بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

فإن قلت : قد ذكرت في الجزء الثّاني من التّعليقة : أنّ حصول العلم بمثل المعلوم بالإجمال في ضمن بعض الأطراف معيّنا بعد العلم الإجمالي لا يوجب جواز الرّجوع إلى الأصل في غيره من أطراف الشّبهة ، كما إذا علم بوصول النّجاسة إلى بعض معيّن من الأواني الّتي علم بوصول النّجاسة إلى بعضها الغير المعيّن ؛ لأنه يجب الاجتناب عن غيره ، وإلّا أمكن التّفصّي عن وجوب الاحتياط عن الشّبهة المحصورة في غالب الموارد بتنجيس بعض معيّن من أطرافها.

قلت : ما ذكرنا ثمّة إنّما هو فيما لو علم بوصول النّجاسة إلى بعض معيّن من أطراف الشّبهة غير ما علم به إجمالا لا ما إذا علم بنجاسة بعضها المعيّن بعد العلم الإجمالي واحتمل انحصار كونها المعلوم بالإجمال فيه ؛ فإنّه لا يجب الاجتناب حينئذ عن باقي الأطراف فتأمّل ، والمقام من هذا القبيل.

وبالجملة : المدّعى عدم الاحتياج إلى الأصل في وجوب الالتزام بالنّسبة إلى الأحكام المعلومة في شريعتنا ، لا أنّا نقطع بكونها من الأحكام الباقية الغير المنسوخة.

فإن قلت : ما ذكر إنّما يستقيم فيما لم يترتّب هناك أثر بالنّسبة إلى ما علم ثبوته في شرعنا من الأحكام من حيث كونها غير منسوخة ، وإلّا فيحتاج إلى إجراء الأصل بالنّسبة إليها لا محالة ، فيقع التّعارض مع الأصل في الأحكام

__________________

كان مضطرّا إلى ارتكاب بعض الأطراف قبل العلم الإجمالي بالنجاسة على سبيل التعيين والخصوصيّة ؛ فإن العلم الإجمالي حينئذ لا أثر له ؛ لاحتمال أن يكون المتنجّس ما إضطرّ إلى ارتكابه فلا يتنجّز التكليف على جميع التقادير ولا يتعقّل هذا المعنى في المقام » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

١٠١

المشكوكة فيتساقطان ، أو يحكم بعدم جريانها في هذا الفرض ؛ نظرا إلى أحد المسلكين في كيفيّة تأثير العلم الإجمالي.

قلت : لا معنى لمنع جريان الأصل في الأحكام المعلومة في شريعتنا على تقدير ترتّب أثر على كونها من الأحكام الغير المنسوخة ؛ لأنّ من الالتزام بهذا الأثر لا يلزم شيء أصلا ، والعلم الإجمالي لا أثر له بالنّسبة إليه جزما ، وإنّما أثره المنع من إثبات وجوب الالتزام ببعض الأحكام في شريعتنا فيما لو توقّف وجوب الالتزام به عليه ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فلا مانع من الرّجوع إلى الأصل ، هذا كلّه لو كان المراد هو المعنى الثّاني.

وإن كان المراد المعنى الثّالث أي : نسخ الجميع باعتبار وجوب الالتزام. ففيه : أوّلا : المنع من كون مقتضى التّدين بدين نبيّ وجوب الالتزام بكلّ حكم جاء به من حيث إنّه جاء به ، وإنّما الّذي يجب على المكلّف الالتزام بحكم الله الّذي علم به من قول أيّ نبيّ كان ؛ لأنّ قول الرّسول طريق إلى الأحكام الواقعيّة كحكم العقل. ومن المعلوم أنّ جهة الطّريقيّة لا يقتضي أخذها في الحكم المترتّب على ذي الطّريق.

وبالجملة : مقتضى كون قول الرّسول طريقا عدم وجوب الالتزام به من حيث هو هو وعدم كونه ناسخا لقول الرّسول السّابق عليه بهذا الاعتبار.

كيف؟ وقد ورد في حقّ عيسى بن مريم عليه‌السلام أنّه قال لأمّته : إنّي ما جئت إلّا لأكمل شريعة موسى عليه‌السلام ولا ينافي ذلك وجوب تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّسبة إلى جميع ما ثبت منه أصلا وفرعا ، والالتزام به من حيث إنّ الالتزام بكونه حكم الله عين تصديقه كما هو ظاهر.

١٠٢

وثانيا : سلّمنا ذلك لكن نقول : إنّا نثبت بالاستصحاب كون الحكم عند نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على طبق الحكم عند النّبي السّابق سواء كان اعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو التّعبّد :

أمّا على الأوّل : فلأنّه يظنّ بالاستصحاب ببقاء الحكم السّابق في شريعتنا.

وأمّا على الثّاني : فلأنّ المستفاد من الأخبار هو الحكم كليّة بإبقاء ما ثبت في السّابق ، فالثّابت في الشّريعة السّابقة حكم ظاهريّ في شريعتنا بمقتضى الأخبار هذا.

ولكن يمكن أن يورد على ما ذكرنا : بأنّ بعد تقيّد جميع الأحكام في الشّريعة السّابقة بالقيد المذكور يكون الثّابت في شريعتنا مثله لا محالة لا عينه ؛ لاستحالة ذلك ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب لتغيّر الموضوع قطعا هذا.

ويمكن التّفصّي عنه : بأنّ المستصحب ليس هو الحكم المقيّد بالقيد المذكور وإنّما هو ذات المقيّد أي : حكم الله الكلّي مع قطع النّظر عن جميع الخصوصيّات وتقييده بالقيد المذكور ليس من خصوصيّاته المقوّمة له ، وإنّما هو من لوازم العلم به من تبليغ النّبي السّابق.

هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث وذكر : أنّه المراد من قوله :

( ولكن يدفعه : ... إلى آخره ) (١) والمقام يحتاج إلى مزيد تأمّل.

(٢٤٣) قوله : ( وفيه : أنّه إن أريد بالذّاتي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٨ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٢٢٨.

١٠٣

بيان معنى الذاتي والمراد منه في كلماتهم

أقول : توضيح ما ذكره ( دام ظلّه ) في الجواب عمّا ذكره الفاضل القمّي يحتاج إلى بيان معنى الذّاتي والمراد منه في كلماتهم.

فنقول : إنّ الذّاتي يطلق في لسانهم على معنيين : أحدهما : ما لا يمكن تخلّفه عن الشّيء عقلا بمعنى كون الذّات علّة تامّة له وهذا هو المعروف في ألسنتهم.

ثانيهما : ما يكون الذّات مقتضيا له وإن أمكن تخلّفه عنه من جهة الموانع والمزاحمات ، ولك أن تجعل القسمين قسما واحدا بتعميم الاقتضاء بالنّسبة إلى الفعلي والشّأني.

إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المراد من الذّاتي في كلامه المعنى الأوّل ـ حسب ما هو ظاهر إطلاقه ـ فلا إشكال في عدم كون الحسن والقبح بالمعنى المذكور مبنى للاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة ، بل وقوع الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة مقتضي لبطلان الحسن والقبح بالمعنى المذكور ، ولهذا أبطلوا القول به مطلقا ؛ لوقوع النّسخ في الأحكام الشّرعيّة ، مع أنّ مقتضاه عدم جوازه على القول بعدم إمكان البداء في حقّ الحكيم تعالى ـ كما استقرّ عليه مذهب العدليّة ـ بل على القول به أيضا على بعض الوجوه ، إلّا على القول بعدم وجود الملازمة بين الحسن والقبح والحكم الشّرعي مطلقا الفاسد عند المحقّق القمّي قدس‌سره و (١) هذا لا سترة فيه أصلا.

وإن أريد به المعنى الثّاني ، ففيه : أنّه لا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبار.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

١٠٤

فإنّه إن كان ابتناء الحكم الشّرعي على الحكم العقلي وتطابقهما مانعا عن جريان الاستصحاب بناء على الشّبهة الّتي عرفت اندفاعها ، فلا معنى للفرق بينهما ؛ إذ كما يمكن ارتفاع الحسن الثّابت في العقل مثلا ثبوتا ثانويّا بارتفاع الوجه الّذي هو الموضوع الأوّلي له الصّادق على الفعل ، كذلك يمكن ارتفاعه على القول بكونه ذاتيّا بالمعنى المذكور بواسطة وجود المانع والمزاحم.

وإن لم يكن ابتناء الحكم الشّرعي على العقلي مانعا ، فلا معنى للفرق بينهما أيضا كما لا يخفى هذا.

وقد يقال : إنّ القول بتبعيّتهما للاعتبار أوضح في المانعيّة فتأمّل.

مع أنّ إطلاق القول بتبعيّة الحسن والقبح للوجوه والاعتبار ممّا لا معنى له ـ كما أوضحنا القول فيه فيما كتبناه في سالف الزّمان في مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين وقد أشرنا إليه في الجزء الأوّل من التّعليقة عند التّكلّم في مسألة التّجري (١) ـ مع أنّه لو كان مانعا لمنع من استصحاب عدم النّسخ في هذه الشّريعة أيضا.

وبالجملة : ابتناء الاستصحاب على مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين والأقوال في كيفيّة ثبوتها للأفعال ممّا لا معنى له جزما.

ثمّ إنّ هنا وجهين آخرين للقول بعدم حجيّة الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم الثّابت في الشّريعة.

الأوّل : أنّه لو جرى الاستصحاب في أحكام الشّريعة السّابقة ، لوجب الفحص عن حكمها في كلّ مسألة من المسائل بالرّجوع إلى الكتب المنزلة على

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٢٢.

١٠٥

النّبي السّابق ، وهو خلاف السيرة المستمرّة بين العلماء ( رضوان الله تعالى عليهم ).

الثّاني : أنّه وإن كان الاستصحاب بحسب الموضوع محقّقا بالنّسبة إلى الأحكام الثّابتة في الشّريعة السّابقة إلّا أنّ الأخبار غير منصرفة إليه ، فلا يحكم باعتباره من هذه الجهة.

ويمكن الجواب عن الأوّل : بأنّ عدم الفحص عن الحكم في الشّريعة السّابقة إنّما هو من جهة عدم وجود ما يرجع إليه في تحصيله لتغيّر الكتب المنزلة الموجودة في أيدي أهلها ، فليس ما يتكفّل لبيان ذلك ممّا يجوز الأخذ منه إلّا الكتاب العزيز والقرآن العظيم والفرقان الكريم المنزل من ربّ العالمين على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وما ورد من نبيّنا ( صلّى الله عليه وأهل بيته المعصومين المطهّرين ) ومن المعلوم أنّ كلّ أحد يتفحّص عن الدّليل في الكتاب والسّنة.

وعن الثّاني : بمنع الانصراف ، فتدبّر.

(٢٤٤) قوله : ( ويرد عليه بعد الإغماض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٩ )

كيفيّة الاستدلال بالآية لاعتبار قصد التقرّب وغيره

أقول : لا يخفى عليك أنّه شاع بين المتأخّرين من الأصحاب ـ على ما وقفنا عليه من كلامهم ـ التّمسك بالآية بضميمة الاستصحاب على أنّ الأصل في الواجب أن يكون تعبّديّا مشروطا صحّته على قصد القربة والامتثال ، وبين جماعة من المتقدّمين على ما حكاه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) التّمسك بها على اشتراط الخلوص في النّيّة بمعنى خلوّها عن الضّمائم من الرّياء وغيره ، وتقريب الاستدلال بها على اشتراط الخلوص في النّية ظاهر غير محتاج إلى البيان ، بعد

١٠٦

جعل المراد من الإخلاص : هو تنزيه العمل من الرّياء ونحوها ، وجعل الدّين عبارة عن القصد.

وأمّا تقريب الاستدلال بها على المطلب الأوّل فيكون من وجهين :

أحدهما : استظهار ذلك من لفظ الخلوص من باب المطابقة ، أو من باب الأولويّة ودلالة الأخص على الأعمّ بعد جعل « اللّام » للغاية ، فتدلّ على ثبوت الملازمة في الشّريعة السّابقة بين وجوب شيء واشتراط قصد القربة في صحّته ، فيستصحب هذه الملازمة ويحكم ببقائها في شريعتنا أيضا حسب ما هو المحكيّ في وجه الاستدلال.

ثانيهما : استظهاره من لفظ نفس العبادة مع قطع النّظر عن قوله : مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ* (١) بناء على عدم تحقّقها بدون التّقريب ؛ حيث إنّ الإتيان المأمور به على قسمين :

أحدهما : ما يقتضي مجرّد رفع العقاب كالإسقاط الّذي ليس من إتيان المأمور به في شيء لكن لا يحصل به الغرض من المأمور به ، فيقتضي سقوطه ورفع العقاب عن تركه حيث علم أنّ المقصود أعمّ من المطلوب ، وهذا ليس من الإطاعة والامتثال في شيء ، وليس المكلّف مستحقّا للثّواب في شيء ، وهذا المعنى لا يحتاج إلى قصد القربة أصلا ، بل يكفي مجرّد إتيان المأمور به بأيّ وجه اتّفق ، وهو لا يتحقّق إلّا في الواجبات التّوصّليّة.

ثانيهما : ما يقتضي استحقاق الأجر والثّواب وهو لا يعقل تحقّقه بدون قصد

__________________

(١) الأعراف : ٢٩ ، والبيّنة : ٥.

١٠٧

الإطاعة كما لا يخفى ، والعبادة ما لا ينفكّ عن هذا المعنى ، ففي أصل العبادة مأخوذ قصد التّقرب فيكون الحال حينئذ على تقدير كون معناها قصد التّقرب مؤكّدة لا منتقلة كما لا يخفى هذا.

بل ربّما يقال : إنّ العبادة لا يتحقّق مع الضّميمة ، فالاستدلال بها على المطلب الثّاني أيضا لا يحتاج إلى التّمسّك بلفظ الإخلاص ، فالحال مؤكّدة مطلقا.

ولكن فيه ما لا يخفى سيّما بناء على تعميم الضّميمة. هذا ملخّص ما يستفاد من كلامهم في تقريب دلالة الآية على المدّعى.

ولكنّك خبير بما في الاستدلال بها على المطلبين ، لعدم دلالتها على شيء منهما.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظّاهر من « اللّام » في قوله : لِيَعْبُدُوا اللهَ (١) هي « لام » الإرادة الّتي تدخل على المفعول به. والمراد كما في قوله : لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ (٢) و لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (٣) ونحوهما ، ويشهد له مضافا إلى ظهور هذا المعنى منها في أمثال المقام عطف قوله : لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ (٤) الآية.

وبالجملة : استعمال « اللّام » في هذا المعنى كثير في الغاية في الكتاب والسّنة والعرف ، ويشهد له السّياق وذيل الآية ، فلا بدّ من أن يحمل عليه ، والمراد

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) الاحزاب : ٣٣.

(٣) النساء : ٢٦.

(٤) ابراهيم : ٣٧.

١٠٨

من العبادة ليست هي العبادة الّتي في مقابل المعاملة ، بل المراد هي العبوديّة أي : وما أمروا إلّا بجعل عبوديتهم لله.

والمراد من الإخلاص ليس قصد القربة في الواجب ولا تنزيه العمل من الرّياء ونحوه ، بل عدم الشّرك به وجعل الشّريك له في العبوديّة ، فالآية تدلّ على وجوب التّوحيد عليهم لا على وجوب قصد القربة عليهم في كلّ واجب ، أو تنزيه القصد من الرّياء ونحوها من الضّمائم ، والمراد من الدّين ليس هو القصد ؛ إذ لم يثبت استعماله فيه أصلا ، بل المراد منه إمّا خصوص الأصول كما هو الظّاهر ، أو هي مع الفروع. فالآية مشتملة على بيان تكليفهم بأصل الأصول وعمود الفروع فلا دخل لها بالمقام أصلا كما لا يخفى.

ويشهد لما ذكرنا أمور :

أحدها : ظهوره من الآية بالبيان الّذي عرفته مضافا إلى ملاحظة صدرها.

ثانيها : دلالة كثير من الآيات الّتي فيها لفظ الإخلاص ، بل لم يوجد آية مشتملة عليه وكان المراد منها غيره كما في قوله تعالى : أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ (١) وقوله : قُلِ اللهَ أَعْبُدُ (٢) الآية وغيرهما.

ثالثها : تفسير المفسّرين ؛ فإنّهم فسّروها بما ذكرنا ، كما يعلم من الرّجوع إلى كتب التّفسير للخاصّة والعامّة.

__________________

(١) الزمر : ٣.

(٢) الزمر : ١٤.

١٠٩

لا يقال : كون المراد من الإخلاص ما يقابل الشّرك لا ينافي الاستدلال بها على وجوب خلوص العمل من الضّمائم سيّما الرّياء ؛ فإنّه قد ورد : أنّه من الشّرك الخفي (١).

لأنّا نقول : قد عرفت : أنّ المراد من الآية بملاحظة صدرها وذيلها ونظائرها وما ورد في تفسيرها ليس وجوب العمل على وجه الإخلاص وعدم الشّرك في العمل حتّى يقال : إنّ الرّياء أيضا نوع من الشّرك بالمعنى الأعمّ ، بل المراد منها : وجوب التّوحيد واختيار عبوديّة الله معتقدين بعدم الشّريك له ؛ حيث إنّ المأمور فيها هم الكفّار المعتقدون بأنّ له جلّ شأنه وعزّ اسمه شريكا يشفع لهم عنده تعالى.

ومن المعلوم أنّ ضمّ غير عنوان المأمور به إليه في القصد ولو كان رياء ليس شركا بالله بمعنى الاعتقاد بغيره وجعله مستحقّا لأن يعبد كما لا يخفى ، وإلّا وجب الحكم بكفر من كان هذا شأنه كما في أكثر النّاس إن لم يكن جلّهم وإن كان شركا بمعنى آخر لا ينافي الإيمان ، وعليه يحمل ما ورد في بعض الأخبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على فرض تسليم كون المراد من الإخلاص ما هو مقابل الرّياء ونحوها من الضّمائم لا دلالة للآية على وجوب قصد التّقرب عليهم في كلّ واجب ؛ فإنّ الحصر إنّما هو باعتبار القيد لا القيد والمقيّد معا ، فيصير المحصّل منها : أنّهم ما أمروا بإيقاع العبادة بوجه من الوجوه إلّا على وجه الإخلاص ، فالآية إنّما تدلّ على وجوب الإخلاص عليهم في كلّ عبادة ، لا على

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٣٢ ، عنه مستدرك الوسائل : ج ١ / ١٠٧ باب « تحريم قصد الرياء والسمعة في العبادة » ـ ح ١٤.

١١٠

كون كلّ ما أمروا به عبادة يجب فيها قصد التّقرب ، كما هو مراد الأكثر حسب ما نسب إليهم.

نعم ، الآية بهذا البيان تدلّ على اعتبار الإخلاص في العبادة على ما عليه الاتّفاق ظاهرا في الجملة.

نعم ، لو كان المراد الحصر بالنّسبة إليهما جميعا ، بمعنى : عدم أمرهم بشيء إلّا بالعبادة وعدم أمرهم بإيقاعها على وجه ، إلّا على وجه الإخلاص لم يكن إشكال في دلالتها على المطلبين مع الغضّ عمّا عرفته أوّلا ، لكن إثبات هذا المعنى في غاية الإشكال ، بل الظّاهر من الآية خلافه كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلأنّه على فرض تسليم كون « اللّام » للغاية وجعل المراد من العبادة والإخلاص بالمعنى المذكور في تقريب الاستدلال ، نقول : إنّه لا دلالة للآية على المدّعى أيضا ؛ لأنّ المحصّل منها على هذا التّقدير : أنّهم ما أمروا في الشّريعة السّابقة بشيء من الأشياء إلّا لغاية عبادة الله على وجه الإخلاص ، بمعنى : أنّ الغاية في نظر الشّارع في أمرهم بها هو ترتّب عبادة الله على وجه الإخلاص على إتيانهم بها لما فيها من المصالح المقتضية لتكميل نفوسهم الموجبة لذلك.

وهذا المعنى كما ترى ، لا دخل له بوجوب قصد القربة عليهم في كلّ واجب ، بل لا ينافي كون جميع الواجبات في شريعتهم توصّليّا لا يشترط فيها قصد التّقرب أصلا ؛ إذ حاصل المعنى المذكور يرجع إلى أنّ الفائدة في نظر الشارع في أمر الأمم السّابقة بالواجبات هي سببيّة فعلها للقرب إلى الواجب العقلي ، وهي عبادة الله بقصد التّقرب.

١١١

وهذا معنى ما تقرّر عند العدليّة : أنّ الواجبات السّمعيّة بأسرها لطف في الواجبات العقليّة ؛ من حيث إنّ فعلها من جهة ما يترتّب عليها يوجب القرب إلى فعل المحسّنات العقليّة وترك المقبّحات العقليّة كما قضى به قوله جلّ شأنه وعزّ اسمه : إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ (١).

وبما عرفت : ينبغي أن يفسّر القضيّة المعروفة ، لا بما قد يرتكبه المتعسّف الخالي عن التّأمّل : من أنّ معناها كون فعل الواجبات السّمعيّة موجبة للوصول إلى ما فيها من المصالح المقتضية لإيجاب الشارع الفعل بحكم العقل من باب كونه حكيما لطيفا ؛ إذ نفس ما في الفعل ليس طاعة ومعصية حتّى يكون الفعل المحصّل له لطفا ، مع أنّ معنى اللّطف هو القرب لا الوصول كما لا يخفى.

فإن قلت : كيف يجامع هذا المعنى مع قوله تعالى : أخيرا : يُقِيمُوا الصَّلاةَ (٢) الآية مع أنّ إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ليستا من الواجبات العقليّة؟ على أنّ المقصود من الآية هو الإخبار عن كونهم مأمورين بها لا كونها فائدة للأمر بواجباتهم.

قلت : أوّلا : يمكن القول بكون الصّلاة واجبا عقليّا لما فيها من التّضمّن لشكر المنعم فتدبّر.

وثانيا : أنّه ليس اللّازم فيما ذكرنا كون فعل الواجب أوّلا وبالذّات موجبا للقرب إلى الواجب العقلي ، بل يكفي فيه مجرّد إيجابه القرب إليه ولو بواسطة

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) البيّنة : ٥.

١١٢

إيجابه القرب إلى واجب سمعيّ يوجب القرب إلى الواجب العقلي على ما صرّح به جماعة هذا.

وأمّا ما ذكر أخيرا : من عدم مناسبة جعل « اللّام » للغاية لذيل الآية.

ففيه : أنّه ردّ لا مخلص عنه ، إلّا أنّه لا دخل له بما ذكرنا ؛ إذ ما ذكر إيراد على أصل الاستدلال بالآية على ما عرفته منّا وكلامنا مبنيّ على الغضّ عمّا أوردنا أوّلا وثانيا.

فإن قلت : إذا فرضت كون التعبّد غاية في كلّ ما وجب عليهم فيجب تحصيلها فيه ؛ لأنّ تحصيل ما هو الغرض للشّارع في الأوامر واجب كنفس الإتيان بالواجب ، فإذا ثبت وجوب قصد القربة في كلّ واجب ثبت بحكم الإجماع على عدم وجوب قصد القربة مستقلّا أنّه كان شرطا في صحّة كلّ واجب عليهم ، فيثبت المطلوب.

قلت : ما ذكرته إنّما يصحّ فيما إذا كانت الغاية من الأفعال المقدورة للمكلّف المتوقّف حصولها على إتيانها لا ما إذا كانت من الأمور المترتّبة عليه قهرا كما في المقام ؛ فإنّ غاية الواجبات ليست نفس التّعبّد ، بل هو القرب إليه الّذي يعبّر عنه باللّطف في لسانهم ، ومن المعلوم أنّ ترتب هذا المعنى على فعل الواجبات أمر قهريّ لا دخل لاختيار المكلّف فيه أصلا كما لا يخفى.

فإن قلت : ما ذكرته إنّما يصحّ على تقدير تسليم كون امتثال أمر الله تبارك وتعالى واجبا عقليّا في كلّ واجب حتّى التّوصّليّات ، ومن المعلوم أنّ العقل لا يحكم بوجوب هذا المعنى في التّعبّديات الّتي تثبت اشتراط صحّتها بقصد القربة فضلا عن التّوصّليات ، غاية الأمر حكمه بوجوب الإتيان بالتّعبّديات بداعي

١١٣

التخلّص عن العقاب والفرار عنه. ومن المعلوم أنّ هذا المعنى غير التّعبّد على وجه الإخلاص.

قلت : الّذي يحكم به العقل هو وجوب إطاعة الله تعالى في كلّ واجب على ما هو قضيّة قوله تعالى : أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (١) فإنّه لا اختصاص لحكم العقل والشّرع بوجوب الإطاعة بالواجبات التّعبّدية ، بل يشملها والتّوصّلية قطعا.

ومن المعلوم أنّ الإطاعة والامتثال لا يتحقّق بدون التّقرب ، وليس المراد من التّقرب هو الإتيان بما أمر به الله تعالى من حيث كونه مستحقّا للعبوديّة ؛ لأنّ هذه المرتبة من المراتب الّتي لا يحكم العقل والشّرع بوجوبها قطعا ، ولا يشترط في صحّة العمل جزما ؛ لأنّه لا يمكن تحصيله إلّا للأولياء ، بل هو مجرّد الإتيان بما أمر به لداعي التّقرب إليه ولو من جهة الفرار عن مؤاخذته ، لكفاية هذا المعنى في تحقّق الامتثال وصحّة العمل على ما تقرّر تفصيل القول فيه في الفقه ، فإذن نقول : إن الّذي يحرّك العقل به المكلّف إلى فعل الواجبات ليس إلّا خوف العقاب على تركها بحيث لا يكون الدّاعي له في الإقدام على الفعل إلّا هذا المعنى ؛ لأنّه أمر مركوز في أذهان جميع النّاس بل جميع الحيوانات فضلا عن الإنسان ، غاية الأمر : أنّه لو كان الواجب توصّليا يمكن رفع موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة وهو أمر الشارع بغير الامتثال. فلا يحكم به من هذه الجهة ، لا أنّه يحصل الامتثال بمجرّد الإتيان بالمأمور به ، أو يكون حكم العقل بوجوب الإطاعة مختصّا

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١١٤

بالواجبات التّعبديّة. هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه العالي ).

ولكن يمكن المناقشة فيه : بأنّ تحريك العقل إلى فعل الواجب وإن لم يكن إلّا من جهة دفع الضّرر عن النّفس ـ حسب ما هو قضيّة جبلّة العاقل ـ إلّا أنّ مجرّد هذا المعنى لا يدلّ على وجوب ملاحظة هذا المعنى في العمل وقصده فيه بحيث لو فرض إتيانه به لا على الوجه المذكور من جهة علمه بعدم اشتراطه في صحّة العمل شرعا لم يكن آتيا بالواجب ، بل فعل فعلا لغوا.

وبالجملة : فرق بين حكم العقل بوجوب ملاحظة التّقرب وهو إتيان الفعل تخلّصا عن العقاب في العمل بأن يوقعه على هذا الوجه ، وبين كون العلّة في حكمه وتحريكه هو وجود الضّرر في الشّرك. والّذي نسلّمه هو الثّاني ، والّذي ينفع في المقام هو المعنى الأوّل فتدبّر.

وأمّا رابعا : فلأنّه لو بني على كون المراد من الآية ما ذكر في تقريب الاستدلال بها على المدّعى لم يحتج إلى الاستصحاب أصلا ، بل لا يجري جزما ؛ لكفاية قوله تعالى : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (١) في إثبات الحكم في شريعتنا من غير أن يتمسّك بالاستصحاب بناء على كون المراد منها الثّابتة الّتي لا تنسخ ، لا الحقّ المستقيم كما ذكره جماعة منهم : الأردبيلي في « آيات الأحكام » (٢).

__________________

(١) البيّنة : ٣.

(٢) زبدة البيان في فقه القرآن للفقيه المقدّس الأردبيلي : ٢٨.

١١٥

* التنبيه السادس :

( الأصل المثبت ) (١)

__________________

(١) قال العالم الربانى الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« إن الأصل حيث انه وظيفة للجاهل لا يعقل ان يترتّب عليه إلّا الجهة التي أسّس الأصل لها ، فقاعدة الشك بعد الفراغ ـ مثلا ـ يثبت بها صحّة ما فرغ منها ولا يترتّب عليها وقوع ما يتوقّف الصحّة عليه ، فإذا كان الشك في الصحّة من جهة الشك في التطهير عن الحدث أو الخبث فمع البناء على صحّة العمل السابق يجب التطهير للأعمال اللاحقة وحيث انّ الإستصحاب عبارة عن الإعتماد على اليقين الحاصل بما يقتضيه الشيء وعدم الإعتداد باحتمال المانع ، فلا يترتّب عليه إلّا ما هو من مقتضياته ، وأمّا ما يستقلّ بالإقتضاء فمقتضى هذا الأصل التعويل على إقتضاءه لا ترتيبه على اقتضاء آخر ، فحيث شك في زوال حياة زيد بالموت بعد العلم بثبوته يجب البناء على عدم المزيل ، وهذا إنّما يترتّب عليه ما هو من مقتضياته يعني : ما لا يستقلّ بالإقتضاء كبقاء امواله على ملكه ، وامّا إنبات اللحيّة ـ مثلا ـ فلأن اللحية مباينة في الوجود للشخص كالثمرة بالنسبة إلى الشجر والحمل بالنسبة إلى الحامل ومن المعلوم ان اليقين بأحد المتلازمين مغاير لليقين بالآخر وإلى هذا ينظر ما أفاده كاشف الغطاء قدس‌سره في تعارض الأصلين يعني : انه لا مرجّح لترتيب أثر المثبت على الثابت مع استقلاله بالإقتضاء كما في الأمثلة ، وإنّما الذي يترتّب عليه ما لم يستقل بالإقتضاء.

توضيح ذلك :

أنّ الأصل المثبت عندنا عبارة عمّا يترتّب عليه ما يستقلّ بالوجود والعدم أو كان منتزعا من غير ما استصحب وعلم بوجوده لا ما ترتّب عليه أثر غير شرعي كما هو الشائع في ألسنة الأواخر ؛ فإنه على ما حقّقناه أصل عقلائي قرّره الشارع ، بل لو كان أصلا شرعيّا لم يكن وجه

١١٦

__________________

لإختصاص الأثر الشرعي بالتّرتب عليه عدى ما يتوهّم : ان الحكم بثبوت ما لا يرجع إلى الشارع في مرحلة الظاهر لا معنى له ؛ فإن تنزيل شيء مقام آخر إنّما يتصوّر بالنسبة إلى ما يرجع إلى الشارع.

ويندفع : بان الحكم بثبوت الأمر غير الشرعي أيضا مرجعه إلى الآثار الشرعيّة كما هو الحال في البيّنة والدليل ؛ فانه لا إشكال في ان الشارع يجعلهما حجة ويتنزل مؤيّدهما منزلة المعلوم مع أنّ مؤيّدهما لا يجب أن يكون أمرا شرعيّا ، بل لا يثبت بالبيّنات إلّا الموضوعات ، بل الأصول الموضوعيّة إنّما تثبت الموضوعات في مرحلة الظاهر ، ومرجع إثباتها ترتّب الأحكام الشرعيّة عليها ؛ فإنّ استصحاب الحياة إنّما يثبت به الحياة أوّلا ومرجعه إلى ترتّب الأحكام الشّرعيّة ؛ لأن المستصحب هو الأحكام ، فلا فرق بين ان يثبت بالاستصحاب حياة زيد فيترتّب عليه الحكم الشرعي وبين أن يثبت باستصحاب حياته نبات لحيته ليترتّب عليه آثاره الشرعيّة فلو كان المانع من ثبوت نبات اللحية بالأصل انه امر غير شرعي شاركه الحياة التي يجري فيها الإستصحاب وإن شئت قلت : انه لا فرق من هذه الحيثيّة بين أن يكون نبات اللحية متعلّقة للإستصحاب وبين ان يترتّب على استصحاب الحياة ، بل الفارق إنّما هو إستقلال اللحية بالإقتضاء وعدم كونها من شؤون الحياة ؛ فإن لها وجودا مغايرا لوجود الشخص ، بل نقول : إن الأصل لا يترتّب عليه إلّا الأثر العقلي ولا يعقل أن يترتّب عليه الأثر الشرعي فإن الحكم المترتّب عليه إنّما هو حكم ظاهري وهو في الحقيقة ليس حكما ، بل إنّما هو تصرّف في المرحلة الثالثة من مراحل الحكم بالتنجيز والدفع فتنزيل مشكوك البقاء منزلة المعلوم لا معنى له ، إلّا إنّ ما كان يترتّب على العلم عقلا من تنجيز التكليف الواقعي بحكم العقل مثلا لا يزول بطروّ الشك في البقاء ، فالشاك في البقاء منزّل منزلة العالم في ترتيب الآثار العقليّة الثابتة للعلم بالذات ، ألا ترى ان الإستصحاب حيث تعلّق بنفس الأحكام التكليفيّة لم يتعقّل أن يترتّب عليه أثر شرعي ؛ فإنّ الحكم الشرعي ليس له أثر

١١٧

__________________

شرعي وإنّما تنجّزه أثر العلم ، فكما انه يتنجّز بالعلم فكذا يتنجّز على الجاهل بالبقاء ، والقول : بان أثر استصحاب التكليف إثبات حكم شرعي مماثل للحكم الواقعي ، كلام ظاهري ؛ ضرورة انه لم يجعل الشارع للحكم الشرعي أثرا مماثلا له ، بل لا معنى له والوجوب الظاهري المترتّب على استصحاب الوجوب الواقعي حقيقته تنجّز الوجوب الواقعي على تقدير ثبوته في الواقع على الجاهل بالبقاء ، وكذا الحال في الأحكام الوضعيّة ؛ فإن استصحاب الطهارة أثره كون المصلّي معذورا في الإتيان بالصلاة الفاقدة لها إذا علم بحدوثها وشك في ارتفاعها وهذا معنى البناء على الطهارة حال الشك في ارتفاعها ولا معنى لثبوت الطهارة للشاك إلّا ذلك ، ومن المعلوم أن كون الشخص معذورا في ترك الصلاة مع الطهارة أثر للجهل عقلا فترتيبه على الإستصحاب ليس من ترتّب الأثر الشرعي.

وبالجملة : فالأصول كالأدلّة لا يثبت بها إلّا الأثر العقلي الثابت للعلم والجهل بالذات ؛ فإن جعل الوظيفة للجاهل كما هو مقتضى الاصول العمليّة وما دلّ على إعتبار الأدلة الأجتهادية فإنه أيضا اصل لإعتبار الجهل في موضوعه مرجعه إلى التصرّف في اثبات العذر ونفيه ، فكيف يتوهّم : انه لا بد من أن يكون ما يترتّب على الأصل الشرعي أثرا شرعيّا وأن الشارع ليس له إلّا ترتّب الآثار الشرعيّة على الأصول ، مع انه لو تمّ لمنع من ثبوت أمر غير شرعي بالدليل والبيّنة أيضا.

وبما حقّقناه ظهر : اندفاع ما أورده الأستاذ العلّامة قدس‌سره على القوم في التمسّك باستصحاب حال العقل حيث زعم : ان عدم استحقاق العقاب المقصود إثباته في المقام حكم عقلي لا سبيل إليه ، إلّا قبح العقاب بلا بيان والإستصحاب بناء على حجّيّته من باب التعبّد لا يصلح لأن يثبت به إلّا الأثر الشرعي ، هذا محصّل ما أفاده في أوّل مبحث أصالة البراءة [ الفرائد : ٢ / ٥٩ ـ ٦٠ ].

وفيه : ما عرفت : من ان ترتب الأثر الشرعي على الأصل لا معنى له الّا إثبات استحقاق

١١٨

عدم ترتّب الآثار غير الشرعيّة على الاستصحاب والدليل عليه

__________________

العقاب ودفعه ، وهذا معنى ما اشتهر : من ان المترتّب على الأصول والأدلّة غير العلميّة أحكام ظاهريّة ؛ فإن الحكم الظاهري ليس إلّا التنجّز والدفع وذلك ممّا يرجع إلى الشارع في الجملة.

والحاصل : انه لو كان ترتّب استحقاق العقاب وعدمه على الأصل مانعا عن جريانه لم يجر في شيء من المقامات حيث انه لا معنى لشيء من الأصول إلّا ذلك وكذا الحال في الأدلّة الغير العلميّة وليس كون الأصل مثبتا بهذا الإعتبار كما اشتهر في هذه الأزمنة ، بل المثبت عند أهل الصّناعة : ما يترتّب عليه ثبوت شيء يستقلّ بالتحقّق ولم يكن من شؤون [ المستصحب ] المعلوم كاللحية المغايرة لحياة زيد ، فباستصحابها لا يحكم بإنباتها ، وكالغسل المغاير للماء فباستصحابه لا يحكم بتحقّقه فيما لو كان الماء باقيا لا نغسل به ، وكقتل شخص لو كان باقيا في مكان رمي بما لو كان باقيا فيه لقتل وهكذا في ما لا يتناهى من الفروع.

وأمّا ما لا إستقلال له في مرحلة التحقّق فليس ترتّبه على المستصحب إثباتا كما إذا عقد النكاح الوليّ أو الوكيل لمن لا يعلم ببقاءه إلى زمان العقد ؛ فإنه لا ريب في الحكم بتحقّق علقة الزوجيّة باستصحاب الحياة ، وكذا يحكم بدخول المبيع في ملكه وانتقال الثمن عنه إذا اشترى له شيئا ، مع انه ليست الزوجيّة والملكيّة من الآثار الشرعيّة لبقاء حياة الشخص.

والفرق : ان التعويل على اقتضاء الشيء والبناء على بقاء الشيء على ما هو عليه ليس إلا الاستلزام بجميع ما هو من شؤونه وأطواره وإن كان مغايرا لذاته ، والزوجيّة مثلا ليس غير الأمر المستصحب وهو أحد الطرفين والطرف الآخر المعلوم هو العقد المعلوم تحقّقه من اهله ، ولكن الغسل ليس أمرا منتزعا من الماء والجسم الذي لا يعلم ملاقاته له وجريانه عليه. وبهذا يظهر السرّ في جميع الموارد بعون الله تعالى » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٤.

١١٩

(٢٤٥) قوله : ( قد عرفت : أنّ معنى عدم نقض اليقين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٣٣ )

__________________

(١) قال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت : انّ حرمة نقض اليقين كناية عن لزوم الالتزام بالمتيقّن عملا ، وقضيّته التّعبّد به لو كان من مقولة الأحكام الشرعيّة والامور المجعولة بنفسها ، من دون اعتبار تجشم أمر آخر أصلا لعدم الحاجة كما لا يخفى والتّعبّد بآثاره الشّرعيّة لو كان من الأمور الخارجيّة الغير المجعولة لعدم معقوليّة التّعبّد بها ، إلّا بمعنى التعبّد بآثارها القابلة له وهي آثارها الشّرعيّة دون العقليّة والعادية ، فلا وجه لجعله قدس‌سره معناه مطلقا هو ترتيب الآثار الشّرعيّة ، كيف! وقد لا يكون للحكم المتيقّن أثر شرعي أصلا ، وآثاره العقليّة من قبيل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ كما قلنا لا يكون قابلة للجعل ، وقد صرّح به هاهنا.

نعم يترتّب عليه بعد الفراغ عن جعله جميع آثاره الشّرعيّة وخصوص ما كان من آثاره العقليّة أو العادّيّة ، موضوعه مطلق الحكم ولو كان ظاهريّا. وكيف كان : فلا سبيل إلى التّنزيل ما لم يكن مورده بنفسه حكما شرعيّا ، أو ذا أثر شرعيّ ، فلا مجال للاستصحاب بلا شبهة ولا ارتياب فيما كان من الموضوعات غير ذي أثر شرعيّ أصلا ولو بواسطة حكم شرعي ، كما هو أوضح من أن يخفى ، كما لا كلام فيما له أثر شرعي بلا واسطة إنّما الإشكال ، بل الخلاف بين الأعلام فيما كان له الأثر الشّرعي بواسطة غير شرعيّة.

فاعلم انّه ربّما يقال : انّه لا مجال للإشكال في كفاية الانتهاء إلى أثر شرعي ولو بوسائط في صحّة التّنزيل ، فكما يصحّ تنزيل الموضوع بملاحظة أثره المترتّب عليه بلا واسطة صحّ تنزيله بملاحظة الأثر مع الواسطة ، ويدلّ عليه جعل الأمارات على الموضوعات ولو فيما لم يكن له أثر إلّا بالواسطة ، فانّه أيضا ليس إلّا تنزيل الموضوعات بلحاظ آثاره الشّرعيّة ، ولو لم يصحّ التنزيل إلّا بالأثر بلا واسطة لما كان سبيل إلى ترتيب الأثر بالواسطة بواسطة قيام الأمارة عليها كان هناك أثر بلا واسطة أو لا كما لا يخفى ، وهو كما ترى.

١٢٠