بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

المقام الثاني (١) :

__________________

(١) العنوان من كتاب الفرائد : ج ٣ / ٣٨٥.

٥٨١
٥٨٢

المقام الثاني

في بيان تعارض الإستصحاب مع القرعة

(٤٠١) قوله : ( في القرعة : وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ) (١). ( ج ٣ / ٣٨٥ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« تنقيح الكلام في بيان تعارض القرعة مع كلّ واحد من الأصول التّعبديّة : أنّ أخبارها العامّة مثل ما عن الفقيه والتّهذيب عن الكاظم عليه‌السلام « كلّ مجهول ففيه القرعة قلت : انّ القرعة تخطيء وتصيب ، فقال : كلّما حكم الله به فليس بمخطيء » وحكى العامّة « أنّ القرعة لكلّ أمر مشكل » كما في رواية ، أو « لكلّ أمر مشتبه » كما في أخرى إلى غير ذلك ، يكون أعم من اخبار كلّ واحد منها ، فيجب تخصيصها بها من غير اختصاص له باخبار الاستصحاب ، فلا وجه لما أفاده قدس‌سره من حكومة أدلّة القرعة على أصالتي الإباحة والاحتياط إذا كان مدركهما التعبّد بهما في مواردهم ، بل يكون حالهما معها حال الإستصحاب معها بلا ارتياب ، فيخصّص دليلها بدليلهما ، كما يخصّص بدليله ، للاشتراك فيما هو العلّة من دون ما يوجب الاختصاص.

إن قلت : نعم ولكن يلزم من ذلك استيعاب أكثر أفراد دليلها لو لم يلزم استيعاب تمامها ، فلا بدّ أن يعامل بين دليلها ومجموع أدلّة الأصول ، معاملة التّباين لا العامّ والخاصّ المطلقتين.

قلت : نعم ولكن مع ذلك يقدّم المجموع لنصوصيّته على دليله لظهوره ، ولو سلّم أنّه في غاية القوّة بالنّسبة إلى بعض ما يخرج عن تحته إجمالا من موارد الأصول. نعم لو لزم استيعاب التّمام وجب المعاملة بين مجموع الخصوصيّات والعام معاملة التّباين بلا كلام.

٥٨٣

__________________

هذا مع أنّه يمكن أن يكون المجهول والمشتبه في بعض اخبارها بمعنى المشكل كما في بعضها الآخر ، ومعه لا يكون العمل بأدلّة الأصول في مواردها تخصيصا لدليلها أصلا ، إذ لا مشكل معها فيها ، فيرتفع موضوعه لا حكمه.

لا يقال : هذا إنّما يكون لو علم بها قباله وهو أوّل الكلام.

لأنّا نقول : لا محيص عن ذلك لأن رفع اليد عنه معها لا يوجب خلاف أصل أصلا ، بخلاف رفع اليد عنها فانّه طرح دليل بلا وجه إلّا على نحو دائر كما لا يخفى.

إن قلت : وجه تقديم القرعة عليها أنّه يظهر من غير واحد من أخبارها أنّها إنّما اعتبرت لكونها مصيبة إلى الواقع كاشفة عنه ، فيكون حالها حال سائر الأمارات الّتي تقدّم على الأصول حكومة أو ورودا ، كما تقدّم تحقيقه.

قلت : انّ التعارض إنّما يكون بين أخبار القرعة وأخبارها ، ومفاد أخبارها ليس إلّا حكما تعبّديّا مجعولا للمشتبه كما هو بعينه مفاد أخبار الأصول ، فيكون قضيّة تصديق كلّ إلغاء حكم الآخر ، والخبر إذا كان مفاده جعل أمارة لا يكون هو بنفسه أمارة على حكم واقعيّ. نعم هو أمارة على حكم ظاهريّ كما هو شأن دليل كلّ أصل أيضا ، فلا تغفل.

هذا كلّه ، مع ما أشار اليه بقوله قدس‌سره : لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، وذلك لكثرة ما ورد عليها من التّخصيص.

إن قلت : كثرة التّخصيص إن لم يكن بمثابة تخصيص الأكثر المستهجن ، فهو ان لم يوجب قوّة الظّهور ، فلا يوجب وهنا فيه وإن كان بهذه المثابة ، فكيف يجبر بالعمل ، بل لا بدّ من الحمل والتنزيل على معنى لا يلزم منه ذلك كما لا يخفى.

قلت : نعم كثرة التّخصيص ما لم يكن بتلك المثابة وإن لم يكن بنفسها موجبا للوهن ، إلّا أنّه إذا تفصيلا بما خصّص بها بمقدار علم التخصيص به اجمالا ، وأمّا إذا لم يعلم ذلك المقدار ، فلا يجوز العمل بالعامّ بلا كلام إلّا إذا أحرز أنّ مورد العمل ليس من أطراف العلم الإجمالي

٥٨٤

الكلام في القرعة وشرح القول فيها

أقول : الكلام في القرعة : قد يقع في أنّها من الأمارات أو الأصول ، وقد يقع على تقدير كونها من الأصول في حكم تقابلها مع الاستصحاب وغيره من الأصول. وقد يقع في تشخيص موارد جريانها من حيث عمومها لكلّ مشكل ، أو اختصاصها بالمشتبه ، فلا يجري فيما إذا لم يكن هناك واقع مجهول ومن حيث اختصاصها بالشّبهة الموضوعيّة الصّرفة ، أو يعمّ كلّ مشتبه. وقبل الخوض في المطلب ينبغي الإشارة إلى ما يدلّ على مشروعيّة القرعة فنقول :

أمّا أصل مشروعيّة القرعة فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين ، بل إجماعهم عليه بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة ، ويكفي في القطع بتحقّق الإجماع ملاحظة الإجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشّيخين إلى زماننا هذا كما هو واضح لمن راجع إلى كلماتهم ، بل يمكن دعوى الضّرورة الفقهائيّة عليه ويدلّ عليه ـ قبل الإجماع ـ : الكتاب والسّنة.

أمّا الكتاب : فقد قال الله سبحانه في بيان أحوال يونس النّبي عليه‌السلام : فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١) أي : فقارع فصار من المغلوبين بالقرعة ، وأصل المدحض الزّلق.

__________________

بالتّخصيص وعمل الأصحاب أو معظمهم في مورد يوجب ذلك بلا ارتياب ، فلا يكون احتمال المخصّص بالنّسبة إليه إلّا احتمالا بدويّا ، فيكون أصالة العموم لا مانع عنها » انتهى.

أنظر درر الفوائد : ٤١١ ـ ٤١٣.

(١) الصافات : ١٤١.

٥٨٥

روي : أنّ يونس لمّا أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله فركب في السّفينة فوقف السّفينة ، فقالوا : هنا عبد أبق من مولاه فأقرعوا فخرجت القرعة على يونس فرموه ، ورمى بنفسه في الماء فالتقمه الحوت (١).

وقد ورد في بعض الأخبار احتجاج الإمام عليه‌السلام بالآية على مشروعيّة القرعة كما ستقف عليه. وقال سبحانه : وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ (٢).

وأمّا السّنّة : فقد بلغت حدّ التّواتر إلّا أنّا نذكر بعضها منها تيمّنا.

فمنها ما رواه الصّدوق في « الفقيه » ، والشّيخ في « التّهذيب » عن محمّد بن حكم (٣) قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن القرعة في أيّ شيء؟ فقال : كلّ مجهول ففيه : القرعة. فقلت له : أنّ القرعة تخطئ وتصيب. فقال : كلّ ما حكم الله تعالى به فليس بمخطىء (٤).

قال بعض من قارب عصرنا من الأفاضل بعد نقل الحديث : « أنّه يحتمل معنيين : أحدهما : أنّ حكم الله تعالى لا يخطىء في القرعة أبدا. الثّاني : أنّ ما خرج

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ / ١٣٦ ، مجمع البيان : ج ٨ / ٤٥٨ ، بحار الأنوار : ج ١٤ / ٤٠٣ باب قصّة يونس.

(٢) آل عمران : ٤٤.

(٣) كذا والصحيح : حكيم.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ / ٩٢ ـ ح ٣٣٨٩ ، التهذيب : ج ٦ / ٢٤٠ باب « البينتين يتقابلان أو يترجح بعضها على بعض وحكم القرعة » ـ ح ٢٤ ، عنهما الوسائل : ج ٢٧ / ٢٥٩ باب « الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة » ـ ح ١١.

٥٨٦

بالقرعة فهو حكم الله وإن أخطأت القرعة فإنّ الحكم ليس بخطأ ».

ومنها : مرسلة « الفقيه » : عن الصّادق عليه‌السلام فقال : ما تقارع قوم ففوّضوا أمرهم إلى الله تعالى إلّا ما خرج سهم الحقّ وقال : أيّ فقيه أعدل من القرعة إذا فوّض أمره إلى الله تعالى؟ أليس الله تعالى يقول ـ : فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ـ (١)؟

ومنها : ما رواه في « التّهذيب » صحيحا عن جميل قال : قال الطّيار لزرارة : « ما تقول في المساهمة أليس حقّا؟ قال زرارة : هل هي حقّ؟ فقال الطّيار : أليس قد ورد أنّه يخرج سهم الحقّ؟ قال بلى. قال : فقال : يقال : حتّى ادّعى أنا وأنت شيئا ثمّ تساهم عليه وينظر هكذا هو. فقال زرارة : إنّما جاء الحديث : بأنّه ليس قوم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى ثمّ أقرعوا إلّا ما خرج سهم الحقّ ، فأمّا على التّجارب فلم يوضع على التّجارب. فقال الطّيار : أرأيت إن كانا جميعا مدّعيين ادّعيا ما ليس لهما من أن يخرج سهم أحدهما. فقال زرارة : إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح ، فإن كانا ادّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح » (٢). إلى غير ذلك من الرّوايات.

__________________

(١) الصافات : ١٤١.

(٢) التهذيب : ج ٦ / ٢٣٨ باب « البينتين يتقابلان أو يترجح بعضها على بعض وحكم القرعة » ـ ح ٤ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ٢٥٧ باب « الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة » ـ ح ٤.

٥٨٧

الكلام في المقام الأوّل

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى التّكلم في المقامات الثّلاثة ، فنقول :

أمّا الكلام في المقام الأوّل فملخّصه : أنّه قد يقال ـ بل قيل ـ : إنّ القرعة من الأمارات الجليّة بمعنى : أنّ أماريّتها بجعل الشارع كالاستخارة ، فأماريّتها إنّما هي بملاحظة ما وصل من الشّارع في شأنها أنّ الله تبارك وتعالى بعد تفويض الأمر إليه يرشد العبد إلى الواقع ، لا ممّا يكون أماريّتها بالوجدان مع قطع النّظر عن الشّارع كأكثر الأمارات في الأحكام والموضوعات مستشهدا على ذلك بما ورد في القرعة من الأخبار ؛ فإنّ ظاهر أكثرها ـ كما لا يخفى على من أعطي حقّ النّظر فيها ـ يعطي هذا المعنى.

فالقرعة إذن مثل البيّنة في كونها من الأمارات ، لا مثل أصالة الطّهارة والحليّة ونحوهما من الأصول ؛ فإنّ تسميّة الشّيء دليلا وأمارة في الاصطلاح مبنيّة على كونه ناظرا إلى الواقع بالذّات أو بجعل الشارع ، مع كون الوجه في اعتباره جهة نظره إلى الواقع ، هذا بالنّسبة إلى ما كان له واقع مجهول للمكلّف لا إشكال فيه.

أمّا بالنّسبة إلى ما لا يتعيّن له واقع فربّما يتراءى في باديء النّظر عدم تصوّر الطّريقيّة الجليّة فيه من حيث عدم وجود واقع مجهول فيه بالفرض ؛ إلّا أنّه يمكن تصوّر الطّريقيّة فيه بعد التّأمّل أيضا ؛ فإنّه وإن لم يكن فيه واقع مجهول ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون هناك أمور أوجبت أحقّيّة أحد الطّرفين بالتّقديم بالنّسبة إلى

٥٨٨

الآخر وإن كانت ممّا لا ندركه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الأمارة في اصطلاح الأصوليّين ما كانت أماريّتها بالذّات مع قطع النّظر عن بيان الشارع وإحداثه القرب فيها فتأمّل. أو يقال :

الأولويّة في التّقديم لا تعلّق لها بالطّريقيّة ، أو يقال : بعدم حصول الظّن من القرعة ولو نوعا بعد ملاحظة ما ورد من الأخبار فيه ، وهو كما ترى. هذا كلّه على تقدير الاستناد في القرعة إلى الأخبار.

أمّا لو استند فيها إلى الإجماع ، فالظّاهر : أنّه لا إشكال في عدم دلالته على اعتبارها من باب الطّريقيّة فيلحق بما كان اعتباره من باب التّعبّد في الحكم كما هو قضيّة القاعدة فتأمّل.

ثمّ إنّه لا إشكال على تقدير كون اعتبار القرعة من باب التّعبّد وكونها من الأصول في عدم انتقاض الحصر الّذي أفاده ( دام ظلّه ) للأصول في أوّل « الكتاب » من جهتها لما عرفت الإشارة إليه ثمّة : من كون الحصر إضافيّا بالنّسبة إلى الأصول الحكميّة وإن جرت في الموضوعات في قبال ما يختصّ بالموضوع.

نعم ، في انتقاضه بأصالة الطّهارة وجه عرفته في الجزء الأوّل من التّعليقة (١). هذا مجمل الكلام في المقام الأوّل.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٣.

٥٨٩

الكلام في المقام الثالث

ولنقدّم الكلام في المقام الثّالث على الكلام في المقام الثّاني لتقدّمه عليه ببعض الاعتبارات ومجمل القول فيه : أنّه قد تكرّر في لسان ثاني الشّهيدين في « المسالك » (١) و « الرّوضة » (٢) القول باختصاص القرعة بما له تعيّن في الواقع مجهول في نظر المكلّف ، وقد استند فيه ظاهرا إلى ظهور الأخبار في ذلك حسبما هو ظاهر لكلّ من راجع إليها.

ولكنّ الّذي يقتضيه النّظر تبعا للأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) وبعض الأجلّة ممّن قارب عصرنا ثبوت الإجماع على عدم الفرق ؛ إذ المراد من عدم الخطأ في أخبار القرعة أعمّ من الإيصال إلى الواقع المجهول أو الّذي أحقّ بالتّقديم في نظر الشارع هذا. مضافا إلى أمر الإمام عليه‌السلام بالإقراع في كثير من الموارد الّتي ليس فيها واقع مجهول أصلا ، والظّاهر عدم التّفصيل.

وبالجملة : كلّ من راجع كلمات الأصحاب يعلم أنّه لا فرق في اعتبار القرعة بين الموردين وهو مقتضى بعض الأخبار العامّة أيضا ، ولا ينافيه اختصاص أكثر أخبارها بما له واقع مجهول ، ضرورة عدم مفهوم لها يعارض ما يقتضي بعموم اعتبارها هذا مجمل الكلام في تشخيص مجراها بالنّسبة إلى الموردين.

__________________

(١) مسالك الفهام : ج ١٠ / ٢٨٢.

(٢) الروضة البهية : ج ٣ / ٣٤١.

٥٩٠

بقي الكلام في تشخيص مجراها من حيث اختصاصها بالشّبهات الموضوعيّة الصّرفة ، أو شمولها لكلّ مشتبه سواء كان من الموضوعات الخارجيّة ، أو الموضوعات المستنبطة ، أو الأحكام الشّرعيّة.

لا إشكال بل لا خلاف في اختصاصها بالأولى ، بل الإجماع المحقّق على الإختصاص أيضا ، إلّا أنّ الكلام في أنّ خروجهما من جهة عدم شمول ٢٢٠ / ٣ الأخبار لهما بالذّات ، بمعنى خروجهما عنها بالذّات أو من جهة شمولها لهما وقيام الدّليل على تخصيصها بإخراجهما؟

ظاهر بعض من قارب عصرنا الأوّل ، إلّا أنّ الظّاهر من بعض أخبارها الثّاني كما لا يخفى على من راجع إليها.

نعم ، لو كان المدرك فيها الإجماع فقط صحّ القول بخروجهما موردا عنه ، بمعنى : عدم دليل لفظيّ يفيد العموم كما لا يخفى ، فليكن هذا على ذكر منك لينفعك فيما بعد هذا مجمل الكلام في المقام الثّالث.

الكلام في المقام الثاني

وأمّا الكلام في المقام الثّاني فمحصّل القول فيه :

أنّه إن قلنا بشمول الأخبار الواردة في القرعة للشّبهة الحكميّة والشّبهة في الموضوعات المستنبطة وكون خروجهما عنها من باب التّخصيص فلا إشكال في تقديم أخبار الاستصحاب على الأخبار الواردة في القرعة ، لأنّها أخصّ مطلقا بالنّسبة إليها كما لا يخفى ؛ فإنّ النّسبة بينهما بعد ملاحظة تخصيصها بالشّبهة الموضوعيّة بالإجماع وإن كانت أعمّ من وجه كما هو ظاهر ، إلّا أنّه لا معنى

٥٩١

لملاحظة النّسبة بينهما بعد التّخصيص بالإجماع بل لا بدّ من ملاحظتها قبله ؛ لأنّ عموم أخبار الاستصحاب أخصّ منها كالخاصّ الّذي يقتضي خروج الشّبهة الحكميّة عن تحت أخبار القرعة.

وأمّا ما قرع سمعك : من لزوم تقديم الأخصّ في تعارض الأزيد من الدّليلين وإن أوجب انقلاب النّسبة فإنّما هو فيما إذا لم يكن معارض العام خاصّا آخر يقضي بتخصيص العام ، كما إذا كان هناك أدلّة ثلثة متعارضة كانت النّسبة بين الدّليلين منهما الأعمّ من وجه مع كون الثّالث أخصّ من أحدهما ؛ فإنّه يقدّم الخاص وإن أوجب تقديمه انقلاب النّسبة لا في مثل المقام هذا.

وستقف على تفصيل القول فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الرّابع من التّعليقة. وبالجملة : لا إشكال في تقديم الاستصحاب على القرعة على هذا التّقدير.

وإن لم نقل بشمول أخبار القرعة لغير الشّبهة الموضوعيّة فقد يقال : بتقديم الاستصحاب أيضا لا من جهة كونه أخصّ مطلقا كيف! وإنّ النّسبة على هذا التّقدير العموم من وجه كما هو واضح ، بل من جهة حكومة أخبار الاستصحاب على أخبار القرعة ؛ حيث إنّ الاستصحاب وإن كان أصلا أيضا كالقرعة على ما هو قضيّة الفرض ، إلّا أنّ لأخبار الاستصحاب جهة الطّريقيّة أيضا من حيث كون لسانها البناء على بقاء المتيقّن وأنّه لم يرتفع ، ولذا يكون حاكما على أصالة الحلّية الشّرعيّة حسبما ستقف عليه ، مع كون كلّ منهما أصلا وحكما ظاهريّا في موضع الشّك ، هذا.

ولكن ذكر الأستاذ العلامة ( دام ظلّه ) : أنّ قياس أخبار القرعة بأخبار أصالة الحلّية ليس في محلّه جدّا ؛ لأنّ لأخبار القرعة أيضا جهة طريقيّة في قبالها كأخبار

٥٩٢

الاستصحاب فلا وجه إذن للحكم بحكومة الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك على أخبار القرعة ، فكلّ مورد حكم بجريان القرعة من جهة انجبار أخبارها بالعمل لا بدّ من الحكم بتعارضهما.

نعم ، أخبار القرعة لا يجري في أكثر موارد جريان الاستصحاب من جهة كون عموماتها من العمومات الموهونة بكثرة الخارج منها المحتاجة إلى الجبر بالعمل ، اللهمّ إلّا أن يرجّح أخبار الاستصحاب بورود أكثرها في الشّبهة الموضوعيّة ، فلا بدّ من العمل بها ؛ لعدم إمكان تخصيص المورد والتّفصيل يرفعه عدم الفصل في المسألة فتأمّل.

هذا كلّه فيما لو استند في اعتبار القرعة إلى الأخبار.

وأمّا لو استند فيه إلى الإجماع فلا إشكال في تقديم الاستصحاب عليه لا للتّعارض والتّرجيح ، بل من جهة عدم الدّليل على اعتبار القرعة في مقابل الاستصحاب على هذا التّقدير كما هو ظاهر.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الاستصحاب يخالف سائر الأصول بالنّسبة إلى مقابلتها مع القرعة ؛ فإنّ القرعة واردة على جميعها إن كان اعتبارها من باب العقل ؛ ضرورة ارتفاع موضوعها وهو عدم البيان مطلقا واحتمال العقاب والتّحرير بواسطة قيام القرعة وحاكمة عليها إذا كان اعتبارها من باب الشّرع ، إلّا أنّ التّمسّك بالقرعة في مواردها أيضا يحتاج إلى جبر عموماتها بعمل الأصحاب من جهة تطرّق الوهن بكثرة التّخصيص فيها ، وإلّا فالمتعيّن العمل بالأصول لسلامتها عن الوارد أو الحاكم هذا ما يقتضيه النّظر الدّقيق.

ولكن قد يتوهّم : خلاف ما ذكرنا وأنّ القرعة مورودة أو محكومة بالنّسبة

٥٩٣

إلى جميع الأصول ؛ لارتفاع الاشتباه والإشكال المأخوذين في موضوعها بقيام الأصول ، ولكنّك خبير بما فيه.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم : أنّ ما أفاده ( دام ظلّه ) : من إطلاق القول بأعميّة أخبار القرعة من أخبار الاستصحاب لا بدّ من أن يحمل على القول بعموم أخبار القرعة للشّبهة الحكميّة وإن خرجت عنها بالإجماع. وأمّا على القول باختصاصها بالشّبهة الموضوعيّة على ما عرفته فقد أسمعناك : كون النّسبة بينهما العموم من وجه.

نعم ، هنا وجه آخر أشرنا إليه للحكم بكونها كالخاص بالنّسبة إلى أخبار القرعة : من حيث اختصاص موارد الصّحاح من أخباره وغيرها ممّا كان له مورد بالشّبهة الموضوعيّة ، فلا يمكن حملها على الشّبهة الحكميّة. ومنه يعلم : أنّه لا بدّ من التّصرف في أخبار القرعة وإن كان مبناها على الظّن ؛ ضرورة استحالة تخصيص المورد كما هو ظاهر ، فلعلّ ما أفاده من الأعمّيّة بقول مطلق مبنيّ على هذه الملاحظة.

* * *

٥٩٤

المقام الثالث

تعارض الإستصحاب مع ما عداه

من الأصول العمليّة

٥٩٥
٥٩٦

المقام الثالث :

(٤٠٢) قوله ( دام ظلّه ) : ( في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الأصول ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٧ )

تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الأصول

أقول : لا يخفى عليك أنّ إطلاق القول بتأخّر أصالة البراءة عن غير الاستصحاب من الأصول على فرض اجتماعها معه ـ كما يجتمع مع الاستصحاب في الجملة ـ ممّا لا معنى له ، سيّما إذا جعلنا المدرك فيها الأخبار ، وقلنا : بأنّ ٢٢١ / ٣ مفادها إثبات الحلّيّة الظّاهريّة في مورد الشّك في الحكم الواقعي كما هو قضيّة قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) (١) وقوله : ( كلّ شيء [ هو ] لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه ) (٢) وغيرهما.

فإنّه لا إشكال في ورود أصالة البراءة على أصالة التّخيير على هذا الفرض

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٣١٧ ـ ح ٩٣٧ ، عنه الوسائل : ج ٦ / ٢٨٩ باب « جواز القنوت بغير العربية مع الضرورة وان يدعو الانسان بما شاء » ـ ح ٣.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب « النوادر » ـ ح ٤٠ ، والتهذيب : ج ٧ / ٢٢٦ باب « من الزيادات » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الانفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.

٥٩٧

وتعارضها مع أصالة الاشتغال لو كانت شرعيّة ، بمعنى : دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط في مورده بالوجوب الظّاهري الشّرعي لا الإرشادي النّاظر إلى حكم العقل به من باب دفع الضّرر المحتمل ؛ فإنّه لا إشكال في ورود ما عرفت : من أخبار البراءة عليه على تقدير اجتماع أصالة البراءة مع أصالة الاشتغال كما هو واضح.

نعم ، قضيّة التّحقيق عندنا ، عدم اجتماعهما موردا ؛ لأنّ مجرى الاشتغال عندنا هو ما إذا ثبت التّكليف بالبيان المعتبر بمعنى تنجّز الخطاب بالواقع المجهول ولم يكن ثمّة قدر متيقّن كما في الأقلّ والأكثر ومورد البراءة ما لم يكن كذلك. وأمّا القول : بأنّ مراده ( دام ظلّه ) من عدم التّعارض أعمّ من أن يكون من جهة عدم الاجتماع الموردي.

ففيه : ما لا يخفى على المتدبّر الفطن ، [ فافهم ](١).

ثمّ إنّ الكلام في تعارض الاستصحاب : قد يقع في تعارضه مع غيره من الأصول العمليّة ، وقد يقع في تعارضه مع نفسه ، بمعنى : تعارض فردين منه. والمراد بالتّعارض : أعمّ من التّعارض الحقيقي ؛ ضرورة خروج الورود والحكومة من أقسام التّعارض كما هو واضح. مضافا إلى ما ستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله ولمّا كانت الأصول منحصرة عند الأستاذ العلّامة في الأربعة فلا محالة انحصر التّكلّم في ثلاث مقامات :

__________________

(١) أثبتناه من الحاشية القديمة ـ البحر القديم ـ ٥٢٤.

وبه تنتهي النسخة المخطوطة من الحاشية الصغيرة ـ على لسان بعض ـ أو البحر القديم بتعبيرنا ، المصوّرة من مكتبة الفاضلي بخوانسار ، والحمد لله ربّ العالمين.

٥٩٨

تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة

الأوّل : في حكم تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة :

فنقول : إنّه لا ريب في وروده عليها وإن كان مدركها العقل ؛ ضرورة إناطة حكم العقل بالبراءة بعدم وصول البيان من الشّارع للحكم ولو في مرحلة الظّاهر والجهل وعدم العلم بجميع مراتب الحكم من غير فرق بين الحكم الواقعي والظّاهري ، لانقطاع عذر المكلّف بكلّ منهما هذا. مضافا إلى ما عرفت مرارا وستعرفه : من عدم إمكان التّعارض والتخصيص ، بل الحكومة بالنّسبة إلى القضايا العقليّة.

نعم ، هنا فرض يحكم فيه بحكومة البراءة ولو كان مدركها العقل على الاستصحاب ولو كان مبناه على الظّن فضلا عن التّعبّد قد أشرنا إليه في الجزء الثّاني من التّعليقة عند الكلام في مسألة الأقلّ والأكثر (١) ؛ فإنّا قد حكمنا فيه بتقديم أصالة البراءة عن الأكثر على استصحاب بقاء التّكليف والشّغل على تقدير الإتيان بالأقلّ على تقدير تسليم جريانه في قبال من تمسّك به للقول بالاشتغال في المسألة ؛ من حيث إنّ نفي التّكليف بالأكثر من أوّل الأمر قبل الإتيان بالبراءة في حكم تعيين المكلّف به من أوّل الأمر فلا تردّد فيه حتّى يجري فيه الاستصحاب.

لكنّه كما ترى ، خارج عن مفروض البحث ؛ من حيث عدم اجتماعهما في

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ١٥٧.

٥٩٩

موضوع واحد هذا بالنّسبة إلى استصحاب التّكليف المنافي لمقتضى البراءة المبحوث عنه في المقام وأمّا استصحاب الحكم الغير الإلزامي المطابق لمقتضى البراءة فهو أيضا وارد عليها من حيث استلزامه للقطع بعدم العقاب من غير نظر إلى قاعدة قبح العقاب من غير بيان ؛ فإنّ الحاكم باستلزام ترخيص الشّارع لعدم العقاب وإن كان هو العقل ، إلّا أنّه ليس بالملاحظة المذكورة ، بل من جهة العلّة الّتي لا يفرّق فيها بين موارد الأصول المرخّصة والأمارات الشّرعيّة القائمة على الحكم الغير الإلزامي.

كما أنّه لا إشكال في وروده عليها أيضا إذا كان مدركها الشرع واستند فيها إلى ما يكون مساقه مساق حكم العقل بها من حيث سوقه لبيان تأكيد حكم العقل ، وأنّ الشّارع لا يؤاخذ على ما كان مجهولا بقول مطلق كحديث الرّفع ونحوه من أخبار البراءة.

وأمّا إذ استند فيها إلى ما يفيد بظاهره إنشاء الحكم الظّاهري من الشّارع بالإباحة والتّرخيص من غير نظر إلى نفي المؤاخذة والإخبار عنه ، وإن استلزمه بحكم العقل على ما هو الشّأن بالنّسبة إلى مطلق الحكم الظّاهري على ما عرفته ، فإن كان الموضوع فيه التّكليف الغير المعلوم ـ ولو في مرحلة الظّاهر ـ فلا إشكال في ورود الاستصحاب عليها أيضا ؛ ضرورة حصول العلم منه بالتّكليف في مرحلة الظّاهر ، وإن كان الموضوع فيه عدم العلم بحكم الشّيء بعنوانه الأوّلي ومن حيث هو هو كما هو المستظهر من قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) (١) ( وكلّ

__________________

(١) الفقيه : ١ / ٣١٧ ـ ح ٩٣٧ ، عنه الوسائل : ج ٦ / ٢٨٩ باب « جواز القنوت بغير العربيّة مع الضرورة ... » ـ ح ٣.

٦٠٠