بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

الشّك في الصّحة والفساد عن الشّك في مجاريها كاستصحاب عدم البلوغ فيما شكّ في بلوغ أحد المتعاقدين حين العقد ونحوه.

تعارض أصالة الصحّة مع أصالة الفساد

أمّا الكلام في المقام الأوّل وهو حكم تعارضها مع أصالة الفساد الرّاجعة إلى استصحاب عدم ترتّب الأثر المقصود من العقد مثلا ، الّذي يكون عبارة أخرى عن بقاء كلّ من العوضين في ملك مالكه : فلا ريب في كون أصالة الصّحة حاكمة عليه ؛ لأنّ الشّك في ترتّب الأثر المقصود على الفعل الواقع في الخارج وعدمه مسبّب عن الشّك في كونه هو الفعل الجامع لما يعتبر فيه شرعا أو لا ، فإذا قام هناك ما يقضى بكونه هو الفعل الجامع له فيقضى برفع الشّك عن ترتّب الأثر الّذي هو مجرى أصالة الفساد ، وهذا هو المراد من الحكومة ـ على ما عرفت سابقا غير مرّة في طيّ أجزاء التّعليقة وستعرفه أيضا ـ وهذا ليس مختصّا بالمقام ، بل كلّ أصل كان مجراه الشّك السّببي فهو حاكم على ما يجري في الشّك المسبّب عنه ، ولا فرق فيما ذكرنا بين القول باعتبار أصالة الصّحة من باب الظّن وبين القول باعتبارها من باب التّعبّد ؛ لأنّ ما ذكرنا من الوجه في حكومتها على أصالة الفساد يجري على كلا التّقديرين والقولين.

نعم ، حكومتها على القول باعتبارها من باب الظّن والظّهور أوضح كما هو واضح وقد أشار إليه الأستاذ العلّامة أيضا هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن :

٥٦١

فإن قيل باعتبار أصالة الصّحة من باب الظّن أيضا ـ حسبما هو ظاهر جماعة بل الأكثرين حيث استندوا فيها إلى ظهور حال المسلم ـ فلا إشكال في حكومتها على الاستصحاب أيضا ؛ لأنّ الحكومة ليست مختصّة بالأدلّة والأمارات بالنّسبة إلى الأصول ، بل قد يجري بالنّسبة إلى الأدلّة والأمارات بعضها مع بعض ، والأصول بعضها مع بعض ، ولذا نقول بحكومة البيّنة على أصالة الصّحة وإن كانت معتبرة من باب الظّن أيضا ، فأصالة الصّحة بالنسبة إلى الاستصحاب على القول باعتبارهما من باب الظّن كالبيّنة بالنّسبة إلى أصالة الصّحة على القول باعتبارهما ٢١٤ / ٣ من باب الظّن هذا. وستقف على تفصيل القول في ذلك في محلّه إن شاء الله.

وإن قيل باعتبار أصالة الصّحة من باب التّعبّد فربّما يشكل في حكومتها على الاستصحاب بل ربّما يتوهّم العكس لكن مقتضى النّظر الدّقيق حكومتها عليه في هذا الفرض أيضا ؛ لأنّ مقتضى سببيّة الشّك في مجرى الاستصحاب عن الشّك في مجرى القاعدة هو حكومتها على الاستصحاب وإن كان معتبرا من باب الظّن ؛ فإنّه إنّما يوجب الظّن بالفساد من جهة الشّك في وقوع الفعل جامعا للشّرائط ، فإذا قام ثمّة ما يقتضي باستجماعه للشّرائط فيقتضي رفع الشّك عن الصّحة والفساد الّذي هو مجرى أصالة الفساد هذا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في بيان تحقيق حكومة أصالة الصّحة على الاستصحاب على كلّ تقدير ، وإلّا فلا إشكال في إثبات تقديمها عليه على جميع التّقادير من جهة لزوم لغويّة أصالة الصّحة على تقدير عدمه كما هو واضح ؛ من حيث أخصّيتها من الاستصحاب وورودها في مورده.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : تسامح شيخنا ( دام ظلّه ) في تعبير عنوان المسألة بالورود على من له أدنى دراية.

٥٦٢

تعارض أصالة الصحة مع الإستصحابات الموضوعيّة

وأمّا الكلام في المقام الثّاني وهو حكم تعارض القاعدة مع الاستصحابات الموضوعيّة المطابقة لأصالة الفساد فمجمل القول فيه :

أنّه إن جعلنا أصالة الصّحة من الأمارات والاستصحاب من الأصول كما هو الظّاهر ، فلا إشكال في حكومتها عليه أيضا حسبما بنى عليه الأستاذ العلّامة ، وإن قلنا باعتبارهما من باب التّعبّد الظّاهري ، أو من باب الظّن ، أو اعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، واعتبار أصالة الصّحة من باب التّعبّد ففي حكومتها على الاستصحاب كما هو المختار.

ويظهر وجهه من إبطال الوجهين الأخيرين ، أو العكس ، أو تعارضهما وتساقطهما والرّجوع إلى أصالة الفساد وجوه.

يستدلّ للثّاني : بأن الشّك في مجرى أصالة الصّحة وهو الشّك في ترتّب الأثر على الفعل الموجود وعدمه مسبّب بالفرض من الشّك في مجرى الاستصحاب ، فيحكم بحكومته عليها على ما عرفت سابقا. وبعبارة أخرى : أصالة الصّحة إنّما يحكم بترتّب الأثر على البيع المشكوك صدوره عن بالغ أو عن غيره مثلا ، ويوجب البناء على صحّته إذا لم يكن هناك ما يبيّن حال البيع المذكور ، ويقضي بكونه صادرا من غير البالغ ، والمفروض وجوده في المقام وهو استصحاب عدم بلوغ البائع ؛ فإنه يقضي بكون البيع صادرا عن غير البالغ ، فالاستصحاب يكون حاكما على أصالة الصّحة سيّما على القول باعتبارها من

٥٦٣

باب التّعبد واعتباره من باب الظّن.

بل أقول : بناء على هذا التّوهّم ينبغي القول بحكومة الاستصحاب على أصالة الصّحة ، وإن قيل باعتبارها من باب الظّن واعتباره من باب التّعبّد ؛ لأنّه قضيّة تسبّب الشّك في مجراها عن مجراه على ما عرفت في بيان حكومة أصالة الصّحة على أصالة الفساد على القول باعتبارها من باب الظّن ، واعتبار أصالة الصّحة من باب التّعبّد. ولعلّ إلى هذا الوجه استند من خصّ جريان أصالة الصّحة في العقود بصورة العلم بكمال المتعاقدين ونحوها كثاني المحقّقين فيما تقدّم من كلامه. وإن احتمل الاستناد إلى الوجه الثّالث ، وإن كان ظاهر ما يحكى عنه الاستناد إلى غيرهما : من عدم صدق العقد بدونه ، هذا ملخّص ما يقال في وجه حكومة الاستصحاب على القاعدة.

ولكنّك خبير بضعفه ؛ لأنّ أصالة الصّحة معيّنة ظاهريّة للموضوع من حيث ترتّب الصّحة عليه لا أنّها جارية في نفس الأثر والصّحة. وبعبارة أخرى : أصالة الصّحة تقتضي كون الفعل الموجود هو الفرد الصّحيح منه من حيث هو صحيح ، فإذا شكّ في كون العقد الصّادر صادرا عن بالغ أو غيره ، فيقضي بأنّه صادر عن البالغ من حيث الحكم بإفادته للنّقل والانتقال ، لا وجوب الحكم بصحّته وترتّب الأثر عليه نظير الأصل الحكمي ، فكما أنّ الاستصحاب يقتضي كونه عقدا صادرا من غير البالغ على الزّعم المذكور ومعيّن ظاهري لأحد المحتملين ، كذلك أصالة الصّحة يقتضي كونه صادرا من بالغ ومعيّنة للمحتمل الآخر ، فهما في مرتبة واحدة على الزّعم المذكور هذا كلّه. مضافا إلى ما ستعرف عن قريب : من فساد الزّعم المذكور وعدم صلاحيّة الاستصحاب لتعيين كون العقد صادرا عن غير البالغ.

٥٦٤

وللثّالث : بأنّ أصالة الصّحة كما تقضي بكون الفعل هو الفرد الصّحيح ، كذلك أصالة عدم البلوغ مثلا تقضي بكونه هو الفرد الفاسد منه ، فكلّ منهما معيّن ظاهريّ لأحد الموضوعين الضدّين ، وهذا بخلاف أصالة الفساد ؛ فإنّها إنّما تقتضي مجرّد الفساد وعدم ترتّب الأثر ، فلا يعيّن حال الفعل الخارجي فهي بالنّسبة إلى أصالة الصّحة من قبيل الأصل الحكمي بالنّسبة إلى الأصل الموضوعي ، وهذا بخلاف الاستصحابات الموضوعيّة ؛ فإنّها في عرض أصالة الصّحة ، فيحكم إذن بتعارضهما والرّجوع إلى أصالة الفساد.

لا يقال : إنّ أصالة عدم البلوغ لا يقتضي كون البيع صادرا عن غير البالغ ، كما أنّ أصالة الصّحة تقتضي كون البيع صادرا عن البالغ ؛ فإنّ عدم بلوغ العاقد لا يلازم شرعا لكون عقده متّصفا بكونه صادرا عن غير البالغ ، وإنّما يلازم ذلك عقلا بعد فرض صدور العقد عنه على ما هو المفروض ، وإلّا فلا ملازمة بينهما أصلا كما لا يخفى.

ومن المعلوم ـ الّذي مرّ الكلام فيه مشروحا ـ عدم جواز التّعويل على الأصول المثبتة ، فاستصحاب عدم البلوغ لا يقتضي بكون البيع الخارجي صادرا عن غير البالغ ، حتّى يعارض أصالة الصّحة فتنتفي المعارضة إذن بين استصحاب عدم البلوغ من حيث اقتضائه عدم صدور العقد عن البالغ الّذي يرجع في الحقيقة إلى أصالة عدم وجود السّبب الشّرعي ، وأصالة الصّحة ؛ إذ من المعلوم عدم تدافعها ٢١٥ / ٣ لما دلّ على كون الموجود في الخارج سببا ويقتضي سببيّته ؛ لأنّ ما يدلّ على سببيّة الموجود حاكم على ما يدلّ ظاهرا على عدم وجود السّبب الشّرعي ، نظير حكومة ما يدلّ على مانعيّة المذي مثلا على استصحاب عدم وجود الرّافع للطّهارة

٥٦٥

لو فرض ثمّة ما يدلّ عليها.

فإن قلت : ما يقضي بعدم وجود السّبب يقضي بعدم سببيّة الموجود أيضا ، وكونه من أفراد غير السّبب ؛ لعدم تعقّل التّفكيك بينهما فهو يعارض بهذا الاعتبار ما يقضي بسببيّته.

قلت : عدم التّفكيك بين العدمين وإن كان مسلّما ، إلّا أنّ تلك الملازمة إنّما جاءت من حكم العقل لا من حكم الشّرع ، فهو كرّ على ما فرّ منه ، ولا يجوز إجراء الأصل أي : استصحاب العدم بالنّسبة إلى نفس الفعل الموجود بأن يقال : الأصل عدم صدوره من بالغ مثلا ؛ لأنّه يرد عليه ـ مضافا إلى إمكان منع أصل جريانه ـ أنّه لا يقضي بكون البيع المفروض صادرا عن غير البالغ لوجهين : أحدهما : كونه أصلا مثبتا كما هو واضح. ثانيهما : كونه معارضا بأصالة عدم صدوره عن غير البالغ ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّه لو بني على تلك الملاحظة لزم الحكم باقتضاء أصالة الفساد أيضا ؛ لكون العقد الخارجي صادرا عن غير البالغ مثلا ، وهو كما ترى.

لأنّا نقول : إثبات كون البيع هو البيع الصّادر عن غير البالغ باستصحاب عدم بلوغ البائع بعد فرض العلم بصدور العقد عنه ليس من التّعويل على الأصل المثبت ؛ لعدم واسطة في البين ، ولو فرض ثمّة واسطة فلا ريب في كونها من الوسائط الخفيّة الغير المانعة عن التّعويل على الأصل ؛ لإثبات الحكم المترتّب عليها على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا السّابقة.

وبالجملة : ليس التّمسك باستصحاب عدم البلوغ لإثبات كون البيع متّصفا بكونه عن غير البالغ ومقيّدا به إلّا كالتّمسّك بالاستصحابات العدميّة لإثبات القيود العدميّة للموضوعات الوجوديّة الّتي تكون كلماتهم مشحونة بها ، كما يعلم من

٥٦٦

الرّجوع إليها كاستصحاب عدم صدور الكبيرة ممّن علم بوجود ملكة العدالة له ، بناء على أنّ العدالة هي الملكة مع عدم صدور الكبيرة فعلا ، وكأصالة عدم تعلّق حقّ الغير بالمال الّذي يراد صرفه فيما يكون تعلّق حقّ الغير به مانعا عنه إذا شكّ في تعلّقه به ، وكأصالة عدم تغيّر الماء بالنّجس فيما شكّ في تغيّره به ، وكأصالة عدم الفسق في العالم إذا أمر بإكرام العالم الغير الفاسق إلى غير ذلك من الأمثلة والنّظائر. هذا ملخّص ما يقال في توجيه الوجه الثّالث.

ولكنّك خبير بما فيه :

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ دعوى خروج الأصل المذكور عن الأصول المثبتة ممّا لا وجه له أصلا ؛ لأنّ كون العقد صادرا من غير البالغ ليس من الأحكام الشّرعيّة لعدم بلوغ البائع ، وقد مرّ الكلام في نظائره في طيّ كلماتنا السّابقة.

والحاصل : أنّ أصالة عدم البلوغ إنّما يقتضي ترتّب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على عدم بلوغه بلا واسطة ، ولا يشخّص حال الموجود الخارجي وكونه مقيّدا بمجراه ، وأمّا تمسّك الأصحاب بأمثال الأصل المذكور ونظائره في أبواب الفقه فإنّما هو من جهة بنائهم على اعتبار الأصول المثبة في الجملة.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه وإن سلّم عدم المانع في إثبات كون العقد صادرا عن غير البالغ من جهة استلزامه التّعويل على الأصل المثبت ، إمّا من جهة منع الواسطة أو خفائها ، وإمّا من جهة القول باعتبار الأصول المثبتة. إلّا أنّا ندّعي : وجود المانع له من جهة أخرى ، وهو : أنّ الفساد ليس من آثار العقد الصّادر من غير البالغ ومن الأحكام المترتّبة عليه ، حتّى يمكن إثباته ؛ لترتّبه عليه وإن فرض له أثر آخر غير الفساد ، كما أنّ الصّحة من أحكام العقد الصّادر من البالغ.

٥٦٧

ومن المعلوم ضرورة أنّ الموضوع الّذي لا يترتّب عليه الأثر الشّرعي أصلا لا يمكن إثباته بالأصل ؛ لأنّ معنى الحكم بثبوت الموضوع ظاهرا ليس إلّا جعل أحكامه في الظّاهر على ما عرفت الإشارة إليه غير مرّة ، وكذا الموضوع الّذي لا يترتّب عليه أثر خاصّ لا يمكن إثباته لترتيب هذا الأثر ؛ لفرض عدم كونه أثرا له ، فلا يعقل تعلّق الخطاب الشّرعي بالالتزام بثبوت الموضوع بالنّسبة إلى هذا الأثر كما هو واضح ، وإن أمكن الحكم بوجوده بالنّسبة إلى الأثر المترتّب عليه لو فرض الأمر كذلك ، والتّفكيك لا محذور فيه إذا كان مبناه على الظّاهر كما هو ظاهر.

وهذا هو المراد بما أفاده ( دام ظلّه ) ؛ لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم السّبب لا من آثار ضدّه ، وإن فرضنا أنّه يترتّب عليه آثار أخر ؛ حيث إنّ عدم جواز إثبات الضّد بناء على اعتبار الأصل المثبت من جهة عدم ترتّب الفساد عليه ، وإن فرض له أثر شرعيّ غيره حكم به من جهة ترتّب الحكم المذكور بناء على القول المذكور لا مطلقا. فما أفاده مبنيّ على الإغماض عن مذهب الحقّ من عدم اعتبار الأصل المثبت.

وأمّا الوجه في عدم ترتّب الفساد على العقد الصّادر من غير البالغ ، فهو : أنّ الفساد عبارة عن عدم ترتّب الأثر ، كما أنّ الصّحة عبارة عن ترتّبه ، فإذا استندت الصّحة إلى شيء ، فلا بدّ من أن يستند الفساد إلى نقيضه لا إلى ضدّه ؛ ضرورة أنّ عدم المسبّب مستند إلى عدم السّبب بناء على القول بكون الأعدام معلّلة لا إلى ضدّه ، فإذا استندت الصّحة إلى العقد الصّادر من البالغ فلا بدّ من أن يستند الفساد إلى عدم صدور العقد عن البالغ الّذي هو نقيض صدوره عن البالغ إلى صدوره عن

٥٦٨

غير البالغ الّذي هو ضدّ صدوره عن البالغ ، فإذا لم يترتّب الفساد على العقد الصّادر من غير البالغ فلا معنى لإثباته بالأصل.

فإن شئت عبّرت عن المطلب بعبارة أخرى فقلت : إنّ النّقل والانتقال مثلا إنّما هو مسبّب عن العقد التّمام الجامع لجميع الشّرائط المعتبرة فيه ، فعدمه إنّما هو مسبّب من عدم وجود العقد التّام لا من وجود العقد النّاقص ؛ ضرورة أنّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة التّامة لا إلى العلّة النّاقصة ، وليست من إفراد عدم العلّة التّامّة أيضا ؛ ضرورة استحالة انطباق المعدوم على الموجود وصدقه عليه حقيقة.

وأمّا قول أهل الميزان : إنّ نقيض أحد الضّدين يصدق على عين الآخر كـ « لا إنسان » ؛ فإنّه يصدق على « الحجر » و « لا حجر » ؛ فإنّه يصدق على الإنسان ؛ فإنّما هو توسّع في الإطلاق وتسامح فيه كما بيّن في محلّه ، وإلّا فالحمل المذكور لا ينطبق على حمل « ذي هو » من دون تحمّل ، مع أنّ كون العلّة النّاقصة من أفراد عدم العلّة التّامة لا يجدي نفعا في المقام ؛ لأنّ من إثباته لا يمكن إثبات انطباقه على العلّة النّاقصة كما هو واضح لمن تأمّل فيما ذكرنا من أوّل التّعليقة إلى هنا.

وبالجملة : إسناد الفساد إلى العقد الصّادر من غير البالغ وحمله عليه كإسناده إلى سائر الأشياء الّتي لا ربط لها بالنّقل والانتقال أصلا.

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكرت فما وجه تقسيمهم للعقود إلى الصّحيحة والفاسدة ؛ وعدّهم العقود الفاقدة لبعض الشّرائط الشّرعيّة من الأخيرة ، بل مصداق العقد الفاسد منحصر فيها؟ وهذا أمر لا يمكن إنكاره لأحد ولم ينكره أحد ؛ إذ كلماتهم مشحونة بنسبة الفساد إلى العقود ولم يسمع من أحدهم نسبته إلى غيرها

٥٦٩

ممّا لا دخل لها في النّقل والانتقال.

قلت : نسبة الفساد إلى العقود الفاقدة للشّرائط وعدم نسبته إلى غيرها ممّا لا ربط لها بالنّقل والانتقال أصلا وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّها ليست من جهة استناده إليه واقعا وكونه من محمولاته الواقعيّة ، بل إنّما هو من جهة التّوسّع في الإطلاق ؛ لاشتمالها على جملة ممّا يعتبر في العقد الصّحيح التّام ، وإلّا في عدم استناد الفساد إليه واقعا لا فرق بينها وبين غيرها من الأشياء.

فإذا لم يبق في المقام في مقابل أصالة الصّحة المشخّصة للفعل في ضمن الفرد الصّحيح إلّا أصالة عدم وجود العقد عن البالغ الّتي يرجع إلى أصالة عدم وجود السّبب الشّرعي الرّاجعة إلى أصالة الفساد حقيقة الّتي قد عرفت حكم مقابلتها لأصالة الصّحة ، كما إذا شكّ في غير ما يكون مسبوقا بالعدم من الشّرائط بناء على كون عدم الشّرط عين عدم المركّب المشروط به من حيث لحاظ التّركيب معه ذهنا لا مستلزما له بحكم العقل ، كما أنّ عدم الجزء عين عدم الكلّ.

ومن المعلوم أن ما يدلّ على عدم وجود السّبب في الظّاهر لا يعارض ما يدلّ على سببيّة الموجود ؛ لأنّ دلالته على عدم وجوده إنّما هو من حيث عدم قيام ما يدلّ على سببيّة الموجود ، فإذا قام ثمّة ما يدلّ عليها فلا يعارضه.

فإن قلت : أصالة عدم وجود السّبب الشّرعي وإن لم تعارض في نفسها ما يدلّ على سببيّة الموجود ، بل هي نظير أصالة الفساد ، إلّا أنّ الحكم بعدم السّبب من جهة الحكم بعدم وجود الشّرط المشكوك كالبلوغ لا يجامع الحكم ظاهرا بكون الموجود مشتملا عليه ، فيحكم الشّارع بمقتضى استصحاب عدم البلوغ بالبناء على عدم صدور العقد عن البالغ لا يجامع حكمه بالبناء على كون الموجود عقدا

٥٧٠

من البالغ ، كما أنّه لا يجامع حكمه بالبناء على وجود عقد من البالغ. فدعوى : حكومة أصالة الصّحة على الاستصحابات الموضوعيّة ، فاسدة.

قلت : نمنع من كون ما يدلّ على عدم وجود صدور العقد عن البالغ في مرتبة ما يدلّ على كون العقد الموجود صادرا عن البالغ ، كما أنّه في مرتبة ما يدلّ على وجود العقد عن البالغ لو فرض ثمّة ما يدلّ عليه ؛ فإنّ الّذي في مرتبة ما يدلّ على كون العقد الموجود صادرا عن غير البالغ. وقد عرفت : أنّه ليس في المقام ما يدلّ عليه.

هذا ملخّص ما أفاده الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) وخطر بالبال في بيان حكومة أصالة الصّحة على الاستصحابات الموضوعيّة وفساد الوجه الثّالث ، وعليك بالتّأمّل وإمعان النّظر فيه لعلّك تجده حقيقا بالقبول.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما هو فيما لو أردنا تقديم أصالة الصّحة على الاستصحابات الموضوعيّة من حيث الحكومة ، وإلّا فأصل تقديمها عليها على فرض تسليم تعارضهما وكونهما في مرتبة واحدة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، ولو كان اعتباره من باب الظّن واعتبارها من باب التّعبّد وأخصيّة ما دلّ على اعتبار أصالة الصّحة ممّا دلّ على الاستصحابات كما هو واضح ، فلا معنى للرّجوع إذن إلى أصالة الفساد على تقدير التّعارض أيضا.

* * *

٥٧١

أصالة الصّحة في الأقوال والإعتقادات

(٣٩٦) قوله : ( مع إمكان إجراء ما سلف : من أدلّة تنزيه فعل ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٨١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) مناف لما بنى الأمر عليه سابقا في معنى الأخبار الواردة في تنزيه فعل المسلم عن القبيح ، والقول : بأنّ المراد من الأدلّة غير الأخبار ، لا يخفى ما فيه.

وبالجملة : المستند في أصالة القصد واعتقاد مضمون الكلام ليس إلّا بناء العقلاء في كلام كلّ متكلّم ، كما أنّ المستند في أصالة الحقيقة ليس إلّا بناء العرف والعقلاء.

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« حيث يمكن أن يكون المراد من وجوب تصديق المؤمن وعدم اتّهامه وحمل أمر المؤمن على أحسنه ، وتصديقه وعدم اتّهامه بحسب اعتقاده ومن المعلوم أنّ البناء على الصّدق في خبره باعتقاده ، إنّما هو حمل الخبر على أحسنه كما هو مقتضى أخوته ، وهذا غير مستلزم لترتيب الآثار على المخبر به وهو الّذي منع من إجراء ما سلف فيه لما سلفه قدس‌سره.

نعم لو كان لنفس اعتقاد المخبر بالمخبر به حكم وأثر كان يترتّب عليه ولا شاهد على خلافه ،

ولا يخفى أنّ تصديقه بهذا المعنى ليس فيه محذور تخصيص الأكثر لو فرض مساعدة عموم عليه ، فإنّ جميع الموارد الّتي لا يكون الخبر حجّة فيه إنّما لا يكون حجّة بمعنى ترتيب الأثر على المخبر به كما يأتي ، لا بهذا المعنى كما لا يخفى » انتهى. انظر درر الفوائد : ٤١٠.

٥٧٢

ثمّ إنّه ( دام ظلّه ) لم يذكر بعض الأقسام في دوران الأمر في اللّفظ الصّادر من المتكلّم ، كما إذا دار الأمر بين كونه غلطا بحسب قواعد اللّغة والعربيّة كإرادة المعنى المجازي منه من دون علاقة ، أو من دون قرينة ، مع كون المقام مقام الحاجة ونصب القرينة ، وكما إذا تكلّم بلفظ في العقود ، أو الإيقاعات مردّد بين أن يكون المراد منه ما هو صحيح في الشّرع ، أو فاسد ؛ فإنّه قد قيل بحمله على ما يكون صحيحا في الشّرع حتّى تعدّى بعض فحكم بذلك حتّى فيما كان اللّفظ ظاهرا في المعنى الفاسد ، لكن هذا كلّه خلاف التّحقيق الثّابت عندنا وإن ذكره جمع كثير ؛ فإنّه ٢١٧ / ٣ لا مستند للأصل المذكور أصلا ، إلّا بناء العرف والعقلاء على ما أسمعناك مرارا ، وليس ممّا له تعلّق بالشّرع وإن أمضاه الشارع في محاوراته وخطاباته.

(٣٩٧) قوله : ( نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ الأصل في خبر العدل الحجّيّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٢ )

أقول : لا يخفى أنّ هنا مقامات :

أحدها : أنّ الأصل في خبر المسلم الحجيّة أم لا؟

ذهب ذاهب إلى ثبوت الأصل المذكور ، وربّما ينسب إلى الشّيخ رحمه‌الله والنّسبة في غير محلّه ، وعلى تقدير ثبوتها فهو من جهة ذهابه إلى أنّ الأصل في المسلم العدالة من حيث ظهور الإسلام فيها ، لا أنّ الأصل في خبر المسلم الحجّية وإن كان فاسقا ، وهذا الأصل لم يثبت عندنا ، بل الثّابت بمقتضى آية النّبأ وغيرها عدمه.

ثانيها : أنّ الأصل في خبر العادل الحجيّة أم لا؟

ذهب جماعة إلى ثبوت الأصل المذكور مطلقا في الأحكام والموضوعات إلى أن يجيء المخرج ، كما في مقام التّرافع وغيره في الجملة. والحقّ عدم ثبوت

٥٧٣

الأصل المذكور أيضا ؛ لعدم الدّليل عليه. وقد عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة.

ثالثها : أنّ الأصل في خبر العدلين الحجيّة أم لا؟

ذهب جماعة كثيرة إلى ثبوته سيّما بالنّسبة إلى الموضوعات ، وتمسّكوا له بالاستقراء ، والإجماع ، وبجملة من الأخبار المدّعى ظهورها في المدّعى ، والحقّ إمكان الخدشة في الأصل المذكور أيضا ، وليس المقام مقام بسط القول فيه.

رابعها : أنّ الأصل في خبر أربعة عدول الحجيّة أم لا؟

والظّاهر أنّه لا إشكال في ثبوته بالنّسبة إلى الموضوعات ، وأمّا الأحكام فلا. وتفصيل القول في الشّرح المذكور يظهر من الرّجوع إلى ما ذكرناه في الجزء الأوّل من التّعليقة (١).

(٣٩٨) قوله : ( الرّابع : أنّ الأصل في اعتقاد المخبر الصّحّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٣ )

أقول : لا يخفى ما في العبارة من التّشويش والاضطراب ؛ فإنّ مقتضى القاعدة أن يذكر بدلها ، وأمّا (٢) الاعتقادات فالصّحة فيها يكون من وجهين والأمر سهل.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٤٧.

٥٧٤

أصالة الصحّة في الإعتقادات

(٣٩٩) قوله : ( وأمّا إذا شكّ في صحّته بمعنى المطابقة للواقع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الاعتقاد من هذه الحيثيّة كالإخبار من حيث احتمال الصّدق والكذب فيه ، ومن المعلوم أنّ أمره أشكل من أمر الخبر ؛ حيث إنّه توهّم فيه ثبوت بعض ما يدلّ عموما على وجوب الحمل على الصّدق بالنّسبة إليه كقوله : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (١) وغيره.

والقول : بأنّ المراد ممّا دلّ على وجوب تصديق المسلم في إخباره هو تصديقه في اعتقاده من أيّ طريق انكشف قولا كان ، أو فعلا ، أو غيرهما ـ إذ لا مدخليّة لخصوص لفظه ـ لا يخفى ما فيه وستقف بعض الكلام على هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٩ باب « آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة » ـ ح ١ ، هذا الموجود في الرواية : « فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ٨٢ باب « كراهة ائتمان شارب الخمر وابضاعه وكذا كل سفيه » ـ ح ١.

٥٧٥

(٤٠٠) قوله : ( فلو ثبت ذلك أوجب ذلك (١) حجيّة كلّ خبر أخبر به (٢) لما عرفت : [ من ](٣) أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر أمّا لو ثبت حجيّة خبره ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٣ )

إثبات الملازمة بين حجيّة الإعتقاد وحجيّة خبره

أقول : لا يخفى عليك وضوح ما ادّعاه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) من الملازمة بين حجيّة الاعتقاد سواء كان في الحدسيّات ، أو في الحسيّات ، وحجيّة خبره من غير عكس ؛ لما عرفت : من قيام الدّليل القطعي على كون الأصل في الخبر : أن يكون على طبق اعتقاد المخبر ، وهو طريق إلى اعتقاده عند العقلاء بحيث لا يلتفتون إلى احتمال خلافه.

والقول : بمنع الملازمة من جهة إمكان اعتبار كاشف آخر غير القول كالكتابة ونحوها ، ممّا لا يخفى فساده ، وهذا بخلاف الخبر ؛ فإنّه ربّما تكون الحجّة في الشّرع تعبّدا خصوص خبره وقوله بحيث لو علم اعتقاده من دون أن يخبر عنه لم يترتّب عليه أثر أصلا ، بل ربّما يقوم الدّليل على اعتبار قسم خاصّ من خبره ، مثل : أن يقوم الدّليل على اعتبار إخباره عن نفس الواقع دون إخباره عن اعتقاده بثبوت الشّيء في الواقع ، كما ربّما يدّعى في باب القضاء بالنّسبة إلى بعض المقامات.

__________________

(١) « ذلك » زائدة ليست في المتن.

(٢) وفي الأصل : « أخبر به مسلم ».

(٣) أثبتناها من الكتاب.

٥٧٦

وبالجملة : لا إشكال في ثبوت اعتبار الخبر من حيث إنّه خبر في الجملة في الشّرعيّات دون الاعتقاد بحيث لا مجال لإنكاره كما في باب الشّهادات ، كما أنّه لا إشكال في ثبوت اعتبار الاعتقاد في الجملة ، فإن علم من الدّليل كون المناط هو الاعتقاد ـ كما في اعتقاد المجتهد في خصوص المقلّد ؛ فإنّ المعتبر في حقّه هو خصوص اعتقاده ونظره وإن لم يظهره أصلا ؛ لأنّ الحجّة في حقّه وحقّ مقلّديه أمر واحد ـ فلا إشكال ، كما أنّه إذا علم من الدّليل خصوصيّة لخصوص الخبر لم يكن إشكال أيضا كما في باب الدّعاوي.

إنّما الإشكال في صورة الدّوران وعدم قيام دليل بالخصوص على أحدهما ، فهل قضيّة القاعدة ـ بالنّسبة إلى ما دلّ على حجيّة خبر العادل ، أو العدلين عموما ـ الاقتصار على خصوص إخباره ، أو يتعدى إلى كلّ ما يكشف عن اعتقاده من الفعل ، والكتب الّذي ربّما يسمّى إخبارا مسامحة ، والإشارة ، أو يحكم بأنّ المناط نفس اعتقاده ولو كشف بالإلهام ، أو لم يكشف أصلا إذا وقع العمل على طبقه فيما لا يحتاج إلى قصد التّقرّب فيقال بكونه موجبا للبراءة من الواقع؟

وجهان : مقتضى مراعاة قواعد اللّفظ والأخذ بظواهرها هو الأوّل ، فيبنى عليه حتّى يعلم من الخارج خلافه ؛ ضرورة عدم صدق الخبر على سائر الكواشف وعلى مجرّد الاعتقاد ، كما أنّ الأمر كذلك فيما لم يكن ثمّة ظاهر يقتضي ما ذكرنا أيضا ؛ لأنّ المتيقّن هو الاقتصار على الخبر ، فيرجع إلى أصالة عدم الحجيّة عند الشّكّ كما هو واضح.

ولكن ذكر الأستاذ العلّامة : أنّه لا يبعد القول بالثّاني سيّما إذا علمنا أنّه بمثابة لو سألناه لأخبر ؛ لأنّ مقتضى الجمود على أدلّة حجيّة الخبر ، وإن كان هو القول

٥٧٧

بعدم اعتبار غير ما يصدق عليه الخبر كائنا ما كان ، إلّا أنّ مقتضى التّأمل فيها كون المراد منها إثبات اعتبار اعتقاده على النّحو المذكور بأيّ طريق حصل العلم به.

الوجوه التي تؤيّد مختار الأستاذ

وأيّد ما ذكره ( دام ظلّه ) بوجوه :

أحدها : ما ذكروه في باب الإقرار من أنّه لو قال شخص : بأنّه لو أخبر فلان باشتغال ذمّتي لفلان بكذا مثلا كان قوله حقّا كان إقرارا مع عدم وجود الخبر المعلّق عليه.

نعم ، منع جماعة من العامّة من كونه إقرارا : من جهة احتمال كونه من باب التّعليق على المحال ، فنقول في المقام أيضا : أنّه إذا أوجب الشّارع تصديق العادل على تقدير إخباره وجب الحكم بوجوب العمل على خبره التّقديري هذا.

وفيه ما لا يخفى ؛ لوضوح فساد قياس المقام بالإقرار ؛ فإنّ الحكم بكون قول المخبر في الفرض المزبور إقرارا إنّما هو من جهة عدم معقوليّة تأثير المعلّق عليه في اشتغال ذمّته.

ومن هنا يحكم عليه على تقدير تعليقه اشتغال الذّمّة على غير الإخبار أيضا إذا كان ممكن الحصول ، كمجيء زيد ، وركوب عمرو ، وقيام خالد إلى غير ذلك ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ الحجّة فيه الخبر الغير الصّادق على الفعل قطعا ، والحكم بوجوب تصديق العادل على تقدير الإخبار لا يعقل أن يقتضي وجوب تصديقه قبله ، وإلّا لزم انفكاك المحمول عن الموضوع وتقدّمه عليه ، وهو محال. وبالجملة :

٥٧٨

القياس المذكور ممّا لا ريب في عدم استقامته.

ثانيها : ما ورد في بعض الأخبار : من أنّ من ثمرات العدالة أنّ الله تبارك وتعالى جعل من اتّصف بها مقبول القول في الدّنيا ، ومستحقّ الجنّة في الآخرة ؛ فإنّ الظّاهر منه كون سماع القول في الدّنيا أجرا للعادل من جهة عدالته ، ومن الظّاهر أنّه من جهة احترام العادل الحاصل بالبناء على تصديقه في اعتقاده ، ولا دخل لخصوص لفظه فيه أصلا هذا.

وفيه أيضا ما لا يخفى ؛ لأنّ الخبر على تقدير العمل به كسائر ما ادّعي دلالته على حجيّة خبر العادل كآية النّبأ وغيرها. ودعوى : كون المراد منها إيجاب تصديق العادل في اعتقاده بأيّ طريق انكشف ، في محلّ المنع.

ثالثها : ما عليه اتّفاقهم ظاهرا في باب الأجير في الحجّ وغيره من العبادات : من أنّه إذا كان عادلا وعلم من حاله أنّه يخبر بوقوع الفعل منه صحيحا لو سئل منه اكتفى في براءة ذمّة الوصيّ والوليّ وغيرهما ولا يشترط الإخبار الفعلي ، وليس ذلك إلّا من جهة كون الإخبار الثّاني منه حجّة ، لا خصوص الإخبار الفعلي ، وليس هذا إلّا من جهة وجوب تصديق اعتقاده.

وفيه : أنّ حكمهم بذلك لم يعلم كونه من جهة ما ذكر ، فلعلّه كان من جهة أصالة الصّحة في فعله كأخذه الأجرة والتّصرّف فيها ، ولو فرض عدم فعل منه أصلا لكان اتّفاقهم في خصوص المقام قاضيا بوجوب الحكم به ولا يجوز التّعدي عنه إلى غيره فتدبّر.

وقد مضى بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام في طيّ كلماتنا السّابقة ، فتبيّن

٥٧٩

ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا دليل يعتدّ به في إثبات كون الأصل في اعتقاد من ثبت حجيّة خبره الحجيّة بأيّ طريق انكشف.

ثمّ إنّه يتفرّع على ثبوت الأصل المذكور فروع :

أحدها : الحكم بعدالة من اقتدى به الغير في الصّلاة الّتي لا يجوز الاقتداء فيها بغير العادل ، لا كالصّلاة على الميّت ، أو عمل غير الصّلاة بالنّسبة إلى شخص من الأعمال المشروطة بالعدالة ؛ فإنّه بناء على الأصل المذكور يحكم بعدالته بمجرّد ذلك ، لكن هذا مبنيّ على عدم كون المناط في العدالة حصول الظّن بها من أيّ سبب حصل ، وإلّا فلا إشكال في جواز الاكتفاء به باقتداء من يحصل الظّن من ائتمامه ولو كان فاسقا.

ثانيها : الحكم بدخول الوقت من جهة صلاة عدلين معتقدين بدخول الوقت بناء على اعتبار إخبارهما بالدّخول كما هو الظّاهر.

ثالثها : الحكم باعتبار تعديلات أهل الرّجال كالكشّي ، والنّجاشي ، والشّيخ ( قدس أسرارهم ) لرجال الحديث ؛ فإنّه بناء على اعتبار كلّ ما يكشف عن الاعتقاد بكون كتابهم مرجعا بلا إشكال.

نعم ، قد يدّعى الإجماع على اعتبار تعديلاتهم مع قطع النّظر عن ثبوت الأصل المذكور ، إلى غير ذلك من الفروع الّتي يستخرجها المتأمّل المتدبّر.

٥٨٠