ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &



__________________

=

وخلال إعداد هذا الجيش وتحرّكه بعث الإمام علي عليه‌السلام ولده الإمام الحسن عليه‌السلام إلى الكوفة لتعبئة الناس والمشاركة في حرب الجمل فكان له الدور الأكبر في التعبئة الجماهيرية العامّة رغم وجود بعض الشخصيات الضعيفة والمنافقة التي كانت تشكك بالموقف وتثبط الهمم وتمنع الناس من التوجّه لأداء دورهم الرِّسالي في طاعة الإمام المعصوم في جهاد عدوّه.

وبعد أن نجح الإمام الحسن عليه‌السلام في مهمته وقاد القوّات المجاهدة إلتحق بالإمام علي عليه‌السلام والتقاه في منطقة ذي قار ليتشكّل الجيش الإسلامي الذي خاض معركة الجمل وحسمها لصالح جبهة الحق ، وكان الإمام الحسن عليه‌السلام « أبو محمّد » له دور بارز في ساحة المعركة ومعه بنو أبيه وشبان بني هاشم.

ومن الجدير ذكره انّ الإمام عليّاً عليه‌السلام بعد إنتصاره الساحق تعامل مع القتلى ، والجرحى والأسرى وغنائم الحرب وفق تعاليم الشريعة الإسلامية ولم يدع للعصبيات والإنفعالات الشخصية أن تتحكّم في قراراته ومواقفه.

١٦١
 &

في معركة صفّين

وحينَ شبَّتْ بَعْدَها « صِفِّينُ »

لاهِبةً وحِقدُها دَفِينُ

كانَ بها السِّبطُ على المقدّمَهْ

والخَيْلُ بالخَيلِ غدَتْ ملتحمَهْ (١)

__________________

(١) بعد معركة الجمل أعلن معاوية بن أبي سفيان تمرّده على الإمام علي عليه‌السلام محاولاً عزل بلاد الشام عن الحكومة المركزية للدولة الإسلامية ، وقد حاول الإمام علي عليه‌السلام معالجة القضيّة وامتصاص الأزمة عن طريق الرسائل والمفاوضات بين الكوفة والشام. إلّا أنّ معاوية كان مصرّاً على موقفه لأنّه لا يريد أن يخضع للشرعية ولا يستجيب للحق ، يشجعه في ذلك مستشاره السياسي المخادع « عمرو ابن العاص » الذي يكنّ حقداً دفيناً لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام منذ بدء رسالة الإسلام وحركة الدعوة الإسلامية.

وتمادى معاوية في غيِّه ، فكان يشنّ حرباً خاطفة على شكل غارات على أطراف العراق والجزيرة فيقتل الأبرياء ، ويسلب أموال المسلمين ويروّع الآمنين ، وينشر الذعر في أرجاء الدولة الإسلامية.

وفي حملة أحد قوّاد جيوشه « بسر بن أرطاة » ذلك الرجل الوحشي الذي قاد جيشاً لمعاوية فقتل كل مَن يعترض طريقه وأحرق القرى والبيوت حتّى توغل في بلاد اليمن فاستباحها فانهزم أمامه عامل اليمن « عبيد الله بن العباس » فقتل ولديه الصغيرين من بعده فجنّت أمّهما وظلّت تردِّد هذه الأبيات التي حفظها التأريخ في صفحاته :

ها من أحس بابني اللذين هما

كالدرّتين تشظى عنهما الصدف

ها من أحس بابني اللذين هما

مخي وعقلي فعقلي اليوم مختطف

نُبِّئتُ بسراً وما صدقت ما زعموا

من إفكهم ومن الذنب الذي اقترفوا

أحنى على ودج ابنيي مرهفة

مشحوذة وكذاك الذنبُ يُقترفُ

إزاء هذه التطوّرات الخطيرة لم يكن أمام الإمام علي عليه‌السلام سوى خيار الحرب ليضع حدّاً

=

١٦٢
 &

قالَ عليُّ : « أَملكوهُ عَنِّي

كيْ لا يضيعَ نَسلُ طه مِنِّي »

فإنَّهُ الوارِثُ بَعْدي فيكُمو

في فِتنة مَروعةٍ تَأتيكُمو

وانتَهتِ الحربُ إلى التَّحكيمِ

والمجتبى في مَوْقف أَليمِ

يُوَقِّعُ العَهدَ بِقَلب دامِ

وهوَ يرى إنكسارةَ الإمامِ

فعادَ والجمعُ غدا مُنْتهكا

وبعضهُم عادَ بهِ مُشكِّكا

حتّى إذا ما وصلُوا للنّهرِ

وزُمْرةٌ قدْ فُتِنتْ بالشَّرِ (١)

__________________

=

لزمرة أهل الشام المتمردة ، دارت الحرب بين الطرفين على الحدود العراقية السورية في سلسلة من المعارك الدامية وهي التي تسمّى في التاريخ بحرب « صفّين » وكان للإمام الحسن ومعه أخوه الحسين عليه‌السلام وقفاتهما البطولية في خوض الغمرات ومواجهة فرسان الأعداء.

(١) امتدّت الحرب لعدّة شهور سقط فيها الكثير من الطرفين ، فتجلّت معادن الرجال وشجاعة الشجعان وكان للحسن والحسين عليهما‌السلام حضورهما القوي في مقدمة الصفوف ، وكانا يلقيان بأنفسهما في لهواتها غير هيابين ، ولا وجلين من الموت حتّى طلب الإمام علي عليه‌السلام من أصحابه أن يمنعاهما من التوغل أكثر في صفوف الأعداء فقال قولته المشهورة : « املكوا عنِّي هذين الغلامين ، لئلّا ينقطع بهما نسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

وقد وصف الشريف الرضي في نهج البلاغة كلمة الإمام هذه بأنّها من أبلغ البيان وأجمله.

أوشك جيش الإمام علي عليه‌السلام أن يحسم المعركة لصالحه بقيادة البطل حامل اللواء « مالك الأشتر » حيث وصل بجنده إلى مقر قيادة معاوية حتّى أراد معاوية الهروب من وسط المعركة ، إلّا أنّ خدعةً حاك خيوطها « عمرو بن العاص » المعروف بالحيلة والدهاء أشار عليه برفع المصاحف على الرماح كرمز لإعلان الهدنة ، وقبول الصلح ، وحقن الدماء ، وكانت لعبة تأريخية وفتنة كبرى شقّت جيش الإمام علي عليه‌السلام وأثارت البلبلة والجدل في صفوفه ، حيث هدده المخدوعون وضعاف النفوس بالقتل ما لم يصدر أوامره بإرجاع كتيبة الأشتر التي كادت أن تأتي برأس الفتنة معاوية ، فاستجاب الإمام علي عليه‌السلام للسيوف التي شهرت بوجهه والضغوط التي أدّت إلى إنقسام الجيش وإفتتان الناس ، فتوقفت الحرب واتّفق الطرفان على التحكيم فاختار معاوية عمرو بن العاص ، واختار الإمام علي عليه‌السلام

=

١٦٣
 &

لم يَصْحَبِ الإمامُ فيها « الحسَنا »

لقَوْله كانَ بها قَدْ أعْلَنا (١)

* * *



__________________

=

عبد الله بن العباس ولكنّ الغوغاء فرضوا عليه أن يختار أبا موسى الأشعريّ المعروف بضعفه وتخاذله وكان ذلك مشهداً تأريخياً مؤلماً للإمام علي عليه‌السلام وخُلَّص أصحابه الواعين لأنّه يدرك أبعاد اللعبة وما ستواجهه الأمّة من تمزق وفتن قادمة.

(١) لم يشارك الامام الحسن والده الامام في معركة الخوارج في النهروان ، بل سبقه الى الكوفة يدير شؤونها ويحاول ان يطوق الاتساعات والمؤامرات المتصاعدة فيها.

١٦٤
 &

في الكوفة

وظلَّ في الكوفةِ بعدَ والدهِ

مُنفّذاً وصيةً منْ قائدهِ (١)

لكنّها تموجُ بالتّآمُرِ

منْ خارجيٍّ جاهل وكافرِ

إذْ دُبِّرَتْ مكيدةٌ لَئيمَهْ

في ليلةٍ كَريمة عظيمَهْ

ففَقدَ النّاسُ إمامَ العَدلِ

مُصَدَّقاً في قولهِ والفِعلِ (٢)

__________________

(١) بعد قرار التحكيم رجع الإمام علي عليه‌السلام بجيشه المثقل بالجراح والجدل والبلبلة فبرز دور المشككين الذين شكّلوا كتلة مثيرة داخل الصفوف والتي سُمِّيت بالخوارج حيث انفصلوا عن جيش الإمام علي عليه‌السلام وجمعوا قواهم في تشكيل قتالي جديد ، وحاول الإمام علي عليه‌السلام من خلال الحوار الهادئ أن يعيدهم إلى طريق الصواب خصوصاً وإنّهم بدأوا يحملون أفكاراً منحرفة عن الإسلام مثل رفعهم شعار « إنّ الحكم إلّا لله » والتي قال عنها الإمام علي عليه‌السلام : « كلمة حق يُراد بها باطل » وإباحتهم قتل كل مَن لا يوافقهم على أفكارهم في تكفير المسلمين.

واستعدّوا لمنازلة الإمام علي في حرب حاسمة بعد أن استنفد الإمام علي عليه‌السلام كل وسائل الإقناع معهم ومنعهم من إحداث الفوضى وسفك دماء المسلمين ، نازلهم القتال في معركة عنيفة سُمِّيت بالنهروان ، فقضى عليهم ما خلا عدداً قليلاً فرّوا من المعركة.

ويذكر المؤرِّخون انّ الإمام الحسن عليه‌السلام لم يشارك أباه في هذه المعركة لوصية من الإمام بأن يسبقه إلى الكوفة خوفاً من بروز فتنة هناك حيث كانت عاصمة الدولة الإسلامية ، ممّا يستدعي أن تتواجد شخصية قيادية بمستوى الإمام الحسن عليه‌السلام تستطيع أن تواجه الفتن والمؤامرات التي يغذيها معاوية.

(٢) بعد القضاء على جيش الخوارج في النهروان عاد الإمام علي عليه‌السلام إلى الكوفة ليمارس

=

١٦٥
 &

وقد رثاه نجلهُ الامامُ

في خطبةٍ وصحبُهُ قيامُ

أطرى بها سابقةَ الجهادِ

لدى « علي » الفخر والرشادِ

مذكّراً بفضله وفعله

وسابقاته وحق أهلهِ

حتى بكى الناس وسالت أدمعُ

وعرفوا من فقدوا وضيعوا (١)

* * *

__________________

دوره في بناء الدولة والمجتمع الإسلامي ، فاتّخذ من المسجد الأعظم مقرّاً لحكمه الذي تميّز بالعدل والمساواة بين النّاس والإحسان إلى الفقراء والمساكين ، وإعادة الأمّة إلى نهجها الأصيل ومنابعها الرسالية الأولى وتذكيرها بسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لكنّ الخوارج ومن يشاركهم العداء للإمام ونهجه الحق ، تآمروا على إرتكاب أبشع جريمة في تأريخ الإسلام ، وهي إغتيال الإمام علي عليه‌السلام في ليلة القدر في محراب صلاته في مسجد الكوفة ، حيث كانت الجريمة على يد الخارجي اللّعين « عبد الرحمان بن ملجم » في رواية معروفة في كتب التاريخ ، وعندما وقع السيف على رأسه الشريف قال قولته الخالدة التي لم يقلها أحد قبله ولا بعده : « فُزتُ وربّ الكعبة ».

(١) بعد شهادة الإمام علي عليه‌السلام بايع المسلمون ولده الإمام الحسن عليه‌السلام في ظروف صعبة وحزن عميق لفّ الكوفة وخيم نفوس أهلها بالأسى ، وقد وقف الإمام الحسن عليه‌السلام خطيباً في الناس فألقى خطبته الشهيرة التي أبّن فيها والده الفقيد العظيم بقوله : « لقد قُبِض في هذه اللّيلة رجل لم يسبقه الأوّلون ، ولا يدركه الآخرون ، لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجهه برايته ، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتّى يفتح الله عليه ، ولقد توفي في هذه اللّيلة التي قُبِض فيها موسى بن عمران ورفع بها عيسى بن مريم وأُنزل القرآن ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ». اليعقوبي ٢ / ١٦٠ ، ومقاتل الطابيين ٣ / ١٦.

وكان أوّل عمل قام به الإمام الحسن عليه‌السلام هو استكمال نهج أبيه في مقاومة الإنحراف ومواجهة تحدِّيات البغاة في الشام ، فأراد أن يعيد بناء الجيش وتعبئة المقاتلين فزاد في عطائهم ، لكن استجابتهم كانت ضعيفة في حين كان معاوية يجهز جيشاً قوياً استعداداً للزحف نحو العراق.

=

١٦٦
 &

خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام

وبعدَها قدْ بايَعُوا « للحَسنِ »

وسطَ خِضَمٍّ هادرٍ بالمِحَنِ

فخطبَ الإمامُ في الصّباحِ

يَدْعو إلى الجِهادِ والكِفاحِ

مُستَنْفِراً جيوشَهُ للعُدَّهْ

مُتَّجِهاً لِلشّامِ بعدَ مدَّهْ

يُطالبُ الشّامَ بأنْ تُبايِعا

وأنْ تُواليهِ وأَنْ تُتابِعا

وقدْ جرَتْ بينَهما رَسائلُ

والكُلُّ منهُمُ قَصْدُهُ يُقاتِلُ (١)

سارَ « عُبَيدُ اللهِ » بالجُموعِ

بمَوْكبِ الرّهْبةِ والخشُوعِ

حتّى إذا ما وصلَ « النُّخَيْلَهْ »

وعبَّأَ الإمامُ فِيها خَيْلَهْ

وذَكَّرَ النّاسَ بأنْ يُواصِلُوا

وأنْ يُجاهِدوا وأنْ يُقاتِلوا

وقالَ : يا ابنَ عمِّ سِرْ اليهمُو

واستقبلِ الشّامَ وقِفْ حيثُ همُو (٢)

__________________

=

(١) في أجواء الإستعداد للحرب تبادل الطرفان المراسلات بينهما وقد تميّزت ردود الإمام الحسن عليه‌السلام في رسائله بالحجة البالغة والدليل القوي والأدب الرفيع مفنداً كل مزاعم معاوية في إدعاءاته. لمزيد من التفاصيل يراجع شرح نهج البلاغة.

(٢) في تلك الظروف الحسّاسة لجأ معاوية إلى سياسة التفتيت الداخلي لجبهة الكوفة ، ونشط رجاله وجواسيسه في رصد تحركات الإمام الحسن عليه‌السلام وبثّ الإشاعات والشكوك وسط المجتمع الكوفي ، فسارع الإمام الحسن عليه‌السلام إلى دفع قوّاته بإتِّجاه الشام استعداداً لمواجهة الزّحف الأموي وقد جعل ابن عمّه « عبيد الله بن عباس » قائداً لجيشه ، الذي ذبح جيش معاوية ولديه الصغيرين في اليمن ـ كما مرّ سابقاً ـ وأمره بالتوجه إلى منطقة « النخيلة » ليتّخذ منها معسكراً لتجميع المقاتلين.

١٦٧
 &

أمّا أنا فسوفَ آتي عاجِلا

لأجمَعَ الفارِسَ والمُقاتِلا

وحيثُ سارَ الجيشُ نحوَ الشّامِ

ودّعَهُمْ بأجْمَلِ الكَلامِ

وعادَ للكوفةِ كَيْ يُجَمِّعا

بقيةَ الجيشِ ويأَتِيا مَعا

فانطلقَ الإمامُ بالنَّفيرِ

وحثَّ صَحْبَهُ على المَسِيرِ (١)

مُخاطِباً إياهمُو بالطاعَهْ

ليَلْزَمُوا الوحدةَ والجماعَهْ

ولا يَرُدُّوا قولَهُ وأَمرَهْ

فإنَّ في ذلكَ أجلى عِبْرَهْ

* * *



__________________

(١) ظلّ الإمام الحسن يُعبئ الناس للإلتحاق بمعسكره المتقدم في « النخيلة » وكان يؤكِّد في خطبه وأحاديثه على ضرورة حفظ الوحدة الداخلية ، والتمتع بالوعي والحصانة الفكرية والسياسية ، والإستجابة لنداء قيادته وطاعتها لأنّه كان يدرك حراجة الموقف وخطورة حرب الشائعات التي يجيدها معاوية ، وبعد أن جمع ما يمكن تجميعه من المقاتلين سار بهم إلى « النخيلة » ليقود الجيش المتجمع هناك.

١٦٨
 &

محنته عليه‌السلام

فظنَّ قومٌ أنَّهُ يريدُ أنْ

يُصالحَ الشّامَ فخالفُوا « الحسَنْ » (١)

تمردوا وانتَهبُوا الإماما

وقدْ عصَوْا وارتكَبُوا الآثاما

وطعنوهُ طعنةً في رجلهِ

ولم يُعِيروا أُذناً لقولهِ

فحُمِلَ السِّبطُ إلى « المدائنِ »

ما بينَ عاص أمرَهُ وخائنِ

ونازلاً في بيتِ « سَعدِ الثَّقَفي »

مُعالجاً لجرحهِ حتّى شُفي (٢)

خلالَ ذاكَ التَحمَ الجيشانِ

في « مسكن » واعترَكَ الخصمانِ

* * *

__________________

(١) في لعبة ذكية من معاوية أرسل وفداً لمفاوضة الإمام الحسن عليه‌السلام وطرح مشروع الصلح والهدنة ، وقد رفض الإمام عليه‌السلام مشروعهم في الهدنة وابقاء الأمر كما هو عليه فخرج الوفد من خيمته لينفذ مهمّته الحقيقية في إثارة الفتنة والتشكيك ، حيث أعلنوا كذباً إنّ الله قد حقن دماء المسلمين وكانوا يقصدون بذلك إيقاع الفتنة في جيش الإمام الحسن عليه‌السلام وإضعاف تماسكه العسكري وكان لهذه الإشاعة أثرها السيِّئ على نفوس المقاتلين.

(٢) من المعروف تأريخياً انّ الإمام الحسن عليه‌السلام تعرّض لإعتداء بعض الجهلة والمنافقين في جيشه حيث طعنه أحدهم بمغول « سيف صغير حاد » في فخذه كما نهبوا خيمته وأمتعته ممّا يشير إلى عمق المحنة التي عاشها الإمام الحسن عليه‌السلام في ذلك الظرف الحرج ، وقد تقدّم ذكر هذه الحادثة في أبيات الملحمة سابقاً. أمّا سعد الثقفيّ فهو عامل الإمام عليه‌السلام على المدائن ومن وجوه الشيعه.

١٦٩
 &

خيانة قائد الجيش

ووردَ الكتابُ من مُعاويَهْ

إلى « ابنِ عبّاس » بنفس خاوِيَهْ

مُخادعاً إيّاهُ بالعطاءِ

بألفِ ألفِ دِرهم بَيضاءِ

اَنسَلَّ لَيلاً تاركاً مكانَهْ

وراضياً بالذُّلِّ والمَهانَهْ (١)

فأصبحَ النّاسُ بأرضِ التيهِ

يؤمُّهُم « قيسُ بنُ سعد » فيهِ

يَحثُّهمْ على الثّباتِ والهدى

مُحذِّراً في ذاكَ مَنْ تمرَّدا

واشتدَّ بينَ الفئتينِ الضّربُ

واستعرَتْ بالنّارِ تِلكَ الحربُ

* * *

__________________

(١) كان معاوية يفاوض عبيد الله بن عباس سراً ويُمنّيه بالأموال والجاه في حالة تخليه عن الإمام الحسن عليه‌السلام والإنضمام لجبهة الشام حتّى ضعف ابن عباس أمام هذه الوعود والأماني الكاذبة فترك جبهة الإمام عليه‌السلام ليلاً والتحق بمعاوية وكان لهذه الخيانة أثرها السلبي الكبير على معنويات جيش الكوفة.

كما حاول معاوية نفس الطريقة مع بعض القيادات في جيش الإمام الحسن عليه‌السلام فاستجاب له ذوو النفوس الضعيفة ولم يستجب له البعض الآخر أمثال قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي ضرب أروع الأمثلة في الوعي والثبات والصدق والأمانة ، حينما أقسم أن لا يلتقي مع معاوية إلّا وبينهما السيف وقد وفى بقسمه.

١٧٠
 &

الهدنة وشروط الصّلح

لكنَّما الإمامُ كانَ يَعرِفُ

بأنَّ جيشَ الشّامِ سوفَ يزْحَفُ

فخافَ أنْ يَضيعَ دينُ اللهِ

ما بينَ كافر ومِسخ لاهِ

وهوَ بحفْظِ دينهِ مأمورُ

أوصاهُ فيهِ جدُّهُ البشيرُ (١)

ففضَّلَ « الصُّلْحَ » على الهزيمَهْ

لما بهِ منْ « حَبوَة » عظيمَهْ

مُشترِطاً شروطَهُ على مضَضْ

فجيشُهُ انهارَ وقلبُهُ انتفَضْ

ومِنْ بُنودِ الصّلحِ أنْ يَكُفّا

جَيشاهما عنِ القتالِ صَفّا

وأنْ تعودَ شِيعةُ الإمامِ

في مَأمن بنعمةِ الإسلامِ

وأنْ يكفَّ عنْ سُبابِ « حيدرَهْ »

وهوَ الّذي في العرشِ أسمى جَوْهَرهْ

وأنْ يكونَ العهدُ بعدُ « للحسَنْ »

إذا طوى الموتُ « ابنَ حرب » وضعن

إضافةً إلى شروط أُخرى

قدْ قيلَ في التّأريخِ كُنَّ عَشْرا

__________________

(١) وقعت صدامات محدودة بين الطرفين ، لكن سير المعارك كان يشير إلى تفوق جيش الشام على جيش الكوفة خصوصاً بعد خيانة قائده عبيد الله بن عباس ومعه عدّة الآف من الجند ، وقد بدا واضحاً أنّ استمرار الحرب يعني انتصار الجيش الأموي على جيش العراق.

وهذا لو تمّ فإنّه يعني أنّ معاوية قد حقق مشروعه في إنتهاك حرمة الإسلام ، واستباحة المحرمات من موقع المنتصر المغرور دون أن يردعه أحد أو يقف أمام مشروعه التحريفي الخطير أيّة قوّة ، فلم يكن أمام الإمام الحسن عليه‌السلام من خيار إلّا التفكير بحماية الرِّسالة والأمّة وحفظ البقية الباقية من المخلصين من شيعة أبيه عن طريق حل سلمي ، وهكذا كان الصلح مفروضاً عليه.

١٧١
 &

وبعدَ أنْ أُمضيَتْ المصالَحَهْ

وابتسمتْ بعد البُكاءِ النّائِحهْ (١)

* * *



__________________

(١) بعد أن فُرض الصلح أو الهدنة كما يعبر عنها الشيخ المفيد « رضي الله عنه » حدد الإمام الحسن عليه‌السلام شروطه بحكمة ودقّة فقد كان همّه الأوّل حفظ القيم والمبادئ والأحكام الشرعية وضمان الأمن للمسلمين من بطش معاوية وغدره وحماية شيعة أبيه من القتل وهم الصفوة الذين واكبوا حركة الرسالة بوعي ودافعوا عن نهج الإمامة بإخلاص.

ونورد هنا مختصر وثيقة الصلح كما جاءت في كتب التاريخ ، وهي كالتالي :

ـ تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنّة رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الخلفاء الصالحين.

ـ أن يكون الأمر للحسن عليه‌السلام من بعده فان حدث به حدث فلأخيه الحسين وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.

ـ أن يترك سب أمير المؤمنين عليه‌السلام والقنوت عليه بالصلاة وأن لا يذكر علياً إلّا بخير.

ـ إستثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف فلا يشمله تسليم الأمر.

ـ على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله .. وعلى أمان أصحاب علي عليه‌السلام حيث كانوا وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه.

هذه بإختصار شروط الصلح التي فصلها بعض المؤرِّخين إلى عشرة بنود كما جاء في أصل أبيات الملحمة. راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

١٧٢
 &

تداعيات الصُّلح

عادَ الإمامُ مُتْعباً للكوفَهْ

ومُغْمِداً في حزنهِ سُيوفَهْ

وحولَهْ شيعتُهُ مُعذَّبَهْ

مِنْ بعدِ أنْ كانتْ تظنُّ الغلبَهْ

لامُوهُ جهلاً منهُمو بالأمرِ

وهوَ يُداوي لومَهُم بالصّبرِ

مُذَكِّراً إياهمُو بالعهدِ

وإنَّهُ فيهم إمامُ الرُّشدِ (١)

لكنَّهمُ قدْ سمِعوا « مُعاوِيَهْ »

مُفتخِراً فيهم بكلِّ طاغِيَهْ

يقولُ : ما شرطتُهُ مِنْ ذممِ

أُنكِرُهُ والصلحُ تحتَ قدَمِي

وتلكَ كانَتْ قولةَ التّحدِّي

علّمَها « ابنُ العاصِ » « لابنِ هندِ »

وباتَتِ الكوفةُ بالمخاوفِ

مِن ظالم بكلِّ عهد لا يَفي (٢)

__________________

(١) بعد توقيع الهدنة عاد الإمام الحسن عليه‌السلام إلى الكوفة موضحاً لأصحابه المخلصين ظروف وملابسات الصلح ، فقد كان فيهم مَن عاتب الإمام على توقيع الهدنة لشدّة إخلاصه وهول الحادثة ، فشرح الإمام لهم كامل الظروف والتعقيدات التي أحاطت به ، وإن كان البعض لشدّة الصدمة خرج عن حدود اللياقة والأدب في مخاطبة الأمام أمثال حجر بن عدي الكندي ، وهو من رجالات الشيعة المجاهدين في الكوفة ، وقد استشهد فيما بعد على يد معاوية في موقف بطولي صامد وقبره الآن في مرج عذراء على أبواب دمشق.

(٢) ترك الإمام الحسن عليه‌السلام الكوفة متّجهاً إلى المدينة المنورة وقلبه يعتصرهُ الحزنُ والناس يأكلهم الندم لأنّهم خذلوا الإمام فواجهوا الحقيقة القاسية خصوصاً بعد أن دخل الكوفة معاوية مغروراً وخطب فيهم خطبة المتغطرس والتي قال فيها : يا أهل الكوفة ! أترونني

=

١٧٣
 &



__________________

=

قاتلتكم على الصلاة ، والزكاة ، والحج ، وقد علمت انّكم تصلون وتزكون وتحجون ؟ ولكنِّي قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ، ألا ان كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين ، ولا يصلح الناس إلّا ثلاث : إخراج العطاء عند محلّه ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فإن لم تغزوهم غزوكم.

وروى أبو الفرج الإصفهاني انّه ذكر في هذه الخطبة علياً فنال منه ثمّ نال من الحسن.

قال أبو إسحاق : « وكان والله غداراً » راجع شرح نهج البلاغة ٤ / ١٦.

١٧٤
 &

العودة إلى المدينة

وأزْمَعَ الإمامُ أنْ يعودا

ليَثْرب مُعذَّباً مَكْمُودا

وهوَ يُداري أُمَّةَ المختارِ

وشيعةً لحَيْدرِ الكرّارِ

بالخُلُقِ المحمودِ والعطاءِ

وسيرة مِنْ هبةِ السّماءِ

وهوَ الّذي قدْ عرفوهُ بالكرمْ

مُبتسماً رغمَ مرارةِ الألَمْ

تناقلَتْ خصالَهُ الرّكبانُ

وامتلأَتْ بذِكْرِه الأَوطانُ (١)

فضاقَ ذَرعاً « ابنُ حرب » فيهِ

ودبّرَ الأَمرَ لكَيْ يُرْديهِ

* * *

__________________

(١) عاد الإمام الحسن عليه‌السلام إلى المدينة المنوّرة ليبدأ مرحلة جديدة من العطاء الرسالي ، حيث باشر مهماته الفكرية والإجتماعية في توجيه الأمّة ورعايتها ، وتعريفها بسنّة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن اختلطت عليها المفاهيم والإتِّجاهات نتيجة الجهود الأمويّة في تحريف الفكر والعقيدة وتزييف الوعي والاصالة ومسخ الشخصية الإسلامية.

فاتّخذ من المسجد النبوي منطلقاً لنشر مبادئ الدين وتعليم الأحكام الشرعية وترسيخ القيم الأخلاقية في المجتمع الإسلامي. حتّى أصبح قطباً فكرياً وروحياً تدور حوله الأمّة ، وتتناقل فضائل أخلاقه من الكرم ، والجود ، والسماحة ، والعلم ، والحلم ، والحكمة ، مجسداً في ذلك أخلاق جدّه وشمائل أبيه ومقدماً للمسلمين المثل الأعلى للشخصية الإسلامية كما رسمها القرآن الكريم.

١٧٥
 &

إغتيالهُ بالسّمّ

مُخادِعاً « جُعْدةَ » في القضيَّةْ

بأنْ تكونَ لابْنِهِ مَحْظِيَّهْ

فدَسَّتِ السّمَّ لهُ عنْ عَمدِ

وهوَ الإمامُ المُهتدِي والمَهْدِي

فظلَّ في آلامهِ يُعاني

وهوَ الّذي ليسَ لهُ مِنْ ثانِ (١)

* * *



__________________

(١) رغم إبتعاد الإمام الحسن عليه‌السلام عن دائرة المعترك السياسي إلّا انّ معاوية لم تفتر أحقاده ولم يهدأ باله ، طالما بقي الإمام يمارس دوره التاريخي في توعية الأمّة ورعايتها ، فدبر مكيدة لإغتياله عليه‌السلام وهي طريقة عرف بها معاوية في تصفية خصومه السياسيين فأغرى إحدى زوجات الإمام وهي « جعدة بنت الأشعث » بأن يزوِّجها من ولده يزيد مع عطاء جزيل ، فيما لو دسّت السمّ للحسن بن علي عليه‌السلام فوقعت هذه المرأة تحت تأثير الإغراء والجهل فارتكبت الجريمة البشعة بحق ريحانة رسول الله وسيِّد شباب أهل الجنّة.

وهكذا فُجعت الأمّة الإسلامية بفقد إمامها الحسن الذي عانى المحنة وعايش فصولها الرهيبة حتّى آخر لحظة من حياته الشريفة.

١٧٦
 &

شهادته عليه‌السلام

حتّى قَضى مُحْتَسِباً وصابرا

وقَصَدوا بنعشِه المَقابرا

فقالَ : « آلُ هاشم » في فقْدِهِ

لا بُدَّ أنْ يُدفَن عندَ جدِّهِ

لكنَّما « عائشُ » صاحتْ رافضَهْ

البيتُ بَيتي وأنا مُعارِضَهْ

ورَدّتِ القولَ إلى « مَروانِ »

« وآلِ حَرب وبَني سُفيانِ »

وكادَتِ الحَرْبُ بأنْ تَقُوما

لمّا أصابُوا نعشَهُ المَظْلوما

وقدْ رَموهُ بالسّهامِ الغادرَهْ

فانتفضَتْ بنو أَبيهِ ثائرَهْ

وغَضِبَ الحسينُ والعبّاسُ

واخْتلفتْ فِيما تَراهُ النّاسُ

لكنَّما الوضِيَّةُ المسلَّمَهْ

« أنْ لا يُراقَ الدّمُ قدْرَ محجَمهْ »

فحُمِلَ النَّعشُ إلى البَقِيعِ

مُجَلَّلاً بالحزنِ والدّمُوعِ

وظلَّ بعدَهُ بَنُو أبيهِ

يَبكونَ « بِضعةَ النَّبيِّ » فيهِ

ويندبونَ شخصَهُ الأَبِيّا

ويذكرونَ جدَّهُ النّبيّا

حيثُ بَكى الحسينُ عندَ قبرهِ

مُذَكِّراً بقدسِهِ وطُهرِهِ

بُعْداً لهذا الزّمَنِ الغَدّارِ

مُعانداً لصَفْوةِ المُخْتارِ

إليكَ مِنّا يُرْفَعُ السَّلامُ

فَأنتَ فينا القُدْوةُ الإِمامُ (١)

__________________

(١) قضى الإمام نحبه بالسمّ صابراً محتسباً في جو من الحزن والألم ، وحوله بنو أبيه وفتيان بني هاشم يخيم عليهم الأسى وتعتصر قلوبهم المرارة لأنّهم يدركون أكثر من غيرهم موقع الحسن عليه‌السلام ومنزلته في الإسلام ويتحسسون حجم الخسارة التي منيت بها أمّة محمّد.

=

١٧٧
 &



__________________

=

وكان عليه‌السلام قد أوصى بأن يدفن عند جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله بشرط أن لا يؤدي هذا الأمر إلى نشوب فتنة تراق فيها ولو قطرة دم. فإن حدثت فتنة فإنّه يدفن في مقبرة البقيع مع عموم المسلمين.

وقد حدث بالفعل الذي توقعه الإمام فقد رفضت أمّ المؤمنين عائشة أن يدفن الحسن ريحانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جانب جدّه. والتفّ حولها آل مروان وآل أبي سفيان وكادت أن تقع الفتنة عندما غضب بنو هاشم لهذا الموقف الحاقد. وأخيراً توجّهوا بالجثمان الطاهر إلى البقيع ليوسدوا هناك سليل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشبل علي وابن فاطمة.

فسلام عليك سيِّدي يا أبا محمّد الحسن الزّكيّ يوم ولدت في أحضان النبوّة ودرجت في مدارج الوحي والتنزيل ويوم تبعث حياً ، والسلام عليك في الأوّلين والآخرين.

١٧٨
 &

الجزء الخامس

الامام الحسين بن علي سيد الشهداء عليه‌السلام

١٧٩
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

١٨٠