ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

رسائل أهل الكوفة الى الحسين عليه‌السلام

وكتبت رجالُ أهلِ الكوفه

وهي لعمري ساحةٌ مخوفه

عدَة آلافٍ منَ الرسائلِ

من سادةِ الأقوامِ والقبائلِ

مثلِ ابنِ « ربعي » و « حجّار » ومن

دانَت لهُ الأعرابُ مِنْ أهلِ اليمَنْ

قالوا : بأنْ قد أينع الجنابُ

وأورقتْ غراسُها اليبابُ

أقدِمْ على جُندٍ لكم مجنَّدَهْ

وزُمْرةٍ منصورةٍ مؤيّده

* * *

٢٠١
 &

سفيرُ الحسين عليه‌السلام

فكتَب الحسينُ يا أصْحابي

بكفِ قيسٍ جاءكُم كِتابي

إنِّي بعثتُ بابن عَمّي « مُسلمِ »

وثِقَتي في كُلِّ أمر مُحكَمِ

فبايِعوهُ دونَما تأخيرِ

كبيعةِ الأصحابِ في « الغَدِيرِ »

وإنّني إنْ شاءَ ربّي في الأثرْ

لا أرهبُ الموتَ ولا أخشى الخطَرْ (١)

* * *

__________________

(١) خلال فترة اقامة الامام الحسين عليه‌السلام في مكة وردته آلاف الرسائل والكتب من أهل الكوفة ورجالاتها يعبرون فيها عن طاعتهم له ورغبتهم الشديدة في التخلص من حكم يزيد بن معاوية ، ويطلبون منه القدوم ليقودهم في الثورة ، ومبايعته على السمع والطاعة ، باعتباره الامام الذي يعرفون حقه ، وفضله ، ومنزلته في الإسلام ، ومن الذين بعثوا برسائلهم إلى الحسين عليه‌السلام :

ـ شبث بن ربعي.

ـ حجّار بن أبجر.

ـ يزيد بن الحارث.

ـ وعزرة بن قيس.

وغيرهم من رؤساء القبائل ووجهاء الكوفة ، فبعث الحسين عليه‌السلام رسائل جوابية إليهم مع عدد من الرسل وأوفد إليهم ابن عمه وثقته مسلم بن عقيل ، ومعه قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمرة بن عبد الله السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي ، يأمرهم بلزوم طاعة مسلم ريثما يصل إليهم ، فإنّه قادم إلى العراق قريباً إن شاء الله.

٢٠٢
 &

سفر مسلم بن عقيل

وسارَ مسلمٌ الى العِراقِ

لمْ يكتَرِثْ قَطُّ بما يُلاقي

ماتَ دَليلاهُ لديهِ عطَشا

لكنّهُ لم يتلكّأ فمشى

حيثُ نجا في الرَّمَقِ الأخيرِ

مُكَمّلاً لدوْرِه الخطيرِ

وحَطَّ رَحْلَهُ « ببطنِ خبتِ »

وهوَ مضيقٌ مُفعمٌ بالموتِ

وكاتَب الحسينَ بالّذي جَرى

فجاءهُ جوابُهُ أنْ يَصْبِرا

ودخلَ الكوفةَ في ليل خفيّ

وحلّ دارَ « ابنِ عُبيدِ الثَّقَفي »

وجاءتِ الشيعةُ نحوَ الدارِ

بدعوة منْ شَيخِها المختارِ

واظهرتْ فرحَتَها بالثائرِ

يَخْطبُ فيها « ابنُ شبيبِ الشاكري »

فصفقَتْ أكفَّهُ الآلافُ

وخضَعتْ بالبيعةِ الأحلافُ

فكاتبَ الحسينَ أنْ أقبلْ علَي

فالكوفةُ الحمراءُ ما بينَ يدَي (١)

__________________

(١) في النصف من شهر رمضان عام ٦٠ للهجرة تحرك « مسلم بن عقيل » من مكة باتجاه الكوفة ومعه دليلان ، لكنهما أضلا الطريق واشتد بهم العطش فمات الدليلان ، ولكن مسلماً واصل وحده يغدُّ السير ، ويحث الخطى نحو العراق ، فوصل إلى منطقة يقال لها « بطن خبت » ومنها كتب إلى الحسين عليه‌السلام بالذي جرى على أصحابه ، ولكن الحسين عليه‌السلام أمره أن يواصل سيره إلى الكوفة دون تأخير أو تردد.

وفي الخامس من شهر شوال دخل مسلم الكوفة ، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، وكان من وجوه الكوفة ، فسارع الناس الى زيارة مسلم والترحيب بمقدمه والإعراب عن

=

٢٠٣
 &



__________________

=

حبهم لأهل البيت عليهم‌السلام ولزومهم للسمع والطاعة لهم ، وكان من جملة رجالات الشيعة الذين عبروا عن ولائهم للحسين بإخلاص وصدق « عابس بن شبيب الشاكري » حيث قال لمسلم : إني لا اُخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم ولا أغرك بهم ، والله إني اُحدّثك عما أنا موطّن عليه نفسي ، والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله.

وقد تواصلت وفود الكوفة على مسلم ، فبلغ عدد المبايعين ثمانية عشر ألفاً ، وقيل أربعين ألفاً ، كما في رواية الشعبي ، فكتب إلى الحسين عليه‌السلام عجل القدوم يا ابن رسول الله ، فان لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر.

٢٠٤
 &

وصول إبن زياد إلى الكوفة

لكنْ أتاها ابنُ زياد مسرعا

يَطوِي مسيرَ الصبحِ والليلِ مَعا

مُلَثّماً بعمَّةٍ سوداءِ

يقلّدُ الحسينَ بالسيماءِ

ودخلَ الكوفةَ مِن وادِي النجَفْ

يريدُ تحقيقَ الأماني والهدَفْ

ووصلَ القصرَ وصلّى فيهِ

وحذّرَ الناسَ ومَنْ يَعصيهِ

ووعدَ القادةَ بالعطاءِ

وخوّفَ الباقينَ في دهاءِ

يُشِيعُ أنَّ جيشَ أهلِ الشامِ

لم يبقَ أن يأتي سوى أيامِ

وعندَها غادرَ مسلمٌ الى

دار ابنِ عروةٍ يُحشّدُ المَلا

لكنْ تناهى خبرٌ للجاني

بأنَّ « مسلماً » ببيتِ « هاني »

فاعتقلَتْهُ شرطةٌ غدّارَهْ

ومنعَتْ عنْ أهلهِ أخبارَهْ (١)

__________________

(١) أرادت السلطة الأموية أن تتدارك الموقف فقررت عزل والي الكوفة « النعمان بن بشير » واستبداله برجل طاغية ظالم هو « عبيد الله بن زياد بن أبيه » الذي كان والياً على البصرة ، فتحرك فور وصول الأمر إليه نحو الكوفة ، يوصل الليل بالنهار كسباً للوقت ، وليحقق طموحاته في الحكم ونزعته الدموية المعادية لأهل البيت عليهم‌السلام ، فدخل الكوفة متنكراً بزي أهل الحجاز ليلاً ، ليوهم الناس انه هو الحسين بن علي ، وعندما كان يحييه الناس بقولهم مرحباً بك يا ابن رسول الله ، كان يكتفي في رد السلام بالإشارة خوفاً من افتضاح أمره.

=

٢٠٥
 &



__________________

=

ودخل القصر ليلاً ، فعرف الناس انه ابن زياد وليس الحسين ، حينذاك أُصيبوا بالدهشة وتفرقوا إلى منازلهم ، وفي صباح اليوم التالي جمع ابن زياد الناس في المسجد الأعظم ، فخطب بهم وحذرهم من إيواء أنصار الحسين ومبعوثيه ، وهدد بقتل كل من يخالف تعاليم السلطة ، كما وعدهم بالعطايا والأموال ، وكان رجال السلطة وعيونها يشيعون بين الناس ان جيش الشام قادم عما قريب إلى الكوفة ليقضي على كل تحرك ضد حكومة يزيد.

في هذه الاجواء قرر مسلم بن عقيل تغيير محل اقامته من دار المختار الى دار هاني بن عروة المذحجي وكان من أشراف الكوفة وقرائها ، والزعيم المبرز فيها ، ولكن عيون ابن زياد استطاعت ان تعرف محل اقامة مسلم السري ، فأرسل عبيد الله بن زياد يستدعي هاني الى قصره ، حيث تم اعتقاله وتعذيبه في القصر من أجل الاخبار عن مكان اختفاء مسلم بن عقيل.

٢٠٦
 &

إشتعال الثورة قبل موعدها

فسارَ « مسلمٌ » بأهلِ الكوفَهْ

في ليلة مُظلمة مَخوفَهْ

نداؤهُم « أمِتْ أمِتْ مَنصورُ »

حتى خلَتْ مِنَ الرّجالِ الدُّورُ

وأقْبَلُوا للقصرِ في عزيمَهْ

وأوشكتْ أنْ تقعَ الهزيمَهْ

وابنُ زياد أغلقَ الأبْوابا

وحشَّدَ الحُرّاسَ والحُجّابا

وهتفَتْ « مرادُ » أينَ هاني

سيدُنا وقائدُ الشجعانِ

فقيلَ : ذا عنهُ الأميرُ راضي

والقولُ كانَ مِنْ « شُرَيْحِ القاضي »

فاشتعلَتْ بينَ الجموعِ الفتنَهْ

ومسلمٌ يعيشُ أيَّ مِحْنَهْ

تفرَّقَتْ مِنْ حولهِ الرجالُ

ونكثَتْ بيْعتَهُ الأَبْدالُ (١)

__________________

(١) كان مسلم قد حدد موعداً مع أصحابه لاعلان الثورة في الكوفة ، لكن اعتقال هاني وتسارع الاحداث جعله يستعجل موعد الثورة ، فدعا رجاله وسار بهم باتجاه قصر الامارة ، وكان شعارهم شعار رسول الله يوم بدر « يا منصور امت » وكان عددهم أربعة آلاف رجل ، إلّا أنّ ابن زياد دخل قصره وأغلق الباب ، واعتمد حرب الشائعات لتفريق انصار مسلم ، فأشاع بينهم بأن جيشاً كبيراً من دمشق يزحف باتجاه الكوفة وكان يخوفهم بانتقام هذا الجيش ، فتفرق الناس عن مسلم ولم يبق سوى عدد قليل ، وكان مطلب الثوار اطلاق سراح هاني بن عروة فقط فخدعهم ابن زياد عن طريق « شريح القاضي » الذي

=

٢٠٧
 &

حتّى غَدا في همِّهِ غَرِيقا

لمْ يرَ مَنْ يَدُلُّه الطَّرِيقا

إذِ انتهى ليلاً لحيِّ كِنْدَهْ

وعندَهُ مِنَ الأسى ما عندَهْ

يَطرقُ باَب « طوعَةِ » الوفيَّهْ

البَرّةِ المؤمنةِ الزكيَّهْ

يطلبُ ماءً كي يردَّ العطشا

فالنارُ منهُ في العيونِ والحَشا

سقَتْهُ ثمَّ أدخلَتْهُ الدارا

لَمّا رأتْ فيهِ الفتى الكَرّارا

فباتَ كلَّ الليلِ في عبادَهْ

مُنتظراً لساعةِ الشهادَهْ

* * *



__________________

=

خرج الى الناس وأخبرهم بان هاني في خير وانه يجالس الامير في القصر فعودوا الى منازلكم.

وبذلك كان قاضي بني امية قد استغل موقعه في القضاء ليكون شاهد زور في أحرج ظرف مرت به الكوفة.

٢٠٨
 &

مسلم يُقاتلُ وحده

وفي الصباحِ حاطتِ الخُيولُ

بالدارِ وابنُ « أشْعَثٍ » يقولُ

أُخرُجْ إلينا فلكَ الأمانُ

وإنْ أبيتَ تُوقَدُ النيرانُ

فكَرَّ فيهم مُفرداً يُنادي

يا مَنْ نكَثتُمْ بيعةَ الرشادِ

« أقسَمتُ لا أُقتَلُ إلّا حُرّا

وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكْرا

كلُّ أمرئ يوماً مُلاقٍ شَرّا

ويخلطُ الباردَ سخناً مُرّا

رُدَّ شعاع النفسِ فاستقرا

أخافُ أنْ أُكذبَ أوْ أُغَرّا »

حتّى هوى مُخَضَّباً صَرِيعا

فأسرُوهُ بَطَلاً مُرِيعا

جِيءَ بهِ للقصرِ وهوَ يَزأَرُ

يقولُ : هلْ الى الحسينِ مُخْبرُ ؟

ثمَ قضى صَبراً ولمْ يستسلمِ

فأَلْفُ آه للشهيدِ مسلمِ

وأمرَ الطاغي بقتلِ « هاني »

وكانَ في أغلالهِ يُعاني

وسُحِبا في السوقِ بالحبالِ

وصُلِبا مِنْ فوقِ جذع بالِ (١)

__________________

(١) بعد تفرق الناس عنه بقي مسلم وحيداً لا يدري أين يتجه وهو غارق في محنته ، فوقف على باب امرأة من كندة يقال لها « طوعة » فسقته الماء وآوته في تلك الليلة التي قضاها بالعبادة حتى الصباح ، لكن ابنها وشى بأمر مسلم الى ابن زياد فأرسل مجموعة بقيادة الأشعث بن قيس للقبض عليه فواجههم مواجهة الابطال ولم يتمكنوا من أسره إلا

=

٢٠٩
 &

وظلَّتِ الكوفةُ تَغلي خائفَهْ

ومكةٌ تَزهو بأندى طائفَهْ

حيثُ الحسينُ لم يزلْ مُقِيما

يُقبّلُ الأركانَ والحَطِيما

يَنهى عنِ الفحشاءِ والمعاصي

حتّى أَتاهُ خبرُ ابنِ العاصي

بأنّهُ جاءَ لكيْ يغتالَهْ

فأخْبرَ الحسينُ سرّاً آلَهْ

في ليلةِ الثامنِ منْ ذي الحِجَّهْ

فتركَ الجميعُ فيها حجَّهْ

وفي الصباحِ لمْ يعُدْ مُقيما

حتى أَتى عشاءً « التَّنْعِيما »

مُودَّعاً بالدمعِ والبكاءِ

منْ أهلهِ وفتيةِ البَطْحاءِ

* * *



__________________

=

بعد منازلة شديدة اُصيب فيها مسلم بجراحٍ كثيرة ، سقط على أثرها على الارض فأسروه ، واقتيد الى قصر الامارة وجراحه تنزف دماً ، وفيما كان مسلم يعيش آخر لحظات حياته بين يدي جلاده ، كان همه أن يرسل الى الحسين رسالة اخيرة يخبره فيها بما آل إليه أمر الكوفة وانقلاب الموقف فيها ، وكيف يوصل هذه الرسالة وهو مكبل يعرض على السيف ، ثم قضى شهيداً صابراً وهو يسبّح الله ويكبره ، ثم اُلقي من سور القصر وقُتل في نفس اليوم هاني بن عروة ، وسُحبا بالحبال في أزقة الكوفة وساحاتها لتخويف الناس واشاعة الرعب في قلوبهم.

٢١٠
 &

البيان الأوّل لثورة الحسين عليه‌السلام

وقامَ فيهم خاطباً يقولُ :

بالنصِّ قد أوصى لنا الرسولُ

فما خرجتُ أشِراً أو بَطرا

أو ظالماً أو مُفسِداً بلْ مُنْكِرا (١)

وسارَ حتى وصلَ « الصّفاحا »

بعزْمهِ يواصلُ الكفاحا

حيث التقاهُ الشاعرُ « الفرزدقُ »

مُخبّراً إياهُ وهوَ يصدقُ

انَّ قلوبَ الناسِ لم تزلْ معكْ

وتطمحُ السيوفُ أنْ تقطعَكْ

فاسترجعَ الحسينُ ثمَّ حَوْقَلا

بأنّهُ يَرضى القضاءَ والبلا

__________________

(١) بينما كانت الكوفة تعيش حالة القلق والترقب والخوف إثر مقتل مسلم وهاني ، فإن مكة كانت هانئة بوجود الحسين عليه‌السلام الذي كان يمارس دوره في التوجيه والارشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى جاء خبر وصول مجموعة من رجال السلطة الاموية لاغتياله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة ، فكره الحسين عليه‌السلام أن يُراق الدم في هذا المكان المقدس ، فقرر مغادرة مكة بسرعة نحو العراق عاصمة اهل البيت وساحة الثورة المتجددة.

وفي الثامن من ذي الحجة ، وهو يوم التروية والخروج الى منى قطع الحسين مناسك الحج ، وحوّل حجه الى عمرة مفردة متجهاً الى العراق عبر ميقات التنعيم ، ـ ولعلّه كان يهدف من هذا التوقيت تنبيه الامة إلى خطورة الموقف ومسؤوليتها التاريخية ـ وقد ودعته مكة ، وهو ابنها ، بالدموع والحسرات ، وودعها هو بخطبة تاريخية مثّلت البيان الاول للثورة الحسينية الخالدة ، حيث حدد فيها عزمه وارادته على المضي نحو تحقيق الاصلاح الاجتماعي والسياسي ، وإن أدى ذلك الى شهادته ، جاء فيها : ما خرجت اشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً ، انما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن رد علي ذلك أصبر حتى يحكم الله والله خير الحاكمين.

٢١١
 &

ثمَ مضى قُدماً « لذاتِ عِرقِ »

مُصمّماً على الوفا والصدقِ

وفي « زرودٍ » جاءتِ الأنباءُ

بمسلم قدْ فتكَ الأعداءُ

فضجَّ أهلُ البيتِ بالعويلِ

وأكثَر البكا بَنُو عقيلِ

وأقسَموا أنْ يُدرِكوا الثأرَ فما

يُطْفَأُ ثأرُ الحرِّ إلا بالدِّما

وراحَ ركبُ الحقِّ يطوي في الفَلا

تلكَ البقاعَ مَنزِلاً فمَنزِلا (١)

حتى أَتوا عيناً على « شرافِ »

ليستقُوا الماءَ منَ الضفافِ

* * *



__________________

(١) بعد اعلانه الثورة سار الحسين باتجاه الكوفة فوصل منطقة تدعى « الصفاح » حيث التقى الشاعر المعروف « الفرزدق » فسأله الحسين عن أخبار الكوفة فقال له الفرزدق : قلوبهم معك والسيوف مع بني امية ، والقضاء ينزل من السماء.

فقال أبو عبد الله : صدقت ، لله الأمر والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربّنا في شأن.

كان وصف الفرزدق في منتهى الدقة ، فالناس تحب التغيير والحق والعدل وتطمح اليه ، إلّا انّها لا تمتلك الإرادة الحقيقية على التغيير ، لأنّ الإرادة تستلزم التضحية والمعاناة ، وهي ما لم تستعد لهما.

ثم وصل عليه‌السلام الى منطقة « ذات عرق » ومنها الى منطقة « زرود » وفيها تناهت اليه أخبار مقتل مسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة ، فبكى الحسين وبكى معه الهاشميون خصوصاً بني عقيل ، وأقسموا أن يثأروا لشهيدهم العظيم سفير الثورة الحسينية مسلم بن عقيل.

٢١٢
 &

الحسين عليه‌السلام يلتقي جيش الحرّ في الصحراء

لاحتْ لهمْ أشباحُ نخل في المَدى

وما دَروا بأنّها جيشُ العِدى

كَتيبةٌ شاكيةُ السلاحِ

يقودُها في سيرِها « الرّياحي »

عطشى فأعطاها الحسينُ الماءا

ورشفُوا خيولَها الظماءا

وحينَ صارَ موعدُ الغداةِ

أَمَّ الحُسينُ الجمعَ في الصلاةِ

ورغبَ الحسينُ أنْ يَسِيرا

فجَعْجَعَ الُحرُّ بهِ تأخيرا

لكيْ يحطَّ رَحْلَهُ في كربلا

وهي لعمري ذاتُ كربٍ وبَلا (١)

* * *

__________________

(١) وصل ركب الحسين الى منطقة « شراف » وهي عين ماء للسقي على طريق الكوفة ، فلاحت لهم طلائع الجيش الاموي بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، وكانت أسنة الرماح كأنها سعف النخل لكثرتها في الصحراء ، فوصلوا الى ركب الحسين وكانوا يشكون العطش الشديد فسقاهم الحسين عليه‌السلام الماء ، وهذا من كرم اخلاق اهل البيت عليهم‌السلام ان يشفقوا حتى على اعدائهم ، وحين حل موعد الصلاة صلى بهم الحسين عليه‌السلام ثم قال الحر : « إنّي اُمرت أن لا اُفارقك اذا لقيتك حتى اُقدمك الكوفة على ابن زياد » ثم حدثت مشادة كلامية بينهما ذكرتها كتب المقاتل والتاريخ ، ثم سار الحسين عليه‌السلام وكان الحر يضايق مسيره كي لا يدخل الكوفة ، وكأن كربلاء على موعد مع الحسين والثلة الطاهرة من اهل بيته وأصحابه ، فحط رحله في الطفوف تلك الصحراء المنسية التي تعبث بها الريح ، فحوّلها الحسين عليه‌السلام الى قلعة احتجاج دائمة ضد الظالمين ، والى مشعل وهاج ينير الدرب للثائرين على طول التاريخ.

٢١٣
 &

الحسين‌ عليه‌السلام يصل إلى كربلاء

في يومهِ الثاني منَ المحرّمِ

مُحاصراً فيها بجيش مُجرمِ

فأخبرَ الأهْلِينَ والأصْحابا

وقرأ الآياتِ والكِتابا

مُذكّراً إياهُمُ بالصبرِ

مُرغّباً إياهمُ بالأجرِ

وظلَّ أياماً يُحذّر العِدى

ويستعدُّ للقتالِ والفِدا

وبعثَ « الحرُّ » الى أميرهِ

جَعْجعتُ بالحسينِ في مسيرهِ

فما الذي تريدُ أنْ يكونا

فإنّنا للأمرِ سامِعونا

قالَ : خذِ الحسينَ فليبايعا

على الولاء سامعاً وطائِعاً

فإن أبى فالجيشُ فوقَ العدِّ

جاءَ يقودُه لكَ « ابنُ سعد »

سبعةُ آلاف وقيلَ عشرَهْ

تطبّقُ الآفاقَ منها غَبْرَهْ

وافى « ابنُ سعد » في الصباحِ الطفّا

ورتّبَ الفرسانَ صفّاً صفّا

وفاوضَ الحسينَ كيْ يستسلما

ولا تراقَ قَطرةٌ مِنَ الدما

فرفضَ السبطُ بأنْ يُعطي اليَدا

الى الذينَ خالفُوا مُحمّدا

مُصمِّماً يُواصِلُ الكفاحا

أو أنْ يرى في الأُمةِ الإصلاحا

وأنْ يخطَّ منهجَ الشهادَهْ

وأنْ تُخضِّبَ الدما جهادَهْ (١)

__________________

(١) في الثاني من المحرم عام ٦١ للهجرة حط الامام الحسين عليه‌السلام رحاله في كربلاء ، وخطب في أهله وأصحابه كي يعرّفهم بالموقف الصعب الذي سيلاقيهم على هذه الارض

=

٢١٤
 &



__________________

=

كما اخبر بذلك النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي ان الحسين سيقتل ظمآناً في ارض يقال لها « كربلاء » وكان مما قال لهم عليه‌السلام : ألا ترون الى الحق لا يُعمل به ، والى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلّا برماً.

وسط هذا الجوّ المتوتر بعث الحر الى ابن زياد يخبره بأنه حاصر الحسين في كربلاء ، وانه ينتظر الأمر منه ، فجاء في امر ابن زياد ، بأن يأخذ البيعة من الحسين عليه‌السلام ليزيد بالسمع والطاعة ، فإن رفض فانّه سيواجه الموت وسأبعث لك ابن سعد يقود الجيش للمعركة الفاصلة ، لكن الحسين عليه‌السلام واجه تلك التهديدات بقوة وحزم وقال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

وهكذا صمّم أبو عبدالله عليه‌السلام على المضي في طريق الشهادة ، من أجل أن يبقى رمزاً للفداء والتضحية ، في طريق المبادئ الحقة والقيم الخيرة التي جاء بها جده النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢١٥
 &

موقف الأنصار عشيّة المعركة

وباتَ في الطُّفوفِ ليلَ العاشرِ

ما بينَ دارعٍ وبينَ حاسرِ

وحولَهُ سبعونَ فذٍّ رائدِ

مِنْ قائم وراكعٍ وساجدِ

قالَ لهم : مَنْ يبتغي أنْ يَرْحلا

فها هوَ الليلُ خُذوهُ جَمَلا

لكنّهم ردّوا بصوت ثائرِ

كيفَ وانتَ اليومَ دونَ ناصرِ

هيهاتَ حتّى تنضحَ الدِّماءُ

مِنا وتَفْنى هذهِ الأبناءُ

وعندَها بشَّرهم بالجنهْ

فصارتِ الأرواحُ مطمئنَّهْ

وقالَ : ليسَ مثلكُم أصحابُ

قد أُرخِصَتْ بينهمُ الرقابُ

وباتَ يجلُو سيفَهُ وينشدُ

مُعاتباً فالمرءُ ليسَ يخلُدُ

« يا دهرُ أفٍّ لكَ مِن خليلِ

كمْ لكَ في الإِصباحِ والأصيلِ

مِنْ قاتل وطالب قتيلِ

والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

وإنّما الامرُ الى الجليلِ »

وحينَ ذاكَ سمعتْهُ زينبُ

فصرخَتْ اُخَيَّ فيمَ تعتبُ

فقالَ : في غد تَرَينَ رأسي

على قناة مُصْبِحاً ومُمْسي

وجَسدي يُرَضُّ بالخُيولِ

والقومَ يَقرعونَ بالطبولِ

والنارَ في الخيامِ والدخّانا

ونِسوتي تُدافعُ الجَبانا

وتهربُ النساءُ والاطفالُ

وخيمتي تنهبُها الرجالُ

وفرسي يصيحُ بالظليمَهْ

مِنْ أمة ظالمة لئيمَهْ

٢١٦
 &

وإخوَتي مُصرَّعين حولي

وكربلاءُ في أسىً وهولِ

فصرخَتْ زينبُ يا جدّاهُ

يا منْ حباهُ بالكتابِ الله

هذا حسينٌ قدْ نَعى لي نفسَهْ

وهوَ بقيّةُ البُدورِ الخمسَهْ

وأصبحوا في يومِ عاشوراءِ

ينتظرونَ ساعةَ اللقاءِ (١)

* * *

__________________

(١) قرّر قائد الجيش الأموي عمر بن سعد ان يحسم المعركة يوم التاسع بقتل الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه ، لكن الإمام أرسل إليهم أخاه العباس ليمهلوه سواد تلك الليلة ، من أجل أن يتفرّغ هو وأصحابه للعبادة والاستغفار ، وقال : « ان الله يعلم انِّي أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار ». فباتوا ليلة العاشر بين قائم ، وقاعد ، وراكع ، وساجد.

وفي تلك الليلة التي أصبح واضحاً انها الليلة الأخيرة ، وانّ صبحها سيسفر عن مأساة كُبرى ، حيث الأجساد تُقطّع على صعيد الطّف ، والرؤوس على الرماح ، والنساء سبايا ، والأطفال تطاردهم خيول الظالمين. عرض على أصحابه أن يتركوه ، فانّ القوم لا يطلبون غيره ، فقال لهم : « هذا اللّيل قد غشيكم فاتخذوه جملا ». ولكن أصحاب الضمائر الحرّة وذوي النفوس الأبية أبوا إلّا أن يواسوه ويشاركوه المصير المحتوم بعد أن استيقنوا بالشهادة ، والتي هي أسمى الأماني ، وأرفع الدرجات عند الله وأحبّائه. وعند ذلك أثنى الحسين عليه‌السلام عليهم ودعا لهم بالخير وعرّفهم منازلهم في الجنة ، فأيقنوا ما حباهم الله به من نعيم الجنان في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

٢١٧
 &

يوم عاشوراء

صفَّ الحسينُ للقتالِ صحبَهْ

وحثَّهمْ للصبرِ عندَ الوثبَهْ

سبعين كانوا ثمّ زادوا اثنينا

والكلُّ منهُم بايعَ الحسَينا

« زهير بنُ القينِ » عندَ الميمنَهْ

وهوَ الذي كانَ الوفاءُ ديدنَهْ

« وابنُ مظاهر » يقودُ الميسرَهْ

« والقلبُ » ضمَّ العترةَ المطهرَهْ

وحينَ هزَّ الرايةَ « العباسُ »

احتَبَسَتْ في الأضلُعِ الأنْفاسُ

لأنهُ الثابتُ في الطِّعانِ

وقابضُ الارواحِ في الميدانِ

وزحفَ الآلافُ نحو العترَهْ

سيوفُهم مشهورةٌ بالغدرَهْ

قدْ حاولوا اطفاءَ نورِ اللهِ

بنفخة ضاعَتْ على الشفاهِ (١)

راحوا يجولونَ على الخيامِ

ويُوقدونُ النارَ بالضرامِ

* * *

__________________

(١) نظم الامام الحسين عليه‌السلام اصحابه على قلتهم فقسمهم الى ميمنة ، وميسرة ، وقلب ، وتلك هي طريقة تنظيم الجيوش وخوض المعارك في ذلك الزمان.

٢١٨
 &

دعاء الحسين عليه‌السلام

فرفعَ الحسينُ بالدعاءِ

يديهِ نحوَ خالقِ السماءِ

وقالَ : أنتَ ثقتي في الكربِ

وبُغْيتي في محْنَتي يا ربِّ

فَرُبَّ أمرٍ يُضعِفُ الفؤادا

فَرَّجْتَ منهُ الكُرَبَ الشِّدادا

فأنت لي وليُّ كلِّ نعمَهْ

وبابُ كلِّ رغبةٍ وهِمَّهْ (١)

* * *

__________________

(١) عندما رأى الحسين عليه‌السلام كثرة عدد الجيش الأموي ، وطيشه في ارتكاب الجريمة بحقه وحق ثقل الرسالة والرسول ، رفع يديه بالدعاء : اللّهمّ أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك رغبة مني اليك عمّن سواك فرجته وكشفته فأنت ولي كل نعمة ومنتهى كل رغبة.

٢١٩
 &

خطبة الحسين عليه‌السلام قبل المعركة

ثمَّ امتطى ناقَتهُ ونادى

يا قومَنا لا تركَبوا العِنادا

فلتسْمَعُوا نصيحتي وقَولي

كيفَ يحلُّ عَطَشي وقَتلي

قالَ : دَعوُني لبلادٍ أرحَلُ

فلستُ ممنْ بالهوانِ يَقبلُ

وإنْ أبيتُم فاجمعُوا أمرَكُم

وأقبلوا فإنّني مُصمِّمُ

وسمعَتْ نساؤُه المَقالا

فأعْوَلتْ مِنْ خَلفهِ إعوالا

لكنّهُ ظلَّ بليغاً يخطبُ

محذّراً فيهم لما يُرتَكبُ

يقولُ : لا تغرّكم دنياكُم

فقدْ نسيتُم في الهوى أُخراكُمُ

وقدْ جمعتُم جمعَكم لأمرِ

أسخطتُم الله بهذا الكفرِ

بئسَ العبيدُ أنتمُ منْ قومِ

إبليسُ غرّكمْ بهذا اليومِ

بُعداً لقوم خالَفْوا الكتابا

وحاربوا العترةَ والاصحابا

قال : انسُبوني مَنْ أنا ثمّ ارجِعُوا

وعاتِبوا أنفسَكُم وقرِّعُوا

ألستُ سبطَ أحمدِ المختارِ

وابنَ وصيّهِ الفتى الكرّارِ

وحمزةُ الشهيدُ عمٌّ لأبي

وجعفرُ الطيار مجلي الكُرَبِ

أما سمعتُم قولةَ الرسولِ

المصطفى الطهرِ أبي البتولِ

فيَّ وفي أخي العظيمِ المِنّهْ

هُم سيّدا شبابِ أهلِ الجنَّهْ

٢٢٠