بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

الحاكم ، وهو مبنيّ على ما ذكره ( دام ظلّه ) في مسألة العلم الإجمالي : من أنّ العلم الإجمالي مانع عن أصل جريان الأصول في أطرافها ، لا أنّها جارية مع العلم الإجمالي ، ويكون الوجه في عدم العمل بها تساقطها بعد التّعارض كما هو أحد ٣ / ١١٢ المسلكين اللّذين عرفتهما في الجزء الثّاني من التّعليقة في الشّك في المكلّف به في الشّبهة المحصورة.

لا يقال : إنّ هذا العلم متحقّق على قول المشهور أيضا ؛ فإنّه لا يعقل الفرق في وجوده بين القولين كما لا يخفى.

لأنّا نقول : العلم المذكور وإن كان موجودا على كلّ تقدير ، إلّا أنّ من المعلوم أنّه لا أثر له على ما ذهب إليه المشهور ؛ لأنّ المفروض ـ على قولهم وقولنا ـ عدم

__________________

وغيره.

وكيف كان : هذا الكلام في حد نفسه غير مستقيم ؛ لأنه لما جعل استصحاب عدم تأثير الوضوء في الطهارة كاستصحاب عدم جعل المذي رافعا كليهما محكوما ؛ لأن الشك فيهما ناش عن الشك في ان المجعول في هذه الحالة في حق المكلّف هو الحدث أو الطهارة ، لزم أن يحكم بجريان استصحاب الطهارة ؛ لانه سليم عن المعارض ، والعلم الإجمالي بجعل الشارع أحد الأمرين في حق المكلّف غير مانع عن جريان هذا الإستصحاب ، وإنّما يمنع العلم الإجمالي من إجراء الأصلين في طرفي العلم في الشبهة المحصورة من جهة أن إجراءهما يوجب طرح العلم ، وهذا غير ما نحن فيه ؛ لأن الأصل في أحد الطرفين محكوم بالفرض غير جار ، ويبقى الأصل في الطرف الآخر بلا مزاحم ولا مانع ؛ إذ بجريانه لا يلزم طرح العلم الإجمالي فليتأمّل.

والأولى إسقاط هذه العبارة من متن الكتاب » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٤١.

٤١

وجود الحالة السّابقة لاستصحاب العدم في أمثال الفرض ، بل المتحقّق على المشهور والمختار : استصحاب واحد وحالة سابقة واحدة ، ومن الواضح : أنّ العلم الإجمالي إذا لم يكن له أثر على كلّ تقدير لم يكن قادحا في اعتبار الأصل ، وحال العلم بوجود أحد من الحدث والطّهارة في زمان الشّك بالنّسبة إلى ما اخترناه من هذا القبيل ؛ لأنّه على تقدير كون الموجود هو الطّهارة لا يكون هناك ما ينافي الحالة السّابقة كما لا يخفى هذا.

ولو لا ما ذكرنا لزم سدّ باب اعتبار الاستصحاب في جميع المقامات ؛ لأن في جميع موارد الشّك يعلم المكلّف بأنّه إمّا أن يكون المستصحب باقيا واقعا على ما كان أو معدوما ويكون المحلّ مشغولا بضدّه ، وهذا بخلاف البناء على ما ذكره ؛ الفاضل المتقدّم ذكره ؛ فإنّ العلم الإجمالي ـ على ما ذكره ـ يكون مؤثّرا على كلّ تقدير ؛ فإنّه على أحد التّقديرين مناف للاستصحاب الوجودي ، وعلى الأخر مناف للاستصحاب العدمي كما لا يخفى.

فإذا بني على أنّ اليقين النّاقض لليقين السّابق أعمّ من اليقين الإجمالي والتّفصيل كان اللّازم الحكم بعدم جريان كلا الاستصحابين ، كما أنّه إذا بني على أنّ العلم بالحرمة أو القذارة الّذي جعل غاية للحليّة الظّاهريّة والطّهارة الظّاهريّة أعمّ من الإجمالي والتّفصيلي لم تجر أصالة الحليّة والطّهارة بالنّسبة إلى شيئين علم بحرمة أحدهما أو نجاسته هذا.

ولكن لا بدّ من أن يعلم أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) هنا مبنيّ على ما أطلق القول به في بعض كلماته : من أنّ العلم الإجمالي رافع لاعتبار الأصل مطلقا سواء كان استصحابا أو غيره ، وأمّا بناء على ما تقدّم منه ( دام ظلّه ) في الجزء الأوّل من

٤٢

التّعليقة عند التّكلم في دليل الانسداد : من الفرق في هذا المعنى بين الاستصحاب وغيره من الأصول حسب ما عرفت تفصيل القول في وجهه منّا ثمّة في الجزء الأوّل من التّعليقة فلا ، هذا.

وربّما يقال بالفرق بين الفرض في المقام وما ذكره هنا : من جريان أحد الاستصحابين ، وهو لا يخلو عن تأمّل فراجع وتأمّل. هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه ) مع توضيح منّا.

تنبيهات

ولكن لا يخفى عليك أنّه بقي هنا أمور لم ينبّه عليها ( دام ظلّه ) لا بأس بالتّنبيه عليها.

الأوّل : أنّ ما أورده ( دام ظلّه العالي ) على الفاضل المتقدّم ذكره أخيرا : من أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي غير جار ليس مختصّا بالشّك في الحكم الجزئي ، بل يجري في الشّبهات الحكميّة الكليّة والشّبهات الموضوعيّة أيضا بناء على ما ستعرف إثباته منّا عن قريب من جريان ما ذكره من تعارض الاستصحابين في الشّبهات الموضوعيّة.

الثّاني : أنّ ما ذكره الفاضل المتقدّم ذكره : من أنّ الاستصحاب الوجودي في غير الأمور الشّرعيّة جار وسليم عن المعارض بعدم جريان استصحاب حال العقل فيه ، لم يعلم له معنى محصّل ؛ إذ غاية توجيه ما عرفت منّا في وجهه : من أنّ الوجود فيه ليس جعليّا حتّى يجعل له حدّ وزمان فيكون رافعا للعدم بقول مطلق وينتقض العدم به كذلك ، وهو كما ترى خال عن التّحصيل.

٤٣

لأنّه إن أريد به أنّ الأمر الغير الشّرعي ممّا لا يقبل الانعدام بل إذا وجد يبقى أبد الآباد.

ففيه ـ مضافا إلى أنّه مصادمة للضّرورة والوجدان ـ : أنّه لو كان الأمر كذلك لما جرى الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الاستصحاب مختصّ بما يشكّ في بقائه القابل للانعدام وإلّا لم يعقل معنى للشّك فيه كما لا يخفى ، وبالجملة : لم يظنّ بمن دونه في المرتبة أن يقول بهذه المقالة فضلا عنه.

وإن أريد أنّ الأمر الغير الشّرعي قابل للانعدام أيضا تارة : من جهة تماميّة استعداده للبقاء ، وأخرى : من جهة وجود الرّافع له مع بقاء الاستعداد قطعا ، إلّا أنّه فرق بين الوجودين في كيفيّة ارتفاع العدم الأزلي بهما.

ففيه : أنّه لم يعقل الفرق بينهما بعد تسليم جريان ما ذكره في الأمر الغير الشّرعي أيضا ، فإذا شكّ في بقاء الأمر الخارجي من جهة الشّك في تماميّة استعداده ، فيقال ـ في مورد الشّك ـ : أنّ القدر المتيقّن من انتقاض عدمه بالوجود إنّما هو في هذا المقدار ، وأمّا في غيره فالأصل بقاء العدم الأزلي ، وكذا إذا شككنا في بقاء ما كان موجودا في السّابق من الأمور الغير الشّرعيّة من جهة الشّك في وجود الرّافع لها يقال بالنّسبة إليه بما عرفته في الحكم الجزئي.

ومنه يظهر : ورود الإيراد عليه على تقدير القول : بأنّ الشّك في بقاء الأمور الغير الشّرعيّة لا بدّ أن يكون قائما من جهة الشّك في وجود الرّافع لها حسب ما هو قضيّة ميل الأستاذ إليه في طيّ كلماته في مجلس البحث ، مع كون فساده من الأمور الواضحة كما لا يخفى.

وبالجملة : كلّما نتأمّل لم نعقل الفرق بين الأمور الشّرعيّة وغيرها في جريان

٤٤

ما ذكره في الأمور الشّرعيّة من التّعارض والرّجوع إلى الأصل الحاكم في بعض الصّور فتدبّر.

الثّالث : أنّ الفاضل المذكور ذكر في طيّ كلماته إيرادا على نفسه يرجع حاصله إلى أنّه : إذا بني على عدم اعتبار الاستصحاب في الأمور الشّرعيّة فما وجه ذهابك إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا واختيارك القول باعتباره كذلك مع أنّك في الحقيقة من المفصّلين؟

ثمّ أجاب عنه بما يرجع حاصله إلى أنّ : قوله بعدم اعتبار الاستصحاب في الأمور الشّرعيّة إنّما هو من جهة التّعارض ، لا من جهة عدم شمول أصل الدّليل له ؛ فإنّ الأوّل غير مناف للاعتبار بل مثبت له ؛ حيث إنّ التّعارض والتّساقط فرع الاعتبار ؛ إذ لا تعارض إلّا بين الدّليلين كما لا يخفى ، فعدم العمل بالاستصحاب لمكان المعارضة عين الالتزام بحجيّة المتعارضين ، كما أنّ عدم العمل بخبر من جهة تعارضه عين القول بحجيّته ، وإلّا لزم عدم وجود القول بحجيّة الاستصحاب مطلقا ؛ لأنّه لم يقل أحد بحجيّة الاستصحاب بمعنى وجوب العمل به فعلا حتّى في مورد التّعارض ، بل لزم القول بعدم حجيّة شيء من الأمارات والأصول بقول مطلق ؛ إذ لا أقلّ من تعارضها ولو في مورد نادر. هذا ملخّص ما ذكره في الجواب عن الإيراد المذكور مع توضيح منّا.

ولكنّه لا يخفى عليك أنّه لا يخلو عن مناقشة واضحة ؛ ضرورة وضوح الفرق بين التّعارض الدّائمي والاتّفاقي فتدبّر.

٤٥

* التنبيه الثالث (١)

عدم جريان الاستصحاب في الاحكام العقليّة

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« إن المناط في جريان القاعدة الشريفة ـ وهي الأخذ بالإقتضاء وعدم الإعتداد باحتمال المانع ـ إنّما هو كون الشك من جهة الرّافع والمزيل ، من غير فرق بين كون المستصحب موضوعا أو حكما شرعيّا أو عقليّا أو عرفيا ، ومن الواضح انّ الموضوع بمنزلة العلّة الماديّة للحكم وعدم الرّافع إنّما له مدخليّة في العلّة الفاعليّة ، بل قد عرفت : ان الرّافع بوجوده يؤثّر في إزالة الأثر لا أن عدمه دخيل في التأثير.

وكيف كان : فالعلّة الفاعليّة لا يعقل مدخليّتها في الموضوع ؛ ضرورة تأخير الفاعل عن المادّة رتبة ، فمخالفة الخبر والقضيّة للواقع يقتضي قبحه والإشتمال على إنجاء النبي ـ مثلا ـ يمنع من تأثيرها في القبح قطعا ، وحيث شك في كون الإشتمال على مصلحة أخرى أيضا هل هو رافع له أم لا؟

فمقتضى الإستصحاب عدم الاعتناء بهذا الإحتمال والبناء على ما يقتضيه المخالفة للواقع ، ولا فرق من هذه الجهة بين ما يستقلّ العقل بإدراكه وبين ما يتوقّف على بيان الشارع أو تشريعه ؛ فإنّ الحكم في القضيّة الواقعيّة في جميع المراحل على نسق واحد ، ووجود المقتضي والشرط وعدم المانع لا يختلف بها حال الموضوع وهو معروض الحكم في نفس الأمر وإنّما يختلف بوجود العلّة وعدمها حال الحكم وجودا وعدما.

وبما حقّقناه تبيّن ما فيما أفاده الاستاذ العلّامة أعلى الله مقامه حيث قال : ( انّ المتيقّن السابق إذا كان ممّا يستقلّ بإدراكه العقل كحرمة الظلم وقبح التكليف بما لا يطاق ونحوهما من المحسنات والمقبّحات العقليّة فلا يجوز استصحابه لأن الإستصحاب ... إلى آخره ). » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٥.

٤٦

(٢٣٨) قوله : ( المتيقّن السّابق إذا كان ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢١٥ )

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« ظاهر كلامه اختصاص عنوان هذا البحث بالمستقلّات العقليّة وبما كان منها مبنيّا على قاعدة التحسين والتقبيح.

والظاهر انه لا وجه لهذا الإختصاص ، بل يجري أيضا في الإستلزامات العقليّة ، كما إذا علم بوجوب شيء من جهة كونه مقدّمة لواجب ، أو حرمته ؛ لكونه ضدّا لواجب ثم شك في بقاء ذلك الوجوب أو الحرمة.

وكذا يجري في المستقلّات غير المبنيّة على قاعدة التحسين والتقبيح ، كما إذا علمنا بعدم وجوب شيء من جهة كونه موردا لنهي فعلي منجّز يمتنع معه الأمر به ؛ لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي على القول بأنه من قبيل التكليف المحال بالمحال ، ثم لو فرضنا الشك في تعلّق الأمر به بزوال النهي عنه فإنه محل البحث أيضا » إنتهى

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٤٣.

* وقال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

وفيه : انّ الحكم توقّفه على معرفة الموضوع من الضروريّات ، ولكن دعوى إعتبار كل ما له دخل في ثبوته في الموضوع وتقيّده به واضحة الفساد ، بل لا معنى لإعتبار العلّة الفاعليّة بشؤونها في العلّة المادّيّة ، فإن أراد أنّ القضايا الواقعيّة لا يعقل فيها سوى الموضوع بقيوده والمحمول والنسبة ، فهو مكابرة للوجدان ؛ ضرورة ان المقتضي والشرط وعدم المانع عن الموضوع أجانب في تلك المرحلة ، وإن زعم انّ القضيّة المعقولة كذلك وإن لم يكن القضيّة النّفس الأمريّة كذلك فهو أيضا بديهي الفساد ؛ حيث انّ العلم تابع للمعلوم ، مع انه لو سلّم ذلك لم يمنع من جريان الإستصحاب ؛ حيث انّ المستصحب إنّما هو الحكم بمعنى المحمول لا بمعنى التصديق بالضّرورة والمحمول قد عرفت انه إنّما يثبت في الواقع لما لا يقيّد بشيء من العلل ومن المعلوم انه يمكن أن يقع الشك في المقتضي والشرط والمانع ، فحيث أدرك العقل

٤٧

__________________

ثبوت حكم في حال من الأحوال وشك في وقت آخر في بقاءه لحدوث ما يحتمل كونه مزيلا جرى الإستصحاب.

نعم ، لو كان الشك من جهة الزوال ما يحتمل إشتراطه أو للشك في مقدار تأثير السبب ومن جهة الجهل بالموضوع لم يجري الإستصحاب.

ودعوى : ان الموضوع لا بد من معرفته تفصيلا ، واضحة السقوط ؛ فانه لا مانع من الحكم على ما يحتمل دخل بعض ما يقارنه فيه ، فاذا تبدّل الحال يقع الشك لأجل عدم معرفته الموضع تفصيلا ، وعدم خلوّ الحكم العقلي عن كونه ضروريّا أو منتهيا إليه لا ربط له بذلك ؛ فإنّ الحكم الشرعي أيضا إمّا يدرك بالضرورة أو بما ينتهي إليها.

وبالجملة : فاستناد التصديق بالحكم إلى الضرورة لا يقتضي معرفة موضوعه تفصيلا ، بل يمكن أن يكون ثبوت الحكم لشيء على بعض التقادير ضروريّا ، وعلى التقدير الآخر مشكوكا فيه ، مع أنّ الشأن إنّما هو في إثبات إعتبار جميع ماله دخل في الحكم في موضوعه بحسب الواقع ولا دخل للإدراك في ذلك ؛ فإنه ليس موضوعا وإنّما هو ثبوت لتحقّق الحكم.

ثم إن هذا الإشكال بعينه جار في الأحكام الشرعيّة ؛ حيث انّ دخل جميع ماله تأثير في الحكم في الموضوع وكونها قيودا له لا يختلف باختلاف كون الحكم متوقّفا على جعل الشارع أو بيانه أو عدم كونه كذلك.

ولا يمكن التفصّي عنه : بانّ المرجع في موضوعات أحكام الشرع هو العرف ؛ فإن التسامح العرفي يجري في المقامين.

ألا ترى انّ الكريّة ـ مع انّها ليست من الأحكام الشرعيّة ـ يتسامح في موضوعها؟ كما انّ الرفع الحقيقي غير متحقّق في كثير من موارد الإستصحاب ، مع انّها ليست أمورا شرعيّة ؛ فإن انتهاء الأمد ليس رافعا للزمان ، بل الموت ليس رافعا للحياة ولا الوجود رافعا للعدم وإنّما الرّفع فيها عرفي ويكفي ذلك في جريان الأصل.

٤٨

أقول : قد عرفت شطرا من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في طيّ كلماتنا السّابقة عند التّكلّم في أقسام الاستصحاب باعتبار الأمور المأخوذة فيه ، ولا بأس في أن نتكلّم فيه بعض التّكلّم في المقام أيضا تبعا لشيخنا ( دام ظلّه ) لعلّ به يحصل توضيح المرام فنقول :

إنّ الثّابت أوّلا قد يكون من مقولة الموضوع ، وقد يكون من مقولة الحكم. وعلى الثّاني : قد يكون عقليّا ، وقد يكون شرعيّا. وعلى الثّاني : قد يكون مستكشفا عن عقليّ ، وقد لا يكون كذلك. لا كلام في جريان الاستصحاب في الأوّل وفي الثّاني من قسمي الأخير ، إلّا على إشكال يأتي دفعه وفي خروجهما عن محلّ الكلام في المقام ، وإنّما الكلام في جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وفي الحكم الشّرعي التّابع له المتّحد معه موضوعا المستند إليه في الاستكشاف.

ثمّ الكلام فيهما قد يقع : في جريان الاستصحاب في أنفسهما. وقد يقع : في

__________________

والحاصل : ان الملاك في جريان الإستصحاب هو صدق النّقض والإبقاء والتسامح من هدم الجهة لا ينافي كون المستصحب أمرا غير مجعول أو ممّا يستقلّ العقل بإدراكه فالتسامح العرفي جار في جميع الموارد ، ويكفي ذلك في صدق البقاء والنقض وإن لم يكن كذلك على الموازين العقليّة من جهة ما يتخيّل من اعتبار كلّ ما له دخل في الحكم قيدا للموضوع.

والحاصل : ان إدراك الحكم مرحلة مغايرة لمرحلة تشخيص الموضوع ، وكون الحكم مدركا بالعقل واستقلاله به لا ينافي مسامحة العرف في موضوعه ومخالفته لما هو الميزان في موضوع حكمه وكون المناط في جريان الأصل هو الميزان العرفي في الموضوعات ، ويشبه المقام ما يقال : انّ كون المسمّى شرعيّا لا ينافي كون التسمية عرفيّة ، فالصلاة وإن انتفت في نظر الشارع بانتفاء بعض شروطها أو أجزاءها إلّا أن العرف يحكم ببقاءها مسامحة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٤٩

إجراء الاستصحاب في موضوعهما فيما كان الشّك فيهما من جهة الشّك في الموضوع على ما هو الشّأن في استصحاب الموضوع. فبالحريّ أن نحرر البحث في مقامات أربع :

الأوّل : في إمكان جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقليّ كحرمة الظّلم العقليّة ، أي : إلزام العقل بتركه وتقبيحه ارتكابه مع قطع النّظر عن حكم الشّرع به.

الثّاني : في إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي المستكشف بقاعدة التّطابق.

الثّالث : في إمكان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي فيما علم به سابقا وشكّ في بقائه ؛ ليترتّب عليه الحكم العقلي.

الرّابع : في إمكان جريانه فيه ليترتّب عليه الحكم الشّرعي المشارك للحكم العقلي في الموضوع بالفرض.

الاستصحاب لا يجري في الاحكام العقليّة

فنقول : أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالحق عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وعدم إمكانه سواء كان من مقولة الإنشاء ـ على ما هو محلّ البحث ـ أو الإدراك والتّصديق بأنحائهما وأقسامهما ، وجوديّا كان ، أو عدميّا ، قطعيّا كان أو ظنيّا. أمّا عدم إمكان جريانه في حكمه الإنشائي ؛ فلأنّ المعتبر في الاستصحاب موضوعا ـ على ما هو من الأمور الجليّة الّتي لا يعتريها ريب ـ الشّك في بقاء ما ثبت.

ومن المعلوم بالضّرورة والوجدان عدم تعقّل الشّك في بقاء الحكم لنفس

٥٠

الحاكم بشيء سواء كان عقلا أو شرعا أو غيرهما ؛ لأنّه بعد الرّجوع إلى نفسه : إمّا أن ينشأ ما أنشأه أوّلا في الزّمان الثّاني فلا معنى للاستصحاب ، أو لا ينشأه فلا معنى للاستصحاب أيضا ؛ للقطع بعدم الحكم واقعا ؛ إذ واقعه إنّما هو بنفس إنشاء الحاكم ولا يعقل شكّ المنشيء في إنشاءه بمعنى شكه في بقاء ما أنشأه أوّلا ؛ إذ لا يعقل بالنّسبة إلى نفس الحاكم الثّبوت النّفس الأمري حتّى يعقل شكّه فيه ، نظير سائر الأمور الثّابتة بحسب الواقع ، فالشّك إنّما يتعقل بالنّسبة إلى ما يتصوّر له واقعيّة مع قطع النّظر عن حكم الشّاك وعدم حكمه ـ سواء كان من الموضوع أو حكم حاكم آخر ـ فإنّه يمكن عروض الشّك في بقائه نظير سائر المحمولات الثّابتة للموضوعات الواقعيّة.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما قرّرنا لا يختصّ بالاستصحاب في الحكم العقلي ، بل يجري بالنّسبة إلى جميع الأحكام بالنّسبة إلى الحاكم بها ؛ فإنّهم إن علموا بوجود ما كان علّة تامّة في حكمهم في الزّمان الأوّل ، يحكمون في الزّمان الثّاني أيضا. وإن لم يعلموا سواء قطعوا بعدمها أو شكّوا فيها ، لم يحكموا قطعا كما لا يخفى. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا لك فافرض نفسك حاكما بشيء وانظر هل ترى منها الشّك في الحكم في زمان؟

والوجه في ذلك : أنّ الحاكم بشيء لا يستقلّ في الحكم به إلّا بعد إحراز جميع ما له مدخل في حكمه ، فإن وجده في الزّمان الثّاني يحكم به كما حكم في الزّمان الأوّل ، وإلّا فلا يحكم به قطعا سواء كان قاطعا بعدمه ، أو شاكّا أو ظانّا ؛ لأنّ حكمه تابع لإنشائه ومن مقولات أفعال نفسه ، لا التّحقّق الموضوع واقعا حتّى يستلزم احتمال وجوده احتمال وجود الحكم على ما هو قضيّة التّبعيّة ، فالحكم

٥١

من الحاكم بالنّسبة إلى موضوعه مترتّب عليه ما دام معلوما.

ومن المعلوم أنّ الحكم العارض للموضوع بوصف العلم به يرتفع واقعا في صورة الشّك بحيث لو فرض ثبوت الحكم في صورة الشّك لم يعقل أن يكون هو هذا الحكم ، بل لا بدّ أن يكون حكما آخر في موضوع آخر.

ومن هنا يعلم أنّه ليس للعقل حكمان : حكم واقعيّ يحكم به في الموضوع الواقعي ، وحكم ظاهريّ يحكم به عند الشّك في حكمه الواقعي ، كما ربّما تخيّله بعض من لا خبرة له.

نعم ، حكم العقل على موضوع يوجد في صورة القطع بشيء وفي صورة الشّك فيه ممّا لا ينكر ، لكنّه لا دخل له بالحكم الظّاهري للعقل ، كحكمه بقبح التّشريع مثلا على القول : بكونه إدخال ما لم يعلم كونه من الدّين سواء علم بعدم كونه من الدّين أو شكّ في ذلك على ما أسمعناك شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة هذا كلّه.

مضافا إلى أنّه لو فرض شكّ للعقل في بقاء حكمه فلا يتصور إلّا من حيث الشّك في بقاء الموضوع من حيث ارتفاع وجود ما يحتمل مدخليّته ، أو الشّك في ارتفاع ما علم مدخليّته ، أو وجود ما يحتمل مدخليّة عدمه ، أو الشّك فيه مع القطع بمدخليّته ، وسيجيء اشتراط بقاء الموضوع في إجراء الاستصحاب.

وإلى أنّه لا معنى لإجراء الاستصحاب في الحكم العقلي مع قطع النّظر عمّا ذكر أيضا ؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه حتّى يجري الاستصحاب فيه بناء على ما عرفت غير مرّة وستعرف إن شاء الله : من أنّ استصحاب ما لم يترتّب عليه أثر شرعيّ إذا لم يكن نفسه حكما شرعيّا ممّا لا معنى له. هذا محصّل الكلام في الحكم

٥٢

العقلي بمعنى الإنشاء.

ومنه يعرف الكلام في عدم إمكان جريان الاستصحاب في حكمه بمعنى الإدراك أيضا ؛ لعين ما عرفت سابقا : من عدم تعقّل الشّك في بقائه ؛ لأنّه في الزّمان الثّاني : إمّا أن يدرك ما أدركه أوّلا أو لا يدرك قطعا ، ولا يعقل الشّك في أنّه يدرك أو لا يدرك.

نعم ، المدرك ممّا يشكّ في بقائه سواء كان من مقولة الحكم ، أو الموضوع ، لكنّه لا دخل له بالإدراك الّذي نتكلّم فيه فتدبّر. هذا مجمل القول في المقام الأوّل.

* * *

٥٣

عدم جريان استصحاب الحكم الشرعي المنكشف من حكم العقل (١)

وأمّا الكلام في المقام الثّاني : وهو إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي التّابع للحكم العقلي ، أي : المستكشف منه بقاعدة التّلازم بينهما ، فالّذي صرّح به الأستاذ العلّامة : إمكان جريان الاستصحاب فيه مع قطع النّظر عن تسبّب الشّك فيه عن الشّك في الموضوع وتردّده بين ما هو باق واقعا قطعا وبين ما هو

__________________

(١) وعلّق المحقّق المؤسس الطهراني قدس‌سره على كلمة استاذه الشيخ الأعظم قدس‌سره : ( فإن قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع انه كاشف عن حكم عقلي مستقلّ ... إلى قوله : وإن كان موردا للقبح ) [ فرائد : ٣ / ٢١٦ ] :

« وفي كلّ من الإعتراض والجواب نظر :

أمّا الأوّل : فلأن المنشأ للإعتراض إنّما هو كون القضيّة الواقعيّة على نسق واحد في اعتبار القيود في موضوعها ولا دخل لكونها مدركة بالعقل في ذلك ، فيتوجّه الإشكال حتى لو لم يكشف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي المستقلّ.

وأمّا الثاني : فلما عرفت : من ان التسامح في الموضوع لا ينافي استقلال العقل بإدراك الحكم.

وأمّا التفريع الذي افاده بقوله : ( ومن هنا ... إلى آخره ).

ففيه : ان البراءة الأصليّة يستصحب وإن لم يكن لتحقّقها مدرك غير قبح الخطاب بالنّسبة إلى غير المميّز والمجنون ، فحيث ثبت عدم تكليف بالنسبة إلى الشخص عقلا قبل التميز فالشك في اشتغال الذمّة بعد البراءة شك في الرّافع ولا حاجة في جريان الإستصحاب إلى بيان الشارع للعدم الأزلي ، ولهذا سمّوه باستصحاب حال العقل ولم يتأمّل أحد في جريان الأصل من هذه الجهة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٧.

٥٤

مرتفع كذلك ؛ لأنّ الحاكم به ليس هو المكلّف حتّى لا يمكن وقوع الشّك فيه ، بل غيره وقد عرفت : أنّه لا شبهة في طريان الشّك في بقاء حكم الغير فمع قطع النّظر عمّا هو قضيّة التّحقيق من لزوم إحراز (١) الموضوع في الاستصحاب لا ضير في الاستصحاب المذكور.

لا يقال : إذا فرض كون حكم الشّرع تابعا لحكم العقل ، فكيف يمكن احتمال بقاء الحكم الشّرعي مع القطع بانتفاء الحكم العقلي المتبوع له.

لأنّا نقول : معنى تبعيّة الحكم الشّرعي للحكم العقلي هو اتّحاد موضوعهما لا كون الحكم العقلي موضوعا للحكم الشّرعي ، فلو فرض إذا شكّ في ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة واحتمل كونه ممّا ينتفي في الزّمان اللاحق لم يكن هناك مانع عن استصحاب الحكم الشّرعي مع القطع بعدم وجود الحكم العقلي ؛ لإمكان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي واحتمال بقائه من جهة احتمال بقاء ما هو الموضوع له.

لا يقال : إذا فرضت كون الموضوع في حكم العقل هو الشّيء بوصف كونه معلوما ، فلا بدّ أن يكون هو الموضوع في حكم الشّرع أيضا ؛ لأنّ حكم الشّرع المستكشف من حكم العقل لا يمكن أن يكون موضوعه غير ما هو الموضوع في حكم العقل ، فكما لا يعقل الشّك في بقاء الحكم العقلي من جهة أخذ العلم في موضوعه جزءا كذلك لا يعقل الشّك في بقاء الحكم الشّرعي أيضا ، لا من جهة أنّ الموضوع في الحكم الشّرعي هو حكم العقل حتّى يمنع عنه ، بل من جهة وحدة الموضوع فيهما.

لأنّا نقول : أمّا أوّلا : فلأنّ وحدة الموضوع في حكم العقل والشّرع لا يقتضي

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٥٥

عدم احتمال بقاء الحكم الشّرعي في موضع الدّوران ؛ فإنّ العلم الّذي يكون معتبرا في الحكم والإنشاء إنّما هو علم الحاكم لا علم غيره ، فإذا كان الحاكم العقل فلا بدّ في حكمه من علمه بما هو المناط له في زمان الحكم. وإن كان الحاكم الشّرع فالمعتبر هو علمه لا علم المكلّف. ومن المعلوم أنّ تحقّق الموضوع وبقاءه عنده ممّا هو محتمل قطعا ، فيحتمل وجود حكمه أيضا فكون العلم مأخوذا في موضوع حكم العقل لا ربط له بالمقام ، ولا يمنع من الشّك في بقاء الحكم الشّرعي كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض عروض الشّك في الموضوع للعقل من أوّل الأمر ، وأنّه لا يدرى بأيّ موضوع تعلّق حكمه ، وإلّا فقد عرفت : أنّ الشّك في معروض الحكم ، وأنّه أيّ شيء ممّا لا يعقل عند العقل فتدبّر.

لا يقال : كيف يدّعى أخذ العلم في موضوع حكم العقل وأنّه لا واقعيّة له حتّى يشكّ في بقائه وعدمه ، مع أنّ من المشاهد المحسوس شكّنا كثيرا في وجود المصالح والمفاسد في الأفعال المقتضية لحكم الشارع؟

لأنّا نقول : قد اشتبه عليك الأمر في حكم العقل ؛ فإنّ المراد من حكم العقل في المقام ليس هو المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء الباعثة على حكم الشارع ؛ فإنّها من ذاتيّات الأشياء ، ومن الأمور الثّابتة في الواقع بحيث لا ربط للعقل فيها أصلا ، وإنّما المراد من حكم العقل في المقام : هو ما ذكروه في مسألة التّحسين والتّقبيح وجعلوه محلّا للنّزاع ثبوتا وعدما وكونه دليلا على حكم الشارع على تقدير الثّبوت أم لا ، الّذي قسّموه إلى أقسام خمسة من الاقتضائي والتّخييري. ومن المعلوم أنّ هذا إنشاء محض من العقل لا واقعيّة له أصلا.

٥٦

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الشّك وإن كان متصوّرا في بقاء الحكم الشّرعي المستكشف من حكم العقل من جهة قاعدة الملازمة ، إلّا أن الشّك فيه يرجع دائما إلى الشّك في بقاء موضوعه فلا يجري الاستصحاب فيه من هذه الجهة.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرت : من عدم تعقّل جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشّرعيّة المستندة إليها لزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة الغير المستندة إليها المستكشفة من الطّريق الشّرعي بناء على ثبوت عكس قاعدة التّطابق ـ حسب ما هو قضيّة التّحقيق الّذي عليه المحقّقون بل العدليّة قاطبة ـ لأنّه بناء على هذا لا بدّ من أن يكون الموضوع في جميع القضايا الشّرعيّة هو الموضوع في القضايا العقليّة الثّابتة في مواردها لأنّ هذا هو معنى التّطابق ؛ ضرورة أنّ الحكم بشيء في موضوع من حاكم وفي موضوع آخر من حاكم آخر لا يسمّى تطابقا هذا. مضافا إلى أنّ قضيّة دليل التّطابق هو ذلك ، فإذا حكمت بجريان الاستصحاب في الفرض يلزمك الحكم بجريانه في الحكم الشّرعي مطلقا ، بل في الحكم العقلي أيضا.

وبعبارة أخرى : لو فرض تسليم انعكاس قضيّة التّطابق : إمّا أن تقول : بأنّ الموضوع في حكم الشارع غير الموضوع في حكم العقل. وإمّا أن تقول : بالتّفصيل في جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة بين الثّابت في موضوع أوّلا وبالذّات وبين الثّابت فيه ثانيا وبالعرض بواسطة حكم الشارع. وإمّا أن تقول : بالجريان مطلقا ، أو عدمه مطلقا. لا سبيل لك إلى أحد الأوّلين : أمّا الأوّل ، فظاهر. وأمّا الثّاني : فلوجود مناط المنع في كلا القسمين.

لأنّا نقول : لا ملازمة بين منع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة

٥٧

مطلقا والأحكام الشّرعيّة المستندة إليها ، وبين منع جريانه في الأحكام الشّرعيّة الغير المستندة إليها من غير فرق بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، وبين القول باعتباره من باب الظّن.

أمّا على الأوّل : فلأنّا نختار تغاير الموضوع في القضيّتين لا بمعنى افتراق أحد الموضوعين عن الآخر بحيث يلزم وجود الحكم الشّرعي في مورد دون الحكم العقلي حتّى ينافي قضيّة التّطابق بين العقل والشّرع ، بل بمعنى كون الموضوع في القضيّة الشّرعيّة ما هو مشتمل على الموضوع في القضيّة العقليّة ويتصادق معه ؛ لأنّ هذا المقدار يكفي في التّطابق ؛ إذ لم يدلّ دليل لا من العقل ولا من النّقل على أنّه يجب على الشارع أن يجعل الموضوع في القضيّة نفس ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة.

بل قد قيل وصرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : أنّ الموضوع في القضايا الشّرعيّة الّتي لا يستقلّ فيها العقل ـ على ما هو مفروض البحث ـ لا بدّ أن يكون غير الموضوع في القضيّة العقليّة دائما ؛ فإنّ الموضوع في القضايا العقليّة ليس إلّا الموضوع الأوّلي والعلّة التّامة ؛ ضرورة إلقاء (١) الوسائط في نظر العقل ، فلو كان الموضوع في القضيّة الشّرعيّة هو ذلك أيضا لزم حكم العقل به ، ولم يعقل الاحتياج إلى توسيط حكم الشارع في الاستكشاف ، وإن كان فيه ما فيه ؛ ضرورة

__________________

(١) الصحيح « الغاء » وقد مرّ منه ذلك في عدّة مواضع ، بمشتقّاتها ولم ننبّه عليه إتّكالا على فطانة الباحث فليعلم ، وإن كانت صحيحة أيضا بضرب من التسامح ، إلّا انهم تعارفوا في هذه الأزمنة أن يكتبوها بالغين دون القاف.

٥٨

إمكان الجهل تفصيلا بالعلّة عند العقل مع علم الشارع بها من حيث إحاطته بجميع الأشياء.

فعلى ما ذكرنا : يمكن أن يحكم الشارع على شيء بحكم كان مشتملا على ما هو الموضوع في حكم العقل بحيث كان المناط في حكمه ما هو الموضوع في حكم العقل ، ويقطع ببقاء ما هو الموضوع في حكمه في الزّمان الثّاني مع الشّك في بقاء نفس حكمه : من جهة احتمال زوال ما هو المناط له الّذي يكون موضوعا في القضيّة العقليّة.

حيث إنّك قد عرفت : أنّ الموضوع في القضيّة الشّرعيّة لا يلزم أن يكون موضوعا أوّليّا وعلّة تامّة حتّى يمتنع اجتماع القطع به مع الشّك في الحكم ، كما هو حال الموضوع في القضيّة العقليّة فإذن يمكن القطع ببقاء الموضوع في القضيّة الشّرعيّة مع الشّك في بقاء الحكم من جهة الشّك في بقاء ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة ؛ ضرورة أنّ الموضوع العقلي وإن لم يكن موضوعا في القضيّة الشّرعيّة ، إلّا أنّ الحكم وجودا وعدما بحسب الواقع تابع له ، إذ هو العلّة فيه بالفرض ، فالشّك فيه مع القطع ببقاء الحكم ممّا لا يمكن اجتماعهما على هذا الفرض.

فمعنى أعميّة الموضوع الشّرعي عن الموضوع العقلي ـ كما في « الكتاب » ـ أعميّته من حيث الذّات ، فإذن يمكن إجراء الاستصحاب في الحكم الشّرعي والحكم بشمول الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك له ؛ لأنّ الالتزام بالحكم المشكوك في الزّمان الثّاني التزام بالحكم في موضوعه ، فيصدق على عدمه : أنّه

٥٩

نقض للحكم الثّابت أوّلا ، وعلى وجوده : أنّه إبقاء للحكم الثّابت أوّلا فيشمله أخبار الباب.

نعم ، قد يشكّ في مورد في بقاء الحكم الشّرعي من جهة الشّك في بقاء موضوعه فلا يجري الاستصحاب فيه ، لكنّه لا دخل له بقاعدة التّطابق ولهذا قد يفرض مثله في استصحاب الموضوع الخارجي أيضا ؛ فإنّه قد يكون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في بقاء موضوعه ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، ولا نقول بجريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي الغير المستند إلى الحكم العقلي مطلقا حتّى يكون عدم جريانه في بعض الموارد نقضا علينا ، بل المدّعى : أنّه لا مانع من إجراء الاستصحاب في الحكم الشّرعي المذكور من جهة قاعدة التّطابق ، لا أنّه لا مانع عنه مطلقا.

وهذا بخلاف الحكم الشّرعي المستند إلى القضيّة العقليّة ؛ فإنّ الموضوع فيه لا يمكن أن يكون غير ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فالشّك في الحكم الشّرعي الكلّي لو فرض لا يمكن أن يكون من غير جهة الشّك في الموضوع ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب فيه ، هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن سواء كان من باب الظّن الشّخصي ، أو النّوعي بقسميه ، فالحق : عدم الفرق بين القسمين من الحكم الشّرعي على تقدير فرض الشّك في موضوع حكم العقل ، كما ربّما يتوهّمه من لا خبرة له ؛ لأنّ مع الشّك في المناط لا يمكن الظّن بالحكم سواء كان هو الموضوع له كما في الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي ، أو ما كان متصادقا معه كما في الحكم الشّرعي

٦٠