وأمّا القول الثالث فاستدلّ المحقّق النائيني رحمهالله له بأنّ التخيير إذا كان في المسألة الفقهيّة كان كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة ، فللمكلّف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارةً ، وبمضمون الآخر اخرى ، إلاّ أن يقوم دليل على خلاف ذلك ، وأمّا إذا كان التخيير في المسألة الاصوليّة فإنّ معناه هو التخيير في جعل أحد المعارضين حجّة شرعية وأخذ أحدهما طريقاً محرزاً للواقع ، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أوّلاً وجعل مؤدّاه هو الحكم الكلّي الواقعي المتعلّق بأفعال المكلّفين فلا معنى لإختيار الآخر بعد ذلك (١).
أقول : الحقّ أنّه لا ملازمة بين القول بالتخيير في المسألة الاصوليّة وكونه بدويّاً ، لإمكان جعل المجتهد مخيّراً في هذه المسألة مستمرّاً ، كما أنّ الأمر في المسألة الفرعية أيضاً كذلك ، إنّما الكلام بحسب مقام الإثبات وظواهر أدلّة التخيير ، فإن كانت هى إطلاقات السعة فهى ظاهرة في الاستمرار ، وإن كانت هى مرفوعة زرارة فهى ظاهرة في التخيير البدوي ، ولو شكّ في ذلك فقاعدة الاحتياط حاكمة بالتخيير البدوي لعين ما مرّ في المسألة السابقة التي دار أمرها بين التعيين والتخيير ، هذا كلّه مع قطع النظر عمّا عرفت من لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجية من التخيير الاستمراري.
المشهور والمعروف وجوب أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التخيير وذهب بعض كالمحقّق الخراساني رحمهالله إلى عدم وجوبه ، والأقوى هو ما ذهب إليه المشهور ، ويدلّ على ذلك امور :
الأوّل : الأخبار
فإنّها تأمر بالترجيح ، والأمر ظاهر في الوجوب وهى على طوائف :
الطائفة الاولى : ما يدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من مرجّحين وهى عديدة :
__________________
(١) راجع فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ٧٦٨ ، طبعة جماعة المدرّسين.