بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

في أن تقديريّة الوجود لا تمنع عن جريان الاستصحاب أصلا

ولكن الحقّ عدم الفرق بين القسمين من الاستصحاب ، وأن تقديريّة الوجود لا يؤثّر فرقا أصلا على ما عليه الأستاذ العلّامة أيضا.

أمّا أوّلا : فلأنّه إن أريد ممّا ذكره في بيان المنع : أنّ الوجود التّعليقي ليس قسما من الوجود ، بل هو داخل في العدم وإنّما له شأنيّة الوجود ، أو واسطة بين الوجود والعدم. (١)

ففيه : ما لا يخفى ؛ ضرورة أنّ الوجود على تقدير أيضا قسم من الوجود في مقابل العدم المطلق ، ولا تجمع معه بل هما متناقضان.

نعم ، يجامعه العدم على تقدير ، ولذا بنينا تبعا للمحقّقين ـ في قبال من توهّم عدم اجتماع التّعليق مع الإنشاء عقلا فيجعل التّنجيز شرطا عقليّا في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات ـ على عدم كون التّنجيز شرطا عقليّا ؛ إذ الإنشاء على تقدير قسم من الإنشاء يساعده العرف والعقلاء بحيث لا مجال لإنكاره ، فكيف يمكن القول بعدم اجتماع التّعليق مع الإنشاء؟

ولعلّ المتوهّم توهّم : أنّ التّعليق في الإنشاء يرجع إلى ترديد المنشيء في أصل الإنشاء فلا يمكن أن يصدر منه الإنشاء.

وأنت خبير بفساد هذا التّوهّم وأنّ التّعليق يرجع إلى المنشأ لا الإنشاء كما أفسدنا ؛ لما عرفت أيضا توهّم من ذهب إلى : أنّ الواجب المشروط عار عن الطّلب ، وأن الطّلب يتحقّق بعد وجود الشّرط ؛ لأنّ الطّلب على بعض التّقادير أمر موجود فعلا وإن لم يوجد التّقدير أصلا ، كما يشهد به الوجدان والعيان ؛ ضرورة عدم توقّف صدق الشّرطيّة على صدق الشّرط.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٨١

وبالجملة : القول : بأنّ الوجود التّقديري ليس له حظّ من الوجود وإنّما هو من العدم المحض ممّا لا يحتاج فساده إلى إقامة برهان وترتيب قياس لأنّه ممّا يشهد به الضّرورة.

وإن أراد ممّا ذكره مع تسليم كون الوجود التّقديري أيضا نحوا من الوجود أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب الوجود التّنجيزي ، ولا يكفي فيه الوجود التّعليقي.

ففيه : أنّه لا شاهد لهذه الدّعوى أصلا ، بل الدّليل على خلافها ؛ فإنّه بعد تسليم : أنّ الوجود التّقديري أيضا نحو من الوجود ؛ نظرا إلى أنّ اختلاف الوجودات وتعدّدها ـ من حيث إنّ وجود كلّ شيء بحسبه ـ لا يمنع مانع من الحكم ببقائه في زمان الشّك في ارتفاعه والالتزام بمقتضاه ؛ فإنّه لا فرق في هذا اللّحاظ بينه وبين الوجود التّنجيزي أصلا ، فيشمله أخبار الباب ودليل العقل أيضا بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب العقل ؛ إذ لا يعقل الفرق على تقديره أيضا بين أنحاء الوجود كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّا نسلّم كون المعتبر في جريان الاستصحاب هو الوجود التّنجيزي وأنّه لا يكفي الوجود التّعليقي ، إلّا أنّا نقول : إنّ في جميع موارد الاستصحابات التّعليقيّة يكون موجود منجّز يجري الاستصحاب فيه ويكفي عن إجرائه في الموجود التّعليقي.

توضيح ذلك : أنّه إذا قال الشارع العنب يحرم ماؤه إذا غلى يكون هناك ثلاثة أشياء : لازم ـ وهو حرمة ماء العنب على تقدير الغليان ـ وملزوم ، وملازمة الّتي تعبّر عنها بسببيّة الغليان للتّحريم.

أمّا اللّازم : فقد عرفت : أنّ له وجود تقديري يمكن إجراء الاستصحاب فيه

٨٢

إذا شكّ في ارتفاعه.

وأمّا الملازمة (١) : فهي أمر موجود متحقّق لا حظّ للتّعليق والتّقدير فيها أصلا ؛ لأنّ مرجعها إلى الشّرطيّة الّتي تصدق مع صدق الشّرط وكذبه.

ومن المعلوم أنّ المنتج فيها بعد فرض صدق الشّرط هو صدق المشروط والتّالي أيضا ، فإذا أثبتنا وجودها بالاستصحاب في الزّمان الثّاني وفرضنا صدق الملزوم ، يلزمه الحكم بثبوت اللّازم أيضا.

هذا ملخّص ما ذكره الأستاذ العلّامة في إثبات عدم الفرق في اعتبار الاستصحاب بين التّعليقي منه والتّنجيزي ، وإن كان بإجراءه في موارد الاستصحاب التّعليقي فيما يفيد فائدته كالملازمة الّتي بين المقدّم والتّالي هذا.

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان الشك إنّما هو في عموم الملازمة لهذه الصورة لا في بقاءها بعد حدوثها ، فما علمنا بتحقّقها سابقا نعلم ببقاءها ولا نحتاج في إبقاءها إلى الإستصحاب ولكن الشك في تحقّق الملزوم لدوران الأمر بين أن يكون هو العنب بهذا الوصف وبين أن يكون هو الأعم من الرطب واليابس ، فالشك في الحدوث حتى بالنسبة إلى الوجود التقديري.

ومن الغريب انه [ أي الأستاذ الأنصاري ] قال :

( فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان ... إلى قوله : في بقاءها بعد صيرورته زبيبا ). [ فرائد : ٣ / ٢٢٣ ]

وفيه : ان هذا إنّما يدل على ان الشك في غير محلّه وأنّ الذي يدلّ على شمول سائر الأحكام الثابتة للعنب للزبيب أيضا يدلّ على عموم هذا الحكم والمستند ليس هو الإستصحاب ، وإنّما المناط هو استفادة أنّ وصف العنبيّة لا مدخل له في الأحكام ولو وقع الشك لم يجر الإستصحاب بالنسبة إلى سائر الأحكام أيضا ؛ فإنّه إسراء لا إبقاء » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٠.

٨٣

ولكن قد يناقش فيما أفاده ( دام ظلّه ) على كلّ من التّقديرين اللّذين ذكرهما ويورد عليه بإيرادين وإشكالين بل على الثّاني بإشكالات :

أمّا على الأوّل :

فأمّا أوّلا : فبأنّ مرجع الشّك في بقاء اللّازم دائما إلى الشّك في بقاء الموضوع ، وإلّا لم يكن معنى للشّك في بقائه ، إلّا من جهة الشّك في ارتفاع الملازمة بالنّسخ وهو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى. ومنه المثال المشهور المتقدّم ذكره ؛ فإنّ الشّك في بقاء الحرمة فيما صار العنب زبيبا إنّما هو من جهة الشّك في مدخليّة وصف العنبيّة في الحكم المذكور ، وإلّا لم يكن هنا شكّ في الحرمة.

وأمّا ثانيا : فبمعارضة الاستصحاب التّعليقي باستصحاب ضدّ المستصحب الّذي كان منتفيا قبل حصول المعلّق عليه كاستصحاب الإباحة قبل الغليان في المثال المذكور (١) ، بل ترجيح الثّاني في بعض الأمثلة كما في المثال المذكور بالشّهرة والعمومات هذا.

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« قد تبيّن انّ مرجع الوجوه إلى وجه واحد وليس كما زعمه [ الأستاذ ] : من أنّها وجوه متعدّدة ، كما أنّه ظهر فساد ما اعترض به عليها ؛ فإنه حيث ما يقع الشك في مدخليّة وصف العنبيّة في الحكم ولم يعلم انّ الموضوع أعمّ يتوقّف ولم يفرّق أحد بين هذا الحكم التقديري وسائر الأحكام الفعليّة ولا معنى للحكومة ؛ فإن مقصود المستدل ان الشك في الموضوع فلا ترجيح لإستصحاب الحرمة الثابتة في حال الرطوبة على استصحاب الإباحة وإلّا فعلى تقدير كون الشك في الرّافع بعد العلم بالحدوث فلا إشكال في حكومة الأصل السببي فتفطّن » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦١.

٨٤

في الذّبّ عن الإيرادين الّذين أوردا على التقدير الأوّل

ولكن يمكن الذّب عنهما :

أمّا عن الأوّل : فبالمنع من رجوع الشّك في بقاء اللّازم دائما إلى الشّك في بقاء الموضوع ؛ إذ كثيرا ما يشكّ في بقائه من جهة الشّك في حدوث ما يرفعه ، أو رافعيّة ما حدث في الخارج مع القطع ببقاء الموضوع ، كما في الأحكام التّنجيزيّة ؛ إذ الدّليل الدّال على ثبوت اللّازم للملزوم لا يلزم أن يكون مطلقا حتّى يرجع إلى إطلاقه بالنّسبة إلى المشكوك ، مع أنّه لو سلّم رجوع الشّك في بقاء اللّازم دائما إلى الشّك في بقاء الموضوع فإنّما هو بالنّظر إلى الدّقة العقليّة ، وليس إحراز الموضوع في باب الاستصحاب مبنيّا عليها عند المشهور.

فإذا أريد استصحاب صحّة منجّزات المريض وعدم تزلزلها وتوقيفها على إجازة الورثة باستصحاب الصّحة الثّابتة في حال الصّحة ، لم يكن لمانع المنع من التّمسّك بالاستصحاب المذكور من جهة تبدّل الموضوع ، وأنّ الصّحيح غير المريض ؛ فإنّه وإن كان غيره بالدّقة العقليّة ، إلّا أنّ أهل العرف لا ينظرون إلى هذا التّغيير ، ويجعلون الموضوع في الحكم الأعم من الصّحيح والمريض ويحكمون بأنّ الالتزام بصحّة معاملة المريض إبقاء للحكم وعدمه نقض له.

نعم ، لا إشكال في عدم حكمهم باتّحاد الموضوع في بعض المقامات كما قد يدّعى في المثال المقدّم ذكره في مسألة العنب ، لكنّه لا ينفع الخصم أصلا ؛ إذ مثله قد يوجد في الأحكام التّنجيزيّة أيضا كما بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة فعلا على ماء العنب في المثال المذكور.

٨٥

وبالجملة : لا فرق في باب الاستصحاب بين الأحكام التّنجيزيّة المترتّبة على الموضوع ، والأحكام التّعليقيّة المترتّبة عليه ، فإن كان تغيّر الموضوع في الآن الثّاني مانعا عن التّمسّك بالاستصحاب ، فلا فرق بينهما ، وإلّا فلا فرق أيضا.

والقول : بأنّ الشّك في استصحاب الحكم التّعليقي مسبّب دائما عن الشّك في بقاء الموضوع دون الحكم التّنجيزي كما ترى ، مع أنّ لنا أن نستصحب الموضوع في بعض المقامات كاستصحاب حياة العبد الغائب في يوم العيد في الحكم بوجوب فطرته على المولى ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه خروج عن الفرض ؛ حيث إنّه ليس من الاستصحاب التّعليقي في شيء هذا كله.

مضافا إلى أنّه لو سلّم جميع ما ذكر لم يكن له دخل بمطلب الخصم ؛ فإنّ المانع عنده نفس التّعليق من حيث عدم صدق الوجود المحقّق معه ، وأين هذا من رجوع الشّك في بقاء الحكم المعلّق إلى الشّك في بقاء الموضوع دائما؟

هذا محصّل ما استفدنا من كلام الأستاذ العلّامة في الذّب عن الإيراد الأوّل. وهو كما ترى ، لا يخلو عن بعض المناقشات والله العالم.

وأمّا عن الثّاني : فبأنّه لا معنى للمعارضة المذكورة ؛ إذ الأصل في الحكم المعلّق حاكم على الأصل في ضدّه ، فكيف يعارض معه؟ إذ الشّك في ثبوت ضدّه وعدمه مسبّب عن الشّك في بقائه هذا. مع أنّه لا معنى للتّرجيح بالشّهرة على تقدير عدم التّسبّب ؛ إذ لا معنى للرّجوع إلى المرجّحات في تعارض الأصول.

وأمّا التّرجيح بالعمومات فيرد عليه ـ مضافا إلى ما عرفت في التّرجيح بالشّهرة ـ : أنّ المراد بالعمومات إن كان هي العمومات الاجتهاديّة على أبعد الاحتمالين.

٨٦

ففيه : أنّه على فرض وجود مثل هذا العموم لا معنى للرّجوع إلى الاستصحاب ؛ فإنّ مجاري الأصول مختصّة بما إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي.

وإن كان المراد بها عمومات الحليّة والبراءة.

ففيه : أنّه على فرض القول بالتّرجيح في تعارض الأصول وجعل موافقة العموم من المرجّحات لا معنى للتّرجيح بهذا النّحو من العموم ؛ لأنّه ليس في مرتبة المتعارضين حتّى يرجّح أحدهما به ؛ فإنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الحليّة ، كما أنّ الدّليل الاجتهادي حاكم عليه ، فالتّحقيق في تعارض الأصلين بعد فرض اتّحاد مرتبتهما : هو الحكم بتساقطهما والرّجوع إلى غيرهما من الأصول الّتي لم يرجع إليها على تقدير عدم ابتلاء أحد الأصلين بالآخر وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله. هذا مجمل القول فما يرد على التّقرير الأوّل وما يذبّ عنه.

وأمّا ما يرد على التّقرير الثّاني فوجوه :

الأوّل : أنّه لا فائدة في استصحاب الملازمة والسّببيّة لإثبات اللّازم في زمان الشّك ولا يفيد فائدة استصحاب نفسه ، إلّا على تقدير القول باعتبار الأصول المثبتة الممنوع عندنا ؛ لأنّ ملازمة بقاء الملازمة مع صدق الملزوم صدق اللّازم عقليّة لا شرعيّة ، فإثبات صدق اللّازم باستصحاب الملازمة عين ما أنكره الأستاذ العلّامة غير مرّة على المتمسكين بالاستصحاب في أمثال المقام.

الثّاني : أنّه لا معنى لاستصحاب الملازمة ؛ لأنّ المراد بها العليّة التّامّة وهي غير قابلة لوقوع الشّك فيها ، فكلّما يقع الشّك ، فلا بدّ من أن يكون من جهة الشّك في بقاء الموضوع.

٨٧

الثّالث : أنّ الملازمة بالبيان الّذي ذكره ( دام ظلّه ) اعتباريّة محضة لا يمكن أن تصير موردا للاستصحاب بنفسها على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ أدلّة الأقوال هذا.

وأجاب الأستاذ العلامة :

عن الوجه الأوّل : بأنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما لو كان أصل الملازمة عقليّة ، وأمّا إذا كانت شرعيّة فلا ؛ إذ اقتضاء صدق الملزوم لصدق اللّازم حينئذ شرعيّ لا عقليّ حتّى لا يمكن إثباته بعد إثبات الملازمة بالأصل.

وعن الثّاني : ببعض ما عرفت من الوجوه في التّفصّي عن الإيراد الأوّل على التّقرير الأوّل.

وعن الثّالث : بأنّ المراد من السّببيّة هي تأثير المقدّم في التّالي ، لا المعنى المعروف الّذي وقع الكلام في جعله في قبال الحكم التّكليفي. وهذا المعنى وإن كان أمرا واقعيّا كشف عنه الشارع إلّا أنّه قابل للاستصحاب فتأمّل هذا.

وقد يدّعي من لا خبرة له في قبال القائلين بحجيّة الاستصحاب التّعليقي : أنّ الوجود التّعليقي وإن كان نحوا من الوجود ، إلّا أنّ أخبار الاستصحاب منصرفة إلى الوجود التّنجيزي ولا يشمل الوجود التّعليقي ، وأنت خبير بما فيه.

٨٨

* التنبيه الخامس

__________________

(١) قال المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« ان نسخ الشريعة لا يمنع من استصحاب عدم نسخ ما لم يعلم بنسخه من أحكامه ؛ فإنّ نسخ الشرع عبارة عن نسخ النبوّة فإنه حيث استقلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشريعة يتجدّد الدين ، حيث انه قادر على النسخ والتقرير.

والحاصل : انّ تبدّل الطريقة إنّما هو باعتبار تبدّل من يضاف إليه ، فاستقلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدين عبارة أخرى عن تبدّل الشريعة وإن اتّفقت موافقتها للشرع المنسوخ في بعض الأحكام.

فاندفع ما يتوهّم : من ان الدين والشرع إنّما يصدق نسخه حيث نسخ جميع الأحكام فإن بعض الأحكام ليس إلّا بعض الشريعة ولا يصدق نسخ الشريعة بنسخه.

وأضعف من هذا التوهّم : أنّ الحكم الثابت لجماعة غير ما يثبت لآخرين فإن النسبة تتعدّد الأطراف.

ومن المعلوم ان المكلّف أحد أطراف الحكم التكليفي وهذا هو السّر في الحاجة إلى التشبّث بدليل الإشتراك في الشك في شمول الحكم للغائبين والمعدومين وإلّا لكفى في ذلك دليل الحكم.

ويندفع : بان المكلّف إنّما يوجب تعدده بتعدّد الحكم حيث كان التعدّد في العنوان الكلّي ، وأمّا التعدّد الشخصي فلا يوجب تعدّد الحكم ؛ فإنّه إنّما يتعلّق بالكلّي لا بالأشخاص ولا حاجة إلى دليل الإشتراك ، إلّا لإحراز عموم المكلّف لقصور دليل الحكم إذا كان على سبيل المخاطبة لجماعة مخصوصين عن ذلك كما في بعض الأخبار.

وحيث احتمل اختصاص المخاطب بالحكم لخصوصيّة فيه منتفية في غيره فلا مجال للحكم بالإشتراك والتسرية ، إلّا إذا كان الإحتمال مندفعا بأصل من الأصول.

٨٩

استصحاب أحكام الشرائع السابقة

(٢٤١) قوله : ( وفيه أوّلا : أنّا نفرض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٥ )

الجواب عن هذا المانع يرجع إلى وجوه

أقول : حاصل ما ذكره دام ظلّه في الجواب عن هذا المانع يرجع إلى وجوه :

الأوّل : أنّ ما ذكره على فرض تماميّته إنّما يمنع عن اعتبار الاستصحاب في حقّ من لم يدرك الشّريعتين ، وأمّا في حقّ من أدركهما فلا ، كما لا يخفى. وبه ينتقض كلّيّة الكبرى المدّعاة للخصم حسب ما هو قضيّة ظاهر كلامه.

ولكن قد يقال : إنّ المدّعى منع اعتبار الاستصحاب فيمن لم يدرك الشّريعتين لا الأعمّ منه وممّن أدركهما ـ على ما يفصح عنه دليله ـ إذ اعتبار الاستصحاب في حقّ من أدرك الشّريعتين لا ثمرة له بالنّسبة إلينا أصلا ، وتتميم المدّعى فيمن لم يدرك بضميمة أدلّة الاشتراك ـ حيث إنّ مفادها غير مختصّ بالحكم الواقعي ، بل يشمل جميع الأحكام من الواقعيّة ، والظّاهريّة ، والفروعيّة ، والأصوليّة ، أو بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ـ فيه ما سيجيء من التّأمّل فيه فتأمّل.

٩٠

الثّاني : النّقض باستصحاب عدم النّسخ في شريعتنا ؛ فإنّه لو كان مجرّد تعدّد الأشخاص مانعا لمنع من جريان استصحاب عدم النّسخ في شريعتنا أيضا ؛ إذ استصحاب عدم النّسخ ليس مختصّا بمن كان موجودا في زمان ورود الحكم ومكلّفا به ثمّ يشكّ في نسخ الحكم وارتفاعه ، بل يجري في حقّ من كان معدوما في ذلك الزّمان ويشكّ في نسخ بعض الأحكام في أوّل أزمنة تكليفه ، اللهمّ إلّا أن يلتزم الخصم في هذه الصّورة بعدم جريان الاستصحاب وهو كما ترى.

الثّالث : أنّ المستصحب ليس هو الحكم الشّخصي المتعلّق بمكلّف خاصّ حتّى لا يكون قابلا للبقاء بعد فرض انعدامه من حيث استحالة بقاء المحمول من حيث هو محمول وعروض مع فرض انتفاء موضوعه ومعروضه ، وإنّما هو سنخ الحكم ونوعه ؛ من حيث وقوع الشّك في ارتفاعه في أصل الشّريعة بحيث لو فرض وجود جميع المكلّفين لم يكن أحد مكلّفا به ، وبقائه بحيث لو فرض وجود جميعهم فعلا بشرائط التّكليف لم يبق أحد لم يكلّف به (١).

ومن المعلوم أنّ تعلّقه سابقا بأشخاص معيّنين مع كون فرض الشّك في ارتفاع نوعه مع القطع باشتراك الكلّ فيه على تقدير بقائه في الشّريعة بحيث لا يحتمل اختصاص أحد به لا يمنع من جريان الاستصحاب فيه في هذا الفرض.

فما يجري فيه الاستصحاب لا يجري فيه أدلّة الاشتراك ؛ إذ المفروض القطع بثبوت الاشتراك على تقدير ثبوت الحكم وعدم مدخليّة خصوصيّة أحد فيه ،

__________________

(١) قال المحقق الإصفهاني قدس‌سره :

« حقيقة الحكم أمر تعلّقي بذاته ، فلا يعقل ثبوت سنخ الحكم ونوعه ثم تعلّقه بمن يستجمع شرائط التكليف فيما بعد ». أنظر نهاية الدراية : ج ٥ / ١٨٥.

٩١

وما يجري فيه أدلّة الاشتراك لا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّ التّعدّي عن مكلّف إلى غيره مع اختصاص الحكم والإنشاء به ظاهرا لا يمكن أن يستند إلى الاستصحاب ، بل لا بدّ له من دليل آخر : من ضرورة أو إجماع أو غيرهما من الأدلّة.

فإن قلت : التّكليف أمر نسبيّ إضافيّ له نسبة إلى المكلّف ـ بالكسر ـ ونسبة إلى المكلّف ـ بالفتح ـ ونسبة إلى المكلّف به ، ومن المعلوم استحالة تحقّق الأمر النّسبي بدون المنتسب إليه ؛ لأنّه قضيّة الإضافة والنّسبة ، فكما أنّه لا يعقل وجود للحكم بدون الحاكم ، كذلك لا يعقل له وجود بدون المحكوم ، فإذن نقول : تحقّق الحكم سابقا بدون تعلّقه بمكلّف أمر مستحيل عقلا ، فإذا فرض انعدام من كلّف بالحكم سابقا ، فكيف يستصحب في حقّ من يشكّ في كونه مكلّفا بتكليفه؟ وإن هو إلّا إجراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر الّذي لا يصدق معه الاستصحاب قطعا ، بل يكون من القياس الّذي اتّفقوا على حرمة العمل به. فالقول : بأنّ المستصحب هو الحكم الكلّي بعد فرض كونه نسبيّا ممّا لا يكون له معنى محصّل ؛ إذ الكلّي في ضمن الفرد عين الفرد.

قلت : التّكليف وإن كان أمرا نسبيّا إضافيّا ، إلّا أنّ المفروض كون إنشاء الحكم في السّابق على نحو يعلم عدم مدخليّة مكلّف خاصّ فيه ، فلو فرض عدم تكليف شخص به فليس من جهة قصور في الحكم ، بل من جهة اجتماع شرائط التّكليف فيه بحيث لو فرض اجتماعه لشرائط التّكليف كلّف به قطعا.

غاية الأمر : أنّه لمّا لم يوجد بعض المكلّفين في السّابق لم يتعلّق به الحكم ـ من جهة عدم قابليّة المحلّ لا من جهة قصور الحكم وعدم قابليّته ـ وتعلّق بمن كان قابلا ، فإذا شكّ في ارتفاع هذا المعنى فيحكم بمقتضى الاستصحاب ببقائه

٩٢

وفعليّته بالنّسبة إلى جميع من كان جامعا لشرائط التّكليف وإن لم يكن موجودا في السّابق ، فحديث كون التّكليف إضافيّا لا دخل له بالمقام ؛ إذ الكلام ليس مبنيّا على إنكاره ولا منافيا له.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته إنّما يجري فيما لم نقل باشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، وإلّا ـ كما هو الحقّ المحقّق عند جميع الأصحاب على ما ينادي كلمتهم به بأعلى صوتها ـ فلا ؛ إذ الحكم كان متعلّقا سابقا بأمّة عيسى عليه‌السلام وإجرائه في حقّ أمّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثبات للحكم في غير موضوعه.

قلت : العنوان المذكور ليس أمرا ثابتا في الواقع تعلّق الحكم بالمكلّفين بملاحظته ـ حتّى يقال بانتفائه عند انتفائه سواء كان في حقّ من أدرك الشّريعتين أو لم يدركهما ـ بل هو أمر انتزاعيّ من وجوب إطاعة نبيّ خاصّ فيما جاء به من الأحكام ، فهو أمر متأخّر عن الحكم منتزع عنه ، فكيف يمكن أن يؤخذ في موضوعه؟

فإن قلت : إنّ ما ذكرته على فرض صحّته إنّما يجري فيما إذا كان الشّك في النّسخ ليس إلّا ؛ إذ ما ذكرته من الوجه لجريان الاستصحاب في أحكام الشّريعة السّابقة لا يجري إلّا فيه ، وأمّا إذا كانت القضيّة الدّالة على الحكم في حقهم مهملة محتملة لمدخليّة بعض أوصافهم في موضوع الحكم الغير المعلوم وجودها في حقّنا فلا معنى لجريان الاستصحاب ؛ لرجوع الشّك حينئذ إلى الشّك في بقاء الموضوع الّذي لا يجري معه الاستصحاب عند المحقّقين ، بل عند الكلّ. فإذن يختصّ الاستصحاب بما إذا كان الدّليل الدّال على الحكم مطلقا بحيث يشمل جميع الأزمنة لتحقّق الشّك في النّسخ ، ومعه لا يحتاج إلى الاستصحاب ، بل

٩٣

لا يجري الاستصحاب. فإذا لم يعلم أنّ الدّليل الدّال على الحكم كان مهملا أو مطلقا ، فلا بدّ من الحكم بعدم جريان الاستصحاب مطلقا وهو المطلوب.

قلت : أمّا أوّلا : فلأن المعتبر في تحقّق النّسخ ظهور الحكم في الاستمرار أوّلا وإن لم يكن معتبرا في نفسه ـ على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا السّابقة ـ فلا يلزم أن يكون في مورد الشّك في النّسخ ظهور معتبر حتّى لا يجري معه الاستصحاب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إطلاق القول : بأنّه لا يمكن إحراز الشّك في بقاء الحكم وارتفاعه بالنّسبة إلى الشريعة السّابقة أصلا ؛ لاحتمال مدخليّة بعض أوصاف أهل الشّريعة فيه ممّا لا معنى له كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فبأنّ إطلاق القول : بعدم اعتبار الاستصحاب فيما إذا كانت القضيّة مهملة فاسد جدّا. وإنّما يصحّ المنع من اعتبار الاستصحاب على التّقدير المذكور على القول بلزوم إحراز الموضوع بالدّقّة العقليّة ، وأمّا بناء على المشهور : من كفاية إحرازه ولو بالمسامحة العرفيّة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه على التّقدير المذكور كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أن ما ذكره بعض أفاضل من تأخّر من المانع لا توجّه له أصلا.

٩٤

ما ذكره الفصول في تسرية الاحكام الثابتة للحاضرين

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما شبه به المقام وقاسه به بقوله : ( ولذا يتمسّك به في تسرية الأحكام الثّابتة للحاضرين ... إلى آخره ) (١).

فنقول : أمّا ما ذكره من عدم جواز استصحاب الحكم الثّابت للحاضرين في حقّ الغائبين فحسن متين لا شبهة فيه أصلا ، مع الغضّ عن رجوعه إلى إثبات حكم موضوع إلى موضوع آخر ؛ ضرورة اعتبار اختلاف الزّمان في الاستصحاب ، فلا يمكن توهّم جريان الاستصحاب فيه أصلا ، وهذا بخلاف المقام فاقتباس حكم المقام منه قياسا عليه في غير محلّه ، كما أن التّقريب به في غير محلّه أيضا ، فذكره في المقام لعلّه سهو من قلمه الشّريف ( قدّس الله نفسه الزّكية ).

وأمّا ما ذكره في عدم جواز استصحاب الحكم الثّابت للموجودين في حقّ المعدومين.

فإن فرض الشّك فيه من حيث الشّك في بقاء نوع الحكم وارتفاعه من حيث النّسخ بحيث يعلم عدم مدخليّة خصوصيّة مكلّف فيه ؛ فلا إشكال في جريان الاستصحاب في حقّهم على ما عرفت تفصيل القول فيه.

وإن فرض الشّك فيه من جهة الشّك في ثبوت الحكم الثّابت للموجودين في حقّ المعدومين بحيث يقطع بتعلّق الحكم بالمعدومين على فرض وجودهم مع

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٢٥ والكلام لصاحب الفصول انظر فصوله : ٣١٥.

٩٥

الموجودين ، فحينئذ لا مجال للتّمسك بالاستصحاب ، بل لا بدّ من التّشبّث بذيل دليل الاشتراك كما ذكرنا بالنّسبة إلى الحكم الثّابت للحاضر في حقّ الغائب هذا.

ويستفاد من كلام الأستاذ العلّامة ( دامت إفادته ) في المقام : جواب آخر على حذو ما ذكره بالنّسبة إلى استصحاب حكم الشّريعة السّابقة وهو : إجراء الاستصحاب فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ، ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضّرورة على اشتراك أهل الزّمان الواحد في الشّريعة الواحدة.

ولكن قد يتأمّل فيما ذكره ؛ بأنّ أدلّة الاشتراك إنّما يثبت اشتراك المعدومين مع الموجودين ، وكذا اشتراك أهل الشّريعة الواحدة في التّكليف سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا مع اتّحاد الموضوع ، فإذا ثبت كون تكليف الموجودين في السّفر القصر ، فيحكم : بأن تكليف المعدومين بعد وجودهم القصر في السّفر لا مطلقا ، وكذلك إذا ثبت أنّ حكم الموجودين في الشّك في التّكليف هي الإباحة ، فيحكم : بأنّ تكليف غيرهم أيضا الإباحة والبراءة في الشّك في التّكليف ، لا في مطلق الشّك وإن كان في المكلّف به.

وكذا الكلام بالنّسبة إلى أهل الشّريعة الواحدة ، فإذن نقول : إذا ثبت تكليف بعض أهل الشّريعة الواحدة بالاستصحاب فلا يجوز أن يحكم باشتراك غيره معه ، إلّا بعد فرض دخوله في موضوع الاستصحاب ، فإذا قال الإمام لبعض الموجودين عند السّؤال عن حكم المذي بعد القطع بالطّهارة بالبناء عليها ، فيحكم باشتراك غيره معه إذا خرج منه المذي بعد القطع بالطّهارة لا مطلقا ، فإذن لا يمكن الحكم

٩٦

باشتراك من لم يوجد مع بعض الموجودين في الحكم الثّابت له بالاستصحاب هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ خصوصيّة الأسبقيّة في الوجود ملغاة بحكم أدلّة الاشتراك ، فكلّ حكم ثبت في حقّ بعض الموجودين من حيث وجوده السّابق يثبت في حقّ غيره أيضا فتدبّر. وكان الأستاذ العلّامة في مجلس البحث يتمسّك للاشتراك بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

فإن كان المراد إثبات حجّية الاستصحاب في حقّ من لم يوجد في الزّمان الأوّل بالاستصحاب فهو ممّا لا معنى له بعد فرض عدم وجود الحالة السّابقة في حقهم.

وإن كان المراد إثبات الاشتراك في الحكم المستفاد فقد عرفت حاله ، مع أنّه قد يقال عليه : بأنّ اتّحاد الحكم الواقعي في حقّهم لا ينافي التّفكيك بحسب الحكم الظّاهري حسب ما هو أحد القولين فيما ثبتت ملازمة في حكم بين شيئين ، وقد مال إليه الأستاذ العلّامة أيضا على ما هو ببالي عند قراءتي عليه مسألة الإجماع.

(٢٤٢) قوله : ( ومنها : ما اشتهر أنّ هذه الشّريعة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٧ )

المراد بناسخيّة شريعة خاتم الأنبياء لسائر الشرائع

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) هو أنّ المراد من كون شريعة خاتم الأنبياء ( عليه وعليهم الصّلاة والسّلام ) ناسخة لجميع الشّرائع : إمّا نسخها لجميع الأحكام الثّابتة في الشّريعة السّابقة ولو بتغيير في متعلّقاتها شطرا ، أو شرطا ، أو بعضها ، أو

٩٧

جميعها من حيث كيفيّة الالتزام بمعنى وجوب الالتزام بكلّ حكم من حيث إنّه جاء نبيّنا به وإن كان بعضها ممّا جاء به النّبي السّابق أيضا.

فإن كان المراد الأوّل :

ففيه : أنّ دعوى كون شريعة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لجميع أحكام الشّريعة السّابقة فاسدة بالإجماع ، بل يمكن دعوى الضّرورة على فسادها ، ويشهد له الآيات والأخبار أيضا ، فمن الآيات قوله تعالى : وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (١) فتدبّر.

وقوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٢) الآية فتأمّل ، وغيرهما. ومن الأخبار ما ورد عنهم المرويّة في « الاحتجاج » (٣) ممّا تدلّ على أنّ جملة من المحرّمات كشرب الخمر ، واللّواط ، ونكاح المحارم ، وغيرها كانت محرّمة في جميع الشّرائع ، بل العقل يستقلّ بثبوت بعض الأحكام في جميع الشّرائع كالمستقلّات العقليّة. وبالجملة : لا إشكال في فساد هذه الدّعوى.

وإن كان المراد الثّاني :

ففيه : أنّ الشّبهة إن لم تصل إلى حدّ الشّبهة المحصورة ، بل كانت غير محصورة فلا إشكال في عدم قدح العلم الإجمالي فيها وعدم إيجابه سقوط

__________________

(١) آل عمران : ٥٠.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ٩٣.

٩٨

الأصل عن الاعتبار ، وإن كانت محصورة فالمتيقّن من المعلوم بالإجمال ما علم تفصيلا بالدّليل ، وأمّا الزّائد عليه فلا يعلم به ، فيحكم ببقائه بحكم الاستصحاب.

فإن قلت : الزّائد عليه وإن لم يتعلّق به العلم بخصوصه ، إلّا أنّه من أحد أطراف العلم وهو يكفي في إسقاط الاستصحاب بالنّسبة إليه ، غاية الأمر : تردّد الأمر في المعلوم بالإجمال بين الزّائد على القدر المعلوم بالدّليل وبين ما علم به ، ومجرّد هذا التّردّد لا يخرج الزّائد عن أطراف العلم الإجمالي حتّى يعمل فيه بالاستصحاب.

قلت : قد عرفت غير مرّة في الجزء الثّاني من التّعليقة ، بل في الجزء الأوّل أيضا : أن تردّد المعلوم بالإجمال بين الزّائد والنّاقص لا يؤثّر شيئا بالنّسبة إلى المقدار الزّائد ، بل لا بدّ من الرّجوع فيه إلى الأصل الموجود فيه من البراءة أو الاستصحاب لرجوع الشّك فيه إلى الشّك البدوي.

فإن قلت : ما ذكر إنّما يستقيم فيما احتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيما علم تفصيلا وليس الأمر كذلك في المقام ؛ لأنّا نعلم بنسخ كثير من الأحكام السّابقة والمعلوم منها تفصيلا قليل في الغاية فيعلم بوجود المنسوخ في غيره.

قلت : أوّلا : نمنع من كون المعلوم بالإجمال زائدا على ما وقفنا عليه ، ودعوى العلم بذلك مجازفة لا شاهد لها أصلا.

وثانيا : سلّمنا كونه زائدا عليه ، ولكن من الواضح البديهيّ أنّه ليس بأزيد من جميع الأحكام المعلومة في شرعنا ؛ فإنّها من أطراف العلم الإجمالي أيضا ، فإذا وجب الأخذ بها سواء كانت ناسخة أو لم يكن ثمّة مانع من الرّجوع إلى الأصل بالنّسبة إلى مشكوك البقاء ؛ حيث إنّه من أطراف العلم لا من موارده ـ وهذا مع

٩٩

وضوحه قد أشبعنا القول فيه في مطاوي كلماتنا في أجزاء التّعليقة ـ وأنّ العلم الإجمالي إنّما يؤثّر في سقوط الأصل من الاعتبار فيما لم يجب الالتزام بمقتضاه في بعض الأطراف من جهة أخرى ، فالرّجوع إلى الأصل في المشكوكات لا مانع عنه بعد فرض وجوب الالتزام بسائر الأطراف من جهة العلم التّفصيلي المتعلّق بها.

والمقام نظير ما إذا علم بطهارة أشياء ، ثمّ حصل العلم بنجاسة بعضها الغير المعيّن الموافق من حيث المقدار للمعلوم بالإجمال ؛ واحتمل كونه هو المعلوم بالإجمال ، فإنّه لا إشكال في جواز الرّجوع إلى استصحاب الطّهارة في باقي الأطراف ؛ لأنّ الأصل فيه لا يعارض الأصل فيما علم بنجاسته بعدم الاحتياج في الحكم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه إلى إثبات كون النّجاسة الواصلة إليه غير النّجاسة الّتي علم بها إجمالا (١).

__________________

(١) قال العالم الرّباني المحقق الماهر الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« ومن الغريب : ان الأستاذ العلامة قدس‌سره زعم : ( أن المصحّح للإستصحاب ـ على تقدير بقاء العلم الاجمالي في المقام ـ عدم الحاجة إلى أصالة عدم النسخ في الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة ؛ فإنه يجب العمل بها سواء كان من موارد النسخ ام لا ؛ لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من الأصل في بعض الأطراف إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج اليه فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ) هذا محصّل كلامه.

وفيه : ان الأحكام الثابتة في شرعنا ليست من أطراف الشبهة ؛ ضرورة أن وجوب العلم والنسخ متناقضان ، فعدم الحاجة إلى الأصل إنّما هو لخروج هذه الأحكام من الأطراف ، والإستغناء عن الأصل إنّما يدفع اثر العلم الإجمالي حيث كان المورد من الأطراف كما إذا

١٠٠