البيان الرابع : ما أفاده بعض الأعاظم في رسائله حيث قال : « أمّا وجه حجّية مثبتات الأمارات فهو أنّ جميع الأمارات الشرعيّة إنّما هى أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع ، وليس فيها ما تكون حجّيتها بتأسيس من الشرع كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجّيته وخبر الثقة ... ومعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع لا للتعبّد بالعمل بها ، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه فكما أنّ العلم بالشيء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقاً فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها ... ولو حاولنا إثبات حجّية الأمارات بالأدلّة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حجّية مثبتاتها ، بل ولا لوازمها الشرعيّة إذا كانت مع الواسطة الشرعيّة » (١).
وفيه : أوّلاً : أنّا نمنع الصغرى ، وهى كون جميع الأمارات إمضائيّة ، لأنّ بعض الأمارات كالقرعة لا إشكال في أنّها تأسيسيّة فيما إذا كان هناك واقع في البين ولم تكن القرعة لمجرّد حسم مادّة النزاع ، كما هو كذلك غالباً ، فإنّ المنساق من أدلّة حجّية القرعة في الشرع أنّها كاشفة عن الواقع غالباً أو دائماً إذا اجتمع فيها شرائطها ، فقد ورد في الحديث النبوي : « ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّخرج السهم الأصوب » وكذا ما ورد في الدعاء المأثور عند إجراء القرعة : « اللهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه » وفي رواية اخرى : « اللهمّ أنت الله لا إله إلاّ أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فبيّن لنا أمر هذا المولود » وكذا ما ورد في قضيّة يونس وقضيّة عبدالمطّلب وغير ذلك من القرائن التي يغني تظافرها عن ملاحظة إسنادها ، فمن جميع ذلك يعلم أنّ القرعة أمارة شرعيّة حيث لا أمارة ، ويؤيّده ما ورد في أمر الاستخارة فإنّها نوع من القرعة يطلب منها الكشف عن المصالح الواقعيّة لا مجرّد رفع الحيرة (٢).
إن قلت : إذا كانت القرعة من الأمارات فلابدّ من تقديمها على الاصول العمليّة مع أنّه لا يقول به أحد.
قلنا : المستفاد من ظواهر أدلّة القرعة أو صريحها أنّ كاشفيتها منحصرة بما إذا أشكل الأمر وسدّت أبواب الحلّ وطرق الفتح ، وهذا لا يصدق إلاّفيما إذا لم توجد في البين أمارة ولا
__________________
(١) الرسائل : ج ١ ، ص ١٧٨.
(٢) وإن شئت توضيح الحال في جميع ذلك فارجع إلى القواعد الفقهيّة ، القاعدة السادسة ( قاعدة القرعة ).