وسادسها : هي كقوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) [البقرة ٢١٣] الآية ، أي : كان كل منهم جازما بمذهبه ودينه ، فلما بعث محمد صلىاللهعليهوسلم شكوا في أديانهم ، لأن قوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) مشعر بهذا ؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه ، فمعناه : أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد ، وما انفصلت عن الجزم بصحتها ، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا
قال ابن عباس : أهل الكتاب الذين كانوا ب «يثرب» ، وهم : قريظة ، والنضير ، وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا ب «مكة» وما حولها ، و «المدينة» ، وهم مشركو قريش ، وقوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) أي : منتهين من كفرهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم(١).
وقيل : لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل : منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا ، أي ما زلت ، وما انفك فلان قائما ، أي : ما زال قائما.
وأصل الفك للفتح ، ومنه : فك الكتاب ، وفك الخلخال.
وقيل : «منفكّين» ، بارحين ، أي : لم يكونوا ليبرحوا ، ويفارقوا الدنيا ، حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان : أي : لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلىاللهعليهوسلم ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث صلىاللهعليهوسلم حسدوه ، وجحدوه ، وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] ، ولهذا قال تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البينة : ٤] ، وعلى هذا فقوله تعالى : (وَالْمُشْرِكِينَ) أي : ما كانوا يسيئون القول في محمدصلىاللهعليهوسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهمصلىاللهعليهوسلم فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين : «منفكّين» ، أي : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذّبين ، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين
قال قوم : المراد بالمشركين من أهل الكتاب ، فمن اليهود من قال : عزير ابن الله ومن النصارى من قال : عيسى هو الله.
__________________
(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٩٥).