بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

__________________

وبالجملة : إنّما لا يعقل تنزيل الموضوع بلا ملاحظة الأثر الشّرعي ، وامّا معها فهو بمكان من الإمكان ولو كان الأثر مع الواسطة ، وسرّه : أنّ الأثر كما كان أثرا لها ، كان أثرا لذيها ، غاية الأمر يكون تنزيله بلحاظه تنزيلا لها.

إن قلت : فرق بين التّنزيل في مورد الأمارات ومورد الأصول التّعبديّة ، وهو أنّ الأمارة تكون حاكية من الواسطة كما تكون حاكية عن ذيها ، فشمول دليل الحجّيّة لها ايضا في مورد لا أثر فيه إلّا بالواسطة ، إنّما هو بملاحظتها بنفسها ، فإنّها أيضا من الموضوعات الّتي كانت لها آثار شرعيّة دون ذيها ، وهذا بخلاف الأصل فانّه ليس في البين في مورده إلّا نفس الجعل والتّنزيل شرعا.

قلت : نعم ، ولكنّه ليس بفارق ، فانّ شمول دليل الأمارة القائمة على موضوع ملزوم عقلا لأمر محكوم بأثر شرعا لتنزيل هذا الأمر ليس إلّا بتبع وجوب تصديقها فيما يحكى فيه ابتداء وبلا واسطة ، لأنّه لا يكاد أن ينتقل الذّهن إلى تنزيل الواسطة إلّا بواسطة تنزيل ذيها كما لا يخفى ، فلا يترتّب الأثر الشّرعي على نبات اللّحية مثلا بعد قيام البيّنة على حياة زيد ، إلّا بتبع وجوب تصديقها في نفس حياته المستتبع لنباتها المرتّب عليه الأثر.

إذا عرفت صحّة تنزيل الموضوع بلحاظ الأثر بالواسطة أيضا ، فعموم دليل التّنزيل أو إطلاقه كخطاب « لا تنقض اليقين » يقتضي شمول التّنزيل لكلّ موضوع متيقّن ، كان له أثر شرعي ولو بواسطة أو وسائط. نعم ، لا يعمّ ما لا أثر له أصلا ولو كان لملزومه أو لملازمة أثر ، إذ ليس أثر ما يلزم الشيء أو يلازمه بأثره ، بل أثر غيره ، ولا يصحّ تنزيل شيء بلحاظ أثر غيره.

هذا ، ولكن التحقيق حسبما يساعد عليه النّظر الدّقيق أن يقال : انّ التنزيل وإن كان يصحّ بلحاظ الأثر مطلقا ولو كان بالواسطة ، ويمكن أن ينهض عليه الدّليل ، وليس ممّا لا يكون إليه السّبيل مثل ما إذا لم يكن له أثر أصلا إلّا أنّه لا يكاد أن ينهض عليه مثل خطاب لا تنقض من دون دلالة ، وذلك لأنّ التفكيكات في مقام التنزيل بين الشيء وملازمه ليس بمستحيل ولا

١٢١

__________________

ببعيد عن ظاهر دليل تنزيله ، ضرورة انّ خطاب لا تنقض اليقين بحياة زيد مثلا ، فانّه ليس بظاهر في تنزيل نبات لحيته أيضا عند الشّكّ في حياته ، كي يكون التّفكيك بين تنزيل حياته وتنزيل نبات لحيته تعبّدا لو لم نقل بظهوره في تنزيل خصوص حياته ، فلا أقلّ من الإحتمال المانع من الاستدلال له على التّنزيلين ، فلا سبيل إلّا إلى إثبات تنزيل نفس متعلّق اليقين بمثل هذا الخطاب.

إن قلت : نعم لو لم يعمّ متعلّق اليقين لما كان لا أثر له إلّا بواسطة لازمه وفي مثله لا محيص من عدم التّفكيكات ، لأنّه ركيك بل مستحيل ، لأنّ ترتيب أثر الواسطة عند الشّكّ عين تنزيله فإنّه لا معنى محصّل له إلّا ترتيب الأثر وأمّا تخصيصه بعدم إرادة مثل هذا المتعلّق ، فلا وجه له وأنّه بلا مخصّص.

وبالجملة يكون عموم متعلّق اليقين لما لا أثر له إلّا بالواسطة قرينة على دلالة الدّليل على التّنزيل بلحاظ أثرها أيضا كان لذيها أثر بلا واسطة أو لا.

قلت : نعم لو كان المتعلّق أعمّ ممّا لا أثر له بالواسطة ، ومقدار عمومه وسعة دائرته لا يتعيّن إلّا بتعيّن أنّ التنزيل بلحاظ كلا الأثرين أو خصوص الأثر بلا وساطة أمر ، ولا معيّن إلّا بمقدّمات الحكمة وهي غير مقتضية للحاظ كلا الأثرين مع وجود القدر المتيقّن ، وهو لحاظ الأثر بلا واسطة أمر في البين ، فإنّه ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه ، ومعه لا دلالة أصلا على لحاظ أثر آخر ، وأمّا ترتيب الأثر مطلقا ولو كان بالواسطة في الطّرق والأمارات فإنّما هو لأجل أنّ مفاد دليل اعتبارها لزوم الأخذ بتمام ما هي حاكية وكاشفة عنه من المؤدّى بأطرافه من ملزومه وملازمه ولازمه ، وترتيب الأثر الشّرعي على كلّ واحد منه ، ومنها كان ذا أثر ، غايته أنّه لا يكون قضيّة الدّليل إلّا التّنزيل له ، لكنّه يكفي في شمول دليل الأعتبار لهذه الآثار ، مثلا كون نبات اللّحية ذا أثر كاف في عموم دليل البيّنة لها فيما قامت على حياة زيد وإن لم يترتّب على حياته اثر آخر ، فيكون تنزيلا لنبات لحيته بلسان تصديق البيّنة على حياته.

١٢٢

معنى حرمة نقض اليقين بالشك

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الأمر لا تعلّق له بأحد الأمور الّتي ذكره ( دام

__________________

وهذا بخلاف مثل خطاب « لا تنقض اليقين » ممّا لا يكون دليلا على الاستصحاب أو غيره من الأصول في الأبواب ، فانّه ليس فيه ما كان له دلالة على التّعبّد بالشّيء بلازمه ، فضلا عن ملزومه ، كما كان في الأمارات من حكايتها عنه بأطرافه وظهور دليل اعتبارها في تصديقها فيما يحكى عنه بأطرافه ، فلا بدّ في موارد الأصول من دلالة من خارج على انّ حرمة نقض اليقين بالشيء مثلا ، إنّما هو بلحاظ الشّيء بلازمه أو به وبملزومه وملازمه ، لما عرفت من جواز التّفكيك بين الشيء ولازمه في مقام التّنزيل والخطاب ليس إلّا قالبا لتنزيله وتنزيله بلحاظ أثر لازمه أيضا وإن كان ممكنا ، إلّا لا بدّ من دلالة عليه ومقدّمات الحكمة مع وجود القدر المتيقّن وهو لحاظ أثره غير مقتضيه له ، فليس الخطاب دليلا إلّا على تنزيله بلحاظ أثره الشرعي بلا واسطة ، بخلاف دليل الأمارة ، فإنّه يدلّ بلسان تصديقها فيما يحكي عنه على ترتيب أثر ذي الأثر من المؤدّى وأطرافه عليه وإن كان ذا ملزومه أو ملازمه ، لا هو ولا لازمه.

ولا يخفى أنّ ترتيب أثر كلّ طرف في مورد الأمارة ولو لم يكن للمؤدّى أثر أصلا أصدق شاهد على انّه ليس مفاد دليل اعتبار تنزيل خصوص المؤدّى كما هو مفاد الأصل ، إذ غاية الأمر صحّة تنزيل الشّيء بلحاظ أثر لازمه ، لما عرفت سرّه. وأمّا تنزيله بلحاظ أثر ملزومه أو ملازمه فكلا كما لا يخفى ، ضرورة أنّ أثرهما لا يكون بأثر له ، وامتناع تنزيل الشّيء بلحاظ أثر غيره واضح ، من دون حاجة إلى مزيد بيان أو إقامة برهان » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٥٠ ـ ٣٥٤.

* أقول : ولصاحب قلائد الفرائد قدس‌سره في قلائده : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٤٦ كلام طويل لا يخلو من فوائد ينبغي مراجعته واغتنامه.

١٢٣

ظلّه ) من أركان الاستصحاب إلّا بتكلّف ركيك.

ثمّ إنّك قد عرفت غير مرّة ـ في طيّ كلماتنا السّابقة بعد استحالة إرادة ما هو الظّاهر من الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك أنّ المراد بدلالة الاقتضاء أو بحكم العرف عدم نقض المتيقّن بالشّك ـ : سواء كان من الموضوعات ، أو الأحكام ، لا بمعنى إبقائه واقعا ؛ لاستحالة ذلك أيضا ، بل بمعنى الالتزام بمقتضى بقائه على حسب اختلاف الاقتضاء باختلاف المتيقّن ، فعدم نقض كلّ شيء بحسبه وله معنى يحصل من النّسبة ، لا أن يكون اللّفظ مستعملا في أكثر من معنى واحد.

وبعبارة أخرى : المراد من الأخبار وجوب معاملة المكلّف مع المشكوك المتيقّن سابقا معاملة الباقي واقعا. وهذا المعنى كما ترى ، جعل من الشّارع وإنشاء لجميع الأحكام الشّرعيّة الواقعيّة المترتّبة على المتيقّن واقعا في الظّاهر إن لم يكن قابلا لتعلّق الجعل بنفسه ، كما إذا كان من الموضوعات وجعل نفس المتيقّن السّابق في مرحلة الظّاهر مع ما يترتّب عليه من الأحكام إن كان قابلا لتعلّق الجعل الظّاهري به ، فالمجعول في هذه الأخبار من الشّارع ليس إلّا الحكم الظّاهري على طبق الحكم الثّابت في السّابق على ما هو شأنه ؛ من حيث إنّه شارع في جميع ما يصدر عنه ؛ فإنّه ليس إلّا جعل الحكم والمقصود من المكلّف في الموضوعين ليس إلّا العمل ، كما هو الشّأن في جميع موارد تعلّق الحكم بالمكلّف.

فهذا الاختلاف ليس من جهة استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، بل هو أمر ينشأ من النّسبة باعتبار طرفيه ، فالحياة الظّاهريّة مثلا ما جعل الشّارع لها أحكاما في صورة الشّك فيها وهو معنى الحكم بثبوتها ظاهرا وفي مقام الشّك ، وهذا بخلاف الوجوب الظّاهري مثلا ؛ فإنّه ليس معناه إلّا جعل نفسه في مرحلة

١٢٤

الظّاهر ، فمعنى عدم نقض كلّ شيء في حكم الشارع بمعنى وإن لم يكن المطلوب من المكلّف في جميع المقامات إلّا الالتزام والعمل.

وبمثل ما ذكرنا فليحرّر المقام لا بمثل ما حرّره الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) فإنّه لا يجري فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيّا كما لا يخفى.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت : أنّ مرجع حرمة نقض اليقين بالشّك إلى جعل أحكام شرعيّة ظاهريّة على طبق الحكم الثابت سابقا من حيث كون عدم الالتزام به نقضا له ، يظهر لك : أنّ الّذي يعقل الحكم بكونه مجعولا إنّما هي الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب كما في الموضوع ، أو هي مع نفسه كما في الحكم. وأمّا غيرها من اللّوازم العقليّة والعادية ونحوهما فلا يعقل جعلها قطعا كجعل نفس الموضوع ؛ لأنّ الشّارع من حيث هو شارع لا يمكن له إلّا جعل الحكم الشّرعي وأمّا غيره فلا.

نعم ، الشّارع من حيث إنّه خالق له إيجاد كلّ شيء لكنّه لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الكلام من حيث التّشريع لا من حيث الخلق ، وأمّا ما يترتّب على تلك الأمور الغير الشّرعيّة الملازمة مع المستصحب في الوجود فلا معنى للحكم بثبوتها أيضا لأنّ المفروض أنّ موضوعها لم يكن قابلا للجعل حتّى يحكم بجعله بعموم الأخبار فيترتّب عليه تلك الآثار.

وعدم الالتزام بها مع هذا الفرض ليس نقضا لليقين بما صار موردا للاستصحاب حتّى يحكم بجعلها أيضا ، وموضوعها لم يجعل موردا للتّنزيل الشّرعي حتّى يحكم بأنّ معنى الحكم بثبوته في مقام الشّك هو جعل ما يترتّب عليه عند الشارع في الظّاهر.

نعم ، لو كان المستصحب ممّا يقبل الجعل كالحكم الشّرعي ثبت بجعله في

١٢٥

مقام الظّاهر جميع ما يترتّب عليه من اللّوازم سواء كانت شرعيّة أو غيرها إذا كان موضوعها الأعمّ من الحكم الواقعي والظّاهري ، لا ما كان خصوص الواقعي من حيث هو واقعيّ بحيث يكون مناطه مختصّا به (١).

__________________

(١) علّق الفاضل الكرماني على قول المصنّف : ( وجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء لأنّها القابلة للجعل دون غيرها ... إلى آخره ) [ الفرائد : ٣ / ٢٣٣ ] قائلا :

« هذا التعليل على ظاهره عليل فإنّا كلّما أجلنا فكرنا متصاعدا ومتنازلا وطولا وعرضا لم نجد وجها لامتناع أن يحكم الشارع على المشكوك المنزّل منزلة المتيقّن بوجوب ترتيب جميع الآثار الشرعيّة والعقليّة والعاديّة ، وما أدري أيّ مانع من أن يقول الشارع إذا كنت متيقنا بوجود زيد ثم شككت في ذلك فيجب عليك ان تحكم بانه موجود الآن متخيّر نابت اللّحية يتحرّك ويسكن وغير ذلك من الأحكام العقليّة والعاديّة والجعل المدّعى عدم قبولها إن أريد به ما ذكرنا فهو في محلّ المنع ، وإن أريد به الثبوت الأوّلي ؛ لأنّ ثبوتها من جهة العقل والعادة لا من جهة الشرع ، فليس الكلام فيه ، فالأولى التعليل بظهور الفاظ التنزيلات في هذا المقدار فيختار.

فإذا قلت : المشكوك بوصف كونه مشكوكا لا أثر له أصلا ، والأثر للموجود ومرآته ليترتّب عليه آثاره هو اليقين ومرجع الحكم بإبقاء اليقين في زمان الشك الى جعل آثار المتيقن للمشكوك المسلوب الأثر في زمان الشك.

ولا شك ولا إرتياب انّ القابل للجعل للمشكوك هو الأثر الشرعي كحرمة المال وحرمة تزويج الزوجة ، وامّا جعل النموّ ونبات اللحية للمشكوك المسلوب الأثر فغير متصوّر.

قلنا : بعد الغضّ عمّا لنا من منع كون المشكوك مسلوب الأثر ، غايته : انه غير معلوم الأثر وهو أعمّ من مسلوب الأثر ، فمرجع الحكم بإبقاء اليقين النهي عن رفع الأثر ان المجعول للمشكوك هو وجوب ترتيب الآثار ، الثابتة للمتيقّن أيّا ما كانت شرعيّة أو عقليّة أو عادية لا

١٢٦

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الثّابت بالاستصحاب ـ إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد ـ ليس إلّا الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب ترتّبا أوّليا بلا توسّط غيره إذا كان المستصحب من الموضوع. وبعبارة أخرى : الكبريات والمحمولات المترتّبة على المستصحب في الشّريعة من غير واسطة وجميع الآثار إذا كان المستصحب من الحكم الشّرعي بالشّرط الّذي عرفته. وهذا معنى ما اشتهر من أنّ الأصل المثبت لا اعتبار به على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد إذا كان مجراه الموضوع الخارجي.

وأوّل من عنون الأصل المذكور بهذا العنوان على ما حكاه شيخنا ( دام ظلّه ) في مجلس البحث فقيه عصره (١) ، وشاع بين مشايخ ولده (٢) وتلامذته (٣) وتلامذتهم (٤) والمراد ما عرفت ، وقد غفل عنه غير واحد ممّن ذهب إلى اعتبار

__________________

نفس الآثار ، كيف! ولو كانت نفس الآثار مجعولة ولو شرعيّة كانت آثارا واقعيّة للموضوع الذي هو المشكوك كسائر الموضوعات المجعول لها الأحكام فكانت ثابتة ، ولو انكشف الخلاف مع انهم لم يلتزموا بذلك وجعل الأثر الظاهري كلام ظاهري.

وبالجملة : المجعول للمشكوك هو وجوب ترتيب الأثر لا الأثر » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشّي : ٣٨٣.

(١) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة ١٢٢٨ ه‍.

(٢) كالفقيه العملاق الشيخ موسى بن جعفر والشيخ حسن والشيخ علي أبناء الشيخ الأكبر.

(٣) وهم كثيرون كالفقيه البطل الشيخ خضر شلّال وبطل الجواهر وسيّد مفتاح الكرامة والشيخ محسن خنفر وحجّة الإسلام الشفتي والفاضل الكلباسي والشيخ أسد الله التستري وصاحب الهداية ( حاشية المعالم ) والسيّد صدر الدين وعشرات غيرهم.

(٤) كثيرون جدّا وقد ملأوا الأقطار وفي طليعتهم : الشيخ الأعظم الأنصاري الدسبولي

١٢٧

الأصول المثبتة فزعم كون القول بعدمه نقصا على الشّارع من حيث لزوم قصر قدرته على جعل الحكم دون غيره ؛ لأنّ لازم نفي اعتبار الأصول المثبتة عدم إمكان إرادة مطلق الأحكام ممّا ورد في المقام من الأخبار هذا.

« في تقسيم المستصحب لكي يتميّز به الأصل المثبت عن غيره »

وإن أردت شرح الكلام في ذلك وتفصيل القول فيه فاستمع لما يتلى عليك فنقول :

المستصحب لا يخلو : إمّا أن يكون من الأحكام الشّرعيّة ، أو الموضوعات. وعلى كلّ تقدير : إمّا أن يريد باستصحابه ترتيب ما رتّب عليه شرعا من الآثار واللّوازم بلا توسيط أمر عقلي ، أو عادي. وإمّا أن يريد باستصحابه ترتيب غيره عليه وإثبات غيره به. وهو على أقسام ؛ لأنّه قد يكون أمرا عقليّا. وقد يكون أمرا عاديا ، وقد يكون أمرا شرعيّا غير ما عرفت.

وعلى التّقادير : إمّا أن يكون بين الأمر المذكور والمستصحب علقة ولزوم ، أو لا يكون بينهما لزوم ، بل يكون اجتماعهما من باب مجرّد الاتّفاق لمكان العلم الإجمالي. وعلى التّقدير الأوّل : إمّا أن يكون لازما للمستصحب ، أو ملزوما له ، أو ملازما معه لأمر ثالث. وعلى جميع التّقادير : إمّا أن يريد بإثبات ذلك الأمر إثبات

__________________

الششتري والسيّد ابراهيم القزويني والشيخ راضي النجفي والشيخ مهدي كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي والشيخ محمد حسين الكاظمي والفاضل الإيرواني.

١٢٨

تمامه ، أو إثبات قيده سواء كان وجوديّا أو عدميّا.

وعلى جميع التّقادير : إمّا أن يكون المستصحب مع الأمر المذكور متّحدين في الوجود كالكلّي والفرد ، أو متغايرين في الوجود. وعلى تقدير كون الأمر المقصود بالإثبات لازما شرعيّا مترتّبا على المستصحب بواسطة أمر عقليّ أو عادي إمّا أن يكون الواسطة من الوسائط الخفيّة ، أو غيرها.

وعلى جميع التّقادير : إمّا أن نقول باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، أو نقول به من باب الظّن سواء كان المدرك فيه غير الأخبار ، أو هي بناء على كون المقصود منها إثبات حجيّة الاستصحاب من باب الطّريقيّة والكشف.

ونحن نتكلّم أوّلا على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد والحكم الظّاهري ، ثمّ نعقّبه بالكلام على القول باعتباره من باب الظّن والطّريقيّة. (١)

وليعلم قبل الخوض في المسألة : أنّ المقصود بالبحث من الأمر الغير الشّرعي في الشّق الثّاني من الشّقين الأوّلين : هو الّذي لم يكن مجامعا مع المستصحب في الوجود في الزّمان السّابق ، وإلّا فيخرج عن محلّ البحث ؛ لأنّ نسبة الاستصحاب إليه وإلى المستصحب على حدّ سواء بناء على ما جرى عليه ديدنهم واستقرّت عليه طريقتهم : من الجمع في الاستصحاب بين اللّازم والملزوم.

وأمّا بناء على ما عرفت منّا غير مرّة : من عدم جواز الجمع بين الاستصحاب في اللّازم والاستصحاب في الملزوم ـ سواء كان اللّازم من اللّوازم العقليّة أو الشّرعيّة ـ فيعمّ النّزاع اللّازم الموجود مع المستصحب سابقا ، فإذن نقول :

أمّا لو كان المستصحب حكما شرعيّا ، فيترتّب عليه في زمان الشّك جميع لوازمه من الشّرعيّة والعقليّة والعادية بأقسامها ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ المجعول في

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

١٢٩

زمان الشّك إذا كان المستصحب حكما شرعيّا نفسه في الظّاهر ، فلا بدّ من أن يترتّب عليه جميع ما يترتّب على الحكم الواقعي المستصحب دون ما يكون ملزوما له ، أو ملازما معه لأمر ثالث. وإن كان شرعيّا أيضا ؛ لأنّ المجعول بالأخبار ـ على ما مرّت الإشارة إليه ـ ليس إلّا الكبريات. هكذا ذكره الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) وقد اشتهر ما ذكره ( دام ظلّه ) بين تلامذته ، بل بين جميع أهل العصر ومن قاربه.

ولكنّك خبير : بأنّه في كمال الإجمال وغاية الاضطراب.

توضيح ذلك : أنّ كلّا من الأثر الشّرعي وغيره الثّابت للحكم الشّرعي المستصحب :

قد يكون لازما لمطلق الحكم الشّرعي الشّامل للواقعي والظّاهري ، بمعنى : أنّه الموضوع فيه كوجوب الإطاعة ، وقبح المعصية في التّكليف الإلزامي ، وقبح العقاب مع الإذن في الفعل فيما لو كان المستصحب حكما غير إلزاميّ ، ووجوب المقدّمة ، وحرمة الضّد ، إلى غير ذلك من الآثار العقليّة المترتّبة على مطلق الحكم الشّرعي في حكم العقل ، وكجواز النّافلة لمن أتى بالفريضة بناء على كون المراد منها الأعمّ من الفريضة الواقعيّة والظّاهريّة.

وقد يكون لازما لخصوص الحكم الواقعي ومترتّبا عليه في حكم العقل أو الشّرع ، كحكم العقل بالإجزاء المترتّب على امتثال التّكليف الواقعي على ما هو عليه ، وحكمه باستحالة عدمه.

فإن كان اللّازم من الأوّل ، فلا إشكال في الحكم به باستصحاب الحكم الواقعي للقطع بتحقّق موضوعه لا لجعله في مرحلة الظّاهر كالمستصحب.

١٣٠

ومنه يظهر : لزوم الحكم بملزومه أيضا إن كان ملزوما له مطلقا.

وإن كان من الثّاني ، فلا إشكال في استحالة الحكم بثبوت اللّازم الغير الشّرعي لاستحالة تعلّق الجعل به ـ على ما عرفت سابقا ـ وفي الحكم بثبوت اللّازم الشّرعي عليه المترتّب عليه بلا توسيط ؛ لأنّ معنى استصحاب الحكم الشّرعي جعله ، وجعل جميع ما يترتّب عليه ممّا يمكن تعلّق الجعل به ظاهرا ، فالحكم الشّرعي من هذه الجهة كالموضوع الخارجي من غير فرق بينهما ؛ لأنّ دليل استحالة جعل الأمر الغير الشّرعي لا يعقل الفرق فيه بين الصّور. وجعل نفس الحكم الواقعي المشكوك بهذه الأخبار أيضا غير معقول ؛ لأنّه مستلزم للخلف كما لا يخفى. والمفروض أيضا عدم ترتيب اللّازم على الحكم بالمعنى الأعمّ حتّى يحكم بوجوده واقعا عند وجود الحكم الظّاهري.

فعلم ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الموضوع للأمر العقلي والعادي لو كان المستصحب في مرحلة الواقع لم يعقل الفرق في استحالة وجودهما بالاستصحاب بين أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو غيره. ولو كان الحكم الأعمّ من المجعول بالاستصحاب لم يعقل الحكم بعدم ترتيبه لو كان المستصحب حكما شرعيّا.

فثبت : أنّه لا فرق بين موارد الاستصحاب أصلا ، إلّا أنّه قد يجعل به الوجود الظّاهري فيمكن تعلّق اللّازم العقلي للأعمّ به كما في الحكم الشّرعي على ما عرفت تفصيل القول فيه. وقد لا يكون كذلك ، كما في الموضوع الخارجي ؛ فإنّه لا ظاهريّة له حتّى يعقل ترتيب الحكم العقلي على وجوده الأعمّ ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ معنى تنزيل الموضوع هو جعل الأحكام الشّرعيّة المترتّبة عليه في الظّاهر.

فإن أراد الأستاذ العلّامة من اللّازم هو المعنى الثّاني.

١٣١

ففيه ما عرفت : من عدم إمكان تعلّق الجعل بالأمر الغير الشّرعي مطلقا.

وإن أراد منه المعنى الأوّل أي : اللّازم الأعمّ فهو وإن كان ممّا لا محيص عنه إلّا أنّه خلاف الظّاهر من كلامه كما لا يخفى ؛ إذ الظّاهر سيّما بقرينة المقابلة هو إرادة المعنى الثّاني ، فتأمّل.

هذا مجمل القول فيما لو كان المستصحب حكما شرعيّا.

وأمّا لو كان غيره من الموضوع الخارجي أو المستنبط على تقدير تعميم الاستصحاب بالنّسبة إليه فاللّوازم الشّرعيّة المترتّبة عليه بلا واسطة متيقّنة الجعل في الظّاهر بمقتضى أخبار الاستصحاب.

الأصل المثبت وبيان وجه عدم اعتباره

نعم ، قد يقال : إنّ الموضوع المستنبط ليس له أثر كذلك أبدا ، وأمّا غيرها فالحقّ عدم اقتضاء الأخبار تعلّق الجعل بالنّسبة إليها وإن كانت من اللّوازم الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة إلّا في الوسائط الخفيّة ، أو من الملزومات الشّرعيّة للمستصحب وإن كانت بلا واسطة.

قلنا في المقام دعويان : عدم الحجيّة بالنّسبة إلى غير الآثار الشّرعيّة الثّابتة للمستصحب بواسطة خفيّة مطلقا وإن كان ملزوما شرعيّا له.

والحجيّة بالنّسبة إلى الآثار الشّرعيّة المترتّبة عليه بواسطة خفيّة.

لنا على الأولى أنّك قد عرفت : أنّ معنى وجوب العمل على طبق الحالة السّابقة والالتزام بثبوت المتيقّن ليس إلّا جعل ما كان المستصحب صغرى له في

١٣٢

الشّريعة ، ويكون عدم الالتزام به نقضا للمتيقّن بحكم العرف من حيث اليقين به.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى غير موجود بالنّسبة إلى محلّ الفرض.

أمّا غير اللّازم الشّرعي أو ملزومه من الأمور العقليّة والعاديّة ، فلاستحالة تعلّق الجعل الشّرعي بالنّسبة إليه على ما عرفت تفصيل القول فيه.

وأمّا بالنّسبة إلى الأمر الشّرعي ، فلوضوح ظهور الأخبار في الاختصاص بالأمر الشّرعي المترتّب على المستصحب بلا توسيط أمر آخر.

وأمّا بالنّسبة إلى الملزوم وإن كان شرعيّا ، فلما عرفت : من رجوع الجعل إلى جعل المحمولات والآثار ليس إلّا ، فلا ظهور له بالنّسبة إلى الملزوم وإن كان شرعيّا ، فضلا عمّا يلازم معه لملزوم ؛ ضرورة عدم صدق النّقض بالنّسبة إلى اليقين بشيء لو لم يلتزم المكلّف في زمان الشّك فيه بما لا دخل له به أصلا ، أو له دخل لكن لا من حيث كونه معروضا له ، بل من حيث كونه معروضا له بعنوان له علاقة وربط مع المستصحب.

فإنّ المتيقّن بحياة زيد مثلا ، لو لم يلتزم بالآثار المترتّبة على بياض لحيته في زمان الشّك الّذي هو ملازم لبقاء حياته في ذلك الزّمان والتزم بجميع ما يترتّب على بقائها شرعا بلا واسطة ، لم يصدق ـ في حقّه قطعا ـ أنّه نقض اليقين بالحياة ، فالحكم المترتّب على المستصحب بواسطة ليس مشمولا لأخبار الباب.

نعم ، لو فرض وقوع الواسطة موردا للتّنزيل الشّرعي كان مقتضى تنزيلها جعل أحكامها الشّرعيّة ، لكن المفروض خلاف هذا.

فالقائل بحجيّة الاستصحاب بالنّسبة إلى هذا الأمر :

إن التزم بتعلّق الجعل بالنّسبة إلى الواسطة ، ومن جهته يلتزم بترتيب

١٣٣

آثارها الشّرعيّة.

فقد عرفت : أنّ جعل غير الحكم الشّرعي للشّارع من حيث هو شارع ممّا لا يعقل.

وإن التزم بأنّ نفس الواسطة مورد للتّنزيل الشّرعي.

فقد عرفت : أنّ الكلام في الواسطة الّتي لم تكن لها حالة سابقة وموجودة مع المستصحب في الزّمان السّابق. والمفروض أنّه ليس هنا دليل آخر غير أخبار الاستصحاب يحكم من جهته بوقوع الواسطة موردا للتّنزيل الشّرعي.

وإن التزم بتعلّق الجعل بنفس الحكم الشّرعي من دون التزام بجعل الواسطة ، أو وقوعها موردا للتّنزيل الشّرعي.

ففيه : أنّ هذا الالتزام ممّا لا وجه له مع عدم صدق النّقض على تركه ، وعدم وجود دليل يدلّ على جعله غير الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك هذا.

مضافا إلى ما يقال : من أنّ تعلّق الجعل بالحكم الشّرعي ظاهرا مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في موضوعه ممّا لا يعقل من دون تنزيل في الموضوع. وأمّا ما ورد في الشّريعة ممّا يدلّ بظاهره على تعلّق الجعل بالحكم الشّرعي مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في الموضوع مثل ما دلّ على حليّة المشكوك في الموضوع الخارجي وطهارة المشكوك فيه فمؤوّل بإرادة تنزيل الموضوع فتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّه لا وجه للقول باعتبار الاستصحاب في إثبات الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة أمر عقليّ ، أو عاديّ الّذي يسمّى بالأصل المثبت في ألسنة من عاصرنا وقارب عصرنا ، وفي إثبات الملزومات الشّرعيّة للمستصحبات.

١٣٤

نعم ، لا إشكال في أنّه لو صرّح الشارع باستصحاب أمر لم يكن له إلّا الأثر الشّرعي المترتّب عليه مع الواسطة حكم بترتّبه عليه ، وهذا بخلاف حكمه بعموم الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ؛ فإنّه لا يشمل الموضوع الّذي لا يترتّب عليه حكم شرعيّ بغير واسطة ، ولا يثبت الحكم الشّرعي المترتّب على الموضوع بواسطة إذا كان مشمولا للأخبار من جهة ترتيب بعض الأحكام الشّرعيّة من دون واسطة عليه.

فإن قلت : ما الفرق بين حكم الشارع في مورد خاصّ باستصحاب ما له حكم شرعيّ بواسطة وتصريحه به ، وبين حكمه عموما باستصحاب كلّ ما تعلّق به اليقين سابقا وشكّ في بقائه لاحقا؟ حيث قلت : في الأوّل باعتبار الاستصحاب فيه ، وقلت : في الثّاني بعدم شموله للموضوع الّذي لم يترتّب عليه الحكم الشّرعي من دون واسطة وعدم دلالته على جعل الأثر المترتّب عليه بواسطة فإن جعل الأمر الغير الشّرعي إن كان ممكنا لم يعقل الفرق بين الحكمين ، وجعل الحكم الشّرعي مع الشّك في موضوعه من دون تنزيل في الموضوع إن كان ممكنا لم يعقل الفرق أيضا ، وإن لم يكونا ممكنين لم يعقل الفرق أيضا. وأيضا ما الفرق بين الوسائط الخفيّة وغيرها في المعنى المذكور؟

قلت : الفرق بين الحكمين في غاية الوضوح والظهور بحيث لا ينبغي الارتياب فيه ؛ فإنّ في صورة التّصريح بعدم جواز نقض اليقين بما له حكم شرعيّ مع الواسطة لا بدّ من أن يلتزم بارتكاب خلاف ظاهر صونا لكلام الحكيم عن اللّغويّة والهزليّة :

١٣٥

إمّا بإرجاع تنزيل الموضوع إلى تنزيل ما يلازمه أي : الواسطة والموضوع الأوّلي للحكم الشّرعي إن قلنا بعدم إمكان تعلّق الجعل بالحكم مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في موضوعه من دون تنزيل في الموضوع.

وإمّا برفع اليد عن الحيثيّة المعتبرة في عدم جواز نقض اليقين بشيء بالشّك في بقائه وهذا بخلاف حكمه عموما بمقتضى الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ؛ فإنّ الحكم بخروج ما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ من دون واسطة عنها لا يلزم فيه محذور أصلا حتّى التّخصيص الّذي يقدّم ارتكابه على غيره من أقسام ارتكاب خلاف الظّاهر على تقدير لزومه ؛ فإنّك قد عرفت عدم شمول الأخبار بالنّظر إلى أنفسها ما له أثر شرعي مع الواسطة ، لا أنّه خرج عنه بمخرج خارجيّ.

وأمّا الفرق بين الوسائط الخفيّة وغيرها فستقف عليه إن شاء الله عن قريب.

فإن قلت : الظّاهر من أخبار الباب هو عدم الاعتناء بالشّك وتنزيله منزلة عدمه ، وفرض المتيقّن السّابق موجودا واقعا والمعاملة معه معاملة صورة اليقين به والمفروض أنّه لو فرض اليقين به. كان على المكلّف الالتزام بجميع ما كان مترتّبا على المتيقّن مطلقا من غير فرق بين ذي الواسطة وغيره ، فلا بدّ من أن يقال : إنّه في صورة الشّك أيضا لا بدّ من أن يعامل هذه المعاملة مع المتيقّن سابقا.

قلت : قد عرفت : أن الظّاهر من الأخبار وجوب الالتزام بما كان المكلّف ملتزما به في حالة اليقين بالمستصحب من حيث تيقّنه به ؛ لأنّ عدم الالتزام بغيره لا يسمّى نقضا له ، ومن المعلوم أنّ الالتزام بالحكم المترتّب على المستصحب بالواسطة على فرض وجود اليقين به لا يكون من جهة اليقين به ، بل من جهة اليقين بما يلازمه. والمفروض عدم تعلّق التّنزيل به حتّى يرجع إلى جعل الأحكام

١٣٦

الشّرعيّة المترتّبة عليه ، وعدم صدق نقض اليقين المتعلّق بالملزوم بالشّك على ترك الالتزام به ، فلا معنى للحكم بتعلّق الجعل بالنّسبة إليه. هذا مجمل القول في تقرير الدّليل على الجزء الأوّل من المدّعى.

وجه اعتبار الأصل اذا كانت الواسطة خفيّة

ولنا على [ الثّانية ] (١) أي : الحجيّة بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة خفيّة سواء كانت عقليّة ، أو عادية : صدق النّقض على ترك الالتزام بها عرفا بحيث لا يعتريه شكّ ، وهذا هو الفارق بين ما له الواسطة الخفيّة والجليّة ؛ إذ لا ملازمة بين صدق النّقض على ترك الالتزام بالأوّل ، وبين صدقه على ترك الالتزام بالثّاني ؛ ضرورة اختلاف الصّدق العرفي بحسب المقامات.

نعم ، لو قيل : بأن جعل الحكم المترتّب على موضوع ووجوب الالتزام به لا يعقل إلّا بعد وجود واقعيّ لموضوعه ، أو جعليّ : بأن يقع موردا للتّنزيل الشّرعي حسب ما ربّما يستفاد من كلام الأستاذ العلّامة في طيّ الجواب عن السّؤال بقوله : ( فإن قلت : الظّاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشّاك ... إلى آخره ) (٢) كان سؤال الفرق بين القسمين متوجها إلّا بأن يلتزم برجوع الجعل فيما كان له واسطة خفيّة إلى نفس الواسطة أيضا فتأمّل.

__________________

(١) في الأصل : « ولنا على الثاني » والصحيح ما اثبتناه والمراد : أي ولنا على الدعوى الثانية ... إلى آخره.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٣٤.

١٣٧

وهذا الّذي ذكرنا هو عمدة الوجه في اعتبار الاستصحاب بالنّسبة إلى الوسائط الخفيّة.

وقد ذكر بعض أفاضل مقاربي عصرنا وجوها أخر لاعتبار الاستصحاب بالنّسبة إلى جملة من أمثلة الفرض حيث قال ـ بعد جملة كلام له ساقها في بيان إثبات عدم اعتبار الأصل المثبت ـ ما هذا لفظه :

« وأمّا التّعويل على أصالة عدم حدوث الحائل على البشرة في الحكم بوصول الماء إليها في الوضوء والغسل ، وعلى أصالة عدم خروج رطوبة لزجة كالودي بعد البول في إزالة عينه بالصّب مع كون الأصل في المقامين مثبتا لأمر عادي فليس لأدلّة الاستصحاب ، بل لقضاء السّيرة والحرج به ، مضافا في الأخير إلى إطلاق الأخبار الدّالّة على كفاية الصّب مطلقا » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت خبير بضعف هذه الوجوه كلّها.

أمّا السّيرة ؛ فلأنّها ناشئة من عدم المبالاة على تقدير تسليمها.

وأمّا لزوم الحرج ، فلتوجّه المنع إليه سيّما في المثال الأخير. وأمّا التّمسّك بالإطلاق ؛ فلأنّ الإطلاق في المقام وارد لبيان حكم آخر كما هو غير خفيّ على المتأمّل.

ثمّ إنّه لمّا كان الدّليل على اعتبار الاستصحاب ـ فيما كان له واسطة خفيّة ـ دعوى صدق النّقض على ترك الالتزام به ، فيمكن أن يدّعي مدّع بملاحظته صدق

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٧٨.

١٣٨

النّقض بالنّسبة إلى كلّ ما كان بين واسطته والمستصحب ملازمة عقليّة ، ويقول بمنع اعتباره بالنّسبة إلى ما لم تكن واسطته كذلك على ما استظهره الأستاذ العلّامة من كلام بعض من منع من اعتبار الأصول المثبتة ، أو يدّعي صدق النّقض بالنّسبة إلى كلّ ما يكون بين واسطته والمستصحب ملازمة مطلقا سواء كانت عادية ، أو عقليّة ، فيمنع من اعتباره في صورة واحدة ، وهي : ما إذا كان عدم الانفكاك بينهما من باب مجرّد الاتفاق من غير أن يكون ثمّة لزوم على ما يستفاد من كلام بعض ، إلّا أنّ هذا كلّه خلاف التّحقيق على ما عرفت تفصيل القول فيه.

هذا ملخّص ما يقتضيه التّحقيق في الاستدلال على المرام : من عدم اعتبار الأصل المثبت بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

مسلكان آخران في وجه عدم اعتبار الأصل

المثبت والمناقشة فيهما

وهاهنا مسلكان آخران سلكهما بعض مشايخنا الأعلام (١) في المقام للحكم بعدم جواز الاعتماد على الأصول المثبتة في التّوصل إلى الأحكام :

الأوّل : معارضة الأصل في الملزوم أو أحد المتلازمين لأمر ثالث مع الأصل في اللّازم أو الملازم الآخر. وبعبارة أخرى : معارضة الأصل في المستصحب مع الأصل في عدم الواسطة ، فكما أنّ مقتضى الأوّل ترتيب الحكم المترتّب بالواسطة كذلك مقتضى الثّاني عدم ترتيبه فيتساقطان ، فيرجع إلى أصالة عدم ثبوت الحكم.

__________________

(١) هو الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الحائري صاحب الفصول رحمه‌الله.

١٣٩

الثّاني : كون الأخبار مسوقة لإثبات الأمور الشّرعيّة دون غيرها وإن استتبعت أحكاما شرعيّة حيث قال ـ بعد جملة كلام له في بيان عدم اعتبار الأصول المثبتة ـ ما هذا لفظه :

« وما ذكره بعض المحقّقين (١) : ( من أنّ الأصول المثبتة ليست بحجّة ، فالوجه فيه : تنزيله على ما ذكرنا ، فيكون المراد : أنّ الأصول المثبتة لأمور عادية ليست حجّة على إثباتها ، وذلك لتعارض الأصل في جانب الثّابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل بقاء الأوّل كذلك الأصل عدم الثّاني وليس في أخبار الباب ما يدلّ على حجيّته بالنّسبة إلى ذلك ؛ لأنّها كما ترى ، مسوقة لتفريع الأحكام الشّرعيّة دون العادية ، وإن استتبعت أحكاما شرعيّة ) (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه

فإن جعلنا قوله أخيرا : ( وليس في أخبار الباب ... ) دليلا مستقلّا يرجع إلى الوجه الثّاني وكان دليلا مستقلّا ، وإن جعلناه متمّما للوجه الأوّل ودفعا لما قد يورد عليه ـ بأنّ مقتضى الأصلين وإن كان بالنّظر إلى أنفسهما هو التّعارض ، إلّا أنّ مقتضى الأخبار تحكيم الأصل في المثبت حسب ما ذكره في دفع التّعارض بين استصحاب الموضوع واستصحاب عدم الحكم المترتّب عليه بلا واسطة ـ فلا معنى لأن ينسب إليه : أنّه جعل ذلك دليلا كما هو واضح على هذا الفرض.

هذا هو الظّاهر بعد ملاحظة ما ذكره قبل هذا الكلام ؛ فإنّه قال في طيّه :

« وبالجملة : فالّذي يثبت بالاستصحاب على ما يستفاد من أخبار الباب :

__________________

(١) يريد به الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٧٨.

١٤٠