ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

معركة فخ

وحشّدوا جنودهم للثورة

واصبحت « يثرب » بعدُ حُرة

وهرب الوالي بغير حربِ

سوى رجال قتلوا بالضربِ

وخرج الحسين نحو الكعبه

وهو يناجي في الخفاءِ ربه

ثم استعد الجندُ للقراعِ

ويثربُ والٍ بها « الخزاعي »

وجدَّ بالمسير حتى وصلا

« فخاً » فحط عندها مبتهلا

فأرسل ( الهادي ) جيوشاً تترا

لعلها تظفرُ بابن الزهرا

يقودها في سعيها العباسُ

وبعدهُ موسى وجُرَ الناسُ

واشتعلت معركةٌ مدوية

حيث التقى الجشيان يومَ التروية

فطارت الرؤوسُ والرقابُ

وانثلمت بضربها الحرابُ

وصارت السهام مثل المطرِ

وسالت الأرض بسيلٍ أحمرِ

وطاول الحسين سهمُ الغيِّ

يُطلق من « حمادٍ التركيِّ »

واستشهدَ الثوار بعد صبرِ

وامعنت فيهم رماح الغدرِ

وترك الحسين في العراءِ

مضمخاً بأطهرِ الدماءِ

ملقىً بلا غسل ولا تكفينِ

مضرحاً كجدهِ للدينِ

وأرسلت رؤوسهم للهادي

وشمتت في ذلك الاعادي

وامر الطاغي بقتل الاسرى

فقتلوا مقيدين صبرا

وصلبوا على جدار الحبسِ

من الصباح لمغيب الشمسِ

وحزن الإمام موسى الكاظمُ

ونُكست من هاشم العمائمُ (١)

__________________

(١) واما كيفية الثورة وبدايتها حسب ما اوردته المصادر الآنفة الذكر :

=

٤٨١
 &

__________________

=

لما هلك المهدي العباسي كان يلي حكم المدينة اسحاق بن عيسى ولما ولي موسى الهادي امر الخلافة خرج اسحاق لاستقباله وتهنئته في بغداد ، ثم طلب منه اعفائه من امارة المدينة لما يتوجس من احتمال ثورة العلويين ، فاستجاب الهادي لطلبه ، وعيّن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فأتبع هذا الوالي الجديد سياسة الاضطهاد والارهاب ضد العلويين ، وافرط في التحامل عليهم ، وامرهم ان يكونوا دوماً تحت عينه ورقابته ، وكانت للوالي الخطابي ضغينة وحقد على الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ، فطلب حضوره يومياً تحت عينه ، ثم طلب منه كفالة وضمانة ، فكفله الحسين بن علي صاحب فخ ، ويحيى بن عبد الله ، ولكن سرعان ما أتهمّه وجماعة من الشيعة من صحابته بشرب الخمر ظلماً وبهتاناً ، ثم جلدهم وفضحهم تحت نظر الناس ، ثم اودعهم السجنُ ، وسرعان ما خرج الحسين بن علي صاحب فخ وجماعة من العلويين بالاحتجاج على الوالي ، وبعد الحاحٍ شديد وهياج تمَّ اطلاق سراحهم بكفالة.

ولكن الوالي الخطابي قد عهد الى ابي بكر بن عيسى الحائك مسؤولية مراقبة الحسن بن محمد المتهم سابقاً ، حيث طلب منه الحضور ، يومياً الى المسجد وحدث ان تغيّب المذكور اعلاه عن الحضور بسبب زواجٍ له ، مما دعى ابن الحائك الى سجن جماعة من العلويين لأجله لحين احضار الغائب ، فحصل إشتباك بسيط بين العلويين وجماعة شرطة الوالي ، مما ادى الى استدعاء الكفيلين الحسين ويحيى وهددهما ووبخهما ، واقسم ان لم يجلبا الغائب ان يحرق دار الحسين بن علي ـ صاحب فخ ـ ويضربه ألف سوط ، وبعد خروج الكفيلين التقى صاحب فخ بالغائب محمد بن الحسن ، وطلب منه الاختفاء عن عين الوالي ، ولكن الثاني رفض وطلب لقاء الوالي.

ومن هنا اندلعت الثورة حيث تجمع العلويون في دار الحسين بن علي ـ صاحب فخ ـ عددهم ٢٦ رجلاً من آل علي بن ابي طالب ، وثلة صالحة من الشيعة ، ممن جاءوا الى الحج فاشتعلت الثورة وشرارتها ، حيث هاجم العلويون دار الامارة ، حيث فرَّ الوالي واعوانه ، بعد ذلك خرج الثوار يقودهم الحسين بن علي الى المسجد وهم ينادون بالتوحيد وجعلوا الآذان بـ « حي على خير العمل » وكان قائدهم صاحب فخ قد جلس على المنبر وعلى رأسه عمامة بيضاء ، وبايعوه على القتال والجهاد للرضا من آل محمد ، ثم خطبهم الحسين قائلاً : انا ابن رسول الله وعلى منبر رسول الله وفي حرم رسول الله ادعوكم الى

=

٤٨٢
 &

__________________

=

احياء سنته ، وهكذا توحدت كلمتهم وبايعوه بيعة رجل واحد ، وهنا جاءت نجدة عسكرية لاعادة النظام الى المدينة حينئذ ظهر الوالي الهارب ابن الخطاب ، واستقبلهم ثم اتجهوا الى المسجد لقتال العلويين ودارت هناك معركة اسفرت عن فرار جيش الوالي وسيطرة الثوار العلويين على الامور ، حيث كسبوا عدة غنائم مادية ومعنوية.

وبعد اعداد العلويين انفسهم جيداً للقتال في المدينة ، حيث مكثوا ، هناك احد عشر يوماً ثم رحلوا الى مكة سنة ١٦٩ هـ وكان عددهم قد تكامل ٣٠٠ رجل.

وبعد وصول الخبر الى الخليفة العباسي الهادي في بغداد كتب الى محمد بن سليمان بالقضاء على هذه الثورة ورجالها ، ثم امدهم بجيش يقوده موسى بن علي بن موسى ، والعباس بن محمد بن سليمان ، وهكذا نظم العباسيون جيشهم وصار عددهم ٤٠٠ فارساً حتى التقى الطرفان عند فخ ، وهي مدينة تقع على بعد ست اميال من مكة.

وسرعان ما دارت معركة ضارية بين الطرفين « كواقعة كربلاء » حيث قاتل الحسين بن علي صاحب فخ واصحابه قتالاً رائعاً حتى استشهدوا جميعاً الا من نجا منهم وكان الحسين بن علي قد جاءه سهم ملعون اطلقه اللعين حماد التركي وكان رامياً مشهوراً فأصاب صاحب فخ حينئذ وهب محمد بن سليمان مائة الف درهم لحماد التركي جزاءً له على رميته وبعد ذلك احتزَّ العباسيون رؤوس القتلى وكان عددهم ١٠٠ رأساً وتركوا الجثث ثلاثة ايام دون موارة ، حتى نهشتها الحيوانات الضارية على حد قول الرواة.

واما الاسرى والذين ورد ذكرهم فيما سبق فقد قُتلوا بعد ذلك سواء ممن قتل في المدينة او ممن جُلب الى بغداد وقُتل هناك.

واما بيان موقف الإمام الكاظم عليه‌السلام من هذه الثورة فإننا نجد ان هذه الثورة قد شابهتْ وناظرت ثورة الشهيد زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام فيما سبق ذكره ، وان موقف الإمام الكاظم عليه‌السلام كموقف جده الامام الباقر عليه‌السلام حينئذ من ثورة زيد (رض) حيث رأينا فيما سبق ان الامام الباقر عليه‌السلام قد باركها سراً.

واما في هذه الثورة « فخ » فقد نقل الاصفهاني في مقاتله :

ان صاحب فخ قد عرض فكرة الثورة على الإمام موسى ابي الحسن عليه‌السلام فأجابه الإمام عليه‌السلام : انك مقتول فأحدَّ الضراب فإن القوم فسّاق يضمرون ايماناً ويبطنون نفاقاً وشركاً فإنا لله وانا اليه راجعون وعند الله احتسبكم من عصبة.

=

٤٨٣
 &



__________________

=

ومن خلال هذا النص نستفيد ان الإمام الكاظم عليه‌السلام كجده الباقر عليه‌السلام كان يرى ان الثورة غير مناسبة في هذه الظروف لعدم الاعداد لها ، ولأنها معلومة النتائج رغم انها مشروعة في وجه الظلم والطغيان ، ومن خلال هذا النص وغيره يتضح لنا ان الإمام الكاظم عليه‌السلام ومن قبله الباقر عليه‌السلام كان يؤيد هذه الثورة سراً ويدعو لها في الباطن ، والدليل على ذلك ما اورده صاحب المقاتل الاصفهاني حيث ذكر انه :

لما جيء برؤوس الشهداء الثائرين ـ صاحب فخ واصحابه ـ الى الخليفة العباسي الهادي كان الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام حاضراً فتهجم الخليفة على الشهيد صاحب فخ ، ونال منه فأجابه الإمام عليه‌السلام بقوله : بل مضى والله مسلماً صالحاً صواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في اهل بيته مثله ، وكان الإمام الكاظم عليه‌السلام كثيراً ما يبكيه ويترحم عليه.

وهكذا نالت هذه الثورة المباركة المأساوية كثورة كربلاء ، وثورة زيد ثناء القاصي والداني ، ومنهم جلّ المؤرخين على اختلاف اهوائهم ، واصحاب السير والادباء والشعراء ودخلت التاريخ بصفحاتها المشرقة بالبطولة والفداء من اجل الكرامة والقيم الانسانية.

٤٨٤
 &

تنبؤ الامام بمقتل موسى الهادي

وهددَ الهادي بقتلِ الطاهرِ

موسى بن جعفر الإمام الصابرِ

متهماً إياه في تهديدِ

بدعمه « الحسين » بالتأييدِ

فخاف منه شيعةُ الإمامِ

من انه يسعى الى انتقامِ

فابتسم الإمام ثم حوقلا

وقال فيه سوف ينزل البلا

وراح يدعو الله ان يقيهِ

شر خليفةِ الهوى السفيهِ

يا ربَّ أنت قادر لا تغلبُ

وان وهبت نعمةً لا تُسلبُ

وقال : لا يأتيكم من خبرِ

من العراق في الضحى والسحرِ

إلا وفيه موتُ موسى الهادي

مقترناً بفرحةِ العبادِ

فقد قضى اليوم وجبارِ السما

والله إنه لحق مثلما !! (١)

ووصل البريد بعد فترة

وقد أشاع في البلاد سره

ان هلك الفاجر موسى الهادي

وعمت الفرحة في بغدادِ (٢)

__________________

(١) اشارة الى قوله تعالى ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ).

(٢) قال علي بن يقطين وهو من اصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام : لما علم الهادي العباسي بثورة الحسين بن علي صاحب فخ ، ثم مقتلهم فيما بعد اخذ ينال من العلويين وخاصة من الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وقال : والله ما خرج صاحب فخ الا عن امره وعلمه لأنه صاحب الوصية في اهل هذا البيت. ثم حلف بقتله ـ أي الكاظم عليه‌السلام ـ وسرعان ما انتهى هذا الخبر الى الإمام عليه‌السلام وعنده جماعة من اهل بيته فقال عليه‌السلام لهم : بم تُشيرون عليَّ ؟ قالوا : غيبْ شخصك عنه وتبسم عليه‌السلام ثم انشد :

زعمت سخينهُ ان ستغلب ربَّها

ولتغلِبنَّ مغالب الغلّاب

ثم دخل ورفع يديه الى السماء وقال : « الهي كم من عدوٍ انتضى عليَّ سيف عداوته » الدعاء المشهور بأسم الجوشن الصغير والمُثبتّ في كتب الادعية ، ثم تفرق القوم فما اجتمعوا الا لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى الهادي العباسي. المناقب ٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

٤٨٥
 &

عهد الرشيد

وبعدهُ بويعَ للرشيدِ

فابتدأ البيعة بالوعيد

بأنه يبطش بالمخالفِ

ويبذل الثروة للموالفِ

وقلّد الامر ليحيى البرمكي

يسنده لكن عليه يتكي

وقال : قد أخرجت هذا الامرا

من عنقي اليك فيما يطرا

فاستعمل العمال كيف شئتا

واعزل من العمال من كرهتا

فأنني مسلّمٌ اليكا

معتمدٌ في سلطتي عليكا

وانصرف الرشيدُ للذاتِ

مستأنساً في مُتعِ الحياةِ

في العزف والغناء والتندّرِ

ومجلسِ البغي بلا تسترِ (١)

__________________

(١) بويع هارون الرشيد بعد هلاك اخيه موسى الهادي عام ١٧٠ هـ بمؤامرة دبرتها أمهُ الخيزران ويحيى البرمكي لكي يصل هارون الى الحكم ، وفور استلامه الخلافة أشاع سياسة الترغيب والترهيب لتوطيد حكمه معتمداً على يحيى البرمكي الذي عينه رئيساً للوزراء وفوض اليه امر الخلافة مُنصرفاً هو الى اللهو واللذات.

ويذكر الطبري : قال هارون ليحيى البرمكي : انت اجلستني هذا المجلس ببركة رأيك وحسن تدبيرك وقد قلدتك امر الرعية واخرجته اليك من عنقي فأحكم بما ترى واستعمل من شئت واعزل من رأيت فإني غير محاسبك في شيء.

فكان يحيى البرمكي يُدير الأمور كما شاء ودون علم هارون. تاريخ الطبري ٣ / ٩٠٣

قال السيوطي : كثيراً ما كان هارون يبكي على ذنوبه وإسرافه في نفسه وكان يحب الإطراء والمديح ويُجيز الأموال دون حساب.

ونقل كذلك عن الذهبي قال : وله اخبار في اللهو واللذات المحظورة والغنا ءالفاحش.

ونقل عن محمد الخرساني قال : هارون العباسي اول خليفة لعب بالصولجان والكرة ورمي النشاب في لهوه واول خليفة لعب الشطرنج من بني العباس.

ونقل عن الصولي قال : هارون اول خليفة من بني العباس جعل للمغنين مراتب وطبقات واغدق عليهم الاموال. تاريخ الخلفاء / ٢٤٨ ـ ٢٩٥.

=

٤٨٦
 &



__________________

=

ولو اردنا ان نعرض الحقيقة دون لبسٍ او تحريف فإن هذا الرجل هارون من اولئك القلائل الذين خدمهم التأريخ اكثر مما يستحقون فأطراهم الآخرون زيفاً وبهتاناً كما فعل اكثر المؤرخين.

قال الاستاذ علي الطنطاوي المصري : هارون الرشيد هو اول حاكم استبدادي مطلق ، كان يحكم وحده الامور اكثر من عشرين عاماً ، انه الحاكم الذي جعله الحظ اشهر ملوك الاسلام ، وما كان له دهاء معاوية ، ولا شدة عبد الملك بن مروان ، ولكنه جاء والزمان مُقبل عليه فإنخدع به ، وله مؤرخ ثقة كابن خلدون حتى كذب اخبار لهوه ، ان الرشيد صورة من صور عصره ، حيث الشر ، والفسوق ، واللهو ، والمجون ، والشعر ، والغناء ، والجواري ، يتلوها صور الفقر الفاحش ، والشطّار القتلة ، ثم عالم عجيب يناقض مما سبق ، حيث بناء القصور الفارهة كقصره قصر الخلد ففيه ما لا يستطاع ان يوصف لا ببيان ولا بلسان. رجال من التاريخ / ٨٤

ومما ذكره الاستاذ كامل سليمان : لم يكن هذا الخليفة رشيداً في تفكيره الاخروي ولا سديداً في تقديره الدنيوي بل عمل بجاهلية حمقاء وبعصبية رعناء جعلتاه لا يتورع عن ارتكاب كبائر المحرمات واقبح الممارسات كالملحد بالله الكافر برسوله الذي لا تربطه بالاسلام ادنى رابطه ، وعندما درست اعماله لا سيما مع الإمام الكاظم عليه‌السلام رأيته يعملُ اعمال رجلٍ باع آخرته بدنياه وتصرّف تصرف عاتٍ متعنّت. موسى بن جعفر عليه‌السلام / ١٧٣

وخلاصة ما ورد في المصادر التاريخية : إن السمات اللازمة لهذا الخليفة هي : نفوذه وتسلطه على المسلمين ، وضخامة بذخه واسرافه باموال الناس ، وخاصة على الطرب ، واللهو ، والشعراء المأجورين في بلاطه ، كما عُرف شربه للخمور ، وهتكه محارم الاسلام من استمتاعه بالنساء والجواري.

٤٨٧
 &

بغدادُ في عصر الرشيد

وازدهرت بغدادُ بالعمرانِ

حتى غدت ليس لها من ثانِ

وشيدت الجسور والقناطرُ

وازدهت الساحات والمعابرُ

وقد علت بالترفِ القصورُ

وشعشع الضوء بها والنورُ

وشيد قصرُ « الخلدِ » للخليفة

وأسدلت أستاره الشفيفة

وكثر الغلمان والجواري

وانتشر الخمر لدى الفجار (١)

* * *

__________________

(١) ليس من المبالغة اذا قلنا ان بغداد اعظم مدينة ازدهرت في ايام هارون ، حتى صارت عروس الدنيا وقطب العالم ، وتؤكد جلّ المصادر وكتب التاريخ ان يحيى البرمكي هو صاحب الفضل الاوفر في الاهتمام ببغداد واعلاء شأنها من الناحية العمرانية ، والفكرية ، والحضارية ، حيث عمل على تطوير هذه المدينة ، وصرف الاموال في عمرانها من قصور وجسور ، وحدائق ، حتى صارت هذه المدينة نزهة للدنيا مما شجعت العلماء والادباء الى ان يقصدوها لما توافر فيها من وسائل الحضارة ، والترف ، والفكر. وفي هذا المجال نقل السيوطي قال : كانت ايام هارون كأنها من حسنها اعراس. تاريخ الخلفاء / ٢٨٦.

وخلاصة القول انها مدينة الترف ، والبذخ ، والعظمة ، والكبرياء ، فمن جمال القصور الى بهاء القبب الى سحر الحدائق والبساتين ، مما صيّرها قبلة لأهل اللهو والمجون واهل الفاحشة والغناء ، انها كذلك مدينة العلم ، والفن ، والادب ، والنبوغ ، وعلى حد قول بعضهم :

بغداد مدينة الخير والشر والفسوق والدين.

٤٨٨
 &

محنة أهل البيت عليهم‌السلام

وظل كلُ الناسِ في رخاءِ

سوى التقاة من بني الزهراءِ

يكابدون الفقر والحرمانا

ويحلمون أن يروا أمانا

قد صُب جور الحقد والبلاءِ

على رجالهم بلا استثناءِ

لم يرقبوا فيهم وصيةَ النبي

ولا قرابة له بالنسبِ

يقطع عنهمُ يد العطاء

حتى يعيشوا الهمَّ في ضراءِ

لكنما الرشيد في قصوره

يستمع الغناء في فجوره (١)

__________________

(١) هناك من المؤرخين من كان يوصف أيام الرشيد بأنها كانت ايام كلها خير.

نعم انها خير وبركة وسرور للذين ساروا في ركابه ، وباعوا ذممهم وضمائرهم اليه ،ممّن عُرفوا بالفجور والفسوق واللهو والكذب والانحلال ، ومن الذين باعوا اقلامهم الباطلة فسخروها في خدمة السلطان الجائر.

فقد نقل السيوطي عن المؤرخ نفطويه قال : اجاز الرشيد اسحاق الموصلي مرة ٢٠٠ الف درهم ، واجاز مروان بن ابي حفصة مرة على قصيدة خمسة آلاف دينار وخلعة وفرس وعشرة من رقيق الروم ، واجاز الاصمعي خمسة آلاف دينار مرة.

ولما ولي الرشيد واستوزر يحيى البرمكي قال ابراهيم الموصلي :

أ لم تر أن الشمسَ كانت مريضةً

فلما اتى هارون اشرقَ نورها

تلبست الدنيا جمالاً بملكهِ

فهارون واليها ويحيى وزيرها

أعطاهُ هارون ١٠٠ الف درهم ، ويحيى ٥٠ الف درهم.

واجاز منصور النمري الشاعر على بيت من الشعر بـ ١٠٠ الف درهم. تاريخ الخلفاء / ٨٥

وهلمّ جرا ، فهؤلاء المزيفون من المداحين والجهلة واهل الفسق والمجون يسرحون ويمرحون تحت ظل الخليفة ، لكن ابناء رسول الله وشيعتهم ومواليهم كانت تُصب عليهم صنوف

=

٤٨٩
 &



__________________

=

العذاب ، وقد نقل لنا التاريخ صوراً سوداء في هذا المجال ، وقد افاضت المصادر التاريخية ان العلويين ومواليهم كانوا يكابدون المحنة والفقر والحصار والمسكنة ، ولم يكن من حقهم غير القتل والتشريد والارهاب.

ودونوا المؤرخون في كتبهم صفحات سوداء اليمة لما فعله هارون وسلطته الجائرة بالعلويين ، خاصةً فقد قتل جمعاً كبيراً منهم سواء بالسيف ، او بالسجن ، او بالسم ، ومن ابرزهم :

الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، وقد سجنه مراراً حتى تخلص اخيراً منه بالسم. وإدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى والمعروف بـ « صاحب المغرب » وقد دسَّ اليه السم. ويحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى وقد قتله. ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى وقد سجنه حتى مات. والحسين بن عبد الله بن اسماعيل بن جعفر بن ابي طالب ، جلده بالسياط حتى مات. والعباس بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، ضربه الرشيد بهراوة حتى قتله. واسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابي طالب ، مات في سجنه. وعبد الله بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين المعروف بـ « الافطس » شدّد عليه بالسجن مراراً ثم ضرب عنقه.

هذا غيضٌ من فيض ، حيث تنقل المصادر التاريخية جملة من اصحاب الامام الكاظم عليه‌السلام ومن شيعته تعرضوا الى الحبس والتعذيب نذكر منهم : محمد بن عمير الازدي ، فقد حبسه هارون لمدة سبعة عشر سنة ، وكان من انسك واروع وأعبد الناس ، ومن الذين سجنهم من اصحاب الامام عليه‌السلام في سجن المطبق : علي بن هاشم ، عبد الله بن علقمة ، مخوّل بن ابراهيم السعدي ، وهؤلاء بقوا في هذا السجن الرهيب ١٢ سنة متواصلة.

٤٩٠
 &

دور البرامكة

اعدى على الرعية البرامكة

حتى غدت منهم تئنُ هالكة

قصورهم قد اتخمت بغدادا

وأورثت في الامة الاحقادا

فجعفر قد ملك « الضِياعا »

واستأثر القصور والمتاعا

حتى غدا العراق ملكاً لهمُ

وضجت العباد ظلماً منهمُ

وكان في ذاك الامام الكاظم

يراقب الامور وهو العالمُ

يحذر الناس وقوع الفتنه

يدعوهم الى اتباعِ السنه (١)

__________________

(١) فور استلام هارون مقاليد الحكم عام ١٧٠ هـ وكان ذلك بفضل امه الخيزران ، ويحيى البرمكي عهد الى يحيى رئاسة الوزراء ، وكان يُناديه « يا ابتِ » وفور استلام يحيى البرمكي مقاليد الامور قرب البرامكة واعطاهم الوظائف المهمة ، ثم شرع باعطاء الهبات وتبذير الاموال ، حتى مدحهُ الشعراء واشادوا بكرمه وكرم البرامكة.

وتولى الفضل بن يحيى إمارة خراسان ، ولمّا خالفهُ اهل طالقان فتحها ، ثم زحف نحو صاحب الترك واستباحه وغنم امواله.

ولمّا تسلّم هارون الخلافة بوأ البرامكة مكانة رفيعة ، فأوكل اليهم امر الوزارة ، وفوض اليهم امر المملكة والرعية ، فصارت سلطتهم دون حد.

وهكذا عاث البرامكة ـ يحيى والفضل بن يحيى ، وجعفر بن يحيى ، وموسى بن يحيى ـ في امور الخلافة فساداً واغدقوا الاموال على مَنْ يحبونه ممن يُطريهم ويمدحهم ، حتى قيل عنهم « إن أيامهم عروس الايام » فبنوا القصور وشيدوا اماكن اللهو ، وامتلكوا الضياع والحدائق والبساتين ، ومن خلالهم شاع اللهو والفساد ، وظهر التمايز الطبقي بين الناس ، فصنف محروم وصنف متخوم ، واحدٌ يشكو دنياه واخرٌ يلهو ويلعب ، اما الشرفاء

=

٤٩١
 &



__________________

=

والعلويون فأخذوا يبكون لدينهم ، بينما اصحاب السلطان والبرامكة فقد اطلقوا لأنفسهم العنان في اللذات ، ورغم ذلك فقد كان هارون يراقب اعمالهم ويتجسس على نواياهم.

ولمّا علم هارون ان الفضل بن يحيى البرمكي خفف عن الإمام الكاظم عليه‌السلام في سجنه استدعاه وجرده من ثيابه وضربه في مجلسٍ عام ، ونقل الامام عليه‌السلام الى سجنٍ آخر.

وهكذا كثُر الظلم والفساد وعمت الشكوى من الرشيد والبرامكة ، حتى القى الله سبحانه بأسهم بينهم سرعان ما اوقع بهم هارون وقعة منكرة فأبادهم حتى كأن الشمس لم تشرق عليهم ابداً.

قال القمي : صحيحٌ ان قضية العباسة اخت الرشيد سبب ظاهري للايقاع بالبرامكة ، لكن السبب الحقيقي هو الانتقام الالهي منهم لما فعلوه بالامام الكاظم عليه‌السلام. اخبار الخلفاء / ٢٩٤

ومن جميل ما ورد في كتب التأريخ ، التي تنقل ما فيه صورة من صور العبرة والموعظة من التاريخ ان احد الوعاظ دخل على احد الخلفاء بعد انقضاء عصر هارون ، فطلب هذا الخليفة من الواعظ ان يعظه فقال له : يا أمير المؤمنين أعظك بما سمعتُ او بما رأيت ؟

فقال الخليفة : بل بما رأيت ، فقال الواعظ كنت يوماً أتصفح سجل الخلافة الكبير في ايام هارون فرأيت في اول صفحاته :

امر امير المؤمنين هارون بأعطاء يحيى البرمكي ١٠٠ الف دينار.

ثم اخذت اقلّبُ صفحاته فوجدتُ :

امر امير المؤمنين هارون بأعطاء الفضل بن يحيى ١٠٠ الف دينار.

ثم قلّبتُ فوجدت :

امر امير المؤمنين هارون بأعطاء ١٠٠ الف دينار ليحيى ، ومثلها للفضل ، ومثلها لجعفر.

ثم اخذت اقلبُ حتى وصلت الى ورقة فوجدت فيها :

امر امير المؤمنين هارون بصرف ١٠٠ دينار فقط لجلب نفط وقصب لحرق جثث البرامكة.

فسبحان الله مُغير الاحوال.

٤٩٢
 &

موقفُ الامام وحديثُ صفوان الجمال

يقول لو أسقَطُ من شواهقِ

مقطّع الاوصالَ بالبوارقِ

اهون من ان اتولى عملا

في حكم هارون وأن أوكّلا

وقال مرةً الى صفوانِ

انت جميل حسن المعاني

لكن فيك خصلةً معيبة

احسبها عن نهجنا غريبة

كراؤك الجمال هذا الطاغية

والسير في قوافل الزبانيه

وقال من أحبَ منهم احدا

فإنه منهم على طول المدى

لا تركنوا للظلمِ والاشرارِ

فتصبحوا أذلة في النارِ

وظل هارون يكيدُ الكيدا

يستعمل السيف ويطوي القيدا

على أكفٍ من بني الزهراءِ

طاهرةٍ تقية بيضاءِ

يقولُ والله لاقتلنّهم

واسجننّهم وأصلبنهم

ثم لأنفي بعضهم ليثربِ

بالخوف والارعاب والترقب

في ذمة الله الذي عانوهُ

من قسوةِ الرجس وما لاقوه (١)

__________________

(١) صفوان الجمال ، هو صفوان من بني كاهل كوفي كنيته ابو محمد الجمال ، ثقة.

وقصته مع الإمام الكاظم عليه‌السلام ينقلها الشيخ الطوسي حيث قال :

قال صفوان الجمّال : دخلتُ على ابي الحسن موسى عليه‌السلام فقال لي :

يا صفوان : كل شيءٍ منك حسنٌ جميل ما خلا شيئاً واحداً.

قلتُ : جُعلتُ فداك ، أي شيء ؟ قال عليه‌السلام : إكراؤك جمالك لهذا الرجل ـ يقصد هارون ـ فقلت : يا مولاي ما أكريته أشراً أو بطراً ولا لصيد أو لهوٍ ، ولكن أكريته في طريق مكة ولا أتولاه بنفسي بل ابعث غلماني. قال عليه‌السلام : هل تاخذ اجرة كرائك منهم ؟

قلتُ : نعم

=

٤٩٣
 &

__________________

=

قال عليه‌السلام : أتحبُّ بقاءهم حتى تستوفي إجرتك ؟. قلتُ : نعم

قال عليه‌السلام : مَنْ احبَّ بقاءهم فهو منهم ومَنْ كان منهم فهو في النار

قال صفوان : فذهبت وبعتُ جمالي عن آخرها. اختيار معرفة الرجال ٥ / ٧٤٠.

انها موعظة ارشادية بثَّها الإمام عليه‌السلام صوتاً يدوي في اسماع كل من يركن للظلم والظالمين او يعمل معهم ولهم ، لكن الإمام عليه‌السلام في حديثٍ ، آخر يضع لنا ضابطة مهمة للعمل مع السلطان اذا وقع تحت حرجٍ او اكراه ، وهذه الضابطة جاءت في سياق خبرٍ اوردته جملة من المصادر : قال علي بن يقطين ـ وهو من اصحاب الإمام ـ دخلت على ابي الحسن موسى عليه‌السلام واعلمته اني راغبٌ في ترك عملي مع هارون فلم يأذن لي.

وقال عليه‌السلام : لا تفعل فإن لنا بك أنساً ولأخوانك بك عزاً وعسى ان يجبر الله بك كسراً ويكسر بك نائرة المخالفين عن اوليائه. ثم قال عليه‌السلام : يا علي كفّارة اعمالكم للسطان الإحسان الى الاخوان.

ويريد الإمام عليه‌السلام بذلك مساعدة المؤمنين اثناء العمل مع السلطان وجبر مصائب المحتاجين وإضعاف قدرة هذا السلطان واعوانه عن الاستمرار في هضم حقوق الناس.

وتُشير الروايات الى ان هارون قد علم فيما بعد بكلام الإمام عليه‌السلام مع صفوان وكان هارون قد أسر ايضاً غير ذلك في نفسه على الإمام عليه‌السلام حينئذ توعّد هارون الإمام عليه‌السلام وشيعته شراً واقسم على استئصالهم.

وقد تواترت المصادر في ذكر الرشيد وعمله الظالم مع آل ابي طالب عليه‌السلام حيث ينقل أبي الفرج الاصفهاني :

قال الرشيد : حتى متى اصبُر على آل ابي طالب ، والله لأقتلنَّهم ولأقتلنَّ شيعتهم لأفعلنَّ وافعلنّ. الاغاني ٥ / ٢٥٥.

ونقل ابن الاثير : عندما تولى الرشيد أمر الخلافة سعى لإخراج الطالبيين وشيعتهم جميعاً من بغداد الى يثرب كرها لهم ومقتاً. الكامل ٥ / ٨٥.

وما كانت خاتمة هذا الظالم في افعاله تلك مع آل ابي طالب الا كما روى ابن الاثير حيث ذكر : عندما دنت الوفاة من هارون أخذ يردّد : واسوأتاه من رسول الله ماذا فعلتُ بذريته. الكامل ٥ / ١٣٠.

وكان الجواب من الله العظيم : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).

٤٩٤
 &

الاعلام المزيف

حتى هجاهم بعض من تملقا

كمثل « مروان » الذي تزندقا

والشاعر « النمري » حين سبّا

آل عليٍّ كي ينال قربى

حتى غدا ذكرُ فضائل النبي

كتهمة تندر عند العربِ

وفضلُ أهل البيت ليس يروى

ومن روى فالقتل فيه فتوى

فأمن اليهود والنصارى

واصبحوا في أمرهم احرارا

لكن آل المصطفى في خوفِ

يولغُ في رقابهم بالسيفِ (١)

__________________

(١) يتفق اكثر المؤرخين على انَّ الدولة العباسية وسابقتها الاموية سعت بكل قواها وعن طريق الاعلام المزيف ، وعبر الاقلام الباطلة ، والالسن الكاذبة ، والنفوس المريضة ، واهل التملق والدجل ممن باع ضميره لهم للقيام بهذه المهمة القذرة بعد ان اغدقوا عليهم الاموال الطائلة ، وتشير المصادر الى جملة من هؤلاء ومنهم مروان بن ابي حفصة ، ومنصور النمري ، والاصمعي ، وابراهيم الموصلي ، وسلم الخاسر ، واسحاق الموصلي ، وابو الشيص وغيرهم حيث قام هؤلاء بأضفاء مناقب مزورة ، وفضائل مزعومة لبني العباس ، وغيرهم ثم طمس معالم وفضائل اهل البيت عليهم‌السلام وعدم ذكر أي شيء لهم ، فذكرهم محرّمٌ يستوجب القتل.

لذا حاول هارون طمس اخبار الإمام عليه‌السلام وشيعته قدر المستطاع ، وكأنهم يهود او نصارى ، رغم ان هؤلاء آمنون على حد تعبير منصور النمري السابق الذكر في قصيدته المُنصفة التي حاول هارون قتله عليها.

وتشير المصادر التاريخية ان الفضل بن يحيى البرمكي ، لما عاد من خراسان الى بغداد سأله هارون : هل ابقيت هناك لآل ابي طالب من احدٍ او تركتَ له ذكر ؟

فقلت : لا والله يا مولاي لقد جهدتُ فما ذُكر لي منهم من باقية. اعيان الشيعة ٤ / ١٠٨.

٤٩٥
 &

حكاية حميد بن قحطبة

فقد روى حميدٌ بن قحطبه

وهو الذي حوى أخس مثلبه

قال دعاني مرةً هارونُ

وهو لعمري ثملٌ مجنونُ

فجئتُ في الليل اليه خائفا

ولم اكن بما يريدُ عارفا

فقال خذ سيفاً وسر أمامي

فسرت خائفا بلا كلامِ

الى بيوتٍ رثةٍ مغلّقه

لكنها بنورهم مؤتلقه

ستون شخصاً من بني الزهراءِ

وجوههم تطفح بالضياءِ

شيخ ، وكهل ، وصغير كانوا

وهم لأمة الهدى عنوانُ

قال لي اقتلهم بلا تأخيرِ

حتى أُريح بالدما ضميري

فاسرع السيفُ الى الرقابِ

إذ صبروا لميتة الأطيابِ

ثم رميت بالرؤوس الطاهره

في حفرة لتدفن المؤامره

فهل ترى يغفرُ لي الرحمنُ

كلا ولا فحفرتي نيرانُ

وراح هارونُ يصبُ الظلما

فالقتل والتعذيب كان همّا

فما اكتفى بغيلة الاحياء

ولا بقتل عترة الزهراء

لكن تعدى ظلمه وزادا

وحيث عادى سفهاً من عادى (١)

__________________

(١) انها فعلةٌ شنيعة يقشعر منها البدن ، وترتجف منها القلوب فعلها احد جلاوزة هارون وبأمره شخصياً تكاد عند ذكرها ان تنهد الارض والجبال ، ندعُ صاحبها اللعين يتحدث بها كما رواها شيخنا الصدوق « قدس‌ » :

قال حميد بن قحطبة الطائي : دخل عليَّ عبيد الله البزاز النيسابوري ، وكان صاحباً له في شهر رمضان ، فلما قدمت له مائدة الطعام امسك وقال : ايها الامير لعلك لك علّة توجب افطارك اما انا فصائمٌ.

=

٤٩٦
 &



__________________

=

فقلت ـ أي حميد ـ وقد دمعت عينايّ : لا والله ما بيَّ من علة توجب افطاري.

فقال صاحبي : إذن فعلام إفطارك وهذا شهر رمضان ايها الامير ؟

قلت : أنفذ اليَّ هارون ليلة ، وكنتُ في طوس ، وبعد اخذٍ وردٍ يطول سرده.

قال لي هارون : خُذ هذا السيف وامتثل لأمر هذا الخادم الذي هو معك ، فجاء بيَّ الخادم الى بيتٍ مُغلق ففتحه لي فإذا بثلاث غرف مغلقة في كل غرفة عشرون نفساً من شيخٍ وكهلٍ وصغير ، فقال لي الخادم : يأمرك امير المؤمنين بقتل هؤلاء ، وكانوا كلهم علويين من نسل علي وفاطمة ، فجعل يخرج لي وحداً بعد واحدٍ فأضرب عنقه ، حتى اتيت على اخرهم ، وهكذا فعلت بالموجودين في الغرف الاخرى ، حتى اتيت على ستين واحداً منهم ألقيت بجثثهم في بئر كانت هناك. !! قل لي يا عبيد الله : ماذا ينفعني بعد ذلك صومي وصلاتي ، وانا لا اشك اني مُخلّدٌ في نار جهنم. ؟!!. عيون اخبار الرضا ١ / ١٠٠

قال الصدوق « قدس » وهو يُعلق على ما سبق : وللمنصور العباسي مثل هذه الفعلة في ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. عيون اخبار الرضا ١ / ١٠٢

انها صفحة سوداء قاتمة يرسمها التاريخ لأناس قبل عنهم إنهم ظلّ الله في الارض ، وهم خلفاء الامة ، وانهم امراء المؤمنين.

ولله در ذلك المستشرق الالماني الذي عندما عرف هذه الفعلة وغيرها كتب كتاباً مشهوراً « ملوك ومهازل وسخافات ».

٤٩٧
 &

هدمُ قبر الامام الحسين عليه‌السلام

فهدمُ قبر السبط عند الطفِ

كان له حلماً حقوداً مخفي

اذ هدم القبر على زوارهِ

كي يختفي البريق من ستارهِ

وقطع السدرةَ عند الحائرِ

فيا له من مستبدٍ جائر

وصدق الرسولُ حين لعنا

قاطعها المسخ الزنيم الأرعنا

ذاك الذي قد قتل الأبرارا

وطارد الاخيار والاحرارا

كمثل عبد الله وابن الحسنِ

ومثل ادريس الفتى المؤتمنِ

وبعدهُ يحيى بن عبد اللهِ

فقتلُهُ من أعظم الدواهي

وأعظم الفجائع المستنكره

قتل ابنِ جعفر امام البرره (١)

* * *

__________________

(١) وعندما رأى هارون الرشيد جماهير غفيرة من الامة الإسلامية تتهافت على زيارة مرقد الامام الحسين قام بهدم الدور المجاورة له ، واقتلاع السدرة التي كانت الى جانب القبر الشريف.

كما أمر بحرث أرض كربلاء ليمحو بذلك كل أثر للقبر المطهر ، وقد انتقم الله منه فإنه لم يدُر عليه الحول حتى هلك في خراسان. تاريخ كربلاء ٥ / ١٩٨.

٤٩٨
 &

رسالةُ الرشيد

في قصةٍ رهيبةِ الفصولِ

يذكرها التاريخُ في ذهولِ

أولها رسالة الرشيدِ

وما بها من سرفِ الجحودِ

أرسلها الى الامام الكاظمِ

مليئة بالحقدِ والشتائمِ

متهماً إياهُ بالخصومة

وبافتعال فتنةٍ مزعومة

فرده الامامُ في حكمتهِ

مبدداً للشكِ في تهمتهِ

مبيناً بانه ابن طه

بالبضعةِ الزهراء قد تباهى

وانه نجلُ علي المرتضى

وابن الحسين وهو راضٍ بالقضا

وخاطب الرشيد بالارحامِ

وامة القرآن والاسلامِ

بأن ما يسمعه مكذوبُ

وانّ من يثيرهُ مغلوبُ

فليس في نيته ان يخرجا

أو ان يسل سيفه أو يسرجا

مكتفياً بالعلم والرواية

وما لديه دون ذاك غاية

فهدأ الرشيد من كلامه

معتذراً إياه في إنعامهِ

وقبّل الامام في عينيه

وضمّه بلهفةٍ اليهِ (١)

__________________

(١) هذا نصّ الرواية كما جاءت عن الشيخ المفيد ، عن محمد الدامغاني ، والصدوق ، عن هاني بن محمد ، عن ابيه قال : دخلتُ على ابي الحسن موسى عليه‌السلام يوم امر الرشيد بإعتقاله فسلمت عليه وطلب مني عليه‌السلام ان أقرأ بطومار كتاب طويل فيه مذاهب وشنعة وافتراء نُسبت اليه عليه‌السلام فلما قرأته قال موسى عليه‌السلام : لما أُدخلتُ على هارون قال لي : يا موسى خليفتان يُجبى اليهما الخراجُ ! تكلم بحجّتك يا موسى !

قلتُ ـ اي الإمام عليه‌السلام ـ : أُعيذك بالله تعالى أن تبوء باثمي ، وتقبل الباطل من اعدائنا علينا ، ونحن اهلُ بيتٍ مُنينا بالتقول علينا ، وقد كُذّب علينا منذ قُبض رسول الله ، والذي بعث محمداً بالنبوة ما حُملَ اليَّ قطٌّ من درهم ولا دينارٍ من طريق الخراج.

=

٤٩٩
 &



__________________

=

فلما تمَّ كلامي سكت هارون ثم قلتُ : أتأذن لي بحديثٍ عن رسول الله. فقال : قل فإنه مأذونٌ لك قلت : حدثني ابي ، عن جدي عن رسول الله انه قال : انَّ الرِحمَ اذا مسّت تحركت واضطربت فإن رأيت ان تناولني يدك ، فأخذ بيدي وجذبني اليه وعانقني طويلاً ثم دمعت عيناه ثم قال هارون : اجلس يا موسى فليس عليك بأس. الاختصاص / ٤٥.

وينبغي ان نفرق بين الاسباب الواقعية ، وبين الاسباب التي كان يتذرع بها الرشيد لتبرير سلوكه العدائي مع الإمام عليه‌السلام.

لقد اصبح الامام بعد عقد من حكم الرشيد وجوداً ثقيلاً على هارون لقوة تأثيره في الامة واتساع الامتداد الشيعي ، حتى وجدناه يقدر المتطوعين في جيش الإمام بمائة ألف سيف. من هنا ضاق صدره وازعجه انتشار صيت الإمام عليه‌السلام لان الناس غدت تتناقل مآثر الإمام وعلمه ، وأخلاقه. اعلام الهداية ٩ / ٩٥.

٥٠٠