ملحمة قوافل النّور

حسين بركة الشامي

ملحمة قوافل النّور

المؤلف:

حسين بركة الشامي


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار الإسلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الإِهْدَاء

إلى الحسين ..

صرخةً ..

ورايةً ..

وجرحاً ..

١٨١
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

١٨٢
 &

اضاءة

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال :

حسين منِّي وأنا من حسين

كثير من الناس يفهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا على أنه كناية عن عظيم حبّه للحسين عليه‌السلام فحسب ، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير ، فهذه المقولة النبوية الشريفة تختزن في داخلها معنى عقيدياً ورسالياً كبيراً يمتد بامتداد خط الإمامة ودور الأئمة عليهم‌السلام في الحياة الإسلامية ، وهو إشارة الضوء الكبيرة التي تنير طريق الإنسان لتصنع له فجر الوعي والثورة ضد الانحراف والظلم عبر التاريخ ، ففي الفترات التي يخيم فيها الظلام ويمسك الشر بأسباب القوة والتفرعن ، ويوشك الانسان ان يضيع في متاهات الجهل والغفلة والضياع ، ويسحق تحت وطأة الطغاة ، يبرق سيف الحق والتحدي ، ويضيء قبس الفكر معالم الطريق مستمداً ارادته وقوة انطلاقته من منبع « حسين منِّي وأنا من حسين ».

فهذا القول اذن لم يكن كلمة عاطفية عابرة من كلمات الآباء للأبناء ، وليس مدحاً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسبطه الشهيد فحسب ، انما هو وسام مبدأ ، وعلامة إمامة ، ورسالة قيادة ، ووثيقة مقدسة للناس وللتاريخ ، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، وتبّت قواعد الدِّين ، وأرسى دعائم التوحيد ، فقام الإسلام رسالة شامخة راسخة وسط الصخور والأحجار ، ثم جاء الحسين ريحانته ، وبعد نصف قرن من الزمن الرديء ليوقف طغيان الزمن ، ويفجر في أمة جده وعي الثورة ويبعث روح النهضة والإصلاح ، ويشير للأجيال بسيفه الذي لم يسقط أبداً أن يعيدوا بناء الإسلام الذي بدأه النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويصونوا القرآن

١٨٣
 &

الكريم ، ويحفظوا السنة المطهرة من عبث العابثين ، وتحريف الطغاة والمستبدين ، بعد أن يتحرروا من الخوف والتردد ويضعوا عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .

إن قطرة دم واحدة من دم الحسين الطاهر كانت تكفي لإيقاظ الأمة واستعادة شخصيتها إلّا إنّه عليه‌السلام فجر كل الشرايين بشجاعة ، وقدم كل القرابين بسخاء ، ليضمن اليقظة الكاملة في حاضر الأمة ومستقبلها ، فمثل الحسين عليه‌السلام لا يبخل بالدم ، لأنّه ثأر الله من الظالمين على مختلف خطوط الصراع والمواجهة معهم.

من هنا يظل الحسين ترنيمة خالدة على شفاه الأحرار تملأ سمع الزمن ، كلما وصلنا إلى نهايتها نعود خاشعين إلى مطلعها الرائع ، فهو قصيدة الحزن التي لا تملّ ، وأنشودة الخلود التي لا تموت ، وهل تمل قصيدة في الحسين ؟ وكيف تموت تراتيل في كربلاء ؟!

مع الحسين يكون للحزن طعم الحب والجمال ، ومع ذكرى استشهاده يولد الرّفض والتحدِّي ، وفي يوم عاشوراء تكون الدموع تواشيح ولاء وأهازيج انتصار.

فسلام على الحسين ، مادامت السموات والارض ، وسلام عليه ما بقي الليل والنهار.

ورحمة الله وبركاته

١٨٤
 &

أدب المقَاتِل

تُعدّ كتب المقاتل نمطاً خاصاً من أنماط التصنيف التاريخي والأدبي ، فهي عرض وثائقي لأحداث تاريخية تغطي وقائع مقتل شخصية تاريخية لامعة ذات اثر في الحياة الاجتماعية تكون بمثابة البطل الذي تدور حوله أحداث القصة ، وقد كانت كتب المقاتل قبل استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام عام ٦١ هـ مختصرة ومحدودة في عدد من الشخصيات ورجال التاريخ الاسلامي ، لكنها كثرت بعد واقعة كربلاء ، حيث أصبحت تشكِّل اتجاهاً جديداً في أدب الكتابة والتأليف حتى أننا أصبحنا نحتاج إلى دراسات نقدية لأدب جديد هو أدب المقاتل في التراث العربي والإسلامي ، وقد بلغت مقاتل الحسين عليه‌السلام كما يذكر المؤرخون ومنهم صاحب الذريعة العشرات لعل أوّلها كان مقتل لوط ابن يحيى الأزدي الكوفي « أبي مخنف » المتوفّى عام ١٥٧ هـ والذي أفاد منه الطبري والشيخ المفيد وغيرهما من المؤرخين .

والملاحظ أن كتب المقاتل غير مقتل الحسين عليه‌السلام أمثال مقتل عمر بن الخطاب ومقتل عثمان ومقتل محمد بن أبي بكر ومقتل حجر بن عدي وآخرين انتهت في حدود فتراتها الزمنية ولم تعد إلّا جزءاً من التراث ، أما مقتل الحسين عليه‌السلام فإنّ الكتابة فيه ظلت متجددة لم تتوقف في أية مرحلة زمنية وفي لغات مختلفة ، حيث نلاحظ فنون الأدب والإبداع والإضافات والتحقيق المستمر للروايات وتجدد طريقة العرض والتصوير الفني لواقعة الطف الخالدة ، كما برزت فيه المواهب المتنوعة في اختيار الشواهد الشعرية ، والنصوص الأدبية ذات العلاقة بأحداث الطف وقصة كربلاء ، فبقيت تلك المأساة حية مع تطور الحياة وتجدّد الزمن .

١٨٥
 &

ويرجع سبب ذلك إلى أن ثورة الامام الحسين صرخة الحق الدائمة ضد الباطل فهي أكبر من حدث تاريخي وأوسع من مقتل شخصيات ، إنها حركة خارجة عن مدار التاريخ ومغايرة لطبيعة الأشياء ، ولم تستوعبها كتب التراث ، وفرق كبير بين أحداث التراث والتاريخ وأحداث الحياة ، فأحداث التراث تستغرق في الماضي وتتوقف عنده بلا حراك ، أما أحداث الحياة فهي نبض الماضي وتحرك الحاضر باتجاه المستقبل بل هي حركة الانسان المتجددة نحو التحرر والانعتاق.

إنّ ثورة الحسين عليه‌السلام صنعت التاريخ وغيرت تشكيل الأشياء ورسمت ملامح الزمن القادم ، وكانت لها دلالات عميقة مؤثرة في مسار الأمة الإسلامية منذ وقوعها وحتى اليوم وستستمر إلى ما شاء الله .

ومن خلال مواصلتي في إعداد مشروع « قوافل النور » حرصتُ في هذا الجزء الذي هو الخامس من هذه الملحمة على استيعاب حياة الامام الحسين عليه‌السلام ودوره التاريخي بدءاً من ميلاده الشريف وانتهاءً بمقتله مع أهل بيته عليهم‌السلام وأصحابه الكرام ، معتمداً على أشهر الروايات في واقعة كربلاء ، وتركت ما لم تثبت عندي وثاقته من أحداث ووقائع حرصاً على أن تأتي هذه الملحمة المباركة مطابقة للصحيح المشهور في مقتل الامام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام وقد ضمنتها الكثير من الرجز المعروف الذي قيل على لسان سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه الأبطال ، وهم يبتسمون للشهادة ، وينشدون أنشودة الخلود وسط أتون المعركة.

وكان هدفي من ذلك تسهيل مهمة خطباء المنبر الحسيني الشريف في تقديم مادة أدبية وتاريخية عند تناولهم مأساة كربلاء للجمهور الإسلامي الذي يتطلع للاقتداء بأولئك الابطال النادرين.

ولاعتقادي أنّ ثورة الحسين هي مادة ثقافية تربوية ضرورية لتشكيل عقلية الجيل الإسلامي الجديد ، الذي لم يتوفر على طريقة استيعاب الرواية التاريخية من

١٨٦
 &

مصادرها فيما تبقى روحه وشخصيته تواقة إلى سماع الشعر ومناغمة الأناشيد ، الأمر الذي يجعل واقعة كربلاء قريبة متفاعلة مع وجدانه وأحاسيسه.

كما حرصت أن تأتي هذه الملحمة شاملة وتفصيلية لكل وقائع الثورة وظروفها بما في ذلك أسماء الرجال والأمكنة ، استناداً إلى أشهر المصادر التاريخية القديمة مثل تاريخ الطبري ، واليعقوبي ، وغيرهما ، والحديثة مثل أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ونهضة الحسين لأسد حيدر ، وحياة الإمام الحسين للشيخ باقر شريف القرشي ، ومثل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ، وأنصار الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين ، وغيرها من الكتب والمصادر المتوفرة في مكتبة مؤسسة دار الإسلام في لندن.

والله يعلم كم كنت أعاني من صعوبة المحافظة على نصوص المقتل وانسجامها مع الوزن والقافية وهو أمر يعرفه من مارس مثل هذه التجربة . ولا أدّعي أنني أحطتُ بكامل أحداث الثورة ووقائعها ، لكنّني آمل من الأدباء والخطباء الأعزاء ومن جميع المهتمين بالبحث التاريخي بشكل عام وبثورة الحسين عليه‌السلام على وجه الخصوص أن يوافوني مشكورين بملاحظاتهم وآرائهم الصائبة ليتسنى لي تداركها في طبعات قادمة إن شاء الله.

هو الحسين قافية الشعر الغضّ الطري ، فلا ينقضي عجبي من شاعر لا يعرف لحنها ولا يجيد إيقاعها ، وأحسب أن جميع دواوين الشعر تظلُّ بتراء ما لم تضم حرف الحسين ، أما أنا فحسبي من هذه الملحمة أن تكون فصلاً ممزوجاً بالدموع وجزءاً موصولاً بذلك الحرف المقدّس.

والكمال لله وحده وهو حسبي عليه توكلت وإليه أُنيب.

١٨٧
 &

ملحمة قوافل النور في سيرة النبي وأهل بيته

١٨٨
 &

المولد المبارك

مِنْ بَعْدِ أنْ أضاءَ بيتُ المصطفى

بالحسَنِ الزكيِّ حِينَ أشرفا

يَنتظرُ النبيُّ شِبْلَ ابْنَتهِ

في عامهِ الرابعِ مِنْ هجرتهِ (١)

مُستبشراً بمولدِ الحسينِ

مُبْتَسِماً ودامِعَ العَينينِ

مُبتسماً بفرحةِ الوليدِ

وباكياً لغُربةِ الشهيدِ (٢)

وحينَ جاءتْ فاطِمٌ بطفلِها

إلى أبيها والوصيِّ بَعْلِها

قبَّلهُ النبيُّ في عَينيهِ

ورتَّلَ الأَذانَ في أُذنَيهِ (٣)

وقالَ : هذا ولَدِي منْ فاطمهْ

تقتلهُ الأمةُ بَعدي ظالمهْ (٤)

وراحَ يرعاهْ بكلِّ حبِّهِ

كأنَّما يسكُنُ وسطَ قلبهِ

__________________

(١) بعد أقل من عام من ولادة الإمام الحسن الزكي وفي اليوم الثالث من شهر شعبان على أشهر الروايات من السنة الرابعة للهجرة النبوية ولد الإمام الحسين عليه‌السلام في بيت علي وفاطمة في المدينة المنورة.

(٢) غمرت الفرحة بيت النبوة بمولد الحسين عليه‌السلام واستبشر رسول الله بخبر ولادته ، ولكن الغريب في الأمر ان الفرحة توشحت بالحزن فاعتصر قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالألم وامتزجت البسمات بالدموع.

(٣) أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولد الحسين عليه‌السلام فضمه الى صدره وقبله بين عينيه وأذن في أذنه اليمنى وأقام في الاُذن اليسرى. على نحو ما فعل مع أخيه الحسن عليه‌السلام يوم ولادته.

(٤) في اليوم السابع من ولادته وبعد إجراء مراسيم المولود من الحلق ، والعقيقة ، والصدقة ، طلبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبلت به أسماء بنت عميس فأخذه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكى ، فسألته أسماء عن سبب بكائه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية من بني أمية لعنهم الله لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة .. يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم.

١٨٩
 &

يُرضعهُ إبهامَهُ الشريفا

يُلبسهُ فخارَهُ المُنيفا

رأى بهِ مسيرةَ الإمامهُ

قبّلهُ في عنقهِ علامَهْ (١)

* * *



__________________

(١) إنّ الأئمة إثنا عشر إماماً كعدد نقباء بني إسرائيل ، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة متواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوّلهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ثم الحسن عليه‌السلام ثم الحسين ثم تسعة من ذرِّية الحسين عليه‌السلام ، فقد انحصرت الإمامة في ولده عليه‌السلام.

١٩٠
 &

شمائلُ الحسين عليه‌السلام

ملامحُ النبيِّ فيهِ باديّهْ

شفاهُهُ والمقلتانِ الحانيَهْ

قالَ أبوهُ : مَنْ أرادَ أنْ يَرى

وجهَ النبيِّ الطاهرَ المُطهّرا

فَلْيَنظُرِ الحسينَ في صفاتهِ

وهديهِ وعلمهِ وذاتهِ

طلعتُهُ كَالبدْرِ حينَ يُشرقُ

ووَجْنَتاهُ مِثْلُ أُفق يَبرقُ

هَيبتهُ تَعنُو لها الجِباهُ

ولمْ تكنْ عِندَ فَتىً سِواهُ

لقَّبَهُ الرسولُ بالشهيدِ

والطيّبِ المباركِ الرَّشيدِ

والسبطِ والصبورِ عندَ المحنَهْ

وسيدِ الشبابِ عندَ الجنَّهْ (١)

يَحُطُّ فوقَ مهدهِ جِبريلُ

يَبكي على بُكائِه الرَّسولُ

يَحمِلهُ دوماً على منْكَبِهِ

يقول : أنَّ حبّهُ منْ حبِّهِ

حُسينُ منّي قالها المختارُ

وإنَّني مِنهُ وذا فخارُ (٢)

ودّرجّ الحسينُ نحوَ السؤدَدِ

منْ فاطم يَعْدو الى محمّدِ

يسمعُ همسَ الذِّكْرِ والتنزيلِ

والآيِ مِنْ رَبِّ السما الجليلِ

__________________

(١) كان الإمام الحسين أشبه الناس بجده رسول الله خَلقاً ، وخُلقاً ، وهيبة ، وقد لقّبه النبي ـ كما جاء في كتب التاريخ ـ بعدة ألقاب منها : الشهيد ، والطيب ، والمبارك ، والرشيد ، والسبط ، والصابر ، وسيد شباب أهل الجنة.

(٢) لقد تواترت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الحسين كان يحظى برعاية خاصة منه ، وكان يُذكِّر بمنزلته وفضله وحبِّه له في كل مناسبة ، ليُعرِّف المسلمين بقيمته وموقعه في حركة الرسالة ، لأنه يريد أن يمهِّد أذهان الأمّة إلى دور الحسين القادم في إحياء الدين ومواجهة الظلم والانحراف.

فكان يحمله مع أخيه الحسن على منكبيه ويقول : « اللّهمّ إنِّي أحبّهما فأحبّ مَن يحبّهما » ويقول كذلك : « حسين منِّي وأنا من حسين ». وهذه إشارة بالغة بوحدة الدور والاتجاه في تبليغ الرسالة وحماية نهجها.

١٩١
 &

يجسِّدُ القرآنَ في خصالهِ

فهوَ شبيهُ أحمد مِنْ آلهِ

حتّى اذا ما رحلَ النبيُّ

وفاطِمٌ واهتُضِمَ الوصيُّ

صَبّتْ عليهِ جامَها المصائِبُ

واستفردَتْ بروحهِ النوائِبُ

لكنَّهُ واجَهَها بالصبْرِ

وجرأةِ الفتى الشجاعِ الحرِّ (١)

وتحتَ رايةِ الوصيِّ سارا

للحربِ يُطْفي باللهيبِ نارا

يقتحمُ الصفِّ غَداةَ « الجَمَلِ »

ويومَ « صفِّينَ » يُناديهِ « عَلي »

عُدْ كَي يَظلَّ النسبُ المُطهرُ

كالنورِ يهتدي اليهِ البشَرُ (٢)

وعايشَ المحنةَ والمصاعِبا

حتى هوى الوصيُّ جُرحاً غاضِبا

مُتَّبِعاً وصيةَ الإمامِ

مُبايعاً للحسنِ الهُمامِ

وحينَ تمَّ الصلحُ كانَ صابرا

وظلَّ للزكيِّ صوتاً ناصراً (٣)

حتّى قضى السبطُ الزكيُّ سُمّا

باتَ الحسينُ مكمداً مهتمّا

__________________

(١) عاش الإمام الحسين عليه‌السلام غربة وحزناً بعد وفاة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يرعاه ويحتضنه بالحب ، والحنان ، وهمسات الوحي وآيات الذكر والتنزيل ، ثم شهد هول الصدمة بانقلاب الناس وتراجعهم عن تطبيق وصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واغتصاب حق أبيه وهضم ميراث امه الزهراء عليها‌السلام ولكنه كان رغم صغر سنه يواجه قساوة المحنة بوعي كبير ، وإرادة صلبة ، فقد أخذ من جدّه حلمه ، وحكمته ، ومن أبيه صبره وشجاعته.

(٢) واكب الإمام الحسين عليه‌السلام سير الأحداث التي جرت على المسلمين بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعايش فصول هذه المحنة الطويلة ، وشارك أباه في حرب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، وكان في مقدمة الصفوف ، حتى قال الإمام علي عليه‌السلام لأصحابه وقد اشتدت معركة صفين ، وكان الحسنان في الطليعة يخوضان غمارها : « أملكوا عني هاذين الغلامين لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله ».

(٣) بعد استشهاد الإمام علي عليه‌السلام بايع الإمام الحسين أخاه الحسن بالخلافة ، وكان معه في فصول محنته ، يشاهد خذلان الناس له فيقف معه ناصراً ، وبعد توقيع معاهدة الهدنة بين الإمام الحسن ومعاوية ، ظل الحسين لأخيه عضداً يؤازره ويواسيه.

١٩٢
 &

الحسين عليه‌السلام ومشروع الثورة

وأقبلَتْ شيعتُهُ اليهِ

مُلقيةً آمالَها لديهِ

تَدعو الى الثورةِ والجهادِ

فالشامُ فيها الغاصبُ المُعادي

لكنَّهُ باتَ حَلِيسَ الدارِ

يأمرهُم فيها بالانتظارِ

حتّى هلاكِ ابنِ أبي سفيانِ

وعندَها تعلُو ظبى الايمانِ

وراحَ يرعى الناسَ في المدينَهْ

بالحبِّ والعطاءِ والسكينَهْ (١)

* * *

__________________

(١) بعد شهادة الإمام الحسن عليه‌السلام بدسيسة من معاوية ، تطلّع شيعة العراق إلى الإمام الحسين عليه‌السلام كي يقودهم في عمل ثوري ضدّ معاوية ، لكنه عليه‌السلام كان يرى أنّ الظروف وطبيعة الاتفاق وبنود الصلح الموقّع مع معاوية لا تسمح بتحرّك من هذا القبيل ، فكان يوجههم نحو الصبر والانتظار حتى يهلك معاوية ، وخلال فترة الانتظار كان يُمارس دوره الفكري والاجتماعي في الأمّة.

١٩٣
 &

ضحايا العقيدة من أصحاب الإمام علي عليه‌السلام

والشامُ في أحقادِها تَفورُ

تسبُّ حيدراً بما تَجورُ

تطاردُ الاحرارَ في العراقِ

وقدْ تمادَتْ بالدمِ المُراقِ

فقتلَتْ « حجرَ » الكرامِ ابنَ عدِي

وهوَ حبيبُ المرتضى وأحمدِ

وقتلتْ ظلماً « رُشيدَ الهجرِي »

« وعَمرو بنَ الحَمْقِ » المفتخرِ

وقتلتْ « أوفَ بنَ حُصنٍ » بعدَه

« والحَضرميَّ » أوردتْهُ لحدَهْ

وقطَعتْ صبراً يَديَ « جُويرِيَّهْ »

« وابن فسيل » حيثُ نالَ الأُمنيَهْ

وميثمٌ قصتُهُ معروفَهْ

في عشرة قد صُلِبوا في الكوفَهْ

ورُوّعَ « المِرقالُ » « وابْنُ الطائِي »

وقُيِّدَتْ « سودَةُ » « بالزرقاءِ »

ومنعَ الطاغي عطاءَ الشيعَهْ

وهيَ لعمري فعلةٌ شنيعَهْ

وهدِّمَتْ دُورُ مُحِبِّي فاطمَهْ

فقُطعتْ تلكَ الأكفُّ الهادمَهْ

ورُفِضَتْ شهادةُ الابرارِ

وقُبِلَتْ شهادةُ الفُجّارِ

وأُبعِدَ الاخيارُ منْ صحْبِ « عَلِي »

الى بلادِ فارس والجبلِ (١)

__________________

(١) في تلك الفترة من حكمه صعّد معاوية حملته الشرسة ضدّ أهل العراق وشيعة عليّ خاصّة ، فتتبّع كل محبّ لأهل البيت عليهم‌السلام وأصدر أوامره « أن برئت الذمّة ممّن والى أبا تراب فاهدموا عليه داره ، وامسحوا اسمه من الديوان » ، وهذه أبشع حرب إرهابية ؛ لأنّها تعني موت الأبرياء ، وتجويع الأطفال ، فقُتِل نتيجة هذه الحرب العدوانية جمع مبارك من الصحابة والتابعين وحفظة القرآن أمثال :

=

١٩٤
 &



__________________

=

ـ حجر بن عدي الكندي وجماعته.

ـ عمرو بن الحمق الخزاعي.

ـ أوفى بن حصين.

ـ شريك بن شدّاد الحضرمي.

ـ جويرية بن مسهر العبدي.

ـ ميثم بن يحيى التمّار. وغيرهم كثير.

كما انّه تم وحسب هذه السياسة الحاقدة تهجير آلاف الأُسر ، وهدم بيوت الآمنين ، وصدرت التعليمات بعدم قبول شهادة أي شيعي في القضاء ، في حين كانت تقبل شهادة أناس معروفين بالفسق والفجور وارتكاب الفواحش ، وبذلك قلب معاوية موازين العدل ومسخ أحكام الشريعة.

١٩٥
 &

هلاك معاوية وخلافة يزيد

وذاتَ يوم أقبلَ البريدُ

مِنْ جِهَةِ الشامِ بما يُريدُ

مُخبِّراً عنْ موتِ أعتى طاغيَهْ

فَقدْ قضى في قصرهِ « معاويَهْ »

مُنَصِّباً مِنْ بعدهِ يَزِيدا

العابثَ الزنديقَ والرِّعْدِيدا (١)

وأصبحَتْ خلافةُ الرعيَّهْ

مُلكاً عَضُوضاً لبَني أُمَيَّهْ

فكيفَ يرضى السبطُ هذا يا تُرى

وهوَ الذي مِنَ السماءِ أُمّرا

ويومَ أرسلَ الوليدُ خلفَه

يسألهُ بيعتَهُ أوْ حتفَه

فهلْ يُبايعُ « ابنَ هند » قَهْرا

وأمُّهُ بِنتُ النبيِّ الزَّهرا

والبيتُ شاهِدٌ لهُ والحرَمُ

والطائِفونَ والصَّفا وزَمْزَمُ

بأنَّهُ سيّدُ أهلِ عصرهِ

وأنَّهُ خيرُ رجالِ دَهْرهِ

__________________

(١) وعندما هلك معاوية تولى ابنه يزيد الخلافة من بعده ، بعد أن فرضه على المسلمين وفقاً لسياسة الترغيب والترهيب التي عرف بها في حكمه ، وبذلك أصبحت الخلافة ملكاً وراثياً في بني أُمية ومن جاء بعدهم.

وأما يزيد فهو شاب متهور ، نزق ، مهزوز الشخصية اشتر بالفسق والمجون ، ولم تكن له سابقة دين ، أو جهاد ، أو أخلاق ، فقد كان يتجاهر بشرب الخمر وارتكاب المحرمات وكان مولعاً بالطيور والقرود والعبث.

١٩٦
 &

وعندَما دَعا « الوليدُ » الوالي

« ثلاثةً » مِنْ أبرزِ الرجالِ

كانَ الحسينُ أولَ الآتِينا

مع ثلَّة مِنْ هاشم شاكِّينا

قال لهم : كونوا على الابوابِ

واستَمِعوا للردِّ والجوابِ

فإنْ عَلا صَوتي معَ ابنِ عتبَهْ

اقتحِمُوا البابَ بكُلِّ غَضْبَهْ

وحينَ وافى قُرِئَ الكتابُ

فاسترجَعَ الحسينُ لا يَهابُ

لكنهُ لم يُعْطِ كفَّ البيعَهْ

ولم يشَأ بأنْ تكونَ خُدْعَهْ

فقالَ : في غَد وأخفى أمْرا

بيعةُ مِثلي لا تكونُ سِرّا

فرَدَّ « مروانُ » على « الوليدِ »

خذِ الحسينَ الآنَ بالحديدِ

فوثبَ الحسينُ يعلو نُطْقا

أنتَ تقولُ ذاك يا ابنَ الزرقا

كذبتَ واللهِ فأنتَ أولى

بالقتلِ مِنِّي وأنا ابنُ « المَوْلى »

* * *

١٩٧
 &

الحسين عليه‌السلام يُقرِّر مشروع الثورة

وصرخَ الوليدُ كيفَ أقتُلُ ؟

هذا وجدُّهُ النبيُّ المرسَلُ

فرجعَ الحسينُ وهو ثائرُ

يَضمِرُ أمراً ولهُ يُغادرُ (١)

فزارَ قبرَ جدِّهِ مُودِّعا

يَلثمُ رملَهُ ويُرخي المَدْمَعا

__________________

(١) كان حكم يزيد يحتاج إلى اخذ البيعة من المسلمين خصوصاً الشخصيات البارزة في المجتمع الإسلامي لكي يستقر حكمه ، ويستتب له الأمر ، فأرسل كتاباً إلى والي المدينة الوليد بن عتبة يأمره بأخذ البيعة من عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، ومن الحسين بن علي خاصة.

وكيف يمكن للحسين عليه‌السلام أن يبايع حاكماً فاجراً مثل يزيد ؟! والحسين بضعة النبي وسيد شباب أهل الجنة ، هذا بغضّ النظر عن بنود معاهدة الصلح التي وقعها معاوية ، والتي نصت على أن يكون الأمر للحسين في حالة وفاة أخيه الحسن ، وموت معاوية.

وعندما أرسل الوليد في طلب الحسين عليه‌السلام اخذ الإمام حذره ، فاصطحب معه ثلة من فتيان بني هاشم المسلحين ، وقال لهم كونوا على باب بيت الوالي ، فإن رأيتم صوتي قد علا فاقتحموا الدار ، وحينما دخل الحسين عليه‌السلام قرأ الوالي كتاب موت معاوية وخلافة يزيد ، وطلب منه أن يبايع اللحظة ، وكان في المجلس مروان بن الحكم ، ولكن الحسين عليه‌السلام استرجع ـ أي قال : « إنا لله وإنا إليه راجعون » ـ ورفض البيعة ، فأشار مروان على الوليد أن يأخذ البيعة بالقوة ، أو يقتله ، وأن لا يدع الفرصة تفلت من يده ، فوثب الحسين عليه‌السلام مخاطباً مروان بنبرة قوية واثقة : يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو ؟! كذبت وأثمت ، ثم قال للوليد : مثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة ، فسمع فتيان بني هاشم ارتفاع الأصوات فاقتحموا الدار وأخرجوا الإمام ، فعاد الحسين عليه‌السلام وهو يفكر في أمر الأمة ومصيرها في ظل حكم يزيد بن معاوية.

١٩٨
 &

يقولُ : يا جدّاهُ ذا الفراقُ

رِحالُنا محطُّها « العِراقُ »

فجمعَ الركبَ لكيْ يَسيرا

وأخبرَ الكبيرَ والصغيرا

بأنهُ مسافرٌ لنينوى

فهوَ الى الثَّورةِ قَدْ شدَّ اللِّوا

فاعترضتْ كبارُ آلِ هاشمِ

إنْ شئتَ سافِرْ دونَما الفواطمِ

لكنْ أجابَ : خالقُ البرايا

قدْ شاءَ أنّها تُرى سبايا

وأنْ يَراني قَبلها مُرمّلا

وأنْ يكونَ مَقْتلي بكَرْبلا

فارتفعَ البكاءُ والعَويلُ

مُذْ أيْقَنوا بأنَّهُ قَتِيلُ

فسارَ والرَّكبُ لهُ رَنِينُ

وفي القلوبِ خلفَهُ حَنِينُ (١)

حتى أراحَ ركبَهُ في الحرمِ

لم يُعْطِ بيعةً ولمْ يسْتَسلمِ

يطوفُ في البيتِ ويدعو ربَّهْ

مُصلِّياً مُعتمِراً في الكعبَهْ

يَلْتفُّ حولهُ الأُباةُ البرَرَهْ

مِنْ هاشم وجعفر وحيدرَهْ

يكتبُ للأَمصارِ أنْ تَهيَّأُوا

لثورة عارِمة لا تَهْدأُ

* * *



__________________

(١) قرر الإمام الحسين عليه‌السلام أن يغادر المدينة إلى مكة فغادرها أواخر شهر رجب عام ٦٠ للهجرة حيث أخذت الأمور تسير باتجاه الثورة ، فودع قبر جده المصطفى بالدموع والشكوى وجهز نفسه وأهل بيته للسفرة الأخيرة ، وشاع خبر رحيل الحسين ، فبادر جماعة من أهل بيته إلى نصحه بترك السفر وبادر بعض أبناء الصحابة ايضاً إلى ذلك ، ولكنه كان يرى ما لا يرون ، فمضى يطوي المسافات في طريقه إلى مكة.

١٩٩
 &

رسول الحسين عليه‌السلام إلى أهل البصرة

مِنَ الحسينِ بنِ عليٍّ كتَبا

لشيعةِ البصرةِ أصحابِ الإِبا

« لمالكِ البكري » وابنِ الهيثمِ

« والاحنفِ بنِ قيسٍ » المقدّمِ

وآخرينَ منْ وجوهِ الشيعَهْ

وثلّة سامعةٍ مُطيعَهْ

بأنني أحقُّ مِنْ يَزيدِ

بالنصرِ والبيعةِ والتأييدِ

وحينَ وافى البصرةَ الرسولُ

خانَتْ بهِ الأَبطالُ والفُحولُ

فسلَّموهُ غِيلةً عَشِيَّهْ

لابنِ زياد وبَني أُميَّهْ

وقدَّم الرسولُ نحوَ الصَلبِ

مِنْ غيْرِ ما جريرةٍ أوْ ذنبِ (١)

* * *

__________________

(١) دخل الحسين عليه‌السلام مكة في شعبان عام ٦٠ للهجرة ، فكتب الى رؤساء الشيعة في البصرة وهم مالك البكري ، والأحنف بن قيس ، والمنذر بن الجارود ، ومسعود بن عمرو ، وقيس بن الهيثم ، وعمرو بن عبيد بن معمر وغيرهم. ورغم اعتقال السلطات الأموية في البصرة لرسل الحسين الا ان شيعة البصرة استجابوا بقوة لنداء الحسين عليه‌السلام ولكن تسارع الأحداث لم يمكنهم من الوصول الى كربلاء في الوقت المناسب للمشاركة في أحداث عاشوراء الدامية.

٢٠٠