بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ) (١) ونحوهما من أخبارها فهل يكون الاستصحاب واردا عليها ، أو يكونان من المتعارضين ، أو يكون حاكما عليها؟ وجوه.

فقد يتوهّم الوجه الأوّل ، أي : ورود الاستصحاب عليها على هذا التّقدير أيضا ، إمّا بتوهّم : كون المراد من ورود النّهي والعلم بالحرمة ونحوهما من الغايات هو الوجود والتّحقّق في الجملة ولو بالنّسبة إلى الزّمان السّابق.

أو بتوهّم : كون الاستصحاب كاشفا عن إرادة البقاء والدّوام من دليل المستصحب بالنّسبة إلى الزّمان اللّاحق.

أو بتوهّم : كون النّهي المستفاد من قوله : ( لا تنقض اليقين بالشّك ) من أفراد الغاية ولو لم يكن ناظرا إلى بيان المراد من دليل المستصحب.

لكنّك خبير بفساد التّوهم المذكور استنادا إلى أحد الوجوه المذكورة.

أمّا الوجه الأوّل : فللقطع بعدم إرادة هذا المعنى من أخبار البراءة كيف؟ ولازمها عدم جريان البراءة على تقدير عدم جريان الاستصحاب ، أو عدم اعتباره أيضا كما هو ظاهر. وهو كما ترى ، ممّا لا يلتزم به أحد هذا. ٢٢٢ / ٣

مضافا إلى خروجه عن ورود الاستصحاب على البراءة ، كما أنّ لازمها الالتزام بعدم جريان البراءة في كلّ كلّي ورد النّهي عن بعض أنواعه ؛ ضرورة عدم

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب النوادر : ـ ح ٤٠ ، والتهذيب : ج ٧ / ٢٢٦ باب من الزيادات ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الانفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.

٦٠١

الفرق بين كون الاختلاف بحسب الزّمان ، أو غيره من العوارض والخصوصيّات كما هو ظاهر هذا.

مضافا إلى أنّ اعتبار هذا المعنى بالنّسبة إلى أخبار البراءة يوجب اعتباره بالنّسبة إلى أخبار الاستصحاب ؛ فإنّ العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بالهواء مثلا ممّا يتيقّن حلّيته ولو في زمان من الأزمنة ، فلا يجري استصحاب الحرمة ؛ لكونه مغيّا بعدم العلم بالحلّية فتدبّر.

وأمّا الوجه الثّاني : ففساده غنيّ عن البيان ؛ ضرورة استحالة صيرورة الاستصحاب قرينة على المراد عن دليل المستصحب وكاشفا عنه ـ بناء على القول به من باب الظّن ـ فضلا عن التّعبّد الّذي ليس من سنخ دليل المستصحب.

وأمّا الوجه الثّالث : فهو أيضا واضح الفساد ؛ ضرورة عدم كون النّهي المستفاد من أخبار الاستصحاب نهيا عن الشّيء بعنوانه الأوّلي ، وإلّا خرج عن كونه حكما ظاهريّا كما هو ظاهر.

وقد يتوهّم : الوجه الثّاني ؛ نظرا إلى إثباتهما الحكمين المتنافيين في الموضوع الواحد. وهذا معنى التّعارض كما هو ظاهر على ما ستقف عليه أيضا ؛ حيث إنّ قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق ) مثلا من حيث عدم ورود النّهي في العصير بعد ذهاب ثلثيه بغير النّار مثلا يقتضي حلّيّته ، وقوله عليه‌السلام : ( لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله ) من حيث عدم اليقين بصيرورة العصير في الفرض حلالا يقتضي حرمته فلا محالة يقع التّعارض بينهما.

لكنّه ضعيف أيضا وإن لم يكن في الضّعف كالوجه الأوّل ؛ فإنّ الاستصحاب وإن لم يكن رافعا لموضوع البراءة في الفرض حسّا حتّى يكون واردا عليها ، إلّا

٦٠٢

أنّه بمنزلة المعمّم للنّهي الأوّل فيكون شارحا لقوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) ؛ فإنّ لسان الاستصحاب بقاء النّهي المتعلّق بالعصير بعد الغليان من حيث هو في حكم الشّارع وإن كان حكمه ببقائه ظاهريّا. ومنه ينقدح وجه الوجه الثّالث وكونه وجيها.

هذا كلّه في الاستصحاب الحكمي.

وأمّا الاستصحاب الموضوعي كاستصحاب عدم ذهاب الثّلثين فيما شكّ فيه فأمره من حيث حكومته على البراءة أظهر ؛ حيث إنّ المجعول في الاستصحابات الموضوعيّة على ما أسمعناك مرارا وإن كان هو الحكم الشّرعي أيضا ، إلّا أنّ المستصحب هو الموضوع الخارجي فالمشكوك ذهاب ثلثيه من العصير داخل بحكم (١) الشّارع فيما دلّ على حرمة العصير قبل ذهاب ثلثيه فيكون حاكما على أصالة البراءة المقتضية لحلّيّة المشكوك هذا.

ولكن قد يستشكل فيما ذكرنا : من وضوح حكومة الاستصحاب الموضوعي على أصالة البراءة كما في « الكتاب » بالنّظر إلى الأمثلة المذكورة في الموثقة : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثّوب عليك ولعلّه سرقه ) (٢) الحديث ؛ حيث إنّ ظاهرها كون الحلّيّة في الأمثلة المذكورة فيها مستندا إلى الكلّيّة المذكورة في صدرها ، مع أنّ فيها استصحابات موضوعيّة تقتضي حرمة التّصرف في الأمثلة كأصالة عدم التّملّك

__________________

(١) الكافي الشريف : ٥ / ٣١٣ باب النوادر ـ ح ٤٠ ، والتهذيب : ٧ / ٢٢٦ باب من الزيادات ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الإنفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.

٦٠٣

وعدم تحقّق الزّوجيّة ونحوهما ، فحكم الشارع بالحلّيّة مع جريان تلك الأصول يكشف عن حكومة البراءة على الاستصحاب ؛ ضرورة عدم إمكان رفع اليد عن الموارد الشّخصيّة هذا.

ولكنّك خبير بفساد توهّم حكومة البراءة على الاستصحاب وجعل الموثّقة دليلا عليها من حيث استظهار كون المراد من الكلّيّة المستفادة من صدرها هو الحكم بحلّية جميع التّصرّفات الموقوفة على الملك والزّوجيّة والتّذكية والرّقيّة ونحوها في مرحلة الظّاهر ، وإن كان هناك أصول موضوعيّة تقتضي الحرمة نظير قوله تعالى : أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ (١) المقتضي لحلّيّة جميع التّصرّفات في المبيع ، وإن كان هناك فرق بينهما : من حيث كونه دليلا اجتهاديّا وكون مفاد الموثّقة أصلا عمليّا ؛ لأنّ البناء على هذا المعنى للموثّقة يوجب فقها جديدا على تقدير الالتزام به في جميع الموارد.

ودعوى : الالتزام به مع الخروج عنه بالإجماع في أكثر الموارد ـ كما بنى عليه الأمر بعض السّادة من أعلام عصرنا فيما حكي عنه ـ كما ترى ، فلا بدّ من جعل العنوان للأمثلة المذكورة في الرّواية مجرّد التّقريب لا التّمثيل للكلّيّة المذكورة في صدرها ، فلا ينافي كون الحلّيّة فيها مستندا إلى ما هو حاكم على الاستصحابات الموضوعيّة المذكورة : كصحّة التّصرّف فيما كان في يد الغير ، وأصالة صحّة العقد الصّادر من أهله ، وأصالة عدم تحقّق النّسب والرّضاع المحرّمين ؛ فإنّها ـ كما ترى ـ حاكمة على تلك الأصول لا إلى مجرّد الشّك في

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٦٠٤

الحلّيّة والحرمة حتّى ينافي ما ذكرنا هذا.

وقد ذكرنا بعض الكلام فيما يتعلّق بشرح الرّواية ودفع الإشكال عنها في الجزء الثّاني من التّعليقة (١) فراجع إليه هذا شأن قاعدة البراءة بالنّسبة إلى استصحاب التّكليف.

وأمّا استصحاب البراءة المقابل لاستصحاب التّكليف ، فهو على تقدير إمكانه وتصوّره خارج عن مفروض البحث ؛ لأنّه داخل في تعارض الاستصحابين لا تعارض الاستصحاب والبراءة ، إلّا أنّ الشّأن في إمكانه ؛ حيث إنّ الحالة السّابقة للشّيء الواحد لا يمكن أن يكون التّكليف وعدمه ، إلّا أن يفرض خروجه عن الوحدة ورجوعه إلى تعدّد الموضوع ولو باعتبار من الاعتبارات ، كما هو مبنى ما تقدّم عن بعض أفاضل مقاربي عصرنا فيما سلكه من إيقاع التّعارض بين استصحابي الوجود والعدم. هذا بعض الكلام في حكم تقابل الاستصحاب مع البراءة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم وقوع التّعارض الحقيقي بين الاستصحاب والبراءة ٢٢٣ / ٣ على كلّ تقدير وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه أصلا ، إلّا أنّ كلمات جمع من الأصحاب سيّما الشّيخ والمحقّق والعلّامة في جملة من كلماتهم لا يساعد عليه كما يظهر بالتّصفح فيها ، فلعلّ الوجه كون مبنى الأصلين عندهم على الظّنّ النّوعي الحاصل من ملاحظة الحالة السّابقة أو غيرها فتأمل.

تعارض الاستصحاب مع الاحتياط

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٥٤.

٦٠٥

المقام الثاني : في حكم مقابلته مع أصالة الاحتياط وقاعدة الشّغل.

فإن استندنا في القاعدة في مواردها إلى حكم العقل بها فلا إشكال في ورود الاستصحاب عليها ؛ من حيث إنّ مبنى حكم العقل بها هو حكمه بوجوب دفع العقاب المحتمل على ما عرفته مرارا. ومن المعلوم ضرورة بحكم العقل ارتفاع احتمال العقاب بتجويز الشّارع لترك محتمل الوجوب أو التّحريم ولو في مرحلة الظّاهر ، فإذا أجري استصحاب التّمام أو القصر في موارد دوران الأمر بينهما موضوعا أو حكما فلا يجري قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب الجمع بينهما ؛ لحصول البراءة القطعيّة عن تبعة مخالفة الواقع على تقدير الاقتصار على المستصحب ، وإن كان الخطاب الواقعي بالواقع باقيا على تقدير مخالفة الاستصحاب له فيحكم بوجوب الإعادة والقضاء على تقدير انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه.

وإن استندنا فيها إلى أخبار الاحتياط :

فإن قلنا : بأنّ مفادها تأكيد حكم العقل بها ، وأنّ الموضوع فيها دفع التّهلكة المحتملة في الواقع المردّد المجهول ـ كما بنينا الأمر عليه في مطاوي كلماتنا السّابقة في الجزء الثّاني من التّعليقة على تقدير تسليم دلالتها على خصوص الطّلب الإلزامي الإرشادي لا الطّلب الإرشادي القدر المشترك على ما استظهرناه منها فيما قدّمناه لك ثمّة ـ فحالها حال حكم العقل بها فيكون الاستصحاب واردا عليها.

وإن قلنا : بأنّ مفادها التّأسيس والوجوب الشّرعي الظّاهري المتعلّق بالواقع

٦٠٦

المردّد المحتمل ـ على ما يظهر من بعض الأصحاب ـ فحالها حال ما يستفاد منه التّأسيس والحلّيّة الشّرعيّة الظّاهريّة المتعلّقة بنفس محتمل التّحريم من أخبار البراءة ، فيكون الاستصحاب حاكما عليها ، كيف! وفي موارد الصّحاح من أخبار الاستصحاب يكون القاعدة على خلافها كما هو ظاهر ، هذا حال الاستصحاب مع القاعدة.

وأمّا استصحاب الاشتغال في موردها فقد أسمعناك مرارا : أنّه لا يجري في مورد القاعدة ؛ من حيث إنّ بقاء الاشتغال بحسب الواقع ونفس الأمر لا يترتّب عليه أثر حتّى يجري استصحابه.

ثمّ مع الغضّ عن ذلك يدخل في مسألة تقابل الاستصحابين فلا تعلّق له بالمقام ، وإن كان يتّضح حكمه ممّا سنوضح لك : من حكومة الاستصحاب في الشّك السّببي على الاستصحاب في الشّك المسبّبي ؛ حيث إنّ الشّك في بقاء الاشتغال بالواقع مسبّب دائما عن تردّده فإذا حكم بتعيينه في مرحلة الظّاهر بالاستصحاب فيرتفع التّردّد عنه بحكم الشّارع.

تعارض الاستصحاب مع أصالة التخيير

المقام الثالث : في تقابل الاستصحاب مع أصالة التّخيير ، ولا إشكال في وروده عليها من حيث انحصار مدركها في حكم العقل المرتفع موضوعه بالوجدان بمجرّد قيام الدّليل على تعيين أحد الاحتمالين وترجيحه على صاحبه ولو في مرحلة الظّاهر ، فإذا حكم بمقتضى الاستصحاب بكون اليوم المردّد بين رمضان وشوّال من رمضان فلا يجري أصالة التّخيير بين احتمالي الوجوب

٦٠٧

والتّحريم في اليوم المذكور على تقدير القول بكون صوم يوم العيد حراما ذاتا لا تشريعا ، وإلّا فيخرج عن مورد أصالة التّخيير كما هو ظاهر هذا كلّه في تقابل الاستصحاب مع أصالة التّخيير.

وأمّا لو فرض هناك مورد وقع التّعارض بين استصحاب التّخيير واستصحاب المختار كما يتّفق كثيرا في مسائل التّقليد وقليلا في غيرها فهو خارج عن مفروض تعارض أصالة التّخيير والاستصحاب وداخل في مسألة تعارض الاستصحابين مع وضوح حكمه ؛ من حيث إنّ استصحاب التّخيير حاكم دائما على استصحاب المختار فيما كان استصحاب التّخيير جاريا هذا.

مع أنّ استصحاب التّخيير لا تعلّق له باستصحاب التّخيير الّذي هو محلّ الكلام ؛ ضرورة عدم تطرّق الشّك إلى حكم العقل فيما يحكم فيه بالتّخيير حتّى يتصوّر فيه الاستصحاب ، فلا بدّ أن يكون التّخيير المستصحب تخييرا شرعيّا يتصوّر فيه الشّك وهو ليس من الأصول كما هو ظاهر.

(٤٠٣) قوله : ( وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين وهي المسألة المهمّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٩٣ )

تعارض الإستصحابين

أقول : المراد من التّعارض في المقام كما في كثير من المسائل المتقدّمة هو مجرّد التّقابل في أوّل الأمر المجامع مع الورود والحكومة أيضا ، لا ما هو المراد من ظاهره عند الإطلاق الغير المجامع معهما.

ثمّ إنّ ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) : من كثرة الأقسام المتصوّرة في المقام

٦٠٨

وعدم تأثير الاختلاف في حكم المتعارضين ، إلّا من جهة واحدة جامعة لجميع صور الاختلاف والتّعارض أمر واضح لا سترة فيه أصلا ، كوضوح ما أفاده : من عدم تعقّل كون الشّك في كلّ منهما مسبّبا عن الشّك في الآخر ؛ ضرورة استحالة كون الشّيء علّة لشيء ومعلولا له.

وأمّا ما توهّم : من المثال له بالعامين من وجه ، فهو فاسد جدّا ؛ لأنّ الشّك فيهما بالنّسبة إلى مادّة الاجتماع والتّعارض مسبّب عن سبب العلم بعدم إرادة الظّاهرين كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ أمثلة القسم الأوّل كثيرة : كاستصحاب كرّية الماء وإطلاقه بالنّسبة إلى استصحاب نجاسة المغسول به ، وحدث المكلّف واستصحاب طهارة المكلّف بالنّسبة إلى استصحاب اشتغال ذمّته بالصّلاة على القول بجريان استصحاب الشّغل ونحوهما ممّا يعتبر فيه الطّهارة ، واستصحاب نجاسة الملاقي بالنّسبة إلى استصحاب طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ إلى غير ذلك ممّا لا يخفى. ٢٢٤ / ٣

ثمّ إنّ ما أفاده في حكم هذا القسم من لزوم العمل بالاستصحاب في الشّك السّببي وعدم الاعتناء بالاستصحاب في الشّك المسبّب لا لمكان التّرجيح ، بل لتقدّمه عليه ذاتا من جهة حكومته عليه ، وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه أصلا ـ وقد نفى الإشكال عنه جمع من محقّقي المتأخّرين ـ إلّا أنّه قد خالف فيه جمع من الأصحاب في جملة من كلماتهم وهم بين من يعامل معهما معاملة المتعارضين ـ كالمحقّق فيما تقدّم من كلامه عند الكلام في حجّية الاستصحاب وغيره كما ستقف عليه ـ ومن يعمل بهما في الجملة كالمحقّق القمّي قدس‌سره في بعض كلماته في « القوانين » ؛ حيث جمع بين استصحاب نجاسة الملاقي واستصحاب طهارة

٦٠٩

الملاقى ـ بالفتح ـ على ما عرفته وستعرفه.

ثمّ إنّ الكلام في حكم القسم الأوّل : قد يقع بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبد والأخبار وكونه من الأصول كما هو المختار المرضي عند أكثر المحقّقين من المتأخّرين ، وقد يقع بناء على القول به من باب الظّن.

ومنه ينقدح ما في التّمسّك بالإجماع في المقام كما في « الكتاب » ، مضافا إلى وهن دعوى الإجماع بنقله الخلاف عن جماعة ـ إلّا أن يحمل على الاشتباه في الموضوع والصّغرى فتدبّر ـ بكون أصل اعتبار الاستصحاب خلافيّا ـ إلّا أن يحمل على الإجماع التّقديري فتأمل ـ لم يلاحظ فيه أحد القولين بخصوصه ؛ فإنّ تقديم الاستصحاب في الملزومات على استصحاب عدم لوازمها في الجملة وعدم معاملة المتعارضين معهما كما فيما ذكره من الأمثلة ونحوها ممّا لا يفرّق فيه بين القولين ، فكأنّه في مقام دعوى الإجماع من الفريقين فتدبّر.

وممّا ذكرنا يظهر : أمر التّأييد بالسّيرة وأنّ مبناه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد والأخبار أو مطلقا.

بيان دلالة الأخبار على تقديم الأصل في الشك المسبّب

أمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد والأخبار : فقد تمسّك لتعيين العمل بالاستصحاب في الشّك السّببي بوجوه ، عمدتها : الوجه الأوّل المعبّر عنه في « الكتاب » بالوجه الثّاني.

الأوّل : دلالة الأخبار بأسرها عليه : من حيث دوران الأمر فيها من الحكم بشمولها للشّك السّببي دون الشّك المسبّبي ، أو العكس بين التّخصّص بحكم

٦١٠

الشّارع والتّخصيص من غير مخصّص يقتضيه ؛ فإنّ المفروض كون ارتفاع المستصحب في الشّك المسبّب من الأحكام واللّوازم الشّرعيّة للمستصحب في الشّك السّبب ، فإذا كان معنى حكم الشّارع بعدم نقض الشّيء والبقاء عليه في الموضوعات جعل آثارها الشّرعيّة في مرحلة الظّاهر لزمه رفع الشّك المسبّب بحكم الشّارع ، فكأنّه لا شكّ حتّى يشمله الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك.

وهذا بخلاف ما لو حكم بشمولها للشّك المسبّب ؛ حيث إنّ ارتفاع المستصحب في الشّك السّبب ليس من أحكام مستصحبه بالفرض ، فيلزم ما ذكر :

من طرح عموم الأخبار بالنّسبة إلى الشّك السّبب من غير مخصّص يقتضيه ، وهذا ممّا لا يجوّزه العرف المرجع في باب الألفاظ فعموم نفس الأخبار بالملاحظة المذكورة قاض بإرادة الشّك السّبب وعدم إرادة الشّك المسبّب ، فليس هناك طرح لعموم الأخبار بالنّسبة إلى الشّك المسبّب حتّى يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا الأستاذ العلّامة بقوله : ( ودعوى : أنّ اليقين بالنّجاسة أيضا من أفراد العام فلا وجه لطرحه ... إلى آخر ما أفاده ) (١) كي يحتاج في دفعه إلى النّقض المتوجّه عليه والحلّ المنظور فيه ؛ حيث إنّ الحكم بشمول ما دلّ على حصول الطّهارة للمغسول بالماء الظّاهر مع الشّك في الموضوع في مرحلة الظّاهر بحيث يستدلّ عليه مع الشّك ممّا لا معنى له ، وإن كان على تقدير تحقّق الموضوع في مرحلة الواقع مرادا منه في نفس الأمر.

وفائدة استصحاب الموضوع ومرجعه على ما سمعته مرارا منّا ومن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٩٦.

٦١١

شيخنا ( دام ظلّه ) : ليس جعل الموضوع وإيجاده ثمّ التّمسّك بالدّليل المثبت للحكم ، بل مرجعه إلى جعل ما حمل عليه من الأحكام الشّرعيّة في مرحلة الظّاهر ، فكيف يقال : إنّ نقض اليقين بذلك الدّليل لا بالشّك؟ وإن كان ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) بالنّسبة إلى العمل باستصحاب نجاسة الثّوب بقوله : ( بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النّجاسة ... إلى آخره ) (١) مستقيما ؛ ضرورة عدم كون زوال الطّهارة عن الماء من الأحكام الشّرعيّة لنجاسة الثّوب ، وإن كان بقاؤها في الثّوب في مرحلة الواقع كاشفا عن سبق تنجّس الماء قبل غسل الثّوب به.

لكنّه على ما عرفته مرارا لا يفيد في المقام حتّى على القول باعتبار الأصول المثبتة ، اللهمّ إلّا أن يوجّه ما أفاده : بأنّ غرضه ممّا ذكره ليس ما يتراءى من ظاهره من التّمسّك باستصحاب الموضوع ، أي : طهارة الماء في المثال ثمّ التّمسّك بالدّليل المثبت لحكمه ، بل غرضه التّمسّك باستصحاب الموضوع بعد الفراغ عن ثبوت حكمه المذكور بالدّليل الاجتهادي وبملاحظته فيرجع إلى ما ذكرنا من البيان لوجه تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب على الاستصحاب في الشّك المسبّب.

ومن هنا يتوجّه عليه الإشكال المذكور بقوله : ( وقد يستشكل : بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثّوب المغسول به ... إلى آخره ) (٢) إذ هو صريح في جعل الاستصحاب في الشّك السّبب بنفسه دليلا على عدم شمول العام للشّك المسبّب من دون ضمّ شيء آخر إليه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٩٧.

(٢) نفس المصدر.

٦١٢

ثمّ إنّ حاصل ما أفاده من الإشكال في وجه التّقديم المذكور : أنّ المفروض عدم قيام دليل من الخارج على عدم إرادة الشّك المسبّب من عموم الأخبار حتّى يجعل قرينة على التّخصيص وإنّما الغرض جعل نفس شمول العام للشّك السّبب كاشفا عن عدم إرادته وخروجه عن العموم ، وهو غير معقول بعد فرض تساويهما في الفرديّة ، وكون نسبة العموم إليهما نسبة واحدة من دون تفاوت وتقدّم وتأخّر في نسبته إليهما فيكونان كالشّكين المسبّبين عن أمر ثالث من حيث لزوم إجمال العموم بالنّسبة إليهما ، وعدم جواز جعله دليلا على إرادة شيء منهما بخصوصه ، ٢٢٥ / ٣ وإلّا أمكن عكس ذلك وجعل شمول العام للشّك المسبّب مانعا عن شموله للشّك السّبب لامتناع إرادته مع إرادته. ولمّا لم يكن ثمّة ترجيح لشيء من الشّمولين حكم بتساويهما ، كما هو الشّأن في الشّكين المسبّبين عن أمر ثالث ومجرّد كون أحد الشّكين سببا للآخر لا يوجب التّرجيح بعد فرض وجودهما في الخارج وكون نسبة العموم إليهما نسبة واحدة على ما عرفت.

وأمّا ما أفاده في الدّفع عن الإشكال المذكور فيرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنّ تحقّق الشّك السّبب في الخارج وكونه مرادا من العموم في نفسه مع قطع النّظر عن مانعيّة الشّك المسبّب على ما يدّعيها الخصم مفروض لا شبهة فيه أصلا ، وأمّا الشّك المسبّب فجعله من إفراد العموم بحيث يحكم بإرادته منه يتوقّف على الحكم بخروج المفروق فرديّته بالمعنى الّذي عرفته عن العموم ؛ حيث إنّ لازم دخوله ومعنى عدم الالتفات إليه هو رفع اليد عن الشّك المسبّب ؛ حيث إنّه من أحكامه الشّرعيّة بالفرض فإذا استند في خروجه عنه إلى دخول الشّك المسبّب توجّه عليه الدّور الظّاهر ولا يلزم مثله في العكس ؛ فإنّ رفع اليد عن

٦١٣

الشّك السّبب ليس من أحكام عدم النّقض الشّكّ المسبّب على ما هو المفروض.

ثانيهما : أنّ الشّك المسبّب باعتبار متعلّقه كما يكون معلولا للشّك السّبب كما هو قضيّة السّببيّة والمسببيّة بين الشّيئين مطلقا كذلك يكون حكم المحمول على الشّك السّبب معلولا له في الجملة على ما هو الشّأن في كلّ محمول بالنّسبة إلى موضوعه فيكون نسبتهما إلى الشّك السّبب نسبة واحدة وفي مرتبة واحدة فلا يمكن شمول الحكم الّذي هو المحمول للشّك المسبّب المقتضي لتقدّمه عليه ، مع أنّهما في مرتبة واحدة بالفرض ، والعموم الأصولي وإن انحلّ إلى محمولات متعدّدة لموضوعات متعدّدة ، إلّا أنّه من لوازم كون المحمول من لوازم وجود الموضوع أينما تحقّق من دون مدخليّة شيء في الحمل. فلا يقال : إنّ الحكم المحمول على الشّك المسبّب المتأخّر عنه مرتبة غير الحكم المحمول على الشّك السّبب الّذي فرض كونه في مرتبة الشّك المسبّب فتدبّر.

فإن شئت قلت : إنّ معنى حمل العموم على الشّك السّبب المقدّم رتبة على الشّك المسبّب إذا كان رفع اليد عن الشّك المسبّب فلا يمكن حمله عليه أيضا بعد فرض تأخّره عن الشّك السّبب فتأمل ، هذا غاية ما يحرّر في توضيح ما أفاده في بيان هذا الوجه ومع ذلك منه في النّفس شيء.

* * *

٦١٤

لازم تقديم الإستصحاب في الشك السببي

تخصيص الاخبار بالإستصحاب الحكمي

الثّاني : أنّ لازم القول بعدم تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب والمعاملة معه معاملة التّعارض تخصيص الأخبار بالاستصحاب الحكمي وهو مع منافاته لموردها خلاف صريح ما التزم به الخصم. بيان ذلك :

أنّ المجعول بالاستصحاب الموضوعي ـ على ما أسمعناك مرارا ـ الآثار الشّرعيّة المحمولة على الموضوع النّفس الأمري في مرحلة الظّاهر ، والغرض إنّما يتعلّق بجعل الآثار المسبوقة بالعدم المترتّبة على بقاء الموضوع في زمان الشّك ؛ لأنّ الآثار المشاركة مع المستصحب في الوجود السّابق يجري الاستصحاب في أنفسها فيغني استصحابها عن استصحاب نفس الموضوع ، فإذا حكم بالتّعارض بين استصحاب الملزوم واستصحاب اللّازم فلا محالة يقع التّعارض بين استصحاب الموضوع واستصحاب عدم تلك الآثار ، فلا بدّ من تخصيص الأخبار بالشّبهة الحكميّة الّتي لا يراد بالاستصحاب فيها إلّا جعل نفس المستصحب في مرحلة الظّاهر على ما عرفته مرارا.

وهذا الوجه كما ترى ضعيف بما في « الكتاب » : من أنّ استصحاب الموضوع فيما كان الشّك في الحكم مسبّبا عن الشّك فيه محتاج إليه على تقدير وقول بالنّسبة إلى الآثار المشاركة مع المستصحب في اليقين السّابق ، فلو بني على المعارضة بالنّسبة إلى الآثار المسبوقة بالعدم المترتّبة على الوجود اللّاحق لم يلزم

٦١٥

منه تخصيص الاستصحاب بالشّبهات الحكميّة ، مع أنّه لا يظنّ بالقائل بالمعارضة بين الاستصحابين في الفرض العمل به مطلقا حتّى بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي فتدبّر.

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال بالوجه المذكور كما ترى على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن أيضا.

تقدّم الأصل في الشك السببي على الأصل في الشك المسبّبي

الثّالث : دلالة الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك بالصّراحة على إعمال الاستصحاب في الشّك السّبب وإلقائه بالنّسبة إلى الشّك المسبّب ؛ حيث إنّ المفروض في مواردها وجود الشّكين ، ألا ترى إلى صحيحة زرارة : المعلّلة للبناء على الوضوء السّابق بكونه متيقّنا بالطّهارة ، وإلى صحيحته الأخرى : المعلّلة للبناء والمضي على الصّلاة إذا رأى النّجاسة بعدها مع احتمال وقوعها على الثّوب قبل الصّلاة بكونه متيقّنا بطهارة الثّوب في السّابق؟ مع أنّ قضيّة استصحاب الشّغل في المثالين على ما يقول به المشهور : من جريانه في مورد جريان قاعدة الشّغل عدم القناعة مع الشّك المفروض.

ومن هنا حكم المحقّق فيما عرفت من كلامه بالتّعارض بين استصحاب الطّهارة واستصحاب الاشتغال هذا مع دلالة العقل الضّروري على ذلك : من حيث إنّ تعليل تقديم أحد الشّيئين على الآخر بالعلّة المشتركة قبيح في الغاية وفضيح إلى النّهاية ، بل أقبح من التّرجيح من غير مرجّح كما هو ظاهر وهذا الوجه كما ترى لا غبار فيه أصلا ، إلّا أنّه لا بدّ أن يكون مبنيّا على مذاق القوم من جريان

٦١٦

استصحاب الشّغل ـ على ما عرفت في تقريب هذا الوجه ـ هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار والتّعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن ، فالمستفاد ممّا أفاده شيخنا العلّامة ( دام ظلّه ) في « الكتاب » : كون تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب أظهر ٢٢٦ / ٣ منه على تقدير القول به من باب التّعبّد مستدلّا على ذلك : بأنّ ( الظّن بعدم اللّازم (١) مع فرض الظّن بالملزوم محال عقلا ، فإذا فرض حصول الظّن بطهارة الماء عند

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قد توهّم : انه يمكن أن ينعكس ذلك ويكون الظّنّ بالملزوم أيضا محالا ، مع الظّنّ بعدم اللازم ، وانّه لا يستلزم الظّنّ به الظّنّ بالملزوم ، وكذلك الظّنّ بعدمه يستلزم الظّنّ بعدم الملزوم فيمتنع معه الظّنّ بتحققه كما لا يخفى.

قلت : لما كان لازم الشّيء تبعا له وشأنا من شئونه ما كان ملاحظة وجوده أو عدمه السّابق مورثا للظّن ببقائه على ما هو عليه مع الإلتفات إلى حاله ، وانّه ليس في البقاء عليه وعدمه إلّا تابعا لملزومه ، ومعه كيف يوجب سبق ما هو عليه من الحالة الظّنّ على خلاف الظّنّ بما كان الملزوم عليه؟ ولهذا لا يتفاوت الظّنّ الإستصحابي قوّة وضعفا بأن يكون للمستصحب لوازم كثيرة متحقّقة سابقا أو لم يكن ، مع انّه لو كان سبق الحالة في اللّوازم الكثيرة مورثا للظّن ، فلا جرم كان الإستصحاب في الملزومات متقوّما بالاستصحاب فيها كما لا يخفى. نعم لا ريب في إمكان قيام الامارات الخارجيّة في طرف اللّازم على خلاف ما طرف الملزوم فيتعارضان ، فإنّ الأمارة على كلّ منهما يكون أمارة على الآخر.

فإن قلت : هب انّ الأمر مع الالتفات إلى أنّه لازم من أوّل الأمر كما ذكرت ، لكنّه لا ريب أنّه لو لم يلتفت إليه من الأوّل يحصل الظنّ من سبق وجود اللّازم أو عدمه.

قلت : نعم لكن بمجرّد الالتفات إلى حاله يزول ظنّه ويتبع في الظّنّ بالبقاء والارتفاع الظّنّ ببقاء ملزومه على ما كان عليه ، فافهم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤١٧.

٦١٧

الشّك ، فيلزمه عقلا الظّن بزوال النّجاسة عن الثّوب ... إلى آخر ما أفاده مستشهدا عليه ببناء العقلاء البانين على الاستصحاب في أمور معاشهم بل معادهم ؛ حيث إنّهم لا يعتنون في موارد وجود الشّكين إلى الاستصحاب في الشّك المسبّب أصلا وأبدا ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وقد يناقش فيه :

تارة : بأنّ ذلك إنّما يستقيم على القول بإناطة الاستصحاب بالظّن الشخصي المهجور عند المشهور ، وعند شيخنا على ما عرفت في محلّه. وأمّا على القول بإناطته بالظّن النّوعي المطلق الحاصل بملاحظة الحالة السّابقة فلا يستقيم أصلا ؛ حيث إنّه على هذا القول لا يدور مدار الظّن الفعلي في الموارد الشّخصيّة ، فعدم حصول الظّن بعدم اللّازم فعلا مع الظّن بالملزوم لا يمنع من حجيّته مع إفادته الظّن في نفسه بالنّظر إلى الحالة السّابقة.

وأنت خبير بأنّ المناقشة المذكورة مبنيّة على الغفلة عن مراد عبارة « الكتاب » ؛ فإنّه كما يمتنع حصول الظّن بعدم اللّازم مع فرض حصول الظّن بالملزوم كذلك ، يمتنع حصول الظّن بالملزوم مع فرض الظّن بعدم لازمه ؛ فإنّ الظّن بعدم المعلول يلازم الظّن بعدم العلّه ؛ فكيف يجامع الظّن بوجود العلّة؟ فأينما فرض حصوله في شخص المقام من الظّنين يمتنع معه حصول الظّن الآخر ، سواء فرض الظّن بالعلّة أو عدم العلّة ؛ فتصديق ما أفاده على القول بابتناء الاستصحاب على الظّن الشّخصي ممّا لا محصّل له أصلا ، ولا ينبغي التّكلّم فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.

٦١٨

وإنّما الكلام في المقام في مزاحمة السّبب الكاشف عن وجود الملزوم في نفسه ولو خلّي وطبعه للسّبب الكاشف عن عدم المعلول ، وأنّهما في مرتبة واحدة حتّى يتحقّق المزاحمة أم لا. فالغرض ممّا أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) : أنّ السّبب الكاشف عن وجود العلّة لا يمكن أن يكون كاشفا عن عدم معلولة.

وأخرى : بأنّ انتقال الذّهن أوّلا إلى الملزوم ، ثمّ إلى لازمه على ما هو قضيّة اللّزوم والتّبعيّة إنّما يستقيم فيما لم يكن هناك سبب كاشف عن حال اللّازم في عرض السّبب الكاشف عن حال الملزوم ، وفي المقام ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ المقتضي للظّن بالنّسبة إلى الملزوم هي الحالة السّابقة المتحقّقة بالنّسبة إليه وجودا ، كما أنّ المقتضي للظّنّ بعدم اللّازم هي الحالة السّابقة المتحقّقة بالنّسبة إليه عدما ؛ فهما في مرتبة واحدة لا ترتيب بينهما أصلا.

وأنت خبير بضعف هذه المناقشة أيضا ، فإنّ للشّك في البقاء مدخلا في حصول الظّن من الاستصحاب جدّا ، فإذا كان الشّك في اللّازم من جهة الشّك في الملزوم على ما هو المفروض كان حال الذّهن في الثّاني تابعا لحاله في الأوّل ، فإنّ المفروض عدم الشّك فيه من غير جهة الملزوم.

فإن شئت قلت : إنّ السّبب المقتضي للظّن بالملزوم نوعا يمنع أن يكون مقتضيا للظّن بعدم لازمه كذلك ، والمفروض كون السّبب متّحدا نوعا وسنخا وإن تعدّد أشخاصه بالنّسبة إلى الأمور المتحقّقة في السّابق ، فتدبّر.

٦١٩

(٤٠٤) قوله : ( ثمّ إنّه يظهر الخلاف في المسألة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠١ )

نقل بعض ما يدل على معارضة البراءة للإستصحاب

أقول : قد تقدّمت الإشارة إلى كون المسألة ممّا اضطربت فيها كلماتهم ، بل قد يظهر منها معارضة البراءة للاستصحاب ، مع أنّها أولى بعدم المعارضة ؛ من حيث كون الاستصحاب واردا عليها قال المحقّق قدس‌سره في « المعتبر » في باب الزّكاة :

« لو كان له مملوك لا يعلم حياته ، قال الشّيخ في « الخلاف » : لا يلزم فطرته ، وللشّافعي قولان : أحدهما : يلزمه لأنّ الأصل بقاؤه. واحتجّ آخرون لذلك أيضا : بأنّه يصحّ عتقه في الكفّارة إذا لم يعلم موته. واحتجّ الشّيخ : بأنّه لا يعلم أنّ له مملوكا فلا يجب زكاته عليه. وما ذكره الشّيخ ، حسن ؛ لأنّ الزّكاة انتزاع مال يتوقّف على العلم بسبب الانتزاع ، ولم يعلم. وقولهم : إنّ الأصل البقاء معارض بأنّ الأصل عدم الوجوب. وقولهم : يصحّ العتق في الكفّارة عنه جوابان :

أحدهما : المنع ، ولا يلتفت إلى من يقول : الإجماع على جواز عتقه ؛ فإنّ الإجماع لا يتحقّق من رواية واحدة وفتوى اثنين أو ثلاثة.

والجواب الآخر : الفرق بين الكفّارة ووجوب الزّكاة ؛ لأنّ العتق إسقاط ما في الذّمّة من حقّ الله ، وحقوق الله مبنيّة على التّخفيف. والفطرة إيجاب مال على مكلّف لم يثبت سبب وجوبه عليه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فلو كان مراده من أصالة عدم الوجوب : استصحاب عدمه فيدخل في

__________________

(١) المعتبر في شرح المختصر : ج ٢ / ٥٩٨.

٦٢٠