بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

جزئيّات مسألتنا ، ولو كان المراد منها البراءة عن الوجوب ، فيدخل في مسألة معارضة الاستصحاب والبراءة ، ولعلّه المراد من استدلال الشّيخ قدس‌سره وقد عرفت ضعف المعارضة سيّما الثّانية.

وأمّا ما أفاده المحقق من الجواب الثّاني ففيه : ما لا يخفى ، فإنّه وجه استحسانيّ ؛ فإنّ اشتغال الذّمة بالعتق في باب الكفّارة يقتضي المبرّأ اليقيني ، فلو لم يكن الاستصحاب كافيا في إثبات الحياة شرعا لم يجز الاكتفاء بعتق المشكوك في باب الكفّارة ، ولو كان كافيا لم يكن معنى للمعارضة المذكورة.

وأضعف منه في ظاهر النّظر : ما أفاده قدس‌سره من التّعارض بين استصحاب الطّهارة واستصحاب شغل الذّمة بالصّلاة ، مع أنّ المنصوص في صحيحة زرارة عدم الالتفات إليه على ما عرفت بيانه ، لكن عذره قدس‌سره أنّه لا يقول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

(٤٠٥) قوله ( دام ظلّه ) : ( نعم ، ربما قيل : إنّ تحريم الصّيد إن كان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠٢ )

أقول : قد تقدّم أنّ بعض أفاضل المتأخّرين اختار الحكم بتحريم الصّيد المشكوك جريان التّذكية الشّرعيّة عليه من جهة الأخبار الواردة في المنع عن أكل ٢٢٧ / ٣ لحمه ، لا من جهة أصالة عدم التّذكية ، وقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه ، وأنّ المستظهر من الأخبار الحكم بالحرمة من جهة الحكم بموت الحيوان شرعا ، لا من جهة كون أصالة الحرمة في باب اللّحوم أصلا برأسه في قبال أصالة عدم التّذكية فيكون في النّهي عن أكله إشارة إلى البناء على موته من جهة الأصل ، كما أنّ النّهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه أو ما انتفى فيه غيره من الأمور إرشاد إلى كون

٦٢١

الحيوان ميتة بدونه ، وإن كانت الاستفادة في الثّاني أظهر منها في الأوّل ؛ حيث إنّه لا يحتمل حرمة الحيوان الّذي لم يذكر اسم الله عليه مثلا بحسب الواقع في قبال حرمة الميتة في الشّرع.

ثمّ إنّ مراد الفاضل التّوني من قوله : ( وأنكر بعض الأصحاب (١) ثبوت هذا التّلازم ... إلى آخره ) (٢). هو ما حكاه ( دام ظلّه ) عن بعض معاصريه من نفي التّلازم بحسب الظّاهر ، فهو موافق في أصل المدّعى للفاضل ، إلّا أنّه مخالف له في طريقه ، وأنّ النّجس بالاستصحاب ليس منجّسا ، فكأنّه لم يجعل معنى استصحاب الموضوع جعل آثاره ، والفاضل إنّما لم يحكم بالنّجاسة من جهة وقوع التّعارض في زعمه بين الأصل في الملزوم والأصل في اللّازم على ما ذهب إليه غير واحد فيما عرفت.

(٤٠٦) قوله : ( ولعلّها مستنبطة حدسا من بناء العلماء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠٥ )

بيان تقديم الإستصحاب الموضوعي على الإستصحاب الحكمي

أقول : الغرض ممّا أفاده : أنّ المسألة غير معنونة في كلماتهم حتّى يدّعى الإجماع من اتفاق فتاويهم ، فلا بدّ من أن يكون المستند في استنباط الإجماع في كلّي المسألة ما يستنبط من آرائهم في جملة من جزئيّات المسألة ومصاديقها

__________________

(١) كالعلّامة في التحرير : ج ١ / ٥٥ ، وتبعه المحقّق الثاني في جامع المقاصد : ج ١ / ١٥٦ واختاره أيضا من شرّاح الوافية السيّد صدر الدّين في شرحه المزبور ( المخطوط ) ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٢) الوافية : ٢١٠.

٦٢٢

فيحكم بحكم الحدس القطعي كون الجهة الجامع بين جميع الجزئيات ، فلمّا كان مبنى دعوى الإجماع على الحدس المذكور لا على إحساس عنوان المسألة في كلماتهم واتّفاقهم فيها فقد وقع الخطأ فيها بمخالفة من عرفت في المسألة ، فهذه الدّعوى في كمال المشابهة لدعوى شيخنا الأستاذ العلّامة : الإجماع على تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب على الاستصحاب في الشّك المسبّب المتطرّق إليها المناقشة المتقدّمة في كلماتنا.

ثمّ إنّ محلّ الكلام في المسألة على ما نبّهناك عليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ، الأحكام المترتّبة على وجود المستصحب في زمان الشّك حتّى يتوهّم التّعارض بالنّسبة إليها ويدّعى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي. وأمّا الأحكام المشاركة مع الموضوع في اليقين السّابق فلا يتوهّم جريان استصحاب عدميّ بالنّسبة إليها يعارض الاستصحاب الموضوعي.

كما أنّه لا يجري بالنّسبة إليها على ما نبّهناك عليه استصحاب حكمىّ أيضاً فيما كان الشّك في بقائها مسبّبا عن الشّك في بقاء موضوعها ، فإنّه قد صرّح شيخنا ( دام ظلّه ) فيما تقدّم من كلامه : بأنّه قد يشكّ في بقاء المحمول لا من جهة الشّك في بقاء موضوعه ، ومثّل له بالشّك في بقاء العدالة لا من جهة الشكّ في الحياة ، فيجري في الفرض استصحابان فراجع إليه هذا.

وأمّا ما أفاده ( دام ظلّه ) في تضعيف دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي مع كون تقديم الاستصحاب في الشكّ السّبب على الاستصحاب في الشّك المسبّب فيما لم يرجعا إلى الموضوعي والحكمي خلافيّا على ما استظهره من كلام مدّعي الإجماع بقوله : ( مع أن

٦٢٣

الاستصحاب في الشّك السّببي دائما من قبيل الموضوعي بالنّسبة إلى الآخر ... إلى آخر ما أفاده ) (١).

فهو غير نقيّ عن المناقشة ، إن أراد كونهما دائما من الموضوعي والحكمي حقيقة لا كونهما ملحقين في الحكم بالموضوعي والحكمي ؛ لأنّ النّجاسة مثلا فيما غسل النّجس بماء شكّ في كرّيّته أو إطلاقه وإضافته مع سبق الكرّيّة والإطلاق له قائمة بالمغسول ؛ فاستصحابها له لا تعلّق له بالاستصحاب الحكمي ، وهكذا في كثير من الموارد ، وإن كانت المطهّريّة شرعا من أحكام الكرّية والإطلاق ، فلو أريد الجمع بين استصحابهما واستصحاب المطهريّة كانا من الموضوعي والحكمي ، فاستصحاب عدم وجوب الفطرة مع استصحاب حياة المفقود من أمثلة الاستصحاب الموضوعي ـ المقتضي لوجوب الفطرة ، وجواز عتقه وبيعه في الجملة والحكمي ، وكذا استصحاب حياة الوارث مع موت مورّثه من الاستصحاب الموضوعي بالنّسبة إلى استصحاب عدم انتقال التّركة إلى الوارث الغائب الّذي شكّ في حياته ، وهكذا.

وبالجملة : دعوى رجوع جميع موارد الشّك السّبب والمسبّب إلى الموضوعي والحكمي بحيث يكون النّسبة بينهما التّسوية كما ترى. كيف؟ وقد ذكر غير مرّة في الجزء الثّاني من « الكتاب » عند التّكلم في حكم ملاقي بعض المشتبهين بالشّبهة المحصورة وغيره : بأنّه إذا لم يجر الأصل بالنّسبة إلى الشّك السّبب أو جرى وكان معارضا بما هو في مرتبته جرى الأصل بالنّسبة إلى الشّك

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤٠٥.

٦٢٤

المسبّب ، مع أنّه صرّح في جملة من كلماته المتقدّمة : بأنّ الشّك في الحكم إذا كان مسبّبا عن الشّك في موضوعه لم يجر الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم ، سواء جرى الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع أم لا ؛ لأنّه قضيّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، وهذا الّذي ذكرنا أمر واضح لا غبار فيه أصلا. ولا ينافيه ما قضت به كلمات أهل المعقول : من كون المعلول من عوارض العلّة ومحمولاته باعتبار من الاعتبارات وحيثيّة من الحيثيّات.

ومن هنا ذكرنا : أن المطهريّة قائمة بالماء ، إلّا أنّ الطّهارة والنّجاسة قائمتان بالثّوب مثلا ، وكذا المنجّسية قائمة بالملاقي ، إلّا أنّ النّجاسة قائمة بالملاقي ـ بالكسر ـ كيف! وهما موضوعان في الحسّ ، قام بكلّ منهما محمول ، وإن كان محمول أحدهما معلولا لمحمول الآخر باعتبار من الاعتبارات.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا : عدم التّسوية بين المسألتين ، وكون الأصل الموضوعي والحكمي فيما كان الشّك فيه من جهة الشّك في الموضوع من ٢٢٨ / ٣ جزئيّات الأصل في الشّك السّبب والمسبّب ، وإن افترق هذا الجزئي من غيره في بعض الأحكام ؛ حيث إنّك عرفت : عدم جريان الأصل الحكمي في الفرض مطلقا ، وجريان الأصل في الشّك المسبّب مع عدم جريان الأصل في الشّك السّبب ، أو معارضته بمثله في غير الموضوعي والحكمي ، ومن هنا بنينا تبعا للمشهور والأستاذ العلّامة على جريان الأصل في ملاقي أحد المشتبهين لمكان عدم جريان الأصل في الملاقي أو سقوطه ؛ لمكان المعارضة مع الأصل في الطّرف الآخر على ما تقدّم من الوجهين في محلّه.

٦٢٥

(٤٠٧) قوله : ( إحداهما : عدم التّرجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات ). ( ج ٣ / ٤٠٨ )

لا يجوز الترجيح بين المتعارضين من الإستصحابين على كل تقدير

أقول : لا ريب في أنّ كلام ثاني الشّهيدين مبنيّ على ما بنى أكثر الأصحاب عليه من اعتبار الأصول من باب الظّن ، كما عرفت القول فيه مرارا.

وحاصل القول في المقام : أنّه إمّا أن نقول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو نقول باعتباره من باب التّعبّد والأخبار من غير ملاحظة إفادته الظّن أصلا لا نوعا ولا شخصا. وعلى الأوّل : إمّا أن نقول بإناطة اعتباره بالظّن النّوعي المطلق ، أو نقول بإناطته بالظّن النّوعي المقيّد ، أو نقول بإناطته بالظّن الشّخصي. وعلى كلّ تقدير : لا يجوز التّرجيح بين المتعارضين من الاستصحابين على القاعدة والأصل ، وإن تعيّن العمل بالرّاجح على بعض التّقادير ، إلّا أنّه ليس لمكان التّرجيح.

توضيح ذلك : أنّه على التّقدير الأوّل يكون مقتضى القاعدة الأوّليّة ـ على ما ستقف عليه مشروحا في الجزء الرّابع من التّعليقة ـ تساقط المتعارضين بالنّسبة إلى مورد التّعارض ، والرّجوع إلى أصل لا يكون في مرتبتهما إن كان هناك أصل على طبق أحدهما ، وإلّا فيحكم بالتّخيير العقلي بينهما نظير التّخيير بين الاحتمالين ، وهذا معنى التّوقّف في قبال التّساقط المطلق الّذي يلزمه الرّجوع إلى الأصل مطلقا سواء طابق أحد المتعارضين أو خالفهما ، وهذا جار في تعارض كلّ ما أنيط اعتباره بالطّريقيّة المطلقة من غير فرق بين الأخبار وغيرها. نعم ، لو كان

٦٢٦

هناك إجماع على وجوب العمل بالرّاجح من الدّليلين المتعارضين مطلقا كما ادّعاه العلّامة وغيره ، خرجنا به عن القاعدة ، كما خرجنا بالإجماع والأخبار عنها في تعارض الأخبار. هذا ، وستقف على شرح القول فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الرّابع.

وعلى التّقدير الثّاني يؤخذ بالرّاجح ويطرح المرجوح لا لمكان التّرجيح ، بل لوجود مناط الحجيّة في الأوّل دون الثّاني ، وكذا على التّقدير الثّالث ، ففي الحقيقة يخرج الفرض عن مسألة التّعارض على التّقديرين.

ومن هنا ذكرنا في أواخر الجزء الأوّل من التّعليقة وسنفصّل القول فيها في الجزء الرّابع : أنّ التّعارض لا يتصوّر على القول بإناطة اعتبار الأمارات بإفادتها الظّن الشّخصي في المسائل الفرعيّة ، كما هو لازم من خصّ نتيجة مقدّمات الانسداد بالفروع مع كون النّتيجة حجّية الظّن الشّخصي ، فالتّرجيح بالظّن ساقط في تعارض الأصول على القول باعتبارها من باب الظّن أيضا فضلا عن القول به من باب التّعبّد الظّاهري ، كما أنّ التّرجيح بالأصول ساقط في تعارض الأصول على القول باعتبارها من باب الظّن أيضا ، فضلا عن القول به من باب التّعبّد الظّاهري ، كما أنّ التّرجيح بالأصول ساقط في تعارض الأمارات الاجتهاديّة على القول بها من باب الأخبار والتّعبّد ، كما ستقف على تفصيل القول فيه من حيث عدم حصول مزيّة لما وافقها أصلا. (١)

وأمّا على الثّاني أي : على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، فلا ريب في عدم جواز ترجيح ما وافق بعض الأمارات الخارجيّة من الاستصحابين المتعارضين.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٦٢٧

أمّا أوّلا ؛ فلعدم سنخيّة بين الأصل والأمارة الموافقة له حتّى يرجّح بها ، ومن هنا قلنا بعدم جواز ترجيح الأمارات المتعارضة بالأصول التّعبديّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ التّرجيح فرع التّعارض ، وشمول دليل الاعتبار لكلّ من المتعارضين في نفسه ؛ لأنّ ما لا يشمله دليل الاعتبار من التّعارضين يحكم بتساقطهما بهذا المعنى ، فلا معنى لتوهّم التّرجيح بينهما كما هو ظاهر ، والاستصحابان المتعارضان في الصّورتين الأوّلتين لا يشملهما الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك على ما ستقف عليه في إثبات الدّعوى الثّانية في كلام شيخنا الأستاذ العلّامة.

(٤٠٨) قوله : ( الدّعوى الثّانية : أنّه إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التّساقط ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠٩ )

أقول : الوجه فيما أفاده على ما ستقف عليه في باب التّعارض : أن الحكم في تعارض غير الأصول من الأدلّة بالنّظر إلى الأصل الأوّلي ، هو التّخيير الّذي هو نتيجة وجوب العمل بكلّ من المتعارضين تعيينا بعد تقييد ذلك بحكم العقل بالقدرة ، على تقدير كون حجّيّة الأدلّة من باب السّببيّة ، فيدخل المتعارضان في الواجبين المتزاحمين.

وقد تقرّر أنّ الحكم فيهما التّخيير بالمعنى الّذي عرفته إذا لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر والتّوقّف بالمعنى الّذي أشرنا إليه عن قريب على تقدير كون حجّيّتها من باب الطّريقيّة المطلقة ، فالتّساقط بالمعنى الّذي زعمه بعض أفاضل من تأخّر ليس مطابقا للأصل على كلّ تقدير.

وأمّا الاستصحابان المتعارضان في الفرض فلا يمكن شمول الأخبار لشيء

٦٢٨

منهما وكذا غيرهما من الأصول المتعارضة من جهة العلم الإجمالي ، فإنّه إمّا أن يشمل كلّا منهما ، أو أحدهما المعيّن ، أو أحدهما المخيّر ، لا سبيل إلى شيء من هذه الوجوه ، فتعيّن ما ذكرنا من عدم شمولها لشيء منهما.

أمّا الوجه الأوّل ؛ فلأنّه مناف لليقين بانتقاض الحالة السّابقة بالنّسبة إلى أحد المستصحبين الّذي دل الأخبار على وجوب النّقض به ، بناء على تعميم اليقين بالنّسبة إلى الإجمالي على ما هو لازم تعارضهما كما هو ظاهر.

وأمّا الثّاني ؛ فلأنّه لا ولا مرجّح في نفس الأمر لتساويهما من كلّ وجه ؛ لأنّ ٢٢٩ / ٣ اليقين السّابق مفروض بالنّسبة إلى كلّ منهما ، والشّك اللّاحق متحقّق أيضا بالنّسبة إلى كلّ منهما في نفسه ، واليقين بانتقاض الحالة السّابقة من أحدهما نسبته إليهما نسبة واحدة.

ودعوى : شمول الأخبار لما كان باقيا في نفس الأمر من الحالتين وخروج ما كان منتقضا منهما كذلك.

فاسدة جدّا ؛ لأنّ ما كان باقيا في نفس الأمر لا يمكن تعلّق الحكم الظّاهري به بهذا العنوان ، وإن تعلّق الحكم الظّاهري به فيما كان المشكوك منطبقا عليه في نفس الأمر ، فليس هنا عنوان ينطبق على أحدهما المعيّن يصلح لتعلّق الحكم به ولا يقاس المقام بالخبر الصّحيح المشتبه بين الخبرين ؛ حيث إنّه يجب العمل بهما احتياطا ؛ فإنّ هذا العنوان المردّد المشتبه ممّا تعلّق به الحكم الشّرعي الظّاهري فيجب الاحتياط فيه عند تردّده ، وهذا بخلاف المقام ؛ حيث إنّه يستحيل تعلّق الحكم الظّاهريّ الاستصحابي بالباقي الواقعي من الحالتين ، وإلّا لأمكن تعلّقه به مع العلم به ، وهو محال ؛ ضرورة ارتفاع موضوع الحكم الظّاهري مع العلم بالواقع.

٦٢٩

وأمّا الثّالث ؛ فلأنّه مفهوم منتزع من الخصوصيّتين لا يمكن تعلّق الحكم به بعد عدم إمكان تعلّقه بهما وخروجهما عن العموم كما هو ظاهر ، فلا يقاس المقام بموارد التّخير الواقعي أو الظّاهري الشّرعيّين ؛ فإنّ كلّا من الخصوصيّتين في موارد التّخيير قابل لتعلّق الحكم الشّرعي به بل الواقع ذلك ؛ حيث إنّ الحكم في موارد التّخيير متعلّق عند التّحقيق بنفس الأفراد والخصوصيّات لا بالمفهوم المنتزع منها من حيث هذا المفهوم.

فإن قلت : لم لا تجعل عموم قوله عليه‌السلام : ( لا تنقض اليقين بالشّك ) (١) بالنّسبة إلى الأفراد المزاحمة المتعارضة من الاستصحاب ، نظير : أنقذ كلّ غريق ، وأكرم كلّ عالم ، ونحوهما فيما اتّفق عدم قدرة المكلّف على امتثال الخطاب التّعييني بالنّسبة إلى فردين من هذا العنوان العام مع قدرته على امتثاله بالنّسبة إلى أحدهما بشرط الانفراد؟ وكذلك قوله : صدق كلّ خبر عدل مع فرض تعارض فردين من خبر العدل؟ ومن هنا ذكروا : أنّ الحكم في تزاحم الواجبات الشّرعيّة مع عدم أهميّة بعضها التّخيير وكذا الأصل في تعارض الخبرين مع عدم التّرجيح بينهما التّخيير

__________________

(١) لم نجدها بهذا التعبير في الجوامع الحديثية المعتبرة ، نعم وردت في الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٥٢ باب « السهو في الثلاث والأربع » ـ ح ٣ هكذا « ... ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ... » ، والفقيه : ج ١ / ٦٠ ـ ح ١٣٦ « ... فلا ينقض اليقين بالشك ... » ، والاستبصار : ج ١ / ١٨٣ باب « الرجل يصلي في ثوب فيه نجاسة قبل أن يعلم ... » ـ ح ١٣ وفيه : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ... » وكذلك التهذيب : ج ١ / ٤٢٢ باب « تطهير البدن والصياب من النجاسات » ـ ح ٨ ، انظر الوسائل : ج ٣ / ٤٦٦ باب « ان كل شىّ طاهر حتى يعلم ورود النجاسة عليه » ـ ح ١.

٦٣٠

وأي فرق بين المقام وهذه الموارد.

قلت : قياس المقام بتزاحم الواجبين المتكافئين من حيث المصلحة قياس فاسد ؛ حيث إنّ المصلحة المقتضية للوجوب التّعييني بالنّسبة إلى كلّ فرد موجودة فيهما لا قصور فيهما من حيث المصلحة أصلا ، غاية الأمر عجز المكلّف من امتثال الخطاب التّعييني المتعلّق بكلّ منهما بعنوان الاجتماع فلا يجب بحكم العقل وإمكان إمتثاله بعنوان الإنفراد فلا مانع من تعلّق الخطاب التعييني بكل واحد بهذا العنوان فيجب امتثاله بحكم العقل ونتيجة ذلك كما ترى التّخيير.

وهذا بخلاف المقام ، فإنّ المفروض العلم بانتقاض الحالة السّابقة بالنّسبة إلى أحد المستصحبين وعدم إمكان شمول الخطاب لشيء من الخصوصيّتين ، وأمّا قياسه بالخبرين المتعارضين ففاسد أيضا على كل قول في عنوان حجّيّة الأخبار من حيث السببيّة أو الطريقيّة ؛ فانه على السببيّة المحضة يكون حال الخبرين المتعارضين حال الواجبين المتزاحمين ؛ وإن كان القول بها في غاية الضّعف وخلاف ما يستفاد من أدلّة حجّيّة الأخبار وما ورد في علاج تعارضها وعلى الطّريقيّة يحكم بتساقطهما بالنّسبة إلى جهة تعارضهما ، وإن لزم الأخذ بهما في نفي الثّالث عن مدلولهما فعلى كلّ تقدير يشملهما ما دلّ على وجوب العمل بهما.

وهذا بخلاف الاستصحابين المتعارضين ، فإنّك قد عرفت : عدم إمكان شمول الأخبار لشيء من الاستصحابين ، فلا يقال : إنّ حال الاستصحابين المتعارضين على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار حال الخبرين المتعارضين على السّببيّة المحضة ؛ إذ المفروض على هذا القول سببيّة نفس اليقين السّابق والشّك في بقاء المتيقّن لحرمة النّقض من دون ملاحظة الكشف عن الواقع ،

٦٣١

لما عرفت : من وجود المصلحة المقتضية للعمل في كلّ من الخبرين على هذا القول ، وإن لم يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما.

وهذا بخلاف الاستصحابين المتعارضين من حيث إنّه لا يمكن شمول الأخبار لشيء منهما بعد فرض انتقاض الحالة السّابقة قطعا بالنّسبة إلى أحد المستصحبين ؛ فإنّه لا يبقى هناك عنوان يتعلّق به الحكم المستفاد من الأخبار نظير ما فرضنا لك سابقا من اشتباه الخبر الصّحيح بين الخبرين ، أو اشتباه الفرد الخارج من العام يقينا في قوله : « أكرم العلماء » بين فردين أو إفراد من هذا العنوان ؛ حيث إنّه يجب الاحتياط في المثالين عملا بالحكم المتعلّق بالعنوان الواقعي المردّد مع إمكان الاحتياط والتّخيير فيما فرض عدم إمكانه.

وأمّا في المقام فليس هناك عنوان يتعلّق الحكم الظّاهري الاستصحابي به في نفس الأمر يجب مراعاته ولو بالامتثال الاحتمالي ؛ لأنّ المفروض بقاء إحدى الحالتين وانتقاض الأخرى لا بوصف زائد ، وإن أمكن فرض مثل ذلك في غير باب تعارض الاستصحابين.

مثل : أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين ورد المنع تعبّدا من الجمع بينهما كما ذكره في « الكتاب » ، لكن الفرض كما ذكره خارج عن مفروض البحث ، أو يكون هناك استصحابان بشكّين وكان أحدهما ممّا نقول بحجّيّته والآخر ممّا لا نقول بحجيّته ، واشتبه الأمر علينا في تميز عنوانهما المنوط به الحكم من غير تعارض بينهما ، لكنّه خارج عن مفروض البحث أيضا.

فاللّازم في المقام بعد عدم جريان شيء من الاستصحابين الرّجوع إلى قواعد أخر كما لم يكن هناك حالة سابقة وهي تختلف بحسب الموارد فقد توجب

٦٣٢

القاعدة الاحتياط كما في مستصحبي الطّهارة مع العلم بزوال الطّهارة عن أحدهما وقد توجب الحكم بعدمه والرّجوع إلى قاعدة الطّهارة كما في مسألة المتمّم والمتمّم.

نعم ، لو كانت الحالة السّابقة فيهما النّجاسة وعلم بزوالها عن أحد ٢٣٠ / ٣ المستصحبين فقد يقال : بجريان الاستصحابين بل رجّحناه في بعض كلماتنا السّابقة في طيّ الأجزاء وفاقا لشيخنا ( دام ظلّه العالي ) في مجلس البحث في المقام وفي باب البراءة : من حيث إنّ العمل بهما لا يوجب طرح خطاب إلزاميّ متوجّه إلى المكلّف ، ومن هنا يحكم بنجاسة ملاقي أحدهما. وهذا بخلاف ما لو حكمنا بوجوب الاحتياط عنهما في الفرض ؛ فإنّه لا يحكم بوجوب الاجتناب عنه على ما أسمعناك في الجزء الثّاني من التّعليقة (١).

نعم ، لو فرض هناك تعلّق خطاب إلزاميّ بالطّاهر المردّد بينهما لم يجر الاستصحابان جزما فلو علم ببقاء الحالة السّابقة في أحدهما دخل الفرض في الشّبهة المحصورة هذا.

ولكن في « الكتاب » في الحكم بعدم جريان الاستصحابين والإرجاع إلى قواعد أخر في حكم المسألة : التّصريح بعدم الفرق بين كون الحالة السّابقة في المشتبهين الطّهارة أو النّجاسة قال : ولذا لا يفرّق في حكم الشّبهة المحصورة بين كون الحالة السّابقة في المشتبهين هي الطّهارة أو النّجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة ؛ فإنّ مقتضى القاعدة الاحتياط فيهما. ولكنّ المستفاد من إفاداته في

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٢٢٠.

٦٣٣

مجلس البحث الميل إلى الفرق كما اخترناه وكلامه في الجزء الأوّل من « الكتاب » عند البحث عن دليل الانسداد لا يأبى من الحمل على كلّ من الوجهين وإن كان محتملا لوجه ثالث قد أشرنا إليه ثمّة فراجع.

ثمّ إنّ توضيح الوجه فيما ذكرنا ما أسمعناك مرارا : من أنّ الغاية الرّافعة للأصول أعمّ من العلم التّفصيلي والإجمالي المتعلّق بالخطاب الإلزامي المنجّز المتوجّه إلى مكلّف خاصّ لا الأعمّ من العلم الإجمالي بقول مطلق ، وهذا التّقييد وإن كان يأباه الجمود على ظواهر الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، ومن هنا ربّما توهّم : الفرق بين الاستصحاب وأصالة البراءة ، إلّا أنّه لا مناص عنه بعد التّأمّل.

ومن هنا اختار شيخنا في الصّورة الثّالثة : العمل بالاستصحابين معا مع فرض العلم بارتفاع الحالة السّابقة في أحدهما ، فليس مطلق اليقين بارتفاع الحالة السّابقة إجمالا مانعا عن جريان الاستصحابين ما لم يستلزم من أعمالهما طرح الخطاب التّكليفي المنجّز ، فكلامه في المقام ربّما ينافي ما أفاده في الصّورة الثّالثة ، هذا كلّه فيما لو علم ببقاء إحدى الحالتين وارتفاع الأخرى فيما كانت الحالة السّابقة فيهما النّجاسة.

وأمّا لو علم بارتفاع إحدى الحالتين مع عدم العلم ببقاء الأخرى فلازم ما أفاده في المقام : من عدم جريان الاستصحابين الرّجوع إلى قاعدة الطّهارة لا الحكم بوجوب الاحتياط ، وإن كان لازم ما ذكرنا العمل بالاستصحابين في الفرض أيضا كما هو ظاهر ، فكأنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه.

ولازم ما أفاده في المقام : من انتقاض الاستصحابين بالعلم الإجمالي

٦٣٤

مطلقا ، هو الرّجوع إلى قاعدة الطّهارة في الفرض بالنّسبة إلى كلّ من المشتبهين ؛ لعدم العلم بنجاسة شيء منهما ، وعدم جريان استصحاب النّجاسة فيه أيضا ؛ للعلم بعروض الطّهارة لأحدهما.

ودعوى : جريان استصحاب النّجاسة بالنّسبة إلى أحد المشتبهين في الفرض فيجب الاجتناب منهما احتياطا في امتثال الحكم الظّاهري الاستصحابي المتعلّق بأحدهما كما هو أحد محتملات « الكتاب » ، بل أظهرها فيما تقدّم عند الكلام في حجيّة الظّن المطلق ؛ إذ ليس العلم الإجمالي بعروض الطّهارة لأحد المشتبهين في الفرض أولى من العلم التّفصيلي بعروض الطّهارة لأحدهما المعيّن.

فاسدة بما عرفت شرحه : من أنّ تعلّق حكم العموم بالفرد سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا كما في المقام لا بدّ له من عنوان صالح لتعلّق الحكم به الّذي هو الموضوع للحكم حقيقة.

وليس في الفرض ما يصلح لذلك ؛ لأنّ عنوان مشكوك الزّوال بخصوصه صادق على كلّ من المشتبهين ، وليس هنا علم بالبقاء بالنّسبة إلى أحدهما بالفرض ، مع أنّه على تقديره لا يصلح لتعلّق الحكم الظّاهري به على ما تقدّم تفصيل القول فيه ، وقياس ذلك بالعلم التّفصيلي بزوال الحالة السّابقة بالنّسبة إلى أحد المشتبهين بالخصوص قياس مع الفارق ؛ لأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى غير معلوم الزّوال تفصيلا أصلا كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا محصّل لفرض جريان استصحاب واقعيّ مردّد موردا بين المشتبهين حتّى يجب الاحتياط بمراعاته.

ثمّ إنّ ما أفاده في ذيل المقام من نفي الفرق في الحكم بتساقط الأصول في

٦٣٥

الصّورتين بقوله : ( وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في التّساقط بين أن يكون في كلّ من الطّرفين أصل واحد ... إلى آخر ما أفاده ) (١) ممّا لا سترة ولا غبار فيه أصلا بعد البناء على التّساقط ؛ لأنّ الترجيح مبنيّ على عدمه إلّا أنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ جريان أزيد من أصل واحد لا يمكن بالنّسبة إلى شيء واحد إذا كان الأصلان في مرتبة.

نعم ، يمكن فيما كان أحدهما في طول الآخر كاستصحاب الطّهارة وقاعدتها. نعم ، يمكن ذلك في تعارض الأمارات ووجه الفرق لا يخفى.

وأمّا ما وجهه من التّرجيح بكثرة الأصول من باب الظّن فهو مبنيّ على ما عرفت : من تسليم قيام الإجماع على التّرجيح بين الأمارات المتعارضة المعتبرة من حيث الظّن النّوعي المطلق من غير اختصاص بالأخبار المتعارضة ، كما هي مورد الأخبار العلاجيّة ، وكون اعتبار الأصل المرجح من باب الظّن أيضا وإن لم تخل عن مناقشة ، بل منع ستقف عليهما في الجزء الرّابع من التعليقة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤١٣.

٦٣٦

(٤٠٩) قوله : ( وأمّا الصّورة الثّالثة : هي ما يعمل فيه بالاستصحابين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٤١٣ )

أقول : ضابط هذه الصّورة : ما إذا ترتّب أثر شرعيّ على مجرى كلّ من ٢٣١ / ٣ الاستصحابين بحيث لا يلزم من العمل بهما مخالفة قطعيّة عمليّة لخطاب منجّز متوجّه إلى المكلّف كما يلزم ذلك من العمل بهما في الصّورتين الأوّلتين ، وإن لزم منهما مخالفة الخطاب الواقعي من حيث الالتزام في مرحلة الظّاهر الّتي قد عرفت مرارا : أنّها ليست مخالفة التزاميّة حقيقة ، ولا إشكال فيما أفاده في حكم الصّورة بعد تقييد اليقين النّاقض بالأعمّ من التّفصيلي والإجمالي في جانب الإجمالي بما عرفته في شرح حكم الصّورتين. وإن كان مقتضى ما أفاده هناك : التّصريح بالإطلاق والتّعميم ، ولكن الحقّ ما أفاده في المقام المبنيّ على التّقييد المذكور كما هو مقتضى صريح كلامه في المقام وفي الصّورة الرّابعة ، وإن استصعبت استفادته

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان ما ذكره في وجه منع عموم الخطاب في الصّورتين الأوليين من لزوم المناقضة في مدلوله من شموله يجري في هذه الصّورة أيضا ، ضرورة مناقضة حرمة النّقض في كلّ واحد من اليقين بالحدث ، والطّهارة من الخبث سابقا مع وجوب في أحدهما كما لا يخفى.

وما ذكره هاهنا في وجه جريان الإستصحابين في هذه الصّورة ، إنّما يصحّ على ما حقّقناه من وجود المقتضي للإثبات في جميع الصّور ، حيث انّ المقتضي في هذه لكلا الاستصحابين موجود ، وما عرفت من المانع في الصّورتين فيها مفقود ، لما أفاده من أنّ العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين في هذه الصّورة غير مؤثّر تكليفا ، كي يلزم من إجرائهما مخالفة عمليّة أو فضلا بين المستصحبين بحسب الحكم ، وقد قام الدّليل على اتّحادهما بحسبه واقعا وظاهرا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٢١.

٦٣٧

على الأوائل من أخبار الباب.

والّذي يهوّن الخطب في ذلك : أنّ الحاكم بلزوم مراعاة العلم الإجمالي وتقييد الأخبار هو العقل فيلزم الاقتصار على ما يحكم به العقل من لزوم مراعاة العلم الإجمالي الخاصّ ، فيرجع في غيره إلى ظهور الأخبار في اعتبار العلم التّفصيلي في ناقض اليقين السّابق ، كما يسلك هذا المسلك بالنّسبة إلى غير الاستصحاب من البراءة وأصل الطّهارة.

ومن هنا حكمنا في مسألة الشّبهة المحصورة : بأنّ مطلق العلم بوجود النّجس أو الحرام بين المشتبهين لا يوجب المنع عن الرّجوع إلى أصالة الحلّ والطّهارة ما لم يكن هناك علم بخطاب إلزاميّ منجّز على كلّ تقدير على ما عرفت شرح القول فيه ثمّة.

نعم ، حكم العلم الإجمالي في الشّبهة الحكميّة غير حكمه في الشّبهة الموضوعيّة ؛ حيث إنّه يلزم من الرّجوع إلى الأصل دائما الإذن في المخالفة القطعيّة العمليّة في واقعتين في الشّبهة الحكميّة ، وإن لم يلزم ذلك في واقعة واحدة ، والعقل يحكم بقبحها أيضا ما لم يلتزم في كلّ واقعة بحكم ظاهريّ ـ على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة تبعا لما ألحقه شيخنا « بالكتاب » في أواخر زمانه ـ وإن كان كلامه في باب البراءة يخالفه فراجع. وإشكاله في المقام مبنيّ على إجمال القول في ذلك وأنّ المسألة ذات وجهين فتدبّر.

٦٣٨

(٤١٠) قوله : ( وأمّا الصّورة الرّابعة : وهو (١) ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤١٤ )

أقول : ضابط هذه الصّورة : ما ترتّب أثر شرعيّ بلا واسطة على مجرى أحد الاستصحابين دون الآخر ، إمّا مطلقا ، أو في بعض التّقادير ، فيدخل في الصّورة فيما لم يترتّب عليه الأثر ، وفي الصّورة السّابقة فيما ترتّب عليه الأثر. وفي الحقيقة هذه الصّورة كالصّورة الثّالثة خارجة عن مسألة تعارض الاستصحابين ، وإن كان هناك فرقا بين الصّورتين مع خروجهما عن مسألة التّعارض : من حيث جريان الاستصحابين في الصّورة الثّالثة مع عدم معارضة بينهما ، وجريان استصحاب واحد في هذه الصّورة لما أسمعناك مرارا : من عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ بلا واسطة ، فإذا أجري من علم إجمالا بطروّ النّجاسة عليه ، أو على غيره واستصحب الطّهارة لم يعارض باستصحاب الطّهارة في حقّ الغير ، إلّا فيما كان تكليفه إحراز طهارة غيره كما في مسألة الاقتداء.

ومثله : ما لو علم بوقوع النّجاسة على ثوبه ، أو على ماء لا ينفعل بمجرّد ملاقاة النّجاسة ، أو على ثوب غيره مع عدم ابتلائه به عادة بعارية ونحوها ؛ فإنّه لا معنى لحكم الشارع بالبناء على طهارة ما لا يبتلى به المكلّف ، كما أنّه مع العلم بنجاسة تفصيلا لا يصحّ توجيه الخطاب التّنجيزي بالاجتناب عنه.

نعم ، يصحّ مع التّعليق بالابتلاء وصيرورته واقعة للمكلّف على ما عرفت

__________________

(١) كذا وفي الكتاب « هي ».

٦٣٩

تفصيل القول فيه في الشّبهة المحصورة من مسائل أصالة البراءة.

ومن أمثلة الصّورة أيضا : ما لو علم إجمالا بحصول التّوكيل وادّعى الوكيل الوكالة في شيء خاصّ كشراء العبد مثلا وأنكر الموكّل توكيله في ذلك ، وادّعى توكيله في شراء الجارية مثلا ؛ فإنّه لا يعارض أصالة عدم توكيله في شراء العبد بأصالة عدم توكيله في شراء الجارية ، إلّا على القول باعتبار الأصول المثبتة حتّى يثبت بنفي التّوكيل في شراء الجارية التّوكيل في شراء العبد فيتعارضان ، لكنّه نفى الخلاف في « الكتاب » عن عدم المعارضة عندهم ، وأنّ القول قول الموكّل ، إلّا أنّه مع المعارضة أيضا يكون القول قول الموكّل أيضا بشرح مذكور في باب التّداعي والقضاء ؛ من حيث كون قوله بعد التّعارض أيضا مطابقا للأصل الأوّلي في المعاملات.

* * *

٦٤٠