بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

* الشرط الأوّل في جريان الاستصحاب : بقاء الموضوع

أقول : من الواضحات الّتي لا يعتريها ريب ولا يعرضها شكّ ، بل لم يخالف

__________________

صحّة استصحاب ثبوته ووجوده أو ثبوته بغيره ، لا يكون في كلّ مقام ، بل يختلف باختلاف ما يهمّ من الآثار والأحكام ، فإن كان المهمّ منها مرتّبا بحسب دليله على ثبوت خصوص ذاك القيام ، فلا بدّ من استصحاب وجوده النّفسي ، ولا يكفي استصحاب وجوده الرّبطي إلّا بناء على الأصل المثبت ، وإن كان مرتّبا بحسبه على ثبوت القيام لزيد ، فلا بدّ من استصحاب وجوده الرّبطي لا النّفسي ، إلّا بذاك البناء ، فاتّضح بذلك كلّه أنّ وجود أمر خارجيّ كان موضوعا في باب الإستصحاب أو قيدا لا يستلزم إحرازه المعتبر في هذا الباب القطع بتحقّقه ، بل يجتمع مع الشّكّ في حصوله في الخارج ، كما عرفت بما لا مزيد عليه » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٨ ـ ٣٨٣.

* وقال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس سره :

« وفيه : ان اشتراط بقاء الموضوع من الأغلاط ، ففي المثال لا يجري هذا الحكم ولا معنى لاعتبار بقاء المعروض ، أمّا مع الشّك في بقاء القيام فيستصحب معروضه إذا كان مشكوكا فيه.

وأمّا مع الشك في نفس المعروض فلا معنى لاعتبار معروض آخر له ، وزيد عبارة عن الفرد الخارجي والفرد هو الكلّي الموجود ، فهو وجود وطبيعة ولا معنى لعروض شيء للفرد الخارجي في الذهن ، مع انّ التقرّر جهة متميّزة عن الوجود الذهني والخارجي ، مع انّ الحياة من عوارض البدن الخارجي وزيد عبارة عن النّفس المتعلّقة بالبدن ، ولو قلنا بانّ حياة النّفس عبارة عن تعلّقها بالبدن فهي عرض لزيد بهذا الإعتبار ، فلا معنى لكونه من العوارض الذهنيّة ، بل إنّما هي من الأعراض الخارجيّة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٣.

٣٢١

فيه أحد اشتراط بقاء الموضوع ومعروض المستصحب في الزّمان السّابق في جريان الاستصحاب ؛ فإنّ من يجري الاستصحاب مع عدم إحراز الموضوع بطريق القطع ، أو مع القطع بالانتفاء كما في جملة من المقامات الّتي يقف عليها المتتبّع كالاستصحاب في الزّمان ونحوه ، يلتزم بأنّه محرز بحكم العرف ، وأنّ هذا المقدار يكفي في باب الاستصحاب لا أنّه يذهب إلى عدم اشتراطه.

ولكن مع ذلك كلّه لمّا أشكل الأمر على بعضهم في كلّية اشتراط بقاء الموضوع : من جهة عدم وضوح المراد من الموضوع ، أو البرهان على ما ذكروه ، فبالحريّ أن نتكلّم أوّلا في بيان المراد من الموضوع ، ثمّ نعقّبه بالكلام في الدّليل على اشتراطه ، ثمّ نعقّبه بالكلام فيما يحرز به الموضوع ويكتفى به.

فنقول : أمّا المراد من الموضوع فهو المعروض للمستصحب بجميع ما له دخل في عروضه وقيامه به من الخصوصيّات والتّشخّصات الّتي لها مدخليّة في العروض ، فهذا أمر يختلف بحسب القضايا فقد يكون للزّمان والمكان والوصف ونحوها مدخليّة في قضيّة ، وقد لا يكون لها مدخليّة ، وقد يكون المعروض في ٣ / ١٦٨ بعض القضايا الذّات الملحوظة مع الوجود الخارجي فقط ، أو مع خصوصيّة أخرى مضافا عليه.

٣٢٢

المعتبر في استصحاب الوجود التقرّر

الماهيّتي لا وجودها في الذهن

وبعبارة أخرى : الماهيّة الموجودة كما في القضايا الّتي يكون المحمول فيها غير الوجود من أعراض الماهيّة الموجودة وأوصافها من الأوصاف الخارجيّة كالقيام والجلوس والمشي والرّكوب ونحوها والأحكام الشّرعيّة ، وقد يكون نفس الماهيّة بحسب تقرّرها الماهيّتي كالقضيّة الّتي يكون المحمول فيها الوجود.

وأمّا القضايا الّتي يكون المحمول فيها غير الوجود الخارجي باعتبار وجود الماهيّة في الذّهن أو الأعمّ من الذّهن والخارج كلوازم الماهيّات فلا تعلّق لها بالمقام ، فالموضوع في استصحاب الوجود هو نفس الماهيّة باعتبار تقرّرها الماهيّتي ؛ ضرورة أنّ عروض الوجود للماهيّة بهذا الاعتبار ، وإلّا استحال عروضه لها سواء اعتبرت بشرط شيء أو بشرط لا كما هو واضح ، ولا يتفاوت الأمر فيما ذكرنا بين القول بأصالة الوجود أو الماهيّة كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى : المراد من بقاء الموضوع في الاستصحاب هو كون القضيّة المشكوكة في الآن اللّاحق عين القضيّة المتيقّنة في الآن السّابق لا تفاوت بينهما أصلا ، إلّا من حيث كون ثبوت المحمول قطعيّا للموضوع في إحداهما ومحتملا في الأخرى سواء كان الموضوع فيها نفس الماهيّة باعتبار ما لها من التّقرّر ـ كما في قولك : زيد موجود ؛ ضرورة أنّ الموضوع فيها ماهيّة زيد القابلة لأن يحمل عليها الوجود والعدم ـ أو الماهيّة باعتبار الوجود كما في قولك. زيد قائم ؛ فإنّ الموضوع

٣٢٣

فيها ليس نفس الماهيّة ، بل الماهيّة الموجودة كما لا يخفى.

فالمعتبر في استصحاب الوجود بقاء الماهيّة في الزّمان الثّاني على ما كان عليه في الزّمان الأوّل ؛ إذ لا يعقل اعتبار أزيد من ذلك كما لا يخفى. وفي استصحاب القيام ونحوه بقاء الماهيّة الموجودة ، وفي استصحاب وجوب إكرام زيد العالم إحراز وجوده وعلمه ، وفي استصحاب وجوب إكرامه في الزّمان الخاص إحراز ما ذكر مع الزّمان وهكذا.

غاية الأمر كون الموضوع محرزا في القسم الأوّل دائما لا يقبل الزّوال أصلا ؛ ضرورة استحالة انقلاب الماهيّات وتغيّرها عمّا عليه دائما ؛ ضرورة أنّ الفناء إنّما يلاحظ للشّيء باعتبار الوجود ؛ إذ لا معنى لانعدام الماهيّة مع قطع النّظر عن وجودها كما هو ظاهر واضح.

وممّا ذكرنا من البيان للمراد من الموضوع الّذي يلزم بقاؤه يظهر فساد ما استشكله بعض الأفاضل (١)(٢) في كليّة اعتبار بقاء الموضوع على ما أطبقت عليه

__________________

(١) يريد استاذ استاذه شريف العلماء المازندراني انظر ضوابط الأصول : ص ٣٨٠.

(٢) قال المحقق الأصولي المتبحّر الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« أمّا فساد الإشكال فلما عرفت : من انّ الموضوع عبارة عمّا تعلّق به الحكم الشرعي وليس إلّا الامر الكلي ووجود زيد ليس حكما شرعيّا فلا معنى لاشتراط بقاء موضوعه ، فهذا الاشكال ناش عن الجهل بالصّناعة وعدم الخبرة بمقاصد أهلها ، فزعم انّ المراد بالحكم مطلق المحمول ، فالموضوع هو المعروض بزعمه الفاسد.

وأمّا فساد الدفع فلما عرفت : من أنّ زيدا ليس إلّا الإنسان الموجود في الخارج ولا معنى لاعتبار حالين إلّا في الكلّي مع انّ الوجود الذهني قد عرفت فساده في نفسه وكون الوجود

٣٢٤

كلمتهم : من أنّه لا يمكن اعتباره في جميع صور الاستصحاب وموارده حتّى فيما لو كان المستصحب الوجود ، وإلّا لزم إحراز الوجود والعلم به عند إرادة استصحابه ، وهكذا الأمر في الاستصحابات العدميّة ؛ لأنّها مثل استصحاب الوجود حكما كما هو ظاهر.

وبمثل ما ذكرنا فليحرّر المقام لا بمثل ما قرّره الأستاذ العلّامة ؛ فإنّه غير نقيّ عن الإشكال ؛ فإنّ الحكم بكون عروض الوجود الخارجي للماهيّة باعتبار وجودها الذّهني على ما يفصح عنه قوله : « سواء كان تحقّقه في السّابق بتقرّره ذهنا ... إلى آخره » (١) كما ترى ؛ ضرورة استحالة هذا المعنى في عروض الوجود كما لا يخفى.

وأمّا التّقرّر الماهيّتي فلا دخل له بالوجود الذّهني ، بل هو مقابل للوجودين يجامعهما وعدمهما حسب ما حقّق في محلّه ، وإن كان ربّما يتفصّى عن الإشكال المذكور : بأنّ المراد منه اعتبار التّقرر الذّهني في مقام الحمل لا العروض ؛ فإنّ حمل الوجود على زيد في قضيّة : « زيد موجود » موقوف على تصوّر زيد كما يتوقّف على تصوّر الوجود فهذا هو المقصود بما ذكر ، لا أنّ عروض الوجود

__________________

الخارجي عارضا للطبيعة في الذهن سفسطة مضحكة كالتفكيك بين ظرفي العروض والإتّصاف ؛ فإنّ الإتّصاف بالوجود عين عروضه مع انه تحليل صرف ، وإلّا فلا عروض ولا تغاير ، مع انّ الذهن ليس من شأنه إلّا إدراك ما هو الواقع لا أنّ الواقع يتحقّق به ويتوقّف عليه » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٩٠.

٣٢٥

للماهيّة واقعا في غير مقام الإخبار باعتبار وجودها الذّهني حتّى يتوجّه عليه ما ذكر.

توضيح ذلك : أنّ عروض الوجود للماهيّة يلاحظ بثلاث اعتبارات :

أحدها : عروضه لها باعتبار الواقع مع قطع النّظر عن إبرازه في غالب القضيّة وإظهاره والإخبار عنه.

ثانيها : عروضه لها بالنّظر إلى ما ذكر بعد تصوّر الماهيّة والوجود.

ثالثها : عروضه لها بالنّظر إلى القضيّة من حيث توقّف الحمل على تصوّر الطّرفين.

لا إشكال في استحالة اعتبار الوجود الذّهني في القسم الأوّل ، وكذا في الثّاني ؛ فإنّ حمل شيء على شيء إنّما يلاحظ باعتبار قيامه به وعروضه له بحسب الواقع ، وإن كان بينهما فرق : من حيث عدم إمكان توسّط عروض الشّيء لعروض نفسه ، واستحالة عدم توسّطه في مقام الحمل ؛ فإنّ حمل الوجود على زيد أو القيام عليه إنّما هو باعتبار قيام مبدأ به لا بمعنى أخذه في الموضوع حتّى يكون معنى قولنا : زيد موجود مثلا زيد الموجود موجود كما قد يتوهّم ، بل بمعنى اعتباره في الحمل ، كما أنّه لا إشكال في اعتبار الوجود الذّهني في القسم الثّالث على ما هو قضيّة الفرض هذا.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكر من التفصّي لا يدفع الإشكال الوارد في المقام ؛ لأنّ المقصود بيان ما يعرض الوجود للماهيّة باعتباره حتّى يحكم باشتراط إحرازه

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٣٢٦

عند إرادة استصحاب الوجود ، ومن المعلوم عدم كون المناط في العروض التّقرر الذّهني.

وبالجملة : ما ذكره لا يخلو عن تأمّل. فما ذكرنا من التّحرير للمقام لعلّه أولى ، هذا إذا أريد من استصحاب الوجود استصحابه على وجه الإطلاق ، وأمّا إذا أريد منه استصحاب ما كان له نفس فيمكن أن يقال : إنّ المستصحب هو النّفس من حيث تعلّقها بالبدن العنصري ولو من حيث كونه مركبا لها فتدبّر.

وإن أبيت إلّا عن ظهور قولهم في اشتراط بقاء الموضوع في بقاء وجوده الخارجي ـ مع أنّه كما ترى ، مع الالتزام بأصالة الوجود ـ فلا بدّ من صرف كلامهم إلى غير استصحاب الوجود من جهة استحالة اعتبار هذا المعنى بالنّسبة إليه ٣ / ١٦٩ كما هو ظاهر.

نعم ، على تقدير ابتناء الإشكال على القول بأصالة الوجود وكون الماهيّة من شؤونه (١) [ و] حدوده لم يتوجّه الإشكال بالنّسبة إلى استصحاب عدم الأشياء ؛ ضرورة امتناع القول بأصالة العدم مع استحالة تعلّق الجعل به ، وإن قيل : بأنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود كما هو ظاهر فتأمّل.

هذا مجمل القول في بيان المراد من الموضوع الّذي يشترط بقاؤه في جريان الاستصحاب.

__________________

(١) حدوده « ن خ ».

٣٢٧

الدليل على إشتراط بقاء الموضوع في الإستصحاب

وأمّا الدّليل على اشتراط بقاء الموضوع فهو أمور :

الأوّل : الإجماع الظّاهر المصرّح به في كلام بعض.

وأنت خبير بأنّه لا معنى للتّمسّك به في المقام وأمثاله ممّا لا يكون الأمر الّذي انعقد الإجماع عليه من الأمور الشّرعيّة كما هو واضح ؛ فإنّ الكلام إنّما هو في كون إحراز الموضوع من شروط جريان الاستصحاب وتحقّق موضوعه ، ومن المعلوم أنّ هذا ليس ممّا يكون بيانه من الشّارع وممّا يؤخذ عنه حتّى يكون الإجماع فيه كاشفا.

نعم ، لو كان الكلام في كونه من شروط العمل بالاستصحاب وعدمه كان الإجماع على شرطيّته كاشفا كالإجماع على سائر الأحكام الشّرعيّة.

الثّاني : الدّليل العقلي (١).

__________________

(١) قال المحقق الأصولي آغا هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انه فرق بين القضيّة الواقعيّة المشكوك فيها بالفرض وبين القضيّة الظاهريّة الأصليّة وليس مؤدى الاصل إلّا وظيفة المتحيّر حال الحيرة لا الحكم بثبوت شيء لآخر في الواقع ، فتوقّف العروض النفس الأمري على بقاء الموضوع واستحالة تحقّق العرض بدون الموضوع وانتقاله أحكام للقضايا الواقعيّة ، وأمّا الأصل فلا يتوقّف جريانه إلّا على أركانه وشرائطه من العلم بالحدوث والجهل بالبقاء ، فالبناء على بقاء مشكوك البقاء ليس بقاء حقيقة حتّى يتوقّف على موضوع ؛ فإنه ليس وجودا ، بل إنّما هو معاملة مع المجهول معاملة المعلوم ، فهذا من

٣٢٨

وقد تمسّك به الأستاذ العلّامة وفاقا لجمع من أفاضل المتأخّرين من مشايخه وغيرهم وتقريره ـ كما في « الكتاب » وغيره من كتب الجماعة ـ مع توضيح منّي :

هو أنّه إذا لم يحرز الموضوع ولم يعلم به عند إرادة الاستصحاب وإبقاء الأمر الثّابت سابقا الّذي كان من عوارض الموضوع بالفرض ، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع ، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السّابق ، وإمّا أن يبقى في الموضوع السّابق. والأوّلان باطلان فيتعيّن الثّالث وهو المطلوب ؛ إذ إبقاؤه فيه لا يمكن إلّا بعد إحرازه.

أمّا بطلان الأوّل : فلاستحالة وجود العرض لا في محلّ وموضوع على ما هو قضيّة عرضيّته.

وأمّا بطلان الثّاني : فلأنّه إن أريد إبقاء نفس الموجود السّابق فيلزم انتقال العرض وهو أيضا ممّا أقيم البرهان على استحالته في محلّه لاستلزامه تحقّق العرض لا في موضوع ولو في آن ما وقد عرفت استحالته.

وإن أريد إبقاء مثل الموجود السّابق فهو أيضا ممّا لا معنى له لكونه مخالفا لقضيّة الاستصحاب والإبقاء ؛ ضرورة أنّ البقاء عبارة عن الوجود الثّانوي لنفس ما كان موجودا أوّلا ، فلا يمكن تحقّقه إلّا مع وحدة الموجود ، وإلّا فيلزم الخلف.

__________________

عجائب الأوهام ، وإنّما الوجه فيه ما عرفت : من ان الشك في الرّافع لا يتحقّق إلّا إذا لم يكن مستندا إلى عدم معرفة الموضوع ودوران أمره بين معلوم الزّوال ومعلوم البقاء هذا هو الحال في الموضوع ». أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٥.

٣٢٩

هذا ملخّص ما يقرّر به الدّليل العقلي على اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب وعدم جريانه في صورة القطع بانتفائه أو الشّك فيه.

وهو كما ترى ، لا يخلو عن إجمال ومناقشة.

لأنّه إن أريد من بقاء المستصحب وإبقائه في زمان الشّك وجوده وإيجاده واقعا.

ففيه : أنّ الأمر وإن كان كما ذكر على هذا التّقدير ، إلّا أنّه خارج عن محلّ البحث كما لا يخفى.

وإن أريد البقاء الشّرعي وحكم الشارع به في مرحلة الظّاهر.

ففيه : أنّه لا امتناع في تعبّد الشارع المكلّف على الالتزام بالحكم المترتّب على الشّيء مع الشّك فيه ، كما هو واقع في غير الاستصحاب من القواعد المقرّرة للرّجوع إليها عند الشّك كقاعدة الطّهارة والحليّة ونحوهما ، بل مع القطع بعدمه.

لا يقال : كيف يمكن تعبّد الشارع المكلّف على حكم مع القطع بانتفاء ما هو الموضوع له؟ ضرورة اقتضاء انتفاء الموضوع بحكم العقل مع فرض كونه موضوعا انتفاء ما هو المحمول والتّعبّد بالالتزام بمثله ليس التزاما به.

لأنّا نقول : تعبّد الشّارع المكلّف على حكم ثابت لموضوع الّذي يرجع إلى جعل حكم ظاهريّ في حقّه مع القطع ببقاء الموضوع أيضا لا يمكن أن يكون بعين ما كان ثابتا في الموضوع الواقعي ، وإلّا لم يكن حكما ظاهريّا ؛ ضرورة تغاير الإنشاءين والحكمين كما لا يخفى ، فلا يمكن أن يكون أحدهما عين الآخر ، فلم يبق إذن إلّا التّشبّث بذيل ظهور عدم النّقض والبقاء بحكم العرف في اتّحاد الموضوع وبقائه في الزّمان الثّاني.

٣٣٠

وإلّا فإمّا أن يعلم بعدم الصّدق كما في صورة القطع بانتفاء الموضوع فيعلم بعدم شمول الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك له ، أو يشكّ فيه كما في صورة الشّك في بقاء الموضوع فيشكّ في الشّمول فيمنع من التّمسّك بها أيضا ، فلا دخل لحديث استحالة بقاء العرض لا في موضوع ولا لاستحالة انتقاله ولا لغيره.

بل لا بدّ من الاستدلال على المدّعى بعدم العلم بصدق الأخبار في صورة عدم إحراز الموضوع على وجه القطع كما ستعرف في الوجه الثّالث ؛ حيث إنّها ليست كأخبار الطّهارة والحلّية حتّى لا يفرّق فيها بين بقاء الموضوع وعدمه ، بل الحكم الظّاهري فيها محمول بقضيّة لا يعلم بصدقها إلّا بعد القطع بإحراز الموضوع ، فهذه مسألة لفظيّة لا ربط لحكم العقل بها ولغيره هذا.

وأمّا ما يقال : في توجيه ما ذكره : بأنّ المراد وإن كان هو الإبقاء الشّرعي الّذي يرجع إلى الحكم الظّاهري للموضوع المشكوك الحكم ، إلّا أنّ ثبوت المحمول في كلّ قضيّة لمّا كان متوقّفا على ثبوت موضوعه بجميع ما له دخل في موضوعيّته ، وقد أخذ في أخبار الاستصحاب على وجه الموضوعيّة احتمال بقاء المستصحب ، ولا بدّ من إحراز هذا الموضوع من الخارج حتّى يجري الاستصحاب ويحكم بتحقّقه ، وكان احتمال وجوده في الزّمان الثّاني منقسما إلى الأقسام المذكورة بالحصر العقلي وانتفاء بعضها كان بحكم العقل ، فلهذا جعل للعقل مدخليّة في المقام.

ففيه : ما لا يخفى على الفطن ، مضافا إلى أنّ قضيّة ما ذكره ليس لزوم إحراز الموضوع على وجه القطع ، بل يكفي فيه احتمال بقاء الموضوع ؛ لأنّ من احتماله ٣ / ١٧٠ يحتمل البقاء ومن احتماله يحتمل الإرادة من أخبار الاستصحاب وإن لم يكن

٣٣١

ظاهرة فيها.

الثالث : حكم العرف بذلك بالنّظر إلى أخبار الاستصحاب ؛ لعدم صدق نقض اليقين بالشّك الّذي نهي عنه في الأخبار إلّا مع اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة من جميع الجهات ، إلّا من حيث قطعيّة ثبوت المحمول للموضوع في الزّمان الأوّل وعدم قطعيّته وكونه مشكوكا في الزّمان الثّاني بحكم العرف الواضح لمن له أدنى خبرة بالمحاورات العرفيّة وقضيّة نفس الأخبار ؛ حيث إنّ قضيّة صراحتها كون القضيّة متيقّنة في زمان ومشكوكة في زمان آخر.

فلو كانت القضيّة المشكوكة غير القضيّة المتيقّنة سواء كان من جهة تبدّل ذات الموضوع أو قيد من قيوده الّذي يرجع حقيقة إلى تبدّل الموضوع أو المحمول لم يتحقّق الاستصحاب موضوعا.

ومنه يعلم أنّه كما يشترط بقاء الموضوع في تحقّق الاستصحاب موضوعا كذلك يشترط وحدة المحمول أيضا.

ثمّ إنّ المغايرة المذكورة إن كانت قطعيّة كان انتفاء موضوع الاستصحاب أيضا قطعيّا وإن كانت محتملة كان تحقّقه محتملا فلا يعلم كون رفع اليد عن الحكم السّابق نقضا لليقين السّابق حتّى يعلم بكونه موردا للنّهي ، فيرجع إلى عدم التّكليف المدلول عليه بالأخبار النّاهية ؛ لأنّ حال أخبار الاستصحاب كحال سائر الأدلّة الدّالّة على ثبوت الحكم للموضوعات الواقعيّة الّتي لا يوجب إلزاما فعليّا منجّزا إلّا مع العلم بتحقّق الموضوع ، بل قد يقال : إنّ مع الشّك في الموضوع يعلم بعدم تحقّق الموضوع لأخبار الاستصحاب وإن كانت هذه المقالة فاسدة جدّا.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا كما هو واضح بين القول باستحالة بقاء العرض لا

٣٣٢

في موضوع ، واستحالة انتقاله والقول بإمكانه ؛ لأنّ ما ذكرنا كان مبنيّا على وحدة القضيّة في باب الاستصحاب ، ومن المعلوم عدم الفرق فيه بين القولين في باب العرض ، هذا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

وأمّا على القول به من باب الظّن فالأمر كذلك ؛ لأنّ الظّن ببقاء المستصحب من جهة نفس الوجودات السّابقة أو غلبته في الموجودات جنسا أو نوعا أو صنفا لا يمكن إلّا مع اتّحاد القضيّتين ؛ ضرورة استحالة الظّن ببقاء نفس الموجود في موضوع وعارضه ارتفاع الموضوع والمعروض ، فإذا قطع بانتفاء الموضوع أو شكّ فيه لم يعقل حصول الظّن به من جهة شيء من الوجهين.

بل قد عرفت وستعرف : أنّه على القول بكفاية إحراز الموضوع بالمسامحة العرفيّة بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار لم يكن معنى للقول بكفايته على القول باعتباره من باب الظّن.

نعم ، ما ذكرنا لا يدلّ على لزوم إحراز الموضوع بطريق القطع ، بل أعمّ منه ومن إحرازه على وجه الظّن كما لا يخفى.

فتحصّل ممّا ذكرنا كلّه : أنّه كما لا يجري الاستصحاب على القولين مع القطع بانتفاء الموضوع ، كذلك لا يجري مع الشّك في بقائه.

هل يكفي إحراز الموضوع بالإستصحاب أم لا؟

فإن قلت : الشّك في بقاء الموضوع إنّما يمنع من استصحاب المحمول أوّلا وبالذّات ، وأمّا مع استصحاب الموضوع فلا ، فيستصحب أوّلا الموضوع ثمّ الحكم المحمول عليه ، فلا يشترط إحراز الموضوع بطريق القطع ، بل يكفي إحرازه

٣٣٣

بالاستصحاب ، فهذا حقيقة وإن كان التزاما بلزوم إحراز الموضوع ولو في حال الشّك ، إلّا أنّه يردّ القول بلزوم القطع ببقاء الموضوع وعدم جريان الاستصحاب مع الشّك فيه.

قلت : ما ذكرته في غاية الفساد من وجوه وتوضيح القول فيه يقتضي بسطا في بيان أقسام الشّك الواقع في الحكم حتّى يبيّن فساد التّوهّم المذكور وإن لم يكن لبعضها تعلّق بالمقام كما ستقف عليه.

فنقول : إنّ الشّك في بقاء الحكم :

قد لا يكون مسبّبا عن بقاء الموضوع ، بل على تقدير القطع ببقاء الموضوع أيضا يشكّ في ارتفاع الحكم إمّا من جهة الشّك في المقتضي وتماميّة الاستعداد ، أو من جهة الشّك في الرّافع غاية الأمر كون الموضوع أيضا مشكوك البقاء ، فيكون هنا مشكوكان بشكّين مستقلّين من غير أن يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر ، كما يشكّ المقلّد في عدالة مقلّده من جهة الشّك في أمر آخر غير الحياة كصدور الكبيرة منه ، أو يشكّ في بقاء سائر ما له دخل في تقليده من جهة الشّك في زوالها على تقدير الحياة وإن اتّفق الشّك في الحياة أيضا ، وكما يشكّ في بقاء الأحكام الشّرعيّة من جهة الشّك في نسخها وإن كانت موضوعاتها أيضا مشكوكة البقاء في زمان إرادة استصحابها.

وقد يكون مسبّبا عن بقاء الموضوع. وهذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون الموضوع معلوما معيّنا في الدّليل الشّرعي شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التّغير وشكّ في بقاء التّغير في الماء ، وحصل من جهة الشّك في بقاء النّجاسة مع القطع ببقائها على تقدير بقاء

٣٣٤

التّغير وهذا يسمّى بالشّبهة الموضوعيّة.

ثانيهما : أن يكون الموضوع في دليل الحكم مردّدا بين ما هو باق جزما ومرتفع كذلك من جهة أحد أسباب التّردد ، كما إذا لم يعلم أنّ الموضوع في نجاسة الماء هو الماء بوصف التّغير أو ذات الماء وكون حدوث التّغير شرطا في النّجاسة من غير أن يكون بقاؤه شرطا في بقائها ، وكما إذا لم يعلم في باب استحالة أعيان النّجسة أنّ المعروض للنّجاسة والموضوع لها هي نفس الذّوات من دون مدخليّة للصّورة النّوعيّة ، أو هي مع الصّورة النّوعيّة مثل أن يشكّ في أنّ المعروض للنّجاسة في الكلب هي ذاته حتّى يكون النّجاسة باقية في صورة صيرورته ملحا ، أو هي مع وصف الكليّة فيكون الموضوع منتفيا فيما صار ملحا إلى غير ذلك من صور الشّك في بقاء الحكم الشّرعي من جهة الشّك فيما هو الموضوع له في الدّليل الشّرعي ٣ / ١٧١ وهذا يسمّى بالشّبهة الحكميّة.

إذا عرفت ما تلونا عليك من الأقسام فنقول في بيان حكمها :

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في عدم جريان توقّف إجراء الاستصحاب في المحمول فيه على إحراز الموضوع ؛ لفرض عدم تسبّب الشّك فيه عن الشّك في بقاء الموضوع ، بل يمكن جريان الاستصحاب فيه مع القطع بانتفاء الموضوع أيضا فضلا عن صورة الشّك فيه ، وهذا بخلاف القسمين الآخرين ؛ فإنّ الحقّ عدم جريان استصحاب الحكم فيهما على ما ستقف عليه.

فإن قلت : كيف يعقل بقاء العرض لا في موضوعه؟ وكيف يمكن عدم سببيّة الشّك في موضوعه للشّك في بقائه؟ مع أنّ قضيّة الحمل والعروض بحكم العقل بداهة تبعيّة العارض للمعروض غاية الأمر كونه مشكوك البقاء من جهة أمر آخر

٣٣٥

أيضا ، فالشّك في الموضوع دائما سبب للشّك في الحكم سواء كان للشّك فيه سبب آخر أيضا أم لا.

قلت : ليس المراد من عدم تسبّب الشّك في المحمول عن الشّك في الموضوع واجتماعه مع القطع بانتفائه أنّه يمكن أن يوجد لا في موضوع ، كيف؟ وهو يحكم بداهة العقل باستحالته ، بل المقصود أنّه قد يقصد باستصحاب الحكم رفع الشّك عنه المسبّب من غير الشّك في بقاء الموضوع ، ويجعل المستصحب الحكم على تقدير بقاء موضوعه ، وهذا أمر لا يرد عليه شيء.

فإن قلت : لو كان فرض بقاء الموضوع نافعا في جريان الاستصحاب في المحمول مع كون الموضوع في الواقع مشكوك البقاء فليلتزم به في الفرضين الآخرين أيضا ، فيثبت قول الخصم أنّه لا يشترط في جريان الاستصحاب إحراز الموضوع بطريق القطع ، بل يجري مع الشّك فيه.

قلت : فرض بقاء الموضوع في الفرضين الأخيرين مستلزم لفرض بقاء الحكم أيضا في القضيّة لتسبّب شكّه عن الشّك فيه فلا معنى للقول فيهما : بأنّ المستصحب هو الحكم على تقدير بقاء الموضوع هذا. مع أنّ لازم ما ذكر الالتزام بلزوم إحراز الموضوع في الاستصحاب بطريق القطع ؛ فإنّ المستصحب على ما ذكر هو الحكم على تقدير بقاء الموضوع. فالقول بأنّه مثبت لقول الخصم فاسد جدّا.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ إحراز الموضوع في هذا القسم ليس شرطا في جريان الاستصحاب في الحكم أصلا ، بل يكفي تقدير بقائه وإن كان هو التزاما بلزوم إحراز الموضوع من جهة الشّك المسبّب عن شكّه.

٣٣٦

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ جعل استصحاب الموضوع مقدّمة لإجراء الاستصحاب في المحمول ممّا لا معنى له في الفرض ، بل ذكر الأستاذ العلّامة : أنّ الأمر بالعكس ؛ فإنّ الموضوع الّذي لم يثبت له حكم شرعيّ لم يكن معنى لجريان الاستصحاب فيه بناء على ما عرفت سابقا : من أنّ معنى التّنزيل الشّرعي في الموضوعات الخارجيّة ليس إلّا جعل آثارها الشّرعيّة ظاهرا وإيجاب الشارع الالتزام بها ، فلا بدّ أوّلا من جريان الاستصحاب في حكم الكرّيّة في الشّريعة على تقدير الشّك فيه ، ثمّ إجراء الاستصحاب في الكريّة ، وإلّا لم يكن معنى لإجراء الاستصحاب في الكرّيّة فصار الأمر في هذا القسم على عكس ما يتوهّم.

فإن قلت : لم لا يكون تقدير الحكم للموضوع كافيا في استصحابه ، كما كان الموضوع التّقديري كافيا في استصحاب الحكم حسب ما بنيت عليه الأمر في تصحيح استصحاب الحكم في مفروض البحث ؛ فإنّه لا يعقل فرق بين المتوقّفين في كفاية التّقدير ؛ فإنّ التّوقف موجود بالنّسبة إلى كلّ منهما ، فإن كانت قضيّة وجود المتوقّف عليه محقّقا فيلزمه القول بفساد إجراء الاستصحاب في الفرض ، وإن كانت قضيّة كفاية التّقدير ، فتقدير ترتّب الحكم يكفي في إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع ، ولا يشترط في جريانه ترتيب الأثر الشّرعي عليه فعلا.

قلت : الفرق بين المقامين ممّا لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّ مجرّد تقدير ترتّب الأثر الشّرعي لا يكفي للحكم بجريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع الّذي معناه جعل آثاره الشّرعيّة ظاهرا ؛ فإنّ هذا ممّا لا بدّ فيه من أثر محقّق ، وهذا بخلاف إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم إذا لم يكن الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في بقاء الموضوع ؛ فإنّه لا إشكال في كفاية تقدير الموضوع لإجراء

٣٣٧

الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ إذ غاية ما هناك رجوعه إلى الاستصحاب التّقديري فتأمّل.

ثمّ إنّ هنا إشكالا على ما ذكرنا وذكره الأستاذ العلّامة من المثال للفرض باستصحاب عدالة المقلّد ونحوها مع الشّك في حياته وهو :

أنّ جواز التّقليد وغيره من الأحكام المترتّبة على فتوى المجتهد وقوله إذا كان مترتّبا على العدالة لم يجز إجراء استصحاب الحياة ولو بعد استصحاب العدالة أيضا ؛ لأنّ استصحاب العدالة لا يثبت موضوع العدالة والحكم الشّرعي ليس نفس الحياة بلا توسيط العدالة حتّى يجري الاستصحاب بالنّسبة إلى الحياة. نعم ، يستقيم ما ذكر فيما كان المحمول من الأحكام الشّرعيّة هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الأحكام المترتّبة على عدالة المجتهد إنّما رتّبت حقيقة على المجتهد بشرط عدالته فليست العدالة حقيقة موضوعا للحكم في الأدلّة الشّرعيّة ، وإنّما الموضوع له المجتهد على تقدير عدالته ، فإذا فرض حكم الشارع ببقاء العدالة فلا مانع من استصحاب بقاء المجتهد أيضا ، هكذا ذكر الأستاذ العلامة هذا مجمل القول بالنّسبة إلى القسم الأوّل من أصل التّقسيم.

عدم معقوليّة استصحاب الموضوع لاستصحاب الحكم

وأمّا الكلام في القسم الأوّل من القسم الثّاني فملخّص القول فيه : أنّ استصحاب الموضوع لاستصحاب الحكم ممّا لا يعقل لوجوه :

أحدها : أنّك قد عرفت غير مرّة : أنّه لا معنى لحكم الشارع بوجوب الإلتزام ببقاء الموضوع في زمان الشّك إلّا جعل أحكامه الشّرعيّة ظاهرا ، فلا يبقى

٣٣٨

مجال بعده لاستصحاب الحكم ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل ؛ حيث إنّ مفاد استصحاب الحكم أيضا جعله ظاهرا الّذي فرض جعله ، فالشّك المسوّغ للرّجوع إلى الاستصحاب لا يبقى بعد فرض استصحاب الموضوع وليس هذا مختصّا بالمقام ، بل يجري في جميع موارد الاستصحاب الحاكم والمحكوم.

فإنّ التّحقيق عندنا عدم جريان الاستصحاب المحكوم فيما يجري فيه الحاكم لا عدم الاحتياج إليه ، بل لا يختصّ بموارد الاستصحاب ، بل يعمّها وجميع موارد وجود الحكومة بين الأصلين كما في موارد استصحاب الطّهارة وقاعدتها ، واستصحاب الحرمة وقاعدة الحلّية وهكذا.

ثانيها : أنّك قد عرفت سابقا أيضا : أنّ المجعول بحكم الشارع بوجوب البناء على بقاء الموضوع الخارجي ليس إلّا الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بلا واسطة غير خفيّة.

ومن المعلوم أنّ استصحاب الحكم ليس من أحكام الموضوع واقعا حتّى يحكم ترتّبه عليه باستصحابه ، بل الّذي من أحكامه هو نفس الحكم الّذي أريد استصحابه حسب ما هو قضيّة الفرض ؛ فإنّ صحّة استصحاب النّجاسة ليست من أحكام التّغيّر الواقعي في الماء حتّى يحكم بترتّبها على استصحابه ولو كان عقليّا ، وإلّا لزم اجتماعه مع القطع بالتّغيّر ؛ ضرورة استحالة انفكاك المتلازمين مع بداهة استحالة اجتماعه معه كما هو واضح ، بل حكم التّغيّر الواقعي هي النّجاسة الواقعيّة ، فلا يمكن ترتّب استصحاب الحكم إذن على استصحاب الموضوع.

فإن قلت : ليس المراد من كفاية إحراز الموضوع بالاستصحاب في صحّة استصحاب الحكم ترتّب صحّة استصحاب الحكم عليه ، بل المراد : أنّ غاية ما دلّ

٣٣٩

الدّليل عليه هو لزوم إحراز الموضوع في استصحاب الحكم سواء كان بالطّريق القطعي أو بإجراء الأصل فيه فباستصحاب الموضوع يتحقّق واقعا ما هو الشّرط في استصحاب المحمول.

وبعبارة أخرى : ليس المراد جعل صحّة استصحاب الموضوع شرطا لجريان الاستصحاب ، حتّى يقال : إنّها ليست من الأحكام الشّرعيّة ، بل المراد : أنّه يتحقّق واقعا باستصحاب الموضوع ما هو الشّرط في إجراء استصحاب الحكم ، وهو وجود الموضوع واقعا أو ظاهرا.

قلت : بعد فرض إرادة إثبات الأحكام بنفس استصحابها لم يكن معنى لإجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع ، إلّا بالتزام كون صحّة استصحاب الحكم من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب واقعا ، وإلّا فلا معنى لاستصحابه بناء على ما عرفت سابقا : من عدم تعقّل الجعل بالنّسبة إلى الموضوع الّذي لا يكون له حكم شرعيّ.

ثالثها : أنّه بعد توقّف جريان الاستصحاب في الحكم على إحراز موضوعه حتّى يتحقّق القطع بصدق البقاء والنّقض كيف يمكن جعل الاستصحاب في الموضوع نافعا في إحرازه؟ ضرورة منع الشّك في الموضوع عن إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم ، ومن المستحيل عقلا رفع الشّك عن الموضوع بواسطة استصحابه. كيف؟ وهو الموضوع في باب الاستصحاب ، فكيف يعقل رفعه به؟

والحاصل : أنّ المانع للحكم بجريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم لم يكن إلّا الشّك في الموضوع ، ومن المحال بداهة ارتفاع الشّك بواسطة

٣٤٠