما مثله جده الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كان أميناً على شؤون الدين واحكامه ، وأميناً على أمور المسلمين.

ـ الكاظم : لما كظمه من الغيظ عما فعل به الظالمون من التنكيل والارهاق ، حتى قضى شهيداً ، مسموماً ، لم يبد لاحد الآمه وأشجانه ، بل تلقى ذلك بالشكر لله والثناء عليه.

ـ ذو النفس الزكية : وذلك لصفاء ذاته التي لم تتلوث بمآثم الحياة ولا بأقذار المادة حتى سمت وزكت.

ـ باب الحوائج : وهذا اكثر ألقابه ذكراً وأشهرها ذيوعاً وانتشاراً ، انه ما قصده مكروب او حزين الا فرّج الله الآمه وأحزانه. اعلام الهداية ٩ / ٤٤ ـ ٤٥.

(١) عاش الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام بين كنف ابيه في مدينة جده المصطفى حيث عبقِ النبوة ومواطن الفتوة والشرف والسؤدد ، واخذ يَزقُّ العلم زقاً على يد والده عليه‌السلام فنهل منه الاسرار والعلوم والمعارف حتى لحظته العيون بالحكمة وفصل الخطاب ، وكان عليه‌السلام اعلم اهل زمانه بالقرآن والتنزيل وسائر الكتب المقدسة.

حيث قال الشيخ المفيد : كان ابو الحسن موسى عليه‌السلام افقه اهل زمانه.

وقال ايضاً : وقد روى عنه عليه‌السلام الناسُ كثيراً ، وكان افقه الناس ، واحفظهم لكتاب الله واعلم بما فيه ، واحسنهم له تلاوة وصوتاً. الارشاد / ٢٩٦ ـ ٢٩٨.

وذكر الطبرسي : كان ابو الحسن موسى عليه‌السلام أجلُّ ولد الصادق عليه‌السلام شأناً ، واعلاهم في الدين مكاناً ، وأعلمهم وأفقههم وأكرمهم. اعلام الورى ٢ / ٢٥.

وقد اتفق المؤرخون انه عليه‌السلام تتلمذ على يد ابيه الصادق عليه‌السلام ودرج في مدرسته الكبرى فورث علوم آباءه واجداده عليهم‌السلام وتشبع من اخلاقهم ومعارفهم ، ولما كان عصره زاخراً

=

٤٥١
 &



__________________

=

بالمدارس الفكرية والتيارات العلمية المختلفة وعلى الرغم من حراجة موقفه السياسي الا انه تصدى عليه‌السلام مع جملة من خيرة تلاميذه لكل هذه التيارات الالحادية والزائفة ، كما فعل ابوه عليه‌السلام من قبل واعطى لمدرسة اهل البيت عليهم‌السلام زخماً فكرياً واسعاً في الحديث والرواية والتفسير.

وقد ذكرتْ له كتبُ الرجال والتراجم أن له اكثر من ثلاثمائة راوياً وتلميذاً ممن وُصفوا بالعلم ، والفضل ، والصلاح ، وكلهم قد اخذوا من علمه وفقهه بما زقه له أبوه الصادق عليه‌السلام من العلوم والمعارف.

وقد عرف عن الامام الكاظم عليه‌السلام انه أعلم زمانه ، لما يتمتع به من سعة العلوم والمعارف ، وقوة الجدل والاحتجاج ، وبلاغة المنطق ، وحسن الدليل في القول والبرهان.

٤٥٢
 &

حكاية ابي حنيفة

وذاتَ يومٍ قصدَ المدينه

أبو حنيفةٍ يريدُ دينه

فجاء بيت الصادق المصدقِ

يسأل عن حكم بأجلى منطقِ

فوجدَ الكاظمَ عند البابِ

أندى من الأمطارِ في السحابِ

وهو صبيٌ بعدُ لم يشبّا

لكن علمه يُصبُ صبا

فقال : أين يضعُ الغريبُ ؟

فالتفت الصبيُ لا يُجيبُ

وعندما كررها النعمانُ

جاء من الكاظم ما يُزانُ

جوابُهُ مؤدباً مكتملا

فاطرقَ النعمانُ لما سألا

قال : توّقَ الماء والأنهارا

واجتنب الشارع والثمارا

ثم توار من وراء الجُدر

وحَد عن القبلة لا تستدبر

وبعدها ضع أين شئت الحاجه

وحاذر العناد واللجاجه

فبهتَ النعمان للجوابِ

وقال يا ابن خيرةِ الاطيابِ

ما اسمك ؟ قال : قد دعيتُ موسى

بذكر جدي نرفعُ الرؤوسا

أنا ابن جعفرٍ حفيد الباقرِ

وجدي السجادِ ذي المفاخرِ

وجدي السبط الشهيدِ الظامي

وابن علي سيدِ الكرامِ

وابن ابي طالبٍ المحامي

عن النبي سيدِ الأنامِ

وجدتي فاطمةُ الزهراءُ

البرة النقيةُ الغراءُ

هذا جوابه لتلك المسأله

وطالما كان يحلُ المعضله (١)

__________________

(١) قصة ذات عبرة ، أوردتها المصادر المعتبرة ، وفيها زيادات وذيول لم تذكر في المصادر الأخرى ، وهذه مجمل القصة مع زيادتها الواردة في المصادر :

=

٤٥٣
 &

__________________

=

قال أبو حنيفة : حججتُ في أيام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام .. قيل كان معه عبد الله بن مسلم فلما أتيت المدينة قصدتُ دار الصادق عليه‌السلام لآخذ منه علماً .. قيل أشار عليه بذلك عبد الله بن مسلم ، فجلست انتظر الدخول عليه ، قيل لأن جمعاً من الشيعة كانوا عنده ، فبينما أنا كذلك إذ خرج صبي يدرجُ فقام الناس هيبة له فقلتُ : يا أبا مسلم : من هذا الصبي فقال لي : انه موسى ولده. قال أبو حنيفة : فقلتُ في نفسي والله لأخرسه بين الناس بسؤال ، فقلت له : يا غلام : أين يضعُ الغريب الغائط إذا كان عندكم ؟! فقال الصبي : على رسلك ، يتوقَّ شطوطَ الأنهار ، ومساقط الثمار ، وافنية المساجد ، وقارعة الطريق ، ويتوارَ خلف جدارٍ ، ثم يرفع ثوبه ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ثم يضع حيث يشاء.

قال أبو حنيفة : فلما سمعت قوله عظم في عيني ، فقلتُ له : جُعلتُ فداك ما اسمك ؟ فقال : أنا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب وجدتي فاطمة الزهراء بنت رسول الله.

قال أبو حنيفة : ثم قلت له : يا غلام وممن المعصية ، فنظر اليَّ ثم قال : اجلس حتى أخبرك فجلست ، فقال لي : إن المعصية لا تخلو من إحدى ثلاث ، أما من الله ـ وليست منه ـ فهو اعدل وانصفُ من أن يُعذب عبداً على ما لا يرتكب واما من العبد ـ وهي منه ـ فإن عفا سبحانه فبكرمه وجوده وان عاقب فبعدلهِ وسلطانه فله حقُ العقاب والثواب وإن كانت من الاثنين ـ وليس كذلك ـ فهما شريكان فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الضعيف. قال أبو مسلم : فأصابت ابو حنيفة سكتةٌ كأنما أُلقمَ حجراً فقلتُ له : الم اقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله.

قال ابو حنيفة : فإنصرفت ولم الق الصادق عليه‌السلام مُستغنياً بما سمعت. اعلام الورى ٢ / ٢٩.

وقد ذكر الكراجكي ان أحد الشعراء نظم ذلك في ابيات :

لم تخلُ افعالنا اللاتي نُذّمُ بها

احدى ثلاثِ خلالٍ حين نأتيها

اما تفردُ بارينا بصنعتها

فيسقط اللوم عنّا حين نُنشيها

او كان يشركُنا فيه فيلحقهُ

ما سوف يلحقنا من لائمٍ فيها

او لم يكن لألهي في جنايتها

ذنبٌ فما الذنبُ ألا ذنبُ جانيها

كنز الفوائد : ١ / ٣٦٦

=

٤٥٤
 &



__________________

=

ولابي حنيفة غير هذا الموقف مع الإمام الكاظم عليه‌السلام كما ذكر ابن شهر آشوب قال :

دخل ابو حنيفة على الإمام الصادق عليه‌السلام وكان ابنه موسى عليه‌السلام صغيراً ، فقال ابو حنيفة : يا ابا عبد الله رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه فقال الصادق عليه‌السلام : ادعوا لي ولدي موسى فلما دُعي اخبره بكلام ابي حنيفة فقال الإمام موسى عليه‌السلام : نعم يا ابه إن الذي اصلي له اقرب اليَّ منهم حيث يقول الله تعالى : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فضمه والده الصادق عليه‌السلام الى نفسه ثم قال عليه‌السلام : بأبي أنت وامي يا مستودع الأسرار.

سلام الله عليك من إمامٍ ما اعظمك. المناقب ٤ / ١١.

٤٥٥
 &

إمامتهُ وفضلهُ

وبات في ظل أبيه يغرفُ

كنوز علمٍ ثرةٍ لا تنزفُ

حتى اذا الصادق طال عمرهُ

وصار ينأى للغروب بدرهُ

وقد دنا عمراً من السبعينِ

أوصى لموسى الكاظم الامينِ

وصيةَ النصِ على الامامه

والسيف والكتاب والعمامه

بايعه شيعته بفخرِ

كهالةٍ حفت بنو البدرِ

يعلمُ تأويلات آي المصحفِ

يروي أحايث النبي الاشرفِ

سُمي « بالعالمِ » في الرواةِ

والسيد القائم في الدعاةِ (١)

كان مثالاً للتقى والزهدِ

وكان للرحمن أنقى عبدِ

يصوم يومه ويقضي السحرا

مصلياً مسبحاً مفكرا

يحج للكعبةِ دوماً ماشيا

يظلُّ فيها طائفاً وساعيا

نجائبٌ تقادُ في يديه

والرمل أضنى تعبا رجليه

__________________

(١) عن يزيد بن سليط قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن القائم من بعده ؟ فقال وهو يشير الى ولده موسى عليه‌السلام.

انه هو عنده علم الحكمة ، والفهم ، والمعرفة بما يحتاج اليه الناس فيما اختلفوا فيه من امر دينهم وهو باب من ابواب الله. عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢٣.

لقد عاش الامام موسى الكاظم ثلاث عقود من عمره المبارك ، وقد سار على منهاج جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآبائه المعصومين عليهم‌السلام في الاهتمام بشؤون الرسالة الآلهية وصيانتها من الضياع والتحريف ، والجد في صيانة الامة من الانهيار والاضمحلال ، ومقارعة الظالمين وتأييد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر للصد من تمادي الحكام في الظلم والاستبداد.

وقد كانت مدرسته العلمية الزاخرة بالعلماء وطلاب المعرفة تشكل تحدياً اسلامياً ، حضارياً ، وتقف امام تراث كل الحضارات الوافدة ، وتربي فطاحل من العلماء والمجتهدين وتبلور المنهج المعرفي للعلوم الاسلامية والانسانية معاً. اعلام الهداية ٩ / ١٨.

٤٥٦
 &

حج بأهلهِ سنيناً أربعا

ما مثله راءٍ رأى أو سمعا

يتلو بحزنٍ سُورَ القرانِ

فيخشعُ السامعُ للمعاني

وطالما يبكي مع الخشوعِ

ووجههُ يبتلُ بالدموعِ

وزهدهُ يعرفهُ الزهاد

فذكرهُ طعامهُ والزادُ

فبيتهُ حصيرةٌ ومصحفُ

وهو الذي يعنو لديه الشرفُ (١)

__________________

(١) نشأ الامام موسى الكاظم عليه‌السلام في بيت الهدى والتقى ، وترعرع في مدارج النور والعبادة ، والطاعة ، بالاضافة الى انه قد ورث من آبائه حب الله والانقطاع اليه.

لقد رأى الامام عليه‌السلام جميع صور التقوى ماثلة في بيته ، فصارت تلك المعاني من مقومات ذاته ومن عناصر شخصيته ، حتى حدّث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه عليه‌السلام.

قال الشبلنجي : هو الإمام الكبير الساهر ليله قائماً والقاطع نهاره صائماً والمسمى لفرط حمله عن المُعتدين كاظماً. نور الابصار / ١٦٤.

قال محمد بن طلحة الشافعي : موسى بن جعفر عليه‌السلام إمام جليل القدر ، عظيم الشان ، مجتهدٌ جاد الاجتهاد ، مشهورٌ بالعبادة ، مواظب على الطاعات ، مشهور بالكرامات ، يبيت الليل ساجداً وقائماً ، ويقطعُ نهاره متصدقاً صائماً كان يجازي المسيء بإحسانه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه وكراماته تحار منها العقول. مطالب السؤول / ٨٣

وقال الطبرسي : كان احفظ الناس لكتاب الله واحسنهم صوتاً به وكان اذا قرأه بحزنٍ يبكي السامعين وكان الناس في المدينة يسمونه زين المجتهدين. اعلام الورى / ٢٩٨.

وقال الكليني : وكان عليه‌السلام لشدة علاقته بالله تعالى يسعى الى رضاه وقد حجَّ الى بيته مشياً على قدميه وقيل انه حجَّ اربع مرات ماشياً على قدميه. الكافي ٢ / ٩٨

وقال الشيخ المفيد : وكان عليه‌السلام يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته من دموعه ، وكان اوصل للناس بالبر لأهله ورحمه ، وكان يتفقد فقراء المدينة ليلاً ونهاراً. الإرشاد / ٢٩٩.

كان الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام اعبد اهل زمانه وافقههم واسخاهم ، وكان كثير السجود طويلا في سجدته ، وكان كثيراً ما يقول في سجوده : اللهم اني اسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب ، وكان من دعائه عليه‌السلام قوله : الهي عظُم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك. منتهى الآمال ٢ / ٢١٩

٤٥٧
 &

كرمه وعطاؤه

في غلسِ الليلِ يزورُ الفقرا

ثم يعودُ باسماً مبتشرا

قد أوصلَ الصِرارَ للمسكينِ

بكفهِ المطهرِ الامينِ

حتى لقد جاء بذاك الخبرُ

من زاره موسى فلا يفتقرُ (١)

* * *

__________________

(١) لقد تجلى الكرم الواقعي ، والسخاء الحقيقي في الامام فكان مضرب المثل في الكرم والجود ، فقد فزع اليه البائسون والمحرومون لينقذهم من كابوس الفقر وجحيم البؤس.

وقد اجمع المؤرخون انه انفق جميع ما عنده عليهم ، كل ذلك في سبيل الله لم يبتغ من أحد جزاءً أو شكوراً ، وكان في صلاته يتطلب الكتمان وعدم الذيوع لئلا يشاهد على الآخذ ذلة الحاجة ، وكان يلتمس في ذلك وجه الله ورضاه ، ولهذا كان يخرج في غلس الليل البهيم فيصل الطبقة الضعيفة ببرّه وإحسانه وهي لا تعلم من أية جهة تصلها تلك المبرات وكان يوصلهم بصراره التي تتراوح ما بين المائتي دينار الى الاربعمائة دينار. تاريخ بغداد ١٣ / ٢٨

وكان يضرب به المثل بتلك الصرار ، فكان أهله يقولون :

عجباً لمن جاءته صرار موسى وهو يشتكي القلة والفقر !!. عمدة الطالب / ١٨٥

٤٥٨
 &

حكاية بشرِ الحافي

وذات يومٍ كان في الطريقِ

يمشي بلا فتىً ولا صديقِ

فمرَّ في دارٍ بها غِناءُ

في بابها جاريةٌ حسناءُ

فقال : من صاحبُ هذي الدارِ

هل هو عبدٌ أم من الأحرار ؟

فقالت الجاريةُ الصبيه :

بل هو حرٌّ دونما مريه

فقال : قد صدقتِ فيه قولا

لو كان ذا عبداً لخاف المولى

فهرعت تمشي لـ « بشرِ الحافي »

والسكر في عينيه غير خافِ

واخبرته بالذي قد كانا

فبان من توبتهِ ما بانا

وراح يمضي خلفه مهرولا

يبكي على أفعالهِ مولولا

وصار من اعاظم الزهادِ

وأكبر التقاةِ في بغدادِ

حتى غدا من أوثق الرواةِ

وناقلِ الحديث للثقاةِ (١)

__________________

(١) الحرية الحقة الا تكون عبداً لغير الله سبحانه حينئذ ترفض عبودية الاشياء عليك من مالٍ ، او جاهٍ ، او شهوات ، فتكون عبداً لله وحده هو مولاك وعليه معتمدك دون سواه وفي هذه الحكاية نرى صورة واقعية لهذه الفكرة السامية ، وفيها نلمس ايضاً مدى تأثير الإمام عليه‌السلام على مجتمعه وكيف كان عليه‌السلام يمارس الارشاد الفعلي والموعظة الحسنة في توجيه الناس وارشادهم الى الخير والصلاح ، كما نرى في الموعظة البذرة الصالحة اذا وجدت ارضاً خصبة صالحة ، وهو الانسان الصالحِ فإنها تزهر وتأتي بكل زوجٍ بهيج ، وهكذا الموعظة اذا لقيت أذناً صاغية ، وقلباً طاهراً ، اثمرت وآتت اُكلها كما نقل لنا التاريخ من امثال « بشر الحافي ».

حيث ينقل العلامة الحلي :

ومن الذين تابوا على يد الإمام ابي الحسن موسى عليه‌السلام بشر الحافي ، حيث اجتاز الإمام عليه‌السلام منفرداً بداره ببغداد ، فسمع الملاهي واصوات الغناء تخرج من تلك الدار ، فخرجت جارية

=

٤٥٩
 &



__________________

=

وبيدها قمامة تريد رميها فرمتْ بها في الطريق فقال لها الإمام عليه‌السلام : يا جارية أصاحب هذه الدار حرٌ ام عبد ؟ فقالت : بل حرٌ ـ وتريد بها الحرية الظاهرية ـ فقال عليه‌السلام :

صدقت فلو كان عبداً لله لخاف من مولاه.

فاسرعتْ الجارية واخبرت مولاها بشر وكان على مائدة السكر فخرج حافياً مُسرعاً حتى لقي الإمام الكاظم عليه‌السلام وتاب على يديه. منهاج الكرامة ٣٢

قال الشيخ عباس القمي : سُمي بشر الحافي لأنه كان دائماً حافياً ، وقيل لأنه هرول وراء الإمام الكاظم عليه‌السلام حافياً حتى صارت صفةً له ، وعلى اثر ذلك نال السعادة العظمى. وكانت له ثلاث اخوات سلكن مسلكه في الزهد والعبادة ، وكان من اعلام المتصوفة ، ونُقل عنه انه سُئل عن سبب حفاه فقال : ان الله تعالى جعل الارض بساطاً فهي فراشه سبحانه وليس من الادب المشي على فراش الملوك بالنعال. منتهى الآمال ٢ / ٢٩٩

ثم قرأ قوله تعالى ( وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ) نوح : ١٩

توفي سنة ٢٢٦ هـ بعد ان صار ولياً صالحاً مُلازماً للتقوى والخير راوياً لحديث استاذه الكاظم عليه‌السلام ناقلاً اخباره.

٤٦٠