ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &



__________________

=

الى خير ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكو ولا تقولوا بالسنتكم ما ينقص من قدركم.

وهنا صاح عمر بن سعد بالجيش : ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه والله ان فرغ لكم لامتاز ميمنتكم عن ميسرتكم ، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين اطناب المخيم ، فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحداً الا بعجه بسيفه فقتله والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره.

ورجع الى مركزه وهو يثر من قول : لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

وطلب في هذا الحال ماءا فقال الشمر : لا تذوقه حتى ترد الماء وناداه رجل : يا حسين الا ترى الفرات ؟ فلا تشرب منه حتى تموت عطشا فقال الحسين عليه‌السلام : اللهم آمته عطشا ، فكان ذلك الرجل يطلب الماء فيؤتى به فيشرب حتى يخرج من فيه وما زال كذلك الى أن مات عطشا.

وهنا رماه ابو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه وسالت الدماء على وجهه فقال : اللهم انك ترى ما انا فيه من عبادك العصاة ، اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تذر على وجه الارض منهم احدا ولا تغفر لهم ابدا.

وصاح بصوت عال : يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته اما انكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي ، وأيم الله اني لارجو ان يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

فقال حصين : ورما ينتقم لك منا يا ابن فاطمة ؟ قال يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب صبا.

٢٦١
 &

السِّهام تصيبُ قلب الحسين عليه‌السلام

مثلثٍ أصابَهُ في القلبِ

فاهتزَّ بالبكاءِ عرْشُ الربِّ

وقالَ : باسمِ اللهِ والدماءُ

راعفةٌ وتنزفُ الأحشاءُ

ها تقتلُونَ رجلاً ليسَ على

وجهِ البَسيطِ مثلُهُ بينَ المَلا

أخرجَ ذاكَ السّهمَ مِنْ قَفاهُ

فانبعثَتْ فوارةً دِماهُ

فَملأَ الكفَّينِ مِنهُ ورمى

نحوَ السماءِ داعياً مُتَمتما

هوّنَ يا ربّاهُ ما قدْ فُعِلا

بعينِكَ الخطبُ وما قَدْ نزَلا

ثمَّ غَدا مُخضِّباً لحيتَهُ

وصابِغاً منْ دمهِ شَيْبَتَهُ

يقولُ : هكَذا أُلاقي جَدِّي

مُخضَّبَ الشيبِ تَرِيبَ الخَدِّ

ثمَّ هوى للأرضِ عَنْ جوادِه

فالتفَّ هذا الكونُ في سوادِه

حيثُ أحاطَ بالحسينِ الفجرَهْ

والبعضُ منهُمْ شاتمٌ لحيدرَهْ

والحقدُ في قلوبِهم يشتعلُ

بجاهليةٍ نماها الخَبلُ

مُنتقمين مِنْ سليلِ أحمدا

تجمَّعُوا ليُطفئوا نُورَ الهدى (١)

__________________

(١) ولما ضعف عليه‌السلام عن القتال وقف يسرتح رماه رجل بحجر على جبهته فسال الدم على وجهه فاخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه رماه آخر بسهم محدد له ثلاث شعب وقع على قلبه الشريف فقال : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، ورفع رأسه الى السماء وقال : الهي انك تعلم انهم يقتلون جلاً ليس على وجه الارض ابن نبي غيره. ثم اخرج السهم من قفاه وانبعث الدم كالميزاب فوضع يده تحت الجرح فلما امتلأت رمى به نحو السماء وقال : هون علي ما نزل بي انه بعين الله ثم وضعها ثانية فلما امتلأت لطخ به رأسه ووجهه ولحيته وقال : هكذا اكون حتى القى الله وجدي رسول الله وانا مخضب بدمي.

٢٦٢
 &

صريعاً يُجبِّن شجعانها

تخاذَلُوا لجبنهِم عنْ قتلهِ

ما انجلَتِ الحربُ عُلاً عن مِثلِهِ

وهوَ وحيدٌ بينهمْ مَكْثورُ

لكنّهُ ذُو هيبة وَقُورُ (١)

تَرتهبُ الابطالُ أنْ تَدنو لهُ

والشمسُ في سَمائِها تَعنو لَهُ

إذْ ذاكَ قدْ دَنا لهُ غلامُ

في الحُسْنِ بَدرٌ مُشرقٌ تمامُ

حاولَ أنْ يحمي الحسينَ فَغَدا

مهوى السيوفِ فمضى في الشُّهَدا (٢)

وبعدَهُ جاءَ اليهِ ابنُ الحسَنْ

وذاكَ عبدُ اللهِ شبلٌ مؤتَمنْ

يقولُ : ويحكُمْ أَتقتلونهُ

وهْوُ ابنُ فاطم وتَعرِفونهُ

فقُطِعَتْ يمينُهُ بضربَهْ

فجاءَ سهمٌ قدْ أصابَ قلبَهْ (٣)

وبقيَ الحسينُ في الميدانِ

تُحيطُ فيهِ زُمرةُ الذُّؤْبانِ

يَنُوءُ بالطعنِ وبالجراحِ

وقلبهُ ينبضُ بالكفاحِ

فبدرَ الشمرُ الى مقتلهِ

وشاهراً في وجهِه لنصلهِ

* * *

__________________

(١) المكثور : هو الذي تكاثر عليه الاعداء ولم يكن معه ناصر أو معين.

(٢) ذلك الغلام هو محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٣) ذلك الفتى هو عبد الله بن الحسن الزكي بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢٦٣
 &

رأس الحسين عليه‌السلام

وكانَ ما كانَ منَ القضاءِ

وتِلكُمُ مشيئةُ السماءِ (١)

فأَعوَلَ الهدى لهُ والدينُ

وضُيِّعَ اليتيمُ والمسكينُ

وانتُحَبَ الصيامُ والصلاةُ

والحجُّ والجهادُ والزكاةُ

وزُلزِلَ الصفا بهِ والحرمُ

والمشعرُ الحرامُ ثمَّ زمزمُ

وارتجفَتْ ستائرُ الأركانِ

باكيةً منْ عَثرةِ الزمانِ

وناح أحمدٌ لهُ في قبرهِ

وارتجَّ دينُ المصطفى بأسرهِ

وصاحَ جِبريلُ حزيناً في السما

يا أُمّةً قدْ سفَكتْ خيرَ الدِّما

عليكِ يا مفضوحةً بالعارِ

اللعنةُ الكبرى منَ الجبارِ

* * *

__________________

(١) بعد أن أعيت الجراح الامام الحسين عليه‌السلام وأضعفه نزف الدم والجيش متردد جبناً من الإجهاز عليه بادر الشقي اللعين شمر بن ذي الجوشن ، حيث ارتداه الشيطان ، فشهر سيفه واحتز رأسه المقدس.

لم أستطع أن أصف تلك اللحظة التي توقف فيها التاريخ ، وتنكر فيها الزمن ، حيث قوى الشر تجهز على الخير المتمثل بالامام الحسين عليه‌السلام فكيف يمكن وصف تلك اللحظة وكيف يمكن تصويرها ، فهي أبشع جريمة يرتكبها شيطان ، وأكبر مأساة يعيشها مبدأ ، في تلك اللحظة ، كانت المقل مفتوحة لكنها لا ترى سوى الظلام ، فقد انطفأ النور وهجرت الشمس السماء وذبح القرآن ، فالملأ الأعلى يبكي والكائنات تنوح ذلك حزن الوجود.

٢٦٤
 &

فرس الحسين عليه‌السلام

وبعدَ مقتلِ الحسينِ انهزَما

جوادُه مُجرحاً مُحمحما

ويصرخُ الظليمةَ الظليمَهْ

مِنْ اُمَة قاتلةٍ أثيمَهْ (١)

قَدْ قتلَتْ سبطَ النبيِّ الهادي

وبايعَتْ « آكِلةَ الأكبادِ » (٢)

وحينَ شاهدَتْ نساهُ الفرَسا

مُقطَّعَ السرجِ ويَمضي شَرِسا

أعولْنَ بالبكاء وبالثبورِ

ورحْنَ يخرجنَ منَ الخدورِ

فتلكَ تَدعو ذا حسينٌ عارِ

نادبَةً لجدِّها المختارِ

وتلكَ أهوتْ نحوهُ تُقبّلُ

وبالرداءِ فوقَهُ تظلِّلُ (٣)

* * *

__________________

(١) وبعد مقتل الامام الحسين عليه‌السلام أخذ فرسه ، وهو من جياد خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يدور حوله ويلطخ ناصيته بدمه وهو يحمحم ويصهل صهيلاً عالياً ويرفس القتلة برجله غضباً وحزناً ، حتى رُوي انّه قتل جماعة منهم.

وقد قال الإمام محمد الباقر عليه‌السلام حول حمحمة الفرس وصهيله ، انّه كان يقول : « الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها ».

(٢) آكلة الأكباد : هي هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ، حيث لاكَت من حقدها كبد سيد الشهداء حمزة عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في معركة اُحد ، بعد أن بقرت بطنه.

(٣) وما أروع أبيات الحاج ميثم الكعبي في تصوير هذا المشهد :

فواحدة تحنو عليه تظمه

واخرى عليه بالرداء تظللُ

واخرى بفيض النحر تطبغ نحرها

واخرى تفديه واخرى تقبلُ

واخرى على خوف تلوذ بجنبه

واخرى لما قد نالها ليس تعقلُ

٢٦٥
 &

اللّهمّ تقبّل منّا هذا القُربان

وزينبٌ تحملُهُ جُثمانا

يا ربَّنا تقبَّلِ القُربانا

وامتلأ الفضاءُ بالغبارِ

والتفَّتِ الرمالُ بالأشجارِ

وانكشفَ النهارُ في ظلامِ

ففوقَ رمحٍ هامةُ الإِمامِ (١)

* * *

__________________

(١) خيم الحزن والاسى على الدنيا لحظة استشهاد الامام الحسين عليه‌السلام وكانت تلك ذروة اكبر مأساة في التاريخ الاسلامي والانساني.

وهنا يتجلى الموقف البطولي لعقيلة بني هاشم زينب ابنة علي عليه‌السلام حيث وضعت يديها تحت الجسد الصريع وهي تقول : ربنا تقبل منا هذا القربان لدينك.

اجل ان الحسين عليه‌السلام أعز قربان واشرف فداء لدين جده محمد بعد ان اصبح لعبة في يدي بني امية.

٢٦٦
 &

حرق الخيام ومحنة السجّاد عليه‌السلام

وسُلِبَ الحسينُ بعدَ القتلِ

وهوَ لعمري مِنْ شَنيعِ الفعلِ

وأُحرقَتْ خيامهُ في كربلا

وصيحَ فيها إستعدّوا للبَلا

وباتَتِ النساءُ يَومَ العاشرِ

والخوفُ يكوي كلَّ قلب حائرِ

ومحنةُ السجادِ في العِيالِ

قَدْ عظُمَتْ حتى على الجبال (١)

* * *

__________________

(١) وبلغت الوحشية بجيش يزيد ان سلبوا الحسين عليه‌السلام بعد قتله ، ورضّوا صدره وظهره بسنابك الخيل ، ورفعوا رأسه الشريف في رمح طويل افتخاراً بقتل سيد شباب أهل الجنة ، واستعداداً بالأسرى والسبايا من آل الرسول للرحيل بهم الى الكوفة ومنها الى الشام.

وهنا يبدأ مشوار جديد وشوط آخر من مسيرة الثورة الحسينية الخالدة حيث يمثل الامام السجاد عليه‌السلام وعمته زينب الحلقة الموصلة بين الثورة والاجيال ، ولاولا هذه الحلقة المباركة لماتت الثورة في مهدها وغطتها رمال الصحراء في كربلاء.

٢٦٧
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٢٦٨
 &

الجزء السادس

الامام علي بن الحسين السجاد عليه‌السلام

٢٦٩
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٢٧٠
 &

الإِهْدَاء

الى سيدي الامام السجاد

علي بن الحسين .. زين العابدين

أقدم هذا الجزء من ( قوافل النور )

راجياً له ان يقبل مواضع القيود في يديه ..

ونغمات الدعاء في شفتيه.

٢٧١
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٢٧٢
 &

إضاءة

وُلِد الإمام السجاد عليه‌السلام عام ٣٨ هـ ، وهي الفترة التي كانت مشتعلة بالفتن ، حيث نشط الناكثون ، والمارقون ، والقاسطون على جدّه أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب عليه‌السلام وجمعوا أمرهم على مخالفة الحق الذي كان يدور معه حيثما دار ، فعاش الإمام زين العابدين تلك المحنة بفصولها الصعبة ، التي انتهت بشهادة سيّد الأوصياء وإمام المتقين علي بن ابي طالب في محراب صلاته في مسجد الكوفة عام ٤٠ هـ.

ثمّ عاش السجاد محنة عمه الإمام الحسن عليه‌السلام حين خذله الناس ما عدا الثلّة المخلصة من أصحابه ، وحين أخذ تيار الانحراف الأموي يفرض سيطرته على الساحة الإسلامية ، من خلال الخدعة والإرهاب والإغراء ، والسياسات المادية التي برع معاوية في ابتداعها بشتّى الوسائل الباطلة ، فشاهد عمّه المظلوم يتعرّض للخيانة تلو الأخرى من قبل جيشه المهزوم ، حتى اضطرّ إلى الهدنة مع جيش الشام ، وقلبه يعتصر الماً لما يراه من تعاظم جبهة الباطل وجمود المجتمع الإسلامي وعجزه عن إدراك خطورة الأحداث التي تمر عليه ، وعتمة المستقبل التي ستواجهه ، وفق تخطيط دقيق من قِبَل بني أميّة أعداء الرسول والرسالة ، الذين دخلوا الاسلام خوفاً وطمعاً فظلّوا له كارهين معادين يكيدون له ولأهله ، ويفتتون وحدة الأمّة وتماسكها عبر سياسة التجهيل الفكري والترغيب المادي والإرهاب الأمني ، فتبدلت ملامح أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصارت على شفا حفرة من الضياع والتردي في كافة أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية.

وبعدها عايش الإمام السجاد عليه‌السلام محنة الأحرار من شيعة علي عليه‌السلام أمثال ميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وحجر بن عدي الكندي ، وأصحابه البررة ، وتعرّضهم للقتل والسجن والتشريد على يد معاوية ، وتحسس بألم وحرقة غلبة التيار النفعي على واقع الامة ، وعلى مبادىْ الإسلام الأصيل ، وهذه لوحدها تكفي لأن تمزق

٢٧٣
 &

القلوب المؤمنة التي امتلأت بحب الله وعاشت هموم الرسالة بكل وعيها وعمقها.

ومرت فصول كربلاء على الإمام السجاد عليه‌السلام كاملة واضحة ، يعيش دقائقها ويرى تفاصيلها ويرصد حركاتها ، بكل ما تمثل من ظُلامة ومأساة وانتهاك وردّة. فكان عليه‌السلام الشاهد الأكبر على تلك الجريمة النكراء. كان شاهداً على الإيمان والكفر ، على الوفاء والخيانة ، كما كان شاهداً على الأقوياء المؤمنين المخلصين الذين واجهوا الجيوش المعادية بالثقة ، وعلى الضعفاء المهزومين الذين سقطوا أمام أوّل اشارة من الطغاة. ومَن أصدق شهادة منه وهو ابن النبوّة والإمامة ، فرع الشجرة الطيّبة ذات الأصل الثابت والفرع المتنامي في السماء.

واذا كان أحرار كربلاء ، قد أدوا دورهم وانتهت معاناتهم في أرض الطف ، فإنّ السجاد الصابر ، كان عليه أن يواصل مسيرته ويبدأ مرحلة جديدة من المأساة والمعاناة والدور الرسالي ، مع موكب السبايا من أهل بيته من النساء والأطفال ، كان يرى السياط الحاقدة تلهب الأجساد النحيلة وهو مقيد في ركبه ، ويرى الرماح المجنونة وهي ترفع الرؤوس الشريفة وكأن جيش الظلم لم تروه دماء الحسين وأصحابه ، ولم يكتف بالجريمة البشعة ، فأراد أن يمعن في الانحراف والسقوط الى أدنى مسوياته ، فعمد إلى الانتقام الجسدي والنفسي من ذرّيته ونسائه وأهل بيته عليهم‌السلام.

إنّه موت القيم ، وتشويه التاريخ ، وطغيان المسوخ على الانسانية الحقة .. فهل يبلغ التمادي والجهل والظلم والوحشية والحقد ، حداً يخرج فيه الانسان عن إنسانيته كلّها ، فلا يبقى منها سوى الجلد يغطي البطش والطغيان ويغلف الحقد الأعمى والظلم المسعور ؟.

إنّه الانسان ، يملك بيده خيار الواقع الذي يسلكه والمصير الذي يؤول إليه ، فيختار بين أن يسلك سبل الهدى والرشاد فيفوز الفوز العظيم ، أو يختار الانحراف والضلال ، فيمضي في مسالك التيه المعتمة ، ويخسر الخسران المبين :

٢٧٤
 &

( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ).

إنّه الانسان ، بيده أن يغرس ليورق أشجاراً من العطاء ولينشر إخضرار الحق والإحسان فيما حوله .. وبيده أن يقتلع الأزهار ، ليزرع الشوك ، وبيده يضرم النار فيما حوله ، فينتهي إلى ظلمات فوقها ظلمات ومصيره إلى النار.

وهو الانسان في كل زمان ومكان .. أعطاه الله تعالى العقل والوعي والإدراك وعرّفه سبل الخير والشر ، وترك له الاختيار ووضعه أمام الاختبار الصعب ، فالسعيد مَن انتصر على أهوائه ونوازعه الضيقة ، وغلّب قيم الحق ، والعدل ، واتخذ القرار الحكيم بإرادة ثابتة في طريق الهدى اللاحب .. والشقي مَن ضعف فتردّى وانهار أمام نزعات النفس ونداء الباطل ، فعاش الضياع وانتهى إلى الموت وإن كان حياً بين الناس.

هذا النموذج رافق الانسانية منذ البداية وسيستمر إلى ما شاء الله ، صراع بين الحق والباطل ، بين قيم الخير وأساليب الشر ، بين الهدى والضلال ، والقرار بيد الانسان وله أن يختار بين خط الحسين وبين خط يزيد.

و « مؤسسة دار الاسلام » إذ تصدر هذا الجزء من ملحمة « قوافل النور » تتمنّى على الجيل الإسلامي الواعد أن ينهل من معين تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام الدروس والعبر والقوّة ، ما يعينه على تخطي عقبات الطريق الكأداء ، التي يُحاول أعداء الإنسانية أن يضعوها بين خطاه لكي ينكفيء إلى الوراء قلقاً مهزوماً :

( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ).

فسلام على السجاد زين العابدين في الاولين والآخرين.

وسلام عليه في سجل الخالدين.

والحمد لله رب العالمين.

٢٧٥
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٢٧٦
 &

في محنة الأسر

وبعدَ مقتلِ الحسينِ الطاهرِ

وبعدَ أن جفَّ دمُ المناحرِ

أحرقتِ الخيامُ بالنّيرانِ

وسُلِبتْ قلائِدُ النّسوانِ

وضجّتِ السماءُ بالدُخانِ

وشَمُتتْ عصائبُ الشيطانِ

وسِيقَ آلُ المصطفى أُسارى

حتّى بكت للمشهدِ الصحاى

وكُبّلَ السجّادُ بِالحديدِ

وأُثقلتْ رِجلاهُ بالقيودِ

وأُركبت على النّياق الهزّلِ

بناتُ طه وهو خيرُ الرُّسلِ (١)

مروا على الأجسادِ في عويلِ

ونُدبَ القتيلُ للقتيلِ

__________________

(١) لم يكتف جيش السلطة الأموية بقتل الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه واهل بيته يوم عاشوراء ، إنّما عمد إلى اسلوب آخر لم يألفه العرب في حروبهم وهو قطع الرؤوس وحرق الخيام وسلب النساء والأطفال.

قال ابن الأثير في الكامل والطبري في تاريخه : لمّا قتل أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام مال الناس على ثقله ومتاعه ، وانتبهوا ما في الخيام وأضرموا النار فيها ، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ففرت بنات الزهراء حواسر مسلبات باكيات.

وجاء في أمالي الصدوق وسير أعلام النباء للذهبي ، أنّ رجلاً جاء إلى فاطمة ابنة الحسين عليه‌السلام فانتزع خلخالها وهو يبكي ، فقالت له : ما لك ؟ فقال : كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله ؟ فقالت له : دعني قال : أخاف أن يأخذه غيري.

ونظرت امرأة من آل بكر بن وائل كانت مع زوجها إلى بنات رسول الله بهذه الحال فصاحت : يا آل بكر بن وائل ! أتسلب بنات رسول الله لا حكم إلّا لله ، يا لثارات رسول الله ، فردّها زوجها إلى رحله.

٢٧٧
 &

أَجسادهُم كانت بلا رُؤوسِ

مذ دارت المنونُ بالكؤوسِ

وشاهدت زينبُ في الرمالِ

جسمَ أخيها داميَ الأوصالِ

فهتفت هذا الحسينُ في العَرا

يا جدُّ لم يدنُ لهُ أهلُ القُرى (١)

ونَدبت في حُرقةٍ أَباها

وحمزةً وحسناً أَخاها

وأُمّها الزّهراءَ بنتَ المصطفى

وآلَ هاشمٍ رجالاتِ الوفا

* * *



__________________

(١) بعد مقتل الحسين عليه‌السلام وحرق خيامه وسلب عياله ، قرّر الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد أن تقطع الرؤوس ، وتسبى النساء والأطفال ، وتحملهم النياق الهزّل بغير وطاء ، وتتّجه بهم نحو الكوفة حيث ينتظرهم عبيد الله بن زياد والي الكوفة ، فمرّت القافلة على أرض المعركة.

قال الخوارزمي في مقتله : فقالت النسوة : بالله عليكم إلّا ما مررتم بنا على القتلى ، ولمّا نظرت زينب إلى القتلى صاحت : يا محمداه ! هذا حسين بالعراء ، مرمل بالدماء ، مقطّع الأعضاء وبناتك سبايا ، فأبكت كل عدو وصديق ، ثمّ ألقت بنفسها على الأرض وبسطت يديها تحت جسده الشريف ودفعته نحو السماء وقالت : إلهي تقبّل منّا هذا القربان.

وما أجمل قول الشيخ الأوردبادي ‌رحمة الله ، وهو يصف دور زينب في واقعة كربلاء بقوله :

وتشاطرت هي والحسين بدعوة

حتم القضاء عليهما ان يندبا

هذا بمشتبك النصول وهذه

في حيث معتركِ المكارِه في السبا

٢٧٨
 &

من كربلاء إلى الكوفة

وسارت القافلةُ الملهوفة

تطوي الفيافي في طريقِ الكوفه

يزجرُها خوّلَةٌ والشمرُ

ودمعُها على المآقي سترُ

تدفعُ بالأيدي سِياطَ الظالمِ

وقلبُها ينبضُ بالعزائمِ

قافلةٌ يقدمُها السجّادُ

بموكبٍ يسوقه الجلّادُ

حتّى بدت للركبِ من بعيدِ

الكوفةُ الحمرا بيوم عيدِ

تُدقُّ في أنحائها الطبولُ

في فرحِ يشوبهُ الذهولُ (١)

حتّى إذا ما وصلتها القافله

ونزلَ السجّادُ يحمي العائله

قام « عبيدُ الله » فوقَ المنبرِ

مُستبشراً بقتلِ خيرِ البشرِ

ويحمدُ اللهُ على ما وقعا

من حادثِ هزَّ الجهاتِ الأربعا

واجتمع الناسُ بِبابِ المسجدِ

وبعضُهم يبكي بقلبٍ مُكمدِ

فصرخ الإمامُ لا تبكونا

أَلستُمُ أنتُمْ قتلتمونا

* * *

__________________

(١) واتّجهت قافلة السبايا من كربلاء الى الكوفة وكان رأس الحسين عليه‌السلام مع خولّي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم ورؤوس أهل البيت عليهم‌السلام مع شمر بن ذي الجوشن ، وقيس بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج.

وكانت الكوفة في تلك الأيام تعيش حالة من القلق والخوف والذهول والتناقضات ، فهي من ناحية تختزن أحزانها وآلامها على القتيل العظيم الذي تعرفه ، ومن ناحية أخرى تعيش الجهل والمسخ ، والانتصار المزيف.

ولكنّها سرعان ما رجعت إلى رشدها واستيقظت من غفلتها فخيم عليها الحزن واعتصرها الألم والندم.

٢٧٩
 &

خطبة زينب عليها‌السلام

وأَومَت زينبُ للجموعِ

وجَفنُها يخفَقُ بالدُّموعِ

فسَكتوا وارتدّتِ الأَنفاسُ

وسكنتْ لصوتها الأَجراسُ

ورفعت نِداءها الشجيّا

وحمدت وأَطرت النبيّا

وخاطبتهم يا رجالَ الغدرِ

يا أُمّةً قد جُبلت بالمكرِ

تبكونَ لا جفَّتْ لكم دموعُ

ولا خفا صوتٌ لكم مسموعُ

فأنتمُ كمن أبادت غزلَها

من بعد قوّةِ وفلّت فتلَها

ما فيكم إلّا الكذوبُ الصلفُ

والمتملقُ الخَؤون النَّطفُ

كأنّكم مرعىً بأَرضِ الدّمنِ

أو فضّةِ منقوشةِ في كفنِ

فبئس ما قدمتمُ للآخره

بِقتلكم تلكَ النفوسَ الطاهره

فابكوا كثيراً واضحكوا قليلا

فقد حملتم عَارها ثقيلا

لَن ترحضوها أبداً بغُسلِ

ولَن تبوؤا بعدَها بعدلِ

حيثُ سليلُ خاتمِ النبوّه

قتلتمُوه عَطشاً وقَسوه

وهو ملاذُ الحائرِ الشريدِ

ومفزعٌ للهاربِ الطريدِ

وهو منارُ عزّةِ الاسلامِ

وابنُ الوصيّ المرتضى الإمامِ

تعساً لكم بفعلكم وسُحقا

فقد أَضعتم دينكم والحَقّا

وخسرت صفقتكم وبؤتمُ

بِغضبِ مِن بعدهِ لن تُرحموا

يا ويلكم أيَ فوأد وارِ

فريتمُ لأحمدِ المختارِ

وأيَّ حرمةٍ له أَبزتمُ

وأيَّ نزفِ طاهرِ سفكتمُ

٢٨٠