إن قلت : فكيف أفتى الفقهاء بعدم صحّة العبادات الضرريّة مثل الصوم والوضوء الضرريّين؟
قلنا : إنّ قدماء الأصحاب بل وكثير من متأخّريهم إستندوا فيها بقاعدة لا حرج ، ولم يستندوا إلى قاعدة لا ضرر ، مع استدلالهم بها في أبواب المعاملات مثل خيار الغبن وغيره ممّا يرجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض ، فهذا هو شيخ الطائفة في كتاب الطهارة من الخلاف (١) ، والمحقّق رحمهالله في المعتبر (٢) والعلاّمة رحمهالله في التذكرة وصاحب المدارك في المدارك كلّهم استندوا في مسألة الوضوء الضرري بقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ولم نر استنادهم إلى قاعدة لا ضرر في هذه المسألة وفي غيرها من أبواب العبادات الضرريّة وغيرها من التكاليف التي تكون من حقوق الله ، ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض ، وكذلك غيرهم من الفقهاء الأعلام رضوان الله عليهم فيما حضرنا من كلماتهم ، ( وأظن أنّ الاستناد بهذه القاعدة في هذه الأبواب نشأ بين المتأخّرين أو متأخّري المتأخّرين من الأصحاب ) وهذا بنفسه من المؤيّدات على مقالتنا ، وذلك لصرافة أذهانهم واستقامة أنظارهم في فهم المفاهيم العرفيّة من الكتاب والسنّة.
هذا ولو تنزّلنا وحكمنا بإجمال القاعدة من هذه الجهة فلابدّ أيضاً من الأخذ بالقدر المتيقّن وهو جريانها في أبواب المعاملات وفيما ترجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض فقط ، فتبقى الإطلاقات الواردة في غيرها سليمة عن المعارض والحاكم.
هذا كلّه هو بيان المختار في معنى الحديث.
أمّا الأوّل والثاني : وهما أنّ القاعدة نافية للأحكام الضرريّة إمّا مجازاً بلسان نفي الحكم
__________________
(١) المسألة ١١٠ : الجبار والجراح والدماميل وغير ذلك إذا أمكن نزع ما عليها وغسل الموضع وجب ذلك ، فإن لم يتمكّن من ذلك بأن يخاف التلف أو الزيادة في العلّة ، مسح عليها وتمّم وضوئه وصلّى ، ولا إعادة عليه ... دليلنا قوله تعالى : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ».
(٢) راجع ما ذكرنا من عباراتهم في كتابنا القواعد الفقهيّة : ج ١ ، ص ٦٤.