ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الدور العلمي للإمام الباقر عليه‌السلام

يَنشرُ علم الشّرعةِ الغرّاءِ

في خُلقٍ يُنمى للأنبياءِ

فحلقاتُ مسجدِ النبيّ

تَشهدُ بالفضل إلى الوصيّ

خاض جميعَ أبحرِ المعارفِ

وحوله مختلفُ الطوائفِ

فالفقهُ والكلامُ والتفسيرُ

والهديُ والأخلاقُ والتعبيرُ

والجفرُ والجامعةُ الكبيره

وما حوت أسرارُها الخطيره

منهلُهُ القرآنُ والحديثُ

والعقلُ والسيرةُ والموروثُ

يروي عن الصحابةِ الكبارِ

عن النبي المصطفى المختارِ

فاتسعت دائرةُ العلومِ

على يدي باقِرها العظيمِ

وحدّث الرُّواةَ في الأمصارِ

على المهاجرين والأنصارِ

وردَّ أهلَ الزيغِ والزنادقه

وحاججَ الخصومَ والمناطقه

وقد صفا التوحيدُ في زمانهِ

مذ شيّد الباقرُ من أركانهِ

حتى غدت مدرسةً حياتُهُ

وملأت كل الدُّنا رُواتُهُ

مؤسساً جامعةً للدينِ

وناصراً للحقّ في يقين (١)

__________________

(١) يتمثل دور الإمام الباقر العلمي في التركيز على نشر علوم الشريعة وردّ الشبهات والمقولات والعقائد الباطلة التي تحاول أن تشوش أفكار المسلمين ، وتضعف أرادتهم وتمسخ

=

٣٨١
 &



__________________

=

شخصيتهم ، فلقد كان المشروع الأموي في زمانه يتمثل في إشاعة الجهل والتحريف الفكري في حياة الأمّة ، فكان دور الباقر عليه‌السلام هو تعطيل هذا المشروع الظالم وحماية الفكر والوعي الاسلامي من الخطط المبرمجة التي تشوه الاسلام ، وتزور مفاهيمه وأحكامه ... فاتخذ عليه‌السلام من المسجد النبوي الشريف منطلقاً لمدرسته الفكرية فتحلّق حوله العلماء والفقهاء والفلاسفة ينهلون من نمير علمه الصافي ، فحدّث في التفسير والحديث والفقه ودرّس في الفلسفة والكلام والفلك ، وردّ على الزنادقة والملاحدة بدليل العقل والنقل وبأسلوب أخلاقي حكيم ومؤثر ، وهكذا أصبح قطب الرحى للفكر الاسلامي ومدار الحكمة والعلم للعلماء والفقهاء وطلّاب الحقيقة. حتى أننا نستطيع أن نقول أنّ حياة الإمام الباقر عليه‌السلام كانت مدرسة ثرة العطاء الخالدة في تاريخ الأمّة الاسلامية وحركتها الفكرية والسياسية ، وما علم الجفر وهو : الكتب والعلوم الخاصة بأهل البيت عليهم‌السلام المدونة على جلد العنز وعلم الجامعة الذي ورثوه من آبائهم إلّا نماذج علمية لضخامة دور الإمام الباقر وغزير عطائه الثقافي في حياة الأمّة الاسلامية.

٣٨٢
 &

رعايتُهُ للفقراء والمساكين

يحنو على المسكينِ والفقيرِ

فهو لهم أكبرُ من نصيرِ

يُحررُ العبَيد كلَّ عامِ

بالحُبّ والرقةِ والسلامِ

فمالُهُ للفقراء صَدقه

نعمتُهُ بكفهم مندفقه

فكم كسى الديباجَ من مسكينِ

وكم رثى لبائسٍ حزينِ

كم أشبعَ الجياع في المدينه

وكم رعى كسيرةً مسكِينه (١)

* * *

__________________

(١) الكرم والسخاء من مكارم الأخلاق التي عرف بها أهل البيت عليهم‌السلام وكان الإمام الباقر عليه‌السلام يحنو على الفقراء والمساكين ويرفع من شأنهم ، ويقول المؤرخون كما في عيون الأخبار للصدوق ، والبيان والتبيين للجاحظ انّه عهد لأهله إذا قصدهم سائل أن لا يقولوا له : يا سائل خذ هذا ، وإنّما يقولون له : يا عبد الله ! بورك فيك ، وقال : سمّوهم بأحسن أسمائهم ، وكان أحب شيء إلى الإمام عليه‌السلام في هذهِ الدنيا صلته لإخوانه ، فكان لا يمل من صلتهم وصلة قاصديه وراجيه ومؤمليه.

وكان كثير البرّ والمعروف على فقراء المدينة وكان يتصدّق عليهم في كل يوم جمعة بدينار ويقول : الصدقة يوم الجمعة تضاعف على غيره من الأيام.

وذكر المؤرخون : إنّه كان أقلَّ أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة ومع ذلك كان يجود بما عنده لانعاش الفقراء والمحرومين.

فقد روت مولاته سلمى فقالت : كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيّب ، ويلبسهم الثياب الحسنة ، ويهب لهم الدراهم ، وقد عذلته سلمى عن ذلك ، فقال لها : يا سلمى ! ما يؤمل في الدنيا بعد المعارف والإخوان ، وكان يقول : ما حسّنت الدنيا إلّا صلة الإخوان والمعارف.

٣٨٣
 &

إحياء مجالس الحسين عليه‌السلام

يُحيي مآسي الطفّ في بكاءِ

ويَنصبُ المجلسَ للعزاءِ

يقول للأمّةِ أحيوا أَمرنا

ولتحفظوا بيعتَنا وسِرَّنا

والله إنَّ هذهِ المجالسا

قد أصبحت لنهجنا مدارسا

تُعلّمُ الثورةَ والصمودا

وترسمُ البقاءَ والخلودا

دمُ الحسينِ زيتُها ونورُها

وثلةٌ قد دَميت نحورُها

ففي الحسينِ رايةُ الجهادِ

على المدى لثأره تنادي

وهكذا راح يصوغُ عصبه

مجبولةً بالخيرِ والمحبّه

كانوا له كنزاً من الوفاءِ

والصدقِ والإيثارِ والعطاءِ

قد عُرفوا بالعلمِ والعباده

فهم لدى الأمّةِ كانوا القادة (١)

__________________

(١) لقد اهتمّ الأئمة الأطهار بعد الإمام الحسين عليه‌السلام باحياء ذكرى عاشوراء اهتماماً خاصاً .. لأن واقعة كربلاء تمثل الحدث الأهم في تاريخ الاسلام وحياة الأمّة ، حيث حققت هدفين كبيرين :

الأوّل : بعث الروح النضالية في حياة الأمّة وتفادي سقوطها في اليأس والقنوط .. فكانت ثورة الحسين الأمل المشرق الذي رسم ملامح المستقبل بعد عقود العذاب والمحنة والمعاناة تحت وطأة الحكّام الأمويين.

=

٣٨٤
 &



__________________

=

الثاني : كشف ستار الشرعية المزيفة التي يتسترُ بها الحكّام على جرائمهم وفجورهم في حياة الناس. فقد بدأت تتصدع أركان الدولة الظالمة شيئاً فشيئاً عبر الثورات المتلاحقة التي اتّخذت من الحسين مشعلاً يضيء لها الطريق.

وكان للإمام الباقر عليه‌السلام الدور المتميز في ربط الناس بثورة الحسين عبر إحياء مجالس الذكرى بنفسه وإقامة العزاء على شهداء الطف في منزله وعبر الزمن تحولت هذه إلى مدارس للتوجيه والتعبئة الفكرية والسياسية والتربوية في حياة الفرد والأمّة وإلى يومنا هذا.

وقد تجسدت الشعائر الحسينية في سيرة أهل البيت عليهم‌السلام كما في بحار الأنوار وغيره من المصادر بما يلي :

١ ـ اظهار الحزن واقامة مجالس العزاء والبكاء على قتلى يوم الطف في كربلاء فكان الإمام الباقر عليه‌السلام يقول : مَن ذرفت عيناه على مصاب الحسين ولو مثل البعوضة غفر الله ذنوبه.

٢ ـ الزيارة : حثّ الإمام الباقر على زيارة قبر جدّه الإمام الحسين عليه‌السلام لتعميق الارتباط به فكراً ومنهجاً واستلهام روح الثورة ومعاهدته على الاستمرار على منهجه فإنّ الزيارة تعني الحبّ والوفاء والعهد والبيعة على التضحية من أجل الأهداف المقدّسة. وكان يقول عليه‌السلام : مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي وزيارته مفروضة على مَن أقرّ للحسين بالإمامة.

٣ ـ نظم الشعر وانشاده في ذكرى الحسين ورثاء الشهداء الذين بذلوا مهجهم دون الحسين في كربلاء.

٣٨٥
 &

أزمة النقد في الدولة الإسلامية

ما ظهرت مشكلةٌ في الأُمّه

وأصبحت على العباد غُمّه

إلّا وكان الباقرُ الطبيبا

لكلّ ملهوف غدا مجيبا

بعلمهِ باتَ يَحلُّ العُقدا

مستشرفاً بنور عقلهِ الغدا

وحين حلت أزمةُ « النقودِ »

في زمنِ الخليفة الرعديدِ

أعني به المشؤومَ عبد الملكِ

وهو ابنُ مروان طريدِ السككِ

مذ هدد الرومُ بشتمِ المصطفى

ونقشِ ذاك في النقودِ سرفا

فحار عبدُ الملك المشؤومُ

بما ستفعل العتاةُ الرومُ

ولم يجد بداً من الإذعانِ

لباقر العلم الإمامِ الحاني

فأَرسلَ الرسولَ نحو يثربِ

وقال إن جئتَ إلى دار النبي

فسوف تشهدُ الإمامَ الباقرا

ومن بعلمهِ يُعينُ الحائرا

بيّن لهُ محنتنا الكبيره

وما بنا من أزمة خطيره

وشُدَّ رحله لأرض الشامِ

فهو دعامةٌ إلى الإسلامِ

فحلَّ في دمشق نجلُ المصطفى

حيثُ ابنُ مروان بركبهِ احتفى

وحين راح يسردُ الحكايه

ولم تكن فيها له درايه

فابتسمَ الإمام ثم قالا

هَوّنَ فلن يُسلمَنا تعالى

فالأمرُ لم يبلغ مداه حَدّا

فابدأ وسكّ بالشام النقدا

٣٨٦
 &

واضرب دراهماً بذكرِ الهادي

وسورةِ التوحيد للعبادِ

وامنعهمُ عن سكةِ الغريبِ

وعملةِ التثليثِ والصليبِ

فعجب الناسُ من الإمامِ

وقيل :هذا رائدُ الاسلامِ

وانتهت المعضلةُ المخيفه

واغتمَّ في أحقاده الخليفه

ورجع الإمامُ للمدينه

من بعدِ حلِ أزمةٍ لعينه

كادت بأن تُديَ بالاسلامِ

لولا بيانُ حكمةِ الإمامِ (١)

__________________

(١) كان للإمام الباقر عليه‌السلام الدور الأكبر في مواجهة التحديات الصعبة التي تواجه الأمّة ، فهو الملاذ الذي يلجأ إليه المسلمون في المواقف الصعبة.

وكانت مشكلة النقد الاسلامي في عصره من أخطر المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي واجهت الدولة الاسلامية في عصره ، فقام الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام بأعظم خدمة للأمّة الاسلامية عبر الزمن ، فقد حرّر النقد من التبعية للامبراطورية الرومية ، حين كان النقد يُصنع هناك ويحمل شعار الروم النصارى ، وقد جعله الإمام مستقلاً بنفسه ، يحمل الشعار الاسلامي ، وقطع الصلة بينه وبين الروم المسيحيين.

أمّا قصة ذلك كما جاء في كتاب الإمام الباقر عليه‌السلام من موسوعة أعلام الهداية الصادر عن المجمع العالمي لأهل البيت ، فهي أن عبد الملك بن مروان نظر إلى قرطاس قد طرز بمصر فأمر بترجمته إلى العربية ، فترجم له ، وكتب عليه الشعار المسيحي « الأب والابن والروح » فأنكر ذلك ، وكتب إلى عامله على مصر عبد العزيز بن مروان بإبطال ذلك وأن يحمل المطرزين للثياب والقراطيس وغيرها على ان يطرزها بشعار التوحيد ، ويكتبوا عليها « شهد الله أنّه لا إله إلّا هو » وكتب إلى عمّاله في جميع الآفاق بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده شيء بعد هذا النهي.

وقام المطرزون بكتابة ذلك ، فانتشرت في الآفاق وحملت إلى الروم ، ولمّا علم ملك الروم بذلك انتفخت أوداجهُ ، واستشاط غيظاً وغضباً وكتب إلى عبد الملك أن عمل القراطيس بمصر ، وسائر ما يطرز إنّما يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته ، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا. فاختر من هاتين الحالتين أيّهما شئت وأحببت ، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك ، وأحببت أن تجعل رد

=

٣٨٧
 &

__________________

=

ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف من أصناف الأعلاق حالة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية.

ولما قرأ عبد الملك الرسالة أعلم الرسول أنّه لا جواب له عنده ، كما ردّ الهدية ، وقفل الرسول راجعاً إلى ملك الروم فأخبره الخبر ، فضاعف الهدية وكتب إليه ثانياً يطلب باعادة ما نسخه من الشعار ، ولمّا انتهى الرسول إلى عبد الملك ردّه مع هديته ، وظل مصمماً على فكرته ، فمضى الرسول إلى ملك الروم وعرّفه بالأمر ، فكتب إلى عبد الملك يتهدده ويتوعده ، وقد جاء في رسالته : إنّك قد استخففت بجوابي وهديتي ، ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فاضعفتها ، فجريت على سبيلك الأوّل وقد أضعفتها ثالثة ، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن بردّ الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام ، فينقش عليها شتم نبيّك ، فإذا قرأته ارفضّ جبينك عرقاً ، فأحب أن تقبل هديتي ، وتردّ الطراز إلى ما كان عليه ، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ، وتبقى الحال بيني وبينك.

ولمّا قرأ عبد الملك كتابه ضاقت عليه الأرض ، وحار كيف يصنع ، وراح يقول : أحسبني أشأم مولود في الإسلام ، لأنّي جنيت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شتم هذا الكافر ، وسيبقى عليَّ هذا العار إلى آخر الدنيا فإنّ النقد الذي توعدني به ملك الروم إذا طبع سوف يتناول في جميع أنحاء العالم.

وجمع عبد الملك الناس ، وعرض عليهم الأمر فلم يجد عند أحد رأياً حاسماً ، واشار عليه روح بن زنباع ، فقال له : إنّك لتعلم المخرج من هذا الأمر ، ولكنّك تتعمد تركه ، فأنكر عليه عبد الملك وقال له : ويحك ! مَن ؟. فقال له : عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأذعن عبد الملك ، وصدقه على رأيه ، وعرّفه أنّه غاب عليه الأمر ، وكتب من فوره إلى عامله على يثرب يأمره بإشخاص الإمام وأن يقوم برعايته والاحتفاء به ، وأن يجهزه بمائة ألف درهم ، وثلاثمائة ألف درهم لنفقته ، ولمّا انتهى الكتاب إلى العامل قام بما عهد إليه ، وخرج الإمام من يثرب إلى دمشق ، فلمّا سار استقبله عبد الملك ، واحتفى به وعرض عليه الأمر ، فقال عليه‌السلام : لا يعظم هذا عليك ، فإنّه ليس بشيء من جهتين : إحداهما إنّ الله عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأخرى وجود الحيلة فيه.

فقال : ما هي؟ قال عليه‌السلام : تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم

=

٣٨٨
 &



__________________

=

والدنانير ، وتجعل النقش سورة التوحيد وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدهما في وجه الدرهم ، والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي يضرب فيها ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة إلى العشرة منها وزن عشرة مثاقيل ، وعشرة منها ستّة مثاقيل ، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً ، فتجزئها من الثلاثين فيصير العدّة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان ، فتضرب الدراهم على وزن عشرة ، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.

وأمره بضرب السكة على هذا اللون في جميع مناطق العالم الإسلامي ، وأن يكون التعامل بها ، وتلغى السكة الأولى ، ويعاقب بأشدّ العقوبة مَن يتعامل بها ، وترجع إلى المعامل الاسلامية لتصب ثانياً على الوجه الإسلامي.

وامتثل عبد الملك ذلك ، فضرب السكة حسبما رآه الإمام عليه‌السلام ولمّا فهم ملك الروم ذلك سقط ما في يده ، وخاب سعيه ، وظلّ التعامل بالسكة التي صممها الإمام عليه‌السلام حتى زمان العباسيين.

وذكر ابن كثير إنّ الذي قام بهذه العملية الإمام زين العابدين عليه‌السلام ولا مانع من أن يكون الإمام زين العابدين فد نفّذ الخطة بواسطة ابنه محمد الباقر عليه‌السلام.

وعلى أيّ حال فإنّ العالم الاسلامي مدين للإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بما أسداه إليه من الفضل بإنقاذ نقده من تبعية الروم المسيحين.

٣٨٩
 &

حلمهُ وسعةُ صدره

وذات يومٍ سبهُ كتابي

وكال ما كال من السُبابِ

فقال أنت أُمُّكَ الزنجيه

والمرأةُ الطباخةُ البذيه

فابتسم الإمامُ ثم قالا :

إن كنتَ قد صدقتني مقالا

يغفر لها الله وإن كذبتا

فليغفر الله الذي ما قلتا

فبهت الكافرُ ثم تابا

لربّهِ وأسلمَ احتسابا

فقال ربّ اغفر وأنت الغافرُ

ما كنتُ ادري ما يُخبي الباقرُ !!

من خُلقٍ وعفّةٍ ورحمه

حاط بها الإمامُ كلَّ الأُمّه (١)

* * *

__________________

(١) كان الحلم من أبرز ملامح شخصية الإمام الباقر عليه‌السلام فكان يقابل الإساءة بالإحسان والبرّ والمعروف ويعامل الجهلاء بالصفح والحلم والحكمة ، وقد ذكر المؤرخون انّ رجلاً كتابياً هاجم الإمام عليه‌السلام واعتدى عليه وخاطبه بسيء القول : أنت بقر ! فتبسّم الإمام ووجهه مفعم بالمروءة والحب قائلاً : لا أنا باقر. فراح الرجل يواصل هجومه وإساءته قائلاً : انت ابن الطباخة !. فتبسّم الإمام ولم ينفعل بل قال له : ذاك حرفتها. ولم يقف الكتابي عن غيّه ، بل راح يهاجمٍ الإمام قائلاً : أنت ابن السوداء الزنجية البذية. ولم يغضب الإمام عليه‌السلام إنّما قابله باللطف قائلاً : إن كنت صدقت غفر الله لها ، وإن كنت كذبت غفر الله لك. وهنا بهت الكتابي ، وانبهر من عظمة أخلاق الإمام التي شابهت أخلاق الأنبياء ، فاعلن اسلامه واختيار طريق الحق والهدى.

٣٩٠
 &

صَبرهُ ورأفتهُ

وينقل الرواةُ أنَّ صبرَهُ

حيّر فيما ينقلونَ عصرهُ

ففي حديثٍ إنّهُ قد كانا

في صحبه يُعلّمُ القرآنا

إذ سمع الصيحةَ عند بيته

وصرخةً للموتِ في نسوته

وجاءه بعضُ الموالي مسرعا

فقال في السرّ له ما أفزعا

لكنّه ظل على هيبتهِ

يَزيدُ في القلوبِ من رهبتهِ

وقال إنّ الله قد أعطاهُ

ثمّ إلى جنتهِ دعاهُ

فجهّزوهُ واخفضوا البكاءا

وصبّروا الصبيانَ والنساءا

وقال أنتِ يا فتاةٌ حُرّه

فابتسمت في قلبها المسرّه

وعندما ساءَلَهُ الأصحابُ

أتاهمُ بالبسمةِ الجوابُ

من أن بعض ولده الثمانيه

في غفلةٍ قد أسقطتهُ الجاريه

فارتعبت خوفاً من العقوبه

لكنّها قد حُررت مثوبه (١)

__________________

(١) روى المؤرخون عن عظيم صبره إنّه كان جالساً مع أصحابه إذ سمع صيحة عالية في داره ، فأسرع إليه بعضُ مواليه فأسرّ إليه بشيء ، فقال عليه‌السلام : الحمد لله على ما أعطى ، وله ما أخذ ، إنههم عن البكاء ، وخذوا في جهازه ، واطلبوا السكينة ، وقولوا لها : لا ضير عليكِ أنت حرّة لوجه الله لما تداخلك من الروع.

=

٣٩١
 &



__________________

=

ورجع إلى حديثه ، فتهيب القوم سؤاله ، ثمّ أقبل غلامه فقال له : قد جهزناه ، فأمر أصحابه بالقيام معه للصلاة على ولده ودفنه ، وأخبر أصحابه بشأنه فقال لهم : إنّه قد سقط من جارية كانت تحمله فمات. عيون الأخبار وفنون الآثار / ٢١٨.

ومن الجدير بالذكر أنّ ولد الإمام الباقر سبعة كما ذكر المفيد في الإرشاد وهم : أبو عبد الله جعفر بن محمد ، وعبد الله بن محمد ، وأمّهما أمّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وإبراهيم وعبيد الله وأمّهما أمّ حكيم بنت أسد بن المغيرة الثقفية ، وعلي وزينب لأمّ ولد وأمّ سلمة لأمّ ولد.

وبعد اضافة الولد الذي مات بعد أن سقط من يد الجارية يكون المجموع ثمانية ..

٣٩٢
 &

وصيّتهُ الخالدة

وهكذا كان مدار الخُلقِ

في عفّةٍ ورأفةٍ ومنطقِ

يُوصي إلى شيعتهِ الوصايا

ويوصلُ الإكرام والهدايا

في كرمٍ قلَّ له نظيرُ

عاش به الغنيُّ والفقيرُ

يقولُ في وصيّةِ أخيره

شيعتنا من استقام السيره

فلتخلصوا في القول والأعمالِ

ولتنفقوا دوماً بلا سؤالِ

ولتكرموا الأصحابَ والأعداءا

ولتصدقوا حديثكم أداءا

لا تدخلوا غِشاً ولا خيانه

ولتحفظوا الوفاءَ والأمانه

ولتأمروا بالحقّ والعداله

واجتنبوا الشبهةَ والجهاله

كونا لنا زيناً وليس شينا

ولتصبحوا أدلةً علينا

فأنتم سراجُ هذا الدينِ

والحالمون الحقَّ في يقينِ (١)

__________________

(١) وكان للإمام الباقر عليه‌السلام عدّة وصايا لشيعته ومحبّيه وعموم المسلمين تمثل مناهج تربوية وأخلاقية رائعة ، نذكر منها وصيّته لأحد تلامذته وهو جابر بن يزيد الجعفي « رض » التي اشتملت على مبادئ الأخلاق في التعامل مع الآخرين ، حيث يقول عليه‌السلام كما في تحف العقول : أوصيك بخمس : إن ظُلمت فلا تَظلم ، وإن خانوك فلا تخن ، وإن كُذبت فلا تغضب ، وإن مُدحت فلا تفرح ، وإن ذُممت فلا تجزع ، وفكَّر فيما قيل فيك ، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جلّ وعزّ عند غضبك من الحق أعظم

=

٣٩٣
 &

__________________

=

عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك ، فثواب اكتسبته من غير ان يتعب بدنك ، واعلم بأنّك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك ، وقالوا : إنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح لم يسرك ، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله ، زاهداً في تزهيده ، راغباً في ترغيبه ، خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر ، فإنّه لا يضرك ما قيل فيك ، وإن كنت مبايناً للقرآن ، فماذا الذي يغرّك من نفسك ، إن المؤمن معنّي بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله ومرّة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله ، فينتعش ويقيل الله عثرته فيتذكر ، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف ، وذلك بأنّ الله يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ).

يا جابر ! استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلصاً إلى الشكر ، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراءً على نفسك وتعرضاً للعفو ، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم ، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل ، وتحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدّة التيقظ ، واستجلب شدّة التيقظ بصدق الخوف ، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة ، وتوقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل ، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم ، واسبق خالص الأعمال ليوم الجزاء ، وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص ، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة ، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل ، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس ، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس ، وتخلص النفس بصحّة التفويض ، واطلب راحة البدن بإجمام القلب وتخلص إلى إجمام القلب بقلّة الخطأ ، وتعرّض لرقّة القلب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن. وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق ، وإيّاك والرجاء الكاذب فإنّه يوقعك في الخوف الصادق ، وتزيّن لله عزّ وجلّ بالصدق في الأعمال ، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال. وإيّاك والتسويف فإنّه بحر يغرق فيه الهلكى ، وإيّاك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب ، وإيّاك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون ، واسترجع سالف الذنوب بشدّة الندم ، وكثرة الاستغفار ، وتعرّض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة ، واستعن على حسن المراجعة ، بخالص الدعاء ، والمناجاة في الظلم ، وتخلّص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق ، واستقلال كثير الطاعة.

=

٣٩٤
 &



__________________

=

واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر ، والتوسل إلى عظيم الشكر بخوف زوال النعم. واطلب بقاء العزّ بأماته الطمع ، وادفع ذلّ الطمع بعزّ اليأس ، واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمة ، وتزود من الدنيا بقصر الأمل ، وبادر بانتهاز البغية عند امكان الفرصة ، ولا امكان كالأيام الخالية مع صحّة الأبدان.

وإيّاك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء ، وأعلم إنّه لا علم كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب ، ولا عقل كمخالفة الهوى ، ولا خوف كخوف حاجز ، ولا رجاء كرجاء معين ، ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا قوة كغلبة الهوى ، ولا نور كنور اليقين ، ولا يقين كاستصغارك للدنيا ، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك. ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات ، ولا عدل كالإنصاف ، ولا تعدّي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كأداء الفرائض ، ولا خوف كالحزن ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا عدم عقل كقلّة اليقين ، ولا قلّة يقين كفقد الخوف ، ولا فقد خوف كقلّة الحزن على فقد الخوف ، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ، ورضاك بالحالة التي أنت عليها ، ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوّة كردّ الغضب ، ولا معصية كحبّ البقاء ، ولا ذلّ كذلّ الطمع ، وإيّاك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنّه ميدان يجري لأهله بالخسران.

٣٩٥
 &

وصيّتهُ الأخيرة

وبعد ذاك راح يوصي الصادقا

بأن يكون للهدى معانقا

ويحفظ القرآن والشريعه

ويُعطي الفقه رواة الشيعة

أوصاه أن يدفن في ثيابه

فإنّها شاهدةٌ لما به (١)

* * *

__________________

(١) روى الكليني في الكافي بسنده عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إنّ أبي قال لي ذات يوم في مرضه : يا بُنيَّ ! أدخل اُناساً من قريش من أهل المدينة حتى اُشهدهم ، فأدخلت عليه اُناساً منهم ، فقال : يا جعفر ! إذا أنا مت فغسلني وكفني وارفع قبري أربع أصابع ورشّه بالماء ، فلمّا خرجوا قلت : يا أبت ! لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن ادخل عليك قوماً تشهدهم ، فقال : يا بُنيَّ ! أردتَ أن لا تنازع ـ أي لا تنازع في الإمامة والخلافة من بعدي متى علموا إنّك وصي ـ

وروى الكليني في الكافي كذلك عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : كتب أبي في وصيته أن أكفنه في ثلاثة أثواب أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب آخر وقميص.

٣٩٦
 &

شهادته

من أثرِ السمّ الذي سُقيا

من آل مروان عُداة الأتقيا

وظل في محنته يُعاني

حتى قضى بسُمَّهِ « المرواني »

فحزنت مدينةُ النبوّه

لمّا قضى مَن كان فيها أُسوه

وحُملَ الباقرُ للبقيعِ

في موكبٍ محتشدٍ مُريعِ

صلّى عليه الصادقُ الإمامُ

وقد بكاهُ في الورى الاسلامُ

وناح من خلفِ الستور المصطفى

وقد نعاه للهدى أهلُ الوفا

وظل ذكرهُ على الشفاهِ

فإنّه من بركاتِ اللهِ

فعلمُهُ ليس له انتهاءُ

يحملهُ الآباءُ والأبناءُ (١)

__________________

(١) ذكر محمد بن جرير الطبري في دلائل الإمامة .. إنّ الإمام الباقر عليه‌السلام قد تعرّض للإعتقال في بلاد الشام ثمّ أطلق سراحه بسبب تأثيره على جماهير دمشق وكان ذلك على أثر مناظراته لزعيم النصارى هناك ودحض آرائه وتبيان زيفها والرد على كل الشبهات التي أثارها حول عقيدة التوحيد ورسالة الاسلام وشريعته المقدّسة ، ولم تتحقق للنظام الأموي غايتُه الدنيئة في محاصرة الإمام وإبعاده عن جماهيره الممتدة بامتداد شعوب الأمّة الاسلامية.

فقد رأت السياسة الأموية المنحرفة إنّه ليس هناك بُدٌّ من اغتيال الإمام ، وهكذا دُسّ إليه السم في عام ١١٤ هـ.

=

٣٩٧
 &



__________________

=

وقد اختلف المؤرخون في اليد الآثمة التي أقدمت على اقتراف الجريمة في قتله ، فمنهم مَن قال : إنّ هشام بن الحكم ـ كما في بحار الأنوار ـ هو الذي أقدم على اغتيال الإمام فدسّ إليه السم وهو القول الأرجح وذلك لشدّة حقد هشام على آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنهم مَن قال : إنّ الذي أقدم على سمّ الإمام هو إبراهيم بن الوليد أو انّه اشترك مع غيره في عملية اغتيال الإمام عليه‌السلام.

وهكذا ودّع الإمام الدنيا وهي حطام تحت قدميه وحمل إلى البقيع زكي النفس طاهر الأردان ورحل إلى ربّه سبحانه صابراً محتسباً.

وحلّ على الله ضيفاً كريماً مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، فسلام عليه يوم ولد ويوم رحل إلى ربّه ويوم يبعث حيّاً.

والحمد لله ربّ العالمين

٣٩٨
 &

الجزء الثامن

الامام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام

٣٩٩
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

٤٠٠