بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

الاستصحاب المترتّب على الشّك هذا.

وإن شئت قلت : إنّ ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع واشتراطه في جريانه إنّما هو بحكم العقل ، فالتّغيّر الواقعي مثلا إنّما جاز معه استصحاب النّجاسة بحكم العقل. ومن المعلوم أنّ هذا ليس أمرا جعليّا حتّى يترتّب على استصحاب الموضوع.

هكذا ذكره الأستاذ العلّامة ، وما عرفت منّا من البيان أولى ، بل ما ذكره ( دام ظلّه العالي ) لا يخلو عن مناقشة غير خفيّة على المتأمّل فيما ذكرنا من البيان من أوّل المسألة إلى هنا ، وإليه أشار بقوله : « فتأمّل » (١)(٢) لا إلى ما قد

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٩٣.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« لعلّه إشارة إلى ان استصحاب النجاسة بنفسه حكم شرعيّ تعبّدي وإن كان إجراؤه في الموارد يتوقّف على إحراز موضوعه فيكون استصحاب النّجاسة كإثبات وجوب الإجتناب وغيره من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الموضوعات المستصحبة ، مع انّ إثبات الحكم لموضوع يتوقّف على إحرازه عقلا فلا فرق بين الحكم المستصحب وبين غيره من الاحكام الشّرعيّة في انّ إثباته لشيء فرع إحراز ذلك الشّيء ، ولكن يكفي في إحرازه قيام دليل معتبر عليه وإن كان أصلا تعبّديا شرعيّا كالإستصحاب ، وأصالة الصحّة ، فأصالة عدم ذهاب ثلثي العصير الّذي صار دبسا قبل ذهاب ثلثيه أو قبل العلم به أصل موضوعي يتنقح به مجرى استصحاب نجاسته المتيقّنة قبل صيرورته دبسا فيحكم بنجاسة هذا العصير الّذي شكّ في ذهاب ثلثيه بعد صيرورته دبسا بمقتضى استصحاب النّجاسة بعد إحراز موضوعه وهو العصير الّذي لم يذهب ثلثاه بالأصل كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الاصول : ٤٣٧.

٣٤١

يتوهّم : من كفاية الاستصحاب في الموضوع ؛ لجريان الاستصحاب في الحكم كما لا يخفى على من له أدنى دراية.

فتعيّن (١) ممّا ذكرنا كلّه : أنّ المتعيّن في هذا القسم إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع ليس إلّا. هذا مجمل القول بالنّسبة إلى القسم الأوّل من القسم الثّاني.

وأمّا الكلام بالنّسبة إلى القسم الثّاني منه : فالحقّ فيه عدم جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم والموضوع معا : أمّا بالنّسبة إلى الحكم ؛ فلما عرفت في القسم السّابق عليه. وأمّا بالنّسبة إلى الموضوع ؛ فلأنّه إمّا أن يريد باستصحاب الموضوع استصحاب ذات الموضوع ، أو يريد استصحاب الموضوع من حيث كونه موضوعا وبوصف الموضوعيّة.

فإن أريد الأوّل : ففيه : أنّه لا يعقل جريان الاستصحاب فيه مع فرض دوران الأمر فيه بين ما هو مرتفع قطعا وبين ما هو باق جزما ؛ لعدم اليقين السّابق على تقدير ، وإلّا لم يعقل الشّك في بقائه وبقاء الحكم وعدم الشّك اللّاحق على تقدير آخر ، وليس هنا أيضا كلّي يحكم باستصحابه على كون الموضوع هو الفرد الباقي ؛ إذ ليس المفروض دوران الأمر بين الفردين لكلّي واحد.

ولم يتعلّق الحكم بالموضوع من حيث هذا الوصف حتّى يقال : إنّ المستصحب هو كلّي الموضوع ومفهومه ؛ ضرورة استحالة اعتباره في تعلّق الحكم بالموضوع ؛ حيث إنّ وصف الموضوعيّة للموضوع إنّما يعتبر له ، ويعرضه بعد تعلّق الحكم به ، فكيف يمكن اعتباره في أصل تعلّق الحكم؟ وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه

__________________

(١) كذا والظاهر « فتبيّن ».

٣٤٢

أصلا ، هذا.

مع أنّه على فرض ذلك لم يكن معنى لجريان الاستصحاب في الكلّي حتّى يثبت به كون الموضوع هو الفرد الباقي ، لعدم جواز التّعويل عندنا على الأصول المثبتة على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا في طيّ بعض التّنبيهات. ٣ / ١٧٣

وممّا ذكرنا كلّه يعرف ما وقع من الأستاذ العلّامة في المقام من المسامحة في البيان ؛ فإنّ ظاهره تسليم كون المقام من استصحاب الكلّي لإثبات الفرد ، وقد عرفت فساده.

وإن أريد الثّاني ، ففيه : أنّ استصحاب الموضوع بالاعتبار المذكور عين استصحاب الحكم ؛ لما عرفت : من أنّ عروض وصف الموضوعيّة على الموضوع متأخّر عن تعلّق الحكم به ، فليس معنى لحكم الشارع باستصحاب الموضوع من حيث إنّه موضوع إلّا حكمه باستصحاب الحكم المترتّب عليه. وقد عرفت : أنّه ممّا لا معنى له في المقام هذا مجمل القول في المقام الثّاني.

الميزان لتشخيص الموضوع في باب الإستصحاب

وأمّا الكلام في المقام الثّالث وهو : بيان ما هو الميزان لتشخيص الموضوع في باب الاستصحاب الّذي عرفت لزوم إحرازه فملخّص الكلام فيه :

أنّ الميزان فيه أحد أمور على سبيل مانعة الخلوّ :

أحدها : العقل ، بأن يقال : إنّ مقتضاه كون القضيّتين متّحدة من جميع الجهات والاعتبارات الّتي يحتمل مدخليّتها في الحكم سواء كانت من الأمور العدميّة ، أو

٣٤٣

الوجوديّة.

فإنّ اختلال كلّ جهة يحتمل مدخليّتها في قوام الحكم موجب للشّك في بقاء ما هو المناط والموضوع للحكم في نفس الأمر وإن كان الحكم بالنّظر إلى القضيّة الظّاهريّة اللفظيّة معلّقا على ما هو باق في الزّمان اللّاحق مع اختلال ما يحتمل قوام المصلحة الموجبة للحكم به واقعا ، إلّا أنّ القضيّة اللّفظيّة كاشفة عن القضيّة اللبيّة ، والحكم واقعا إنّما تعلّق بما هو الموضوع فيها في نظر الشّارع.

فاحتمال مدخليّة قيد فيها زال في الزّمان اللّاحق موجب للشّك في بقاء الموضوع ؛ ضرورة أنّ القيود المأخوذة في القضيّة والجهات المعتبرة فيها وإن كثرت يكون لها مدخليّة في موضوعيّة الموضوع ويكون قيودا لها ، فالموضوع في الحقيقة هو الأمر البسيط خارجا ، وهو المقيّد بهذه الأمور المركّب ذهنا وفي التّحليل العقلي ، فإذا انتفى قيد منها فقد انقلب موضوع الحكم إلى موضوع آخر هذا وقد مرّ تفصيل القول في بيان ذلك عند توضيح استدلال بعض الأخباريين على عدم اعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة : بأنّه من أفراد القياس المنهيّ عنه في الشّريعة.

والقول : بأنّه قد يكون القيد المعتبر في القضيّة قيدا للمحمول فلا يستلزم من انتفائه تغيّر الموضوع ، كما إذا قيل التّبريد حسن في الشّتاء بأن يجعل الشّتاء قيدا وظرفا للحسن ، لا للتّبريد قد تقدّم فساده سابقا : من حيث إنّ ما ذكر اعتبار بالنّظر إلى عالم القضيّة ، وإلّا فقيود المحمول راجعة في الحقيقة إلى قيود الموضوع في الأحكام الشّرعيّة ، ولها مدخليّة في موضوعيّته وفي كونه لطفا موجبا لتعلّق الحكم به من جانب الشارع ، وعلى تقدير كونه قيدا للمحمول أيضا منع انتفاؤه من جريان

٣٤٤

الاستصحاب ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ المعتبر في الاستصحاب اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا.

نعم ، يستقيم ما ذكر بالنّسبة إلى غير الشّرعيّات ، كما في قول القائل : « زيد قائم مستقيما أو منحنيا » ؛ حيث إنّ الاستقامة والانحناء حالان للقيام ، ومثل ذلك وإن كان قد يفرض في الأحكام الشّرعيّة أيضا كما يقال : إنّ الفعل الفلاني واجب بالوجوب التّخييري أو التّنجيزي إلى غير ذلك ، إلّا أنّه لا ينفع في باب الاستصحاب.

فلا فرق بناء على هذا التّقدير بين ما إذا ورد من الشّارع : « الماء ينجس إذا تغيّر » أو ورد : « الماء المتغيّر نجس » إذا فرض احتمال مدخليّة التّغير في النّجاسة حدوثا وبقاء ؛ إذ لا يعقل الفرق باختلاف التّعبير بعد فرض لزوم إحراز ما هو الموضوع للحكم في نفس الأمر بجميع ما له دخل فيه من التشخّصات من حيث توقّف إحراز الموضوع ، المتوقّف عليه صدق النّقيض والبقاء على سبيل القطع.

نعم ، لو كان الشّك من جهة تغيّر الزّمان المجعول ظرفا للحكم كالخيار لم يقدح في جريان الاستصحاب ؛ لابتناء الاستصحاب على إلغاء خصوصيّة الزّمان الأوّل ، والشّك في الحكم من جهة تغييره ، وإلّا لم يكن استصحابا كما هو واضح. فالاستصحاب على هذا لا يجري في الشّبهات الحكميّة ، إلّا في الشّك في الرّافع.

نعم ، يجري في الشّبهات الموضوعيّة بأسرها ؛ لأنّ الموضوع في استصحاب وجود الموضوعات هي الماهيّة الباقية الغير الزّائلة على ما سبق الكلام فيه. هذا ملخّص ما أفاده الأستاذ العلّامة في « الكتاب » وفي مجلس البحث لتقريب هذا الوجه.

٣٤٥

ولكنّك خبير بتطرّق المناقشة إلى ما أفاده ( دام ظلّه ) :

أمّا أوّلا : فللمنع من كون جميع ما له دخل في مناط الحكم واقعا من قيود الموضوع في القضيّة الشّرعيّة ؛ إذ قد عرفت : عدم قيام برهان على لزوم كون الموضوع في الدّليل الشّرعي هو المناط الأولي فتدبّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا دليل على لزوم متابعة العقل في المقام بعد صدق البقاء على الالتزام بما هو المحمول في الدّليل الشّرعي ؛ لما هو باق جزما أو بحكم العرف ، وإن احتمل مدخليّة شيء فيه في الواقع ولسنا محتاجين في باب الاستصحاب إذا كان اعتباره من باب التّعبّد إلى أزيد من ذلك.

نعم ، على القول باعتباره من باب الظّن لا بدّ من إحراز الموضوع بالدّقة العقليّة ؛ لاستحالة الظّن بالحكم مع الشّك فيما هو المناط فيه سواء على القول باشتراط الظّن الشّخصي ، أو كفاية الظّن النّوعي ؛ لأنّ صدق البقاء والنّقض عرفا لا يعقل أن يكون له جدوى في المقام ؛ ضرورة استحالة إيراث الصّدق العرفي الظّن بالمعلول مع الشّك في العلّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو بني على لزوم إحراز ما هو الموضوع والمناط للحكم في الواقع لم يبق فرق بين الشّك في المقتضي والشّك في الرّافع وجودا أو رفعا في الشّبهات الحكميّة ؛ لأنّ عدم الرّافع ممّا يكون له مدخليّة في أصل بقاء المناط الأوّلي ، وإلّا لم يعقل ارتفاع الحكم مع بقاء ما هو العلّة التّامّة له.

وأمّا رابعا : فلأنّ استثناء الشّك في الحكم من حيث الزّمان ، والحكم بأنّ احتمال مدخليّته لا يضرّ في صدق النّقض ممّا لا معنى له ؛ لأنّه لم يفهم من الأخبار إلقاء الزّمان السّابق فيما يحتمل أن يكون له مدخليّة في الحكم ولم يكن من باب

٣٤٦

مجرّد الظّرفيّة ، وإلّا فلا بدّ من أن يحكم بعدم قدحه في صورة القطع بمدخليّته في مناط الحكم. وهو كما ترى ، بل أقول : إنّه ممّا لا يعقل مع الالتزام باشتراط بقاء الموضوع كليّة. نعم ، يعقل ذلك بناء على التّخصيص في اشتراط بقاء الموضوع. وهو كما ترى.

وأمّا خامسا : فلأنّ الفرق بين الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة ، والحكم بأنّ الموضوع في الشّبهات الموضوعيّة باق بالدّقة العقليّة دائما ممّا لا معنى له ؛ لأنّ المراد بالموضوع في المقام ليس هو خصوص الجوهر ، أي : الماهيّة الّتي لو وجدت في الأعيان وجدت لا في موضوع ، بل أعمّ منه ومن الأعراض القائمة به إذا لم يكن من الأحكام الشّرعيّة ، ومن المعلوم ضرورة إمكان مدخليّة شيء في عروض شيء على الموضوع.

وأمّا سادسا : فبما قيل : من أنّ الوجود في الجواهر من الأجسام إنّما يكون قائما بذاته لا بالماهيّة فتأمّل.

في بيان الميزان الثاني والثالث لتشخيص موضوع الاستصحاب

ثانيها : الرّجوع إلى الدّليل الشّرعي ، فيجعل الموضوع ما حمل عليه الحكم فيه ، فلو ورد : « الماء المتغيّر ينجس » حكم بأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتّغيّر ، فإذا زال التّغير يحكم بزوال الموضوع. وهذا بخلاف ما لو ورد : « الماء ينجس إذا تغيّر » ؛ فإنّه يحكم بأنّ الموضوع فيه هو ذات الماء ، والتّغير سبب لعروض النّجاسة له وحدوثها فيه من غير أن يكون بقاؤها شرطا في بقاء النّجاسة بالنّظر إلى القضيّة الشّرعيّة ، وهكذا في سائر الموارد.

٣٤٧

فلو كان للدّليل إطلاق نافع فيستغنى عن الرّجوع إلى الاستصحاب ، بل لا يجوز معه الرّجوع إليه.

وإن لم يكن له إطلاق بالنّظر إلى جميع الأحوال ، فيتمسّك بالاستصحاب.

ولازم الاقتصار على هذا المسلك عدم جريان الاستصحاب فيما كان الدّليل لبيّا أو لفظيّا مجملا من جهة بيان الموضوع ؛ لعدم إمكان إحراز الموضوع كما لا يخفى.

ثالثها : الرّجوع في ذلك إلى العرف ، ففي كلّ مورد حكم العرف باتّحاد القضيّتين ، بأن قالوا : هذا كان كذا ، يحكم بجريان الاستصحاب فيه سواء علم كون المشار إليه بالدّقة العقليّة ، أو بالنّظر إلى الأدلّة موضوعا ، أو لم يعلم ذلك إلّا أن يقوم دليل خارجيّ على خلاف مقتضى الاستصحاب.

كما في الإنسان بعد الموت ؛ فإنّ العرف يحكمون باتّحاد مورد الطّهارة والنّجاسة فيه ، ولذا يقولون : بأنّ طهارته ارتفعت بالموت وإن كان بالنّظر إلى الدّقة الموضوع للطّهارة غير الموضوع للنّجاسة وليس هذا مختصّا بالفرض ، بل في أكثر الأحكام المترتّبة في الأدلّة الشّرعيّة على موضوع الحيّ يجعلون الموضوع فيه الأعمّ من الحيّ والميّت ، كما في جواز التّقليد وحليّة النّظر إلى الزّوجة ولمسها ، ونجاسة الحيوان النّجس كالكلب والخنزير إلى غير ذلك.

فإنّ العرف يجعلون الموضوع في هذه الأحكام الأعمّ من الحيّ والميّت وإن كان بالنّظر إلى الدّقة والدّليل الشّرعيّ الموضوع فيها المجتهد ، والزّوجة الغير الصّادقين على من خرج عنه الرّوح قطعا ، والكلب والخنزير الغير الصّادقين على الجماد ، وهكذا. بل يجري في غيرها كما في حكمهم باتّحاد القضيّتين في مورد

٣٤٨

استصحاب الكرّيّة والقلّة الّذي عرفت الكلام فيه غير مرّة ، وفي استصحاب الأمور التّدريجيّة والأعراض المتصرّمة.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في مساعدة العرف في الحكم باتّحاد القضيّتين ولو مسامحة وفي كلّ مورد لم يحكموا باتّحاد القضيّتين لم يحكم بجريان الاستصحاب فيه وإن كان الموضوع باقيا بالنّظر إلى الدّقة العقليّة أو الأدلّة الشّرعيّة ، كما في بعض مراتب استحالة المتنجّسات بناء على كون المعروض للنّجاسة فيها الجسم من حيث هو جسم ، كما إذا صارت دخانا ؛ فإنّ الدّخان وإن كان جسما أيضا بالنّظر إلى الدّقة العقليّة ، إلّا أنّه لا يحكم العرف باتّحاد القضيّتين بعد استحالة الخشب إليه كما لا يخفى.

وبالجملة : انفكاك حكم العرف عن الميزانين السّابقين في الجملة ممّا لا شبهة فيه ، كما أنّ أصل وجوده في الجملة أيضا ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في اعتبار حكم العرف المبتني على المسامحة في المقام ، مع أنّ من المحقّق في محلّه عدم اعتباره في غير المقام ، كما في موارد التّحديدات : كما في الكيل والوزن والمسامحة ونحوها. ومن هنا ذكر المحقّقون : أنّ الأصل في التّحديد أن يكون تحقيقا.

ثمّ اعلم أوّلا : أنّ تشخيص الموضوع في الدّليل الشّرعي إذا كان لفظيّا وإن كان بحكم العرف ، إلّا أنّه لا دخل له بالمقام ولا شبهة في اعتباره من حيث رجوعه إلى تشخيص المراد من اللّفظ بفهم العرف الّذي لا شبهة في اعتباره ، ولا دخل له بمسألة حكم العرف من باب المسامحة في الصّدق وهذا أمر لا سترة فيه أصلا ، والفرق بين المقامين لا يكاد يخفى على من له أدنى دراية.

٣٤٩

إذا عرفت هذا فلنشر إلى دليل اعتبار حكم العرف في المقام وإن كان مخالفا لما استفيد من الشّرع والدّقة (١) العقليّة ، ووجه الفرق بين المقام وسائر المقامات الّتي لم نلتزم ولم يلتزم المحقّقون فيها باعتبار المسامحة العرفيّة مع التزامهم به في المقام ، كما يظهر من تمسّكهم باستصحاب الكرّيّة وأمثاله من غير إشكال فيه.

الوجه في اعتبار المسامحة العرفيّة في المقام

فنقول : إنّ الوجه في اعتبار المسامحة العرفيّة في المقام هو : أنّه بعد حكمهم باتّحاد القضيّتين يصدق النّقض على ترك الالتزام بما كان محمولا في القضيّة الأوليّة المتيقّنة قطعا ، كما أنّه يصدق على الالتزام به : أنّه إبقاء للمتيقّن السّابق ٣ / ١٧٥ جزما ، فالمسامحة وإن وقعت منهم في جعل المعروض الأعمّ من الواجد للوصف العنواني الّذي كان موضوعا في الأدلّة الشّرعيّة والفاقد له ، إلّا أنّ صدق النّقض والبقاء على التّقديرين حقيقي غير مبنيّ على المسامحة.

والمفروض أنّ المتّبع بناء على القول باعتبار الاستصحاب ليس إلّا صدق المفهومين بحكم العرف ؛ فإنّه المتّبع في باب الألفاظ.

لا يقال : كيف يعقل أن يكون اتّحاد القضيّتين من باب المسامحة العرفيّة ويكون صدق المفهوم مبنيّا على الحقيقة مع أنّ من المستحيل عقلا اختلاف الحكم المبني والمبنيّ عليه؟

لأنّا نقول : اختلاف حكم المبنيّ والمبنيّ عليه في أمثال المقام ممّا لا ضير فيه ، ألا ترى أنّ الاستعارة بناء على مذهب التّحقيق حقيقة؟ مع أنّ كون المستعار

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٣٥٠

من أفراد المستعار عنه مبنيّ على الادّعاء لا الحقيقة.

لا يقال : لا دليل لاعتبار حكم العرف في باب صدق المفهوم المعيّن على شيء. وأمّا ما قرع سمعك : من أنّ المحكّم في باب الألفاظ هو فهم العرف ، فلا دخل له بالمقام وإنّما هو في تشخيص أصل معنى اللّفظ ومفهومه ، لا في تعيين المصداق بعد إحراز المفهوم.

لأنّا نقول : بعد كون المفهوم عرفيّا وقطع بصدقه عند العرف على شيء يحكم : بأنّ المراد منه ما يشمله قطعا ، وإن أمكن وقوع الشّك في إرادة بعض مصاديقه من جهة الشّك في التشخيص ، ولكن هذا لا ينافي ما ذكرنا بل يدلّ عليه كما لا يخفى.

نعم ، لو كان الصّدق ظنيّا لم يكن معنى لاعتباره في المقام. وبالجملة : بعد حكم العرف في المقام يحصل القطع بكون ترك الالتزام موردا للنّهي في الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك.

وهذا بخلاف حكمهم في باب التّحديدات فإنّ أصل الصّدق هنا مبنيّ على المسامحة فإنّ صدق الفرسخ على ما ينقص عمّا اعتبر شرعا من المسامحة بعشرة ذراع مبنيّ على المسامحة ، وكذا في صدق الرّطل على ما ينقص عنه بمثقالين إلى غير ذلك. ومن المعلوم أنّه لا دليل على اعتبار هذه المسامحة ، بل اللّازم هو اتّباع ما تعلّق به الحكم في الشّريعة وترك الأخذ بما يصدق عليه من باب المسامحة ؛ لاستلزامه الخروج عمّا يقتضيه قواعد اللّفظ.

لا يقال : بعد اعتبار حكم العرف باتّحاد القضيّتين الّذي لا يمكن إلّا بعد فرض اتّحاد الموضوع ، أيّ حاجة إلى الاستصحاب مع كون الشّك في الحكم

٣٥١

مسبّبا عن الشّك في بقاء الموضوع بمقتضى الفرض ، بل لا معنى لجريان الاستصحاب على هذا التّقدير كما لا يخفى.

لأنّا نقول : حكمهم باتّحاد الموضوع في القضيّتين إنّما أوجب صدق ما تعلّق به الحكم في الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، لا صدق ما تعلّق به الحكم في الأدلّة الشّرعيّة ، بل في أكثر المقامات عدم صدقه ولو مسامحة يقينيّ.

ألا ترى أنّ العرف يحكمون في الماء المسبوق بالكرّيّة الّذي أخذ منه مقدار يشكّ معه في بقاء الكرّ بأنّه كان كرّا ، ولا يحكمون بأنّه كرّ؟ وعلى تقدير حكمهم في بعض المقامات لا جدوى فيه ؛ لما عرفت : من أنّ أصل صدق ما تعلّق به الحكم إذا كان من باب المسامحة لا اعتداد به ، ولا يجوز رفع اليد به عن أدلّة الأصول.

لا يقال : اعتبار ما ذكر من المسامحة إنّما يتمّ بناء على القول باعتبار الاستصحاب في الشّك في المقتضي ، وأمّا على القول بعدم اعتباره فيه من حيث عدم صدق ما هو المراد من لفظ النّقض الوارد في الأخبار بالنّسبة إليه فلا.

لأنّا نقول : ما ذكر إنّما يتمّ بناء على القول : بأنّ صدق النّقض بعد المسامحة المذكورة من باب المسامحة ، ولكنّك قد عرفت : أنّ صدقه بعد المسامحة في اتّحاد الموضوع مبنيّ على الحقيقة ، فالقول بكفاية إحراز الموضوع في باب الاستصحاب بالمسامحة العرفيّة ليس قولا باعتبار الاستصحاب في الشّك في المقتضي أيضا.

هذا كلّه بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وإلّا بناء على القول باعتباره من باب الظّن ، فالمتعيّن الاقتصار على الميزان الأوّل على ما عرفت القول فيه. وإن كان هذا خلاف ما وقع من القائلين باعتبار الاستصحاب من

٣٥٢

باب الظّن : من إجرائهم الاستصحاب في مقامات لا يمكن إحراز الموضوع فيها إلّا بالمسامحة العرفيّة ، كما في مثال الكرّ وأمثاله.

ولكنّك خبير بأنّه لا ريب في فساده ، اللهمّ إلّا أن يفرض الظّن بعدم مدخليّة ما يحتمل مدخليّته ولو من جهة الغلبة ، فتأمّل.

هذا غاية ما يقال في وجه اعتبار المسامحة العرفيّة في إحراز الموضوع في المقام على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وفي الفرق بينه وبين مقام التّحديد الّذي حكموا فيه بعدم اعتبار المسامحة.

ولكنّك خبير بعدم خلوّ ما ذكر عن النّظر ؛ لأنّ دعوى كون صدق النّقض حقيقيّا مع ابتنائه على اتّحاد القضيّتين الّذي أحرز بالمسامحة لا يجدي مع كونه خلاف الظّاهر قطعا ، فلو قيل بلزوم الاقتصار على الميزان الثّاني في الأحكام الشّرعيّة والرّجوع إلى حكم العرف الغير المبنيّ على المسامحة في الموضوعات الخارجيّة إن لم يرجع إلى الميزان الأوّل لم يكن خاليا عن الوجه ، فتوجّه حتّى تقف على حقيقة الأمر.

(٣٠٧) قوله : ( وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٩٦ )

__________________

(١) قال المحقق المدقق الطهراني قدس‌سره :

٣٥٣

الإستحالة من المطهّرات كما عليه الأكثر

أقول : لا يخفى عليك أنّه اختلفت كلماتهم في باب الاستحالة أنّها من

__________________

« لا يخفى ان العلّامة قدس‌سره جعله منشأ للإشكال ولم يستدل به ؛ فانه أوضح فسادا من أن يخفى على أحد.

توضيح ذلك : انه قد جرت طريقة الفاضلين قدس سرهما على ذكر الوجه الفاسد وإن كان فساده في غاية الوضوح فيقول المحقق قدس سره بعد ذكر حكم المسألة : ( وفيه تردّد والأشبه كذا ) ومن هذا القبيل قول العلّامة قدس سره : ( وفيه إشكال ) وإنّما ذكره منشأ للإشكال والوسوسة ، لا انه استدلّ به عليه ، كيف! ولا يخفى على ذي مسكة : انّ الحيوان ليس منيّا والمواليد من الحيوان والمعدن والنّبات ليست عناصرا وكيف يتوهّم العرف : ان الملح هو الكلب وكون شيء أصلا لشيء لا ينافي التباين.

نعم ، الإستحالة ليس إعداما وإيجادا ، بل لا بد فيها من الباقي في الحالين ، فإن كان المقصود انّ العرف يحكم ببقاء المادّة فهو موافق للموازين العقليّة أيضا ولكن تعلّق النجاسة بالمادّة الباقية لا معنى له ، وحكم العرف بذلك غير معقول ؛ فإن المسامحة إنّما هي في الحكم بالإتّحاد ولا سبيل إليه في الإنقلاب ضرورة عدم حكم العرف بانّ الحيوان هو المنيّ وحيث لم يحكم بذلك فكيف يحكم ببقاء الحكم المتعلّق به والمسامحة في تشخيص الموضوع لا معنى لها؟

والحاصل : ان الوجه المذكور ليس مبنيّا على ما زعمه من الرجوع في تشخيص الموضوع إلى العرف والبناء فيه على المسامحة ، بل إنّما هو مبني على استكشاف ان الباقي في الحالين هو الموضوع وهذا لا ينافي الرّجوع إلى العقل والبناء على المداقّة في معرفة الموضوع » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٨.

٣٥٤

المطهّرات مطلقا (١) ، أو ليست منها مطلقا إلّا إذا ثبت الطّهارة من الدّليل الخاصّ الخارجي (٢) ، أو تفصيل (٣) بين استحالة الأعيان النّجسة والمتنجّسة فهي في الأولى من المطهّرات دون الثّانية (٤).

فعن الأكثر المصير إلى الأوّل من حيث تبعيّة النّجاسة للعنوان الّذي تعلّق به ٣ / ١٧٦ الحكم في الشّريعة ، فبعد انتفائه لا معنى للتّمسك بما دلّ على ثبوت النّجاسة. وأمّا الاستصحاب فلا يجري بعد انتفاء الموضوع الّذي تعلّق به الحكم في الأدلّة الشّرعيّة فلا بدّ إذن من الحكم بالطّهارة : إمّا أخذا بما دلّ على طهارة المستحال إليه كالملح ، أو بما دلّ عموما على طهارة الأشياء حتّى تثبت نجاستها.

وعن الفاضلين وبعض آخر المصير إلى الثّاني واستدلّوا له بوجوه :

أحدها : أنّ معروض النّجاسة هي نفس الأعيان النّجسة وذواتها لا أوصافها الزّائلة بالاستحالة ، أو الذّوات باعتبار الأوصاف ، ومن المعلوم أنّ ذوات الأجسام لا ترتفع بارتفاع الأوصاف القائمة بها (٥). وهذا هو الّذي استدلّ به الفاضلان للحكم بالطّهارة الّذي أراد تصحيحه ( دام ظلّه ) بما ذكره من البناء على المسامحة.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكراه ليس مبنيّا على جعل الموضوع هو نفس الذّوات بالمسامحة العرفيّة ، ولم يريدا التّمسّك بالاستصحاب أصلا ، وإنّما ادّعيا كون

__________________

(١) كما عليه المشهور واختاره صاحب البحر.

(٢) كما عليه الفاضلان « المحقّق الحلّي وابن اخته العلّامة » وجماعة.

(٣) كذا والظاهر : أو يفصّل.

(٤) كما عليه الفاضل الهندي وجماعة تأتي الإشارة إليهم.

(٥) انظر المعتبر : ج ١ / ٤٥١ ، ومنتهى المطلب : ج ٣ / ٢٨٧.

٣٥٥

الموضوع قطعا ما هو باق جزما.

ثانيها : ما عن الفخر في « الإيضاح » من التّمسك لبقاء النّجاسة باستصحابها (١).

وأنت خبير بأنّه لو جعل الأستاذ العلّامة ما ذكره من المسامحة مصحّحا لاستدلال الفخر بالاستصحاب لكان أولى.

ثالثها : ما عنه وعن غيره : من أنّ الحكم وإن تعلّق في الأدلّة الشّرعيّة بما زال اسمه بعد الاستحالة كالكلب والخنزير والعذرة ونحوها ، إلّا أنّه لا إشكال في أنّ الاسم معرّف وأمارة ، فلا معنى لزوال الحكم بزواله هذا.

وهو كما ترى ، يرجع إلى الوجه الأوّل إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في محلّها.

وعن بعض المتأخّرين (٢) : المصير إلى الثّالث مستدلّا في ظاهر كلامه المحكيّ عنه : بأنّ معروض النّجاسة في الأعيان النّجسة ليس نفس الذّوات لأن للوصف العنواني مدخلا في العروض قطعا ، وهذا بخلاف المتنجّسات ؛ فإنّ النّجاسة فيها محمولة على الجسم ، وليس للعنوان مدخل فيه جزما كما يكشف عنه قوله : إنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، هذا (٣).

__________________

(١) إيضاح الفوائد : ج ١ / ٣١.

(٢) الفاضل الهندي في المناهج السويّة ( كتاب الطهارة ) الورقة / ١٢٤ مخطوط وانظر القوانين :

ج ٢ / ٧٤ والفاضل النراقي في مناهج الاحكام : ٢٣٣ ، ومستند الشيعة : ج ١ / ٣٢٦ ، وأنظر الذخيرة للفاضل السبزواري : ١٧٢.

(٣) قال المحقق المدقّق الطهراني قدس‌سره :

٣٥٦

ولكنّك خبير بأنّ الحقّ هو ما ذهب إليه الأكثرون : من كون الاستحالة من المطهّرات مطلقا أينما تحقّقت على سبيل القطع والجزم ، فلا يرد النّقض بمثل صيرورة الحنطة المتنجّسة طحينا أو الطّحين عجينا أو العجين خبزا إلى غير ذلك من تغيّر العنوانات الّتي يعلم بعدم مدخليّتها في أصل عروض النّجاسة ، ولا يحكم العرف بتحقّق الاستحالة بالنّسبة إلى موضوع النّجاسة ومعروضها.

والدّليل على ما ذكرنا ظهور القضايا في مدخليّة الوصف العنواني في عروض النّجاسة وكونها تابعة لها حدوثا وبقاء ، وعلى تقدير الشّك يحكم بالطّهارة أيضا من جهة قاعدة الطّهارة ، ولا يجري استصحاب النّجاسة حتّى يكون حاكما

__________________

« ويندفع : بان الحكم بزوال الموضوع يكون بزوال الواسطة في العروض مع بقاء المعروض كما لو تبدّل الكفر بالإسلام ففي هذه الصورة لا يرتفع إلّا ما كان دائرا مدار هذا العنوان وكان واسطة في عروضه ، وقد يكون بانعدامه رأسا وحينئذ يزول جميع ما كان ثابتا له بالضرورة والإستحالة من هذا الباب ، بمعنى ان الذات والحقيقة تتغيّر بها ، فما حدث غير ما كان ، ولا ينافي هذا اشتراكهما في المادّة فكلّ عرض من عوارض المواد يزول باستحالته حيوانا وإن لم يكن عنوان المنويّة واسطة في عروضه له.

وظهرت بما حقّقناه : استحالة بقاء حكم بعد الإستحالة ولا حاجة إلى استظهار مدخليّة الصّور النوعيّة في الإنفعال من الأدلّة وإناطته بخصوصيّات الأجسام ، بل لا سبيل إلى ذلك ، والرجوع إلى العرف في معرفة الموضوع لا معنى له ، بل لا مرجع فيه إلّا الحاكم ، فإذا تعلّق حكم بالعنب ودار الأمر بين ان يكون الوصف عنوانا وواسطة في العروض وبين أن يكون معرّفا وتعلّق الحكم بالجامع بينه وبين الزبيب فلا معنى للرجوع إلى العرف في ذلك ولقد أفاد الأستاذ قدس‌سره في هذا المقام ما لا يخلو عن أنظار تظهر بالتأمّل فيما حقّقنا » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٨.

٣٥٧

على القاعدة للشّك في بقاء ما هو الموضوع بعد فرض اشتباه الأمر ، وعدم العلم بمدخليّة الوصف العنواني هذا.

مضافا إلى جواز الاستدلال بما دلّ على حكم المستحال إليه في الجملة من غير فرق بين أن يكون طهارة أو نجاسة ، حلّيّة أو حرمة ؛ فإنّه قد يستحيل الجسم الطّاهر إلى النّجس. وقد يكون الأمر بالعكس ؛ إلّا أن ظاهرهم الاتّفاق على الحكم في استحالة الطّاهر إلى النّجس ، والحلال إلى الحرام.

وممّا ذكرنا تعرف الجواب عن الوجوه الّتي استدلّوا بها للقول بالنّفي مطلقا ، ولا حاجة إلى تطويل الكلام.

وأمّا الجواب عمّا استدلّ به القائل بالتّفصيل ؛ فإنّه لم يقم برهان على كون المعروض للنّجاسة في المتنجّسات هو الجسم من حيث إنّه جسم من غير أن يكون للعنوان المستحيل مدخل فيه ؛ فإنّه وإن اشتهر في كلماتهم ووقع في معاقد إجماعاتهم المنقولة ما ربّما يستظهر منه ذلك في باديء النّظر وهو قولهم : « كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس » إلّا أنّ بعد التّأمّل يعلم عدم كونهم في مقام بيان ما هو المعروض للنّجاسة في الأجسام المنفعلة ، بل في مقام بيان قابليّة كلّ جسم للتّأثر والانفعال ، فلا ينافي كون ثبوت النّجاسة لكلّ واحد منها من حيث الوصف العنواني الثابت له هذا.

مع أنّه لو فرض ظهور معقد الإجماعات المنقولة في ذلك نمنع من اعتباره إذا لم يقم دليل عليه ، ومجرّد عدم الدّليل على كون معروض النّجاسة هو الجسم يكفي في الحكم بالطّهارة من جهة القاعدة كما لا يخفى هذا. مضافا إلى ما ذكره الأستاذ ـ بعد تسليم الظّهور ـ : من أنّه بعد العلم بمستند حكمهم في الكليّة

٣٥٨

المذكورة لا معنى للتّعويل على ظهورها ، بل لا بدّ من صرفه لظهور المستند.

ومن المعلوم أنّ المستند في هذه الكليّة في كلماتهم ليس إلّا ما ورد في الموارد الخاصّة كالثّوب والبدن والماء ، ومن الظّاهر أنّ استنباط الكليّة المذكورة منه لا يمكن إلّا باعتبار عموم ما يحدث فيه النّجاسة ، لا ما يقوم به النّجاسة ؛ فإنّه لا يمكن استفادته من ذلك ؛ إذ كما يحتمل كونه الصّورة الجسميّة الباقية بعد ارتفاع الصّورة النّوعيّة ، كذلك يحتمل أن يكون هي الصّورة النّوعيّة المرتفعة بالاستحالة قطعا ، فإذن لا يمكن الجزم بأنّ معروض النّجاسة في المتنجّسات هو الجسم.

لا فرق بين الأعيان النّجسة والمتنجّسة في

الحكم بالطهارة لاجل الإستحالة

نعم ، الفرق بين النّجس والمتنجّس على هذا التّقدير : أنّ موضوع النّجاسة في الأوّل مرتفع بحسب ظاهر الدّليل ، وفي الثّاني مشكوك الارتفاع. ولكن هذا القدر لا يجدي في الفرق بينهما بعد البناء على لزوم إحراز الموضوع في باب الاستصحاب بطريق القطع سواء جعل الميزان فيه العقل ، أو الرّجوع إلى الأدلّة ، أو حكم العرف بالبقاء.

أمّا على الأوّل فظاهر ؛ لاحتماله مدخليّة الصّورة النّوعيّة في عروض النّجاسة في كلا القسمين فيلزم عدم جريان الاستصحاب مطلقا.

وأمّا على الثّاني ؛ فلما قد عرفت : أنّ المثبت لعموم الحكم في باب النّجاسات ليس إلّا الأمر اللّبي الّذي لا يمكن تشخيص الموضوع به حتّى يجري على منواله.

٣٥٩

وأمّا على الثّالث ؛ فللعلم بعدم الفرق عند العرف بين النّجس والمتنجّس.

ففي بعض صور الاستحالة يحكمون ببقاء ما هو الموضوع للحكم من غير فرق بين المقامين ، بمعنى حكمهم بشمول الدّليل في الحالة الثّانية لا من جهة الاستصحاب. وفي بعض المراتب يحكمون ببقاء الموضوع في الزّمان الثّاني من غير فرق بين المقامين ، مع احتمالهم لمدخليّة بعض الأوصاف والقيود الّذي يحوجهم إلى التّمسّك بالاستصحاب بالبناء على عدم مدخليّة الحالة المتبدّلة بالمسامحة. وفي بعض المراتب يحكمون بارتفاع الموضوع في الزّمان الثّاني بطريق القطع من غير فرق بين المقامين ، وفي بعض المراتب يشكّون في بقائه فيهما.

فهل ترى من نفسك الفرق عندهم في الحكم ببقاء الموضوع بين الفحم من نجس العين ، أو المتنجّس؟ أو ترى من نفسك الفرق في حكمهم بعدم بقاء الموضوع في صيرورة الشيء النّجس رمادا أو دخانا بين النّجس والمتنجّس؟ أو ترى من نفسك الفرق في حكمهم ببقاء الموضوع في صيرورة الدّخان ماء بين الدّخان من الماء النّجس ، أو المتنجّس؟! حاشاك ثمّ حاشاك من ذلك.

وبالجملة : الحكم بالفرق بين النّجس والمتنجّس في حكم العرف ببقاء الموضوع وعدمه ، والشّك بحسب مراتب الاستحالة لا يصدر إلّا من المكابر المتعسّف ، بل التّحقيق : أنّه لا يعقل الفرق بينهما في بنائهم فتدبّر.

نعم ، الفرق بينهما أنّه فيما لم يحكم بجريان الاستصحاب في مراتب الاستحالة من جهة القطع بانتفاء الموضوع ، أو الشّك فيه يمكن الحكم بالطّهارة في الزّمان اللّاحق في الأعيان النّجسة المستحالة بقاعدة الطّهارة ، وما دلّ على طهارة

٣٦٠