بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

ولم يدّع خلافها. ودعوى أبي بكر إنّما هي من حيث الولاية على المسلمين لا لشخصه ، وإلّا لم يكن معنى لمطالبة البيّنة.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المراد من المسلم إن كان من كان مؤمنا بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدّقا لجميع ما جاء به واقعا ، فما ذكر حقّ لا محيص عنه ، إلّا أنّه لم يكن في ذلك الزّمان ، إلّا القليل ممّن رعى الحقّ فيرجع حقيقة إلى إنكار أصل دعوى ولاية أبي بكر ، وصريح الرّواية الإغماض عن ذلك ، وإن كان من يظهر الإيمان بالله والرّسول فيمنع من عدم ادّعاء أحد منهم الفدك وإنكاره على الصّديقة الطّاهرة عليها‌السلام ، ويكفي في ذلك من يروي الحديث المجعول وأقرّ عليه فتدبّر.

ثمّ إنّ إقدامها عليها‌السلام على إقامة البيّنة من أوّل الأمر وشهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام لها لا ينافي تخطئته عليه‌السلام لأبي بكر في مطالبة البيّنة منها عليها‌السلام فإنّ إقدامها عليها‌السلام ربّما يكون من باب المماشاة أو قناعة البيّنة عن اليمين وكفايتها عنها في حقّ ذي اليد كما هو المختار عندنا وجماعة.

وأمّا تعيين البيّنة في حقّها كما هو صريح قول أبي بكر فهو الّذي أبطله الأمير صلوات الله عليه بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه » فلا تنافي بينهما أصلا كما لا يخفى.

كما أنّ استشهاده عليه‌السلام بآية التّطهير على تخطئة أبي بكر في مطالبة البيّنة وعدم جوازها ولزوم تصديقها عليها‌السلام من حيث العلم بصدقها لا ينافي الإقدام على طيّ الدّعوى بقانون القضاء وميزان فصل الخصومة ؛ فإنّ مبناه على المماشاة أيضا.

وبقوله ( عليه وعلى أخيه ونجلهما الطّاهرين ألف التّحيّة والسّلام ) أخيرا :

٤٤١

أراد بيان مخالفة مطالبة أبي بكر البيّنة من الصّديقة الطّاهرة عليها‌السلام لآية التّطهير ، وقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميزان القضاء ، فلا تنافي بينهما أصلا هذا. وإن أردت شرح القول فيما يتعلّق بالحديث الشّريف والمقام فارجع إلى ما حرّرناه في كتاب « القضاء والشّهادات » (١).

(٣٣٨) قوله : ( ولا يخفى أنّ عمل العرف عليه (٢) من باب الأمارة ) (٣). ( ج ٣ / ٣٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره في كمال الجودة ؛ فإنّ الحكم بأنّ بناء العرف والعقلاء في أمورهم على التّعبد ، فاسد جدّا ؛ لأنّه مخالف لما نشاهد من أنفسنا معاشر العقلاء ، بل قد عرفت ـ في طيّ كلام الأستاذ العلّامة في السّابق ـ أنّه ممّا لا معنى له ؛ لأنّ التّعبّد بشيء يتوقّف على من يتعبّد به ، وإن كان قد يناقش فيه بما لا يخفى.

__________________

(١) كتاب القضاء : ج ٢ / ١٠٦٤.

(٢) كذا وفي الكتاب « عليها ».

(٣) قال المؤسس الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انّ عدم كون اعتبار اليد من باب التعبّد وأنّ اعتبارها ذاتي أظهر من أن يستدل له بظاهر النص أو الفتوى ولكن كونها أمارة بالذات أوضح فسادا ، وكيف يمكن سقوط الأمارة عن الإعتبار بجريان أصالة عدم الإنتقال مع انه لا يخفى على ذي مسكة انّ مجرّد صيرورة مال شخص تحت يد غيره لا يجعله مدّعيّا ، بل عدم الإعتداد باليد في صورة المعارضة من البديهيّات عند العوام ، مع انّها لو كانت أمارة لم يكن وجه لتقدّم البيّنة عليها مطلقا بل كانت معارضة لها » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٦.

٤٤٢

تقدّم البيّنة على اليد

(٣٣٩) قوله : ( وأمّا تقديم البيّنة على اليد ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك كمال جودة ما ذكره ( دام ظلّه ) : من عدم دلالة تقديم البيّنة على اليد على كون اليد من الأصول لا الأمارات ؛ فإنّك قد عرفت غير مرّة : أنّه قد يوجد الحكومة والورود بين الدّليلين الاجتهاديّين ، كما يوجد التّعارض بينهما. وأمّا ما ذكره في وجه تقديم البيّنة على الاستصحاب ، فالظّاهر منه كونه من باب ورود البيّنة على اليد من حيث كون اعتبارها من جهة الغلبة الموجبة للحوق المشكوك فيما لم يكن هناك أمارة معتبرة تنجيزيّة على الخلاف ، وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك فراجع إليه.

__________________

(١) قال المؤسس الطهراني قدس‌سره :

وفيه : انّ كون اليد أمارة قاطعة للإستصحاب لا معنى له إلّا كونها دالّة على وجود المزيل ، والمزيل إنّما هو السبب الرافع للملك السابق وليس كون البيّنة مبيّنة للسبب إلّا بحكم دليل الإعتبار الذي هو أصل من الأصول ، ومن المعلوم انّ البيّنة أيضا دليل للجاهل بالواقع وكون اليد أمارة على المسبّب والبيّنة على السبب مجازفة صرفة لا ترجع إلى محصّل.

وأيضا لو كانت اليد أمارة لم يكن وجه لعدم سماع قول ذي اليد وإن انقلب مدّعيّا كما توهّمه فيما إذا أقرّ بانه كان لغيره وانتقل منه إليه مع إنكاره الإنتقال ؛ فإنّ المدّعي مع قيام أمارة على دعواه لا وجه لعدم سماع دعواه » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٦.

٤٤٣

(٣٤٠) قوله : ( وحال اليد مع الغلبة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٢٣ )

التنبيه على غلط الناسخ

أقول : لا يخفى عليك أنّه كان عليه أن يبدّل الغلبة بالبيّنة ، والظّاهر أنّه غلط ٣ / ١٩٣ من النّاسخ وسيجيء تحقيق القول في حكم تعارض النّص والظّاهر في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله تعالى.

* ٢ ـ تقدّم قاعدة الفراغ والتجاوز على الإستصحاب

(٣٤١) قوله : ( وإمّا لأنّها وإن كانت من الأصول ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٥ )

أقول : لا فرق في ذلك بين القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو من باب التّعبّد لما قد عرفت سابقا في وجه تقديم اليد على الاستصحاب بناء على القول باعتبارها من باب التّعبّد وكون اعتباره من باب الظّن فراجع.

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« فكما ان أصالة الحقيقة يكون أمارة عند السيد رحمه‌الله حيث لم يكن هناك أمارة على المجاز ، كانت اليد حجّة إذا لم يكن في البين بيّنة.

ثمّ لا يخفى انّه لا وجه للتّرقي من ذلك بقوله : « بل » حال مطلق الظّاهر والنّصّ ، فإنّ خصوصيّة القطع بخلاف الظّاهر مع النّص منتفية فيها قطعا ، ومع الغض عنها لا خصوصيّة فيهما لم يكن في أصالة الحقيقة مع أمارات المجاز ، إلّا أن يكون أصالة الحقيقة عند السيّد حجّة من باب التعبّد ، فلا يكون وجه للمقايسة بينهما ، لكون اليد حجّة من باب الأمارة ، ولعلّه أشار إليه بقوله : « فافهم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٤.

٤٤٤

(٣٤٢) قوله : ( وربّما يستفاد العموم من بعض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٧ )

أقول : لا يخفى عليك الوجه في استفادة العموم من الرّواية الأخيرة ؛ فإنّ قوله : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك » (١) في قوّة العلّة المنصوصة والتّعليل بالصّغرى الدّال على الكبرى المسلّمة المفروغ عنها كما لا يخفى.

وأمّا الوجه في استفادته من الرّواية الثّانية : فبأن يدّعي أنّها في مقام إعطاء الضّابطة والحكم باعتبار المضي والتّجاوز عن الشّيء مطلقا بإلقاء خصوصيّة الصّلاة والطّهور وإن كان لا يخلو عن إشكال.

وأمّا الوجه في استفادته من الرّواية الأولى : فهو دعوى كونها في مقام إلقاء الشّك المتجاوز عن محلّه ، والمراد من الحائل : هو مجرّد الدّخول في حالة مغايرة والانتقال إليها.

ولكنّك خبير بأنّ هذه الاستفادة مشكلة.

__________________

(١) التهذيب : ج ١ / ١٠١ ـ ح ٢٦٥ ـ ١١٤ ـ عنه الوسائل : ١ / ٤٧١ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ـ ح ٧.

٤٤٥

تنقيح مضامين الأخبار (١)

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

إعلم ان المستفاد بالتأمّل في الأخبار : ان هاهنا قاعدتين :

إحداهما : قاعدة مضروبة للشك في صحّة الشّيء لأجل الشّك في الاخلال ببعض ما اعتبر فيه شطرا أو شرطا بعد الفراغ عنه.

ثانيهما : قاعدة مضروبة للشّك في وجود الشّيء بعد التّجاوز عن محلّه مطلقا ، او في خصوص أجزاء الصّلاة وما بحكمها كالأذان والإقامة كما ليس ببعيد. وذلك لأن الظّاهر من هذه الصحيحة ورواية إسماعيل بن جابر هو القاعدة الثانية ، كما انّ ظاهر الموثّقة « كلّما شككت فيه ... إلى آخره ـ » هو القاعدة الأولى ، مضافا إلى ما ورد بهذا المضمون في خصوص الوضوء والصّلاة في غير واحد من الأخبار كما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام :

« كلّما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض » وفي رواية زرارة عنه : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حال أخرى في الصّلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمى الله ممّا اوجب الله عليك فيه وضوئه ، لا شيء عليك فيه ـ الخبر ـ » إلى غير ذلك من الأخبار.

ولا يخفى أنّ إرجاع الطّائفتين إلى الأخرى بحسب المفاد أو إرجاعهما إلى ما يعمّهما أو ما يعمّ القاعدتين من كلّ منهما ، لا يخلو من تكلّف وتعسّف بلا وجه موجب له أصلا ، مع ما يرد عليه من الإشكال الاتي في خروج أفعال الطّهارات من القاعدة مع التحمّل في اندفاعه وعدم وروده على ما استفدناه من القاعدتين على ما ستطلع عليه.

ثمّ الظّاهر من دليل القاعدة الأولى عدم اختصاصها بباب دون باب بل يعم العبادات والمعاملات والظّاهر من دليل القاعدة الثّانية هو اختصاصها بأجزاء الصّلاة وما يحسب منها كالأذان والإقامة ، أو تخصيصها بغير أجزاء الوضوء او مطلق أفعال الطّهارات بناء على عدم

٤٤٦

__________________

الفصل بينها ، وانّه من المسلّمات بالإجماع على ما نقله غير واحد ، وبعض الأخبار الدّال على الإلتفات إلى الشّك ما دام في حال الوضوء مفهوما ومنطوقا مثل صحيحة زرارة المتقدّمة ، أو مفهوما مثل موثقه ابن أبي يعفور بناء على عود ضمير « في غيره » إلى الوضوء لئلا يخالف الإجماع والصّحيحة ، مع انّه أقرب ، وعلى كون المراد من « الشّكّ في شيء » الشّكّ في مركّب شكّ بعد الفراغ عنه وفي بعض ما يتألّف عنه ، فإنّها يدلّ بمفهوم القيد تارة على هذا ، وبمفهوم الحصر أخر على الإعتناء والالتفات في الأثناء.

أمّا إختصاصها بذلك فإنّ قوله « إذا خرجت من شيء » في صحيحة زرارة ، وقوله في رواية ابن جابر : « كلّ شيء شكّ فيه » لو لم يكن ظاهرا في خصوص شيء من افعال الصّلاة بقرينة السّؤال عن الشّكّ في غير واحد منها في صدر كلّ واحد منها ، فلا اقلّ من عدم الظّهور في العموم لغيرها كما لا يخفى فإنّ تكرار السؤال من خصوص الأفعال يمنع عن مفهوم إطلاق شيء بغيرها.

إن قلت : لو سلّم ذلك فإنّما هو في الصّحيحة ، لكون العموم فيها بالإطلاق دون الرّواية فإنّ العموم فيها بالوضع.

قلت : الكلام إنّما هو في المراد من لفظ « الشّيء » هل هو مطلق الشّيء ليدلّ بلفظ كلّ على استيعاب جميع أفراده ، أو خصوص شيء من افعال الصّلاة ليدلّ على استيعاب جميع أفراد خصوص هذا الشيء ، ودلالته على المطلق ليس إلّا بالإطلاق بمقدّمات الحكمة على ما هو التّحقيق ، فالكلّ إنّما هو للدّلالة على الاستيعاب واستغراق تمام أفراد ما يراد من مدخوله أمّا أنّ المراد منه هو المطلق أو المقيّد ، فإنّما هو بالإطلاق مع مقدّمات الحكمة أو مع عدمها كما إذا لم يكن من هذه الجهة في مقام البيان ، أو كان مع وجود القدر المتيقّن في البين كما في المقام ، فإنّ سبق السؤال عن غير واحد من أفعال الصّلاة يوجب كون إرادة شيء من الأفعال منه متيقّنا ، ولذا لو قيد الشّيء بقرينة متّصلة أو منفصلة لا يلزم خلاف أصل في لفظ « كلّ ».

٤٤٧

(٣٤٣) قوله : ( إنّ الشّك في الشّيء ظاهر لغة ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٢٩ )

__________________

نعم لو أريد من مدخوله الشّيء ، لا شيء خاصّ ، وأريد منه بعض أفراده بمخصّص متّصل كالاستثناء أو منفصل ، كان ذلك على خلاف ما هو الأصل من وضعه للعموم واستيعاب أفراد مدخوله ، فافهم ذلك ، فإنّه مفيد.

وأمّا تخصيصها بغير الطّهارات بناء على تسليم العموم لغير الأفعال ، فإنّما هو لصحيحه زرارة الدّلالة بمنطوقها ومفهومها على الالتفات إلى الشّك في أثناء الوضوء بضميمة عدم الفصل بينه وبين الغسل والتّيمّم ، فأفعال الطّهارات لا يكون موردا لقاعدة التّجاوز تخصيصا أو تخصّصا ، وإنّما يكون في مورد القاعدة الفراغ إذا شكّ فيها بعد الفراغ لاحتمال الإخلال ببعض ما اعتبر فيها شطرا أو شرطا ، فلا تغفل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٥ ـ ٣٩٧.

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قد ظهر بما ذكرنا في الحاشية السابقة أنّ المراد من الشّكّ في الشّيء في أدلّة قاعدة التجاوز ، الشّكّ في أصل وجوده ، وفي أدلّة قاعدة الفراغ ، الشّكّ فيه باعتبار الشّكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، فيكون المراد من التّجاوز ومن الخروج في الأولى هو التّجاوز والخروج عن محلّ الشّيء ، والمراد من المضي في ادلّة الثّانية مضيّ نفس الشّيء فلا داعي ، إلى حمل الشّكّ في الشّيء في جميع الأخبار على إرادة الشّكّ في وجود الشّيء ، كي يبعد في ظاهر بعض الأخبار ، ولا يصحّ في الآخر إلّا بتوجيه بعيد على ما تعرف عن قريب ، فتدبّر جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٧.

* وقال المحقق المدقّق الطهراني قدس‌سره :

وفيه من الأنظار ما لا يخفى :

منها : ان ظهور الشك في الشيء فيما ذكر ليس بحسب اللغة ، بل إنّما هو ظهور إنصرافي ، وإلّا فالشك في وجود الشيء لأجل الشك فيما يعتبر فيه شرطا أو شطرا شك في ذلك الشيء حقيقة.

٤٤٨

١ ـ معاني الشك في الشيء

أقول : لا يخفى عليك أنّ الشّك في الشّيء يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : كون المشكوك نفس الشّيء الّذي دخلت كلمة في « عليه » كما هو الظّاهر الغالب في إطلاقه فيكون « في » إذن للتّعدّي والصّلة ، وهي بهذا المعنى تقدّر في المشكوك كما لا يذكر معه لفظه ، فهذا الإطلاق يكون جاريا على طبق الأصل

__________________

ومنها : انّ التقيّد بالمضيّ والتجاوز لا ينافي كون الشك في اصل الوجود ؛ فإنّ التجاوز والمضيّ ليس على حقيقتهما ؛ ضرورة انّ المعنى الحقيقي لا يمكن إلّا مع وجود الشّيء وهو مع انتفاء ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا مستحيل بالضرورة ، فالأمر بالإمضاء أي : البناء عليه لا يجامع الشك في المضيّ إلّا إذا كان المضيّ المعلوم غير المضيّ المشكوك فيه.

والحاصل : انه لا إشكال في ان مفاد القاعدة البناء على المضيّ مع الشك في مضيّه فلا بدّ من الإختلاف بين المضيّ المعلوم الذي هو موضوع الأصل وبين المضيّ المأمور به الذي هو الحكم ولا فرق بين جهات الشك في الشيء مع انّ الشك في الركوع بعد ما سجد ، وفي السجود بعد ما قام لا إشكال في ظهورها في انّ المشكوك فيها أصل وجودهما.

ومنها : انّ التجاوز عن المحلّ بمعنى يغاير تجاوز الشّيء نفسه لا يمكن إرادته من هذه الروايات وأمّا التجاوز عن المحلّ بمعنى يصدق عليه التجاوز عن الشيء ومضيّه فليس وجها مغايرا لمضيّ الشيء نفسه.

ومنها : فإن إرادة الأعم من الشك في وجود الشيء والشك الواقع في الشيء الموجود لا مانع منها ؛ فإن الشك من جهة الشك في الجزء والشرط في الحقيقة شك في وجود الشيء ؛ ضرورة انتفاء الشيء بانتفاء ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٤٤٩

في الأفعال المتعدّية بالحروف ، فعلى هذا يكون المراد من « الشّيء » الّذي دخلت عليه هو المشكوك ، سواء كان المراد منه الشّيء باعتبار وجوده ، أو هو باعتبار صحّته ، أو نفس الصّحة والوجود ، أو غيرها من الأشياء.

ثانيها : كون مدخول « في » ظرفا للمشكوك كما يقال : « شككت في الصّلاة في إتيان السّورة » لا نفس المشكوك.

ثالثها : كون مدخولها ظرفا للشّك دون المشكوك باعتبار حصول الشّك فيه في المدخول ، كما يقال : « شككت في الصّلاة في موت زيد ، أو قيام عمرو ، أو جلوس بكر » إلى غير ذلك.

والظّاهر من هذه المعاني عند الإطلاق مجرّدا عن الصّارف هو الأوّل بمقتضى حكم العرف على ما عرفت ، بل قد يدّعى كون لفظة « في » حقيقة فيه ، وإن كانت هذه الدّعوى لا تخلو عن تأمّل.

وبالجملة : ظهورها فيه ممّا لا ينبغي إنكاره ، مضافا إلى كونه مطابقا للاعتبار من حيث إنّ احتياج الشّك إلى المشكوك أكثر من احتياجه إلى المشكوك فيه هذا.

ولكنّك خبير بأنّ مطابقة الاعتبار لا يجدي شيئا ؛ لأنّ المدار في باب الألفاظ على الأقربيّة العرفيّة لا الاعتباريّة ؛ فإنّه لا اعتبار بها أصلا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ من المعلوم الّذي لا يحتاج إلى البيان كون هذه المعاني للفظة « في » متضادّة لا يجوز إرادتها من إطلاق واحد ، وعدم وجود قدر مشترك لها حتّى يحكم بإرادتها من إرادته ، مع أنّه لو كان لم يجز استعمال اللّفظ فيه ؛ حيث إنّ المستعمل فيه في الحروف دائما هو الخصوصيّات لا القدر المشترك بينها كما حقّق

٤٥٠

مستقصى في محلّه (١).

وبالجملة معاني الحروف معان آليّة ربطيّة جزئيّة لا يجوز جمعها في إطلاق واحد وليست ثمّة وحدة تجمعها حتّى تصير مصحّحة لإرادتها.

إذا عرفت ذلك فنقول : أمّا المعنى الثّالث فلا نتكلّم فيه ؛ إذ لا تعلّق له بالمقام وليس المراد من الأخبار يقينا ، وإنّما الأمر دائر بين الحكم بإرادة المعنى الأوّل من الأخبار ، أو الثّاني ، فالكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في تعيين ما هو المراد من المعنيين.

ثانيهما : في بيان حكم كلّ من المعنيين ولازمه.

ما هو المراد من المعنيين الأوّليين؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل :

فملخّص القول فيه : أنّه قد يقال : بكون المراد في جملة من الرّوايات هو المعنى الثّاني لا الأوّل ؛ حيث إنّ الظّاهر من المضي على المشكوك وتجاوزه والخروج عنه كون أصل وجوده مفروغا عنه ، وكون المراد من نسبة وقوع الشّك هو وقوعه فيه باعتبار بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا ، فالأخبار المشتملة على هذه الأمور ظاهرة في المعنى الثّاني لا الأوّل ، ولا محتملة لإرادة كلّ من المعنيين على حدّ سواء حتّى توجب الإجمال فيها.

وقد يقال : إنّ المراد منها المعنى الأوّل ؛ فإنّ إمضاء الشّيء لا يستلزم وجوده

__________________

(١) انظر بحث المعاني الحرفيّة في الوضع من ابحاث مقدّمة مباحث الالفاظ من الكتب الأصوليّة.

٤٥١

يقينا ، بل المراد من إمضائه هو الحكم بأنّه كذلك في الواقع ونفس الأمر. وأمّا الخروج والتّجاوز : فالمراد منهما هو الخروج والتّجاوز عن محلّ المشكوك ، وإن كان ظاهرهما التّجاوز عن نفس المشكوك ؛ إذ مورد أكثر الأخبار المشتملة عليها هو الشّك في أصل الوجود ، وتخصيص المورد ممّا لا معنى له وإرادة المعنيين معا أيضا قد عرفت فساده ، فلا بدّ من أن يراد المعنى الثّاني هذا.

ولكنّك خبير بأنّ جميع الرّوايات المذكورة حسبما اعترف به الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث وفي « الكتاب » ليس موردها ما يوجب إرادة المعنى الأوّل ، بل الّذي ثبت إنّما هو بالنّسبة إلى بعضها ، والمفروض أنّه لا تعارض بين ما يكون ظاهرا في المعنى الأوّل وبين ما يكون ظاهرا في المعنى الثّاني ؛ إذ هما من المثبتين اللّذين لا تعارض بينهما بالذّات ، والمفروض وجود القول من الأصحاب بكلّ من المعنيين ، فيحكم بإرادته.

والقول : بأنّ الرّاجع إلى الأخبار المتأمّل فيها يعلم أنّها بأسرها وردت لبيان ٣ / ١٩٤ مطلب واحد فالمتعيّن إذن الأخذ بالمعنى الأوّل ، لا شاهد له أصلا.

حكم كلّ من المعنيين ولازمه

وأمّا الكلام في المقام الثّاني :

فحاصل القول فيه : أنّه بناء على المعنى الأوّل يختصّ الأخبار بالشّك في الوجود بناء على كون الظّاهر من الشّك في الشّيء بالمعنى الأوّل : هو الشّك في وجوده ؛ من حيث إنّه العنوان الأوّلي له ، وبه يصير الشّيء شيئا. وهذا بخلاف الأوصاف الطّارية عليه بعد الوجود ؛ فإنّه إذا شك فيها لا يستند الشّك إلى

٤٥٢

معروضها بالمعنى الأوّل ، بل لا بدّ من أن يكون مبنيّا على المعنى الثّاني.

ومنه يظهر فساد ما قد يقال : إنّه لا ضير في إرادة القدر الجامع من الشّك في الشّيء بأن يراد منه كون الشّك متعلّقا به بنحو من التّعلّق ؛ لما قد عرفت : أنّه لا جامع بين هذين المعنيين ، ومطلق التّعلّق ليس من المعنى الحرفي ، بل من المعنى الاسمي. ومن هنا ذكرنا في الجزء الثّاني من التّعليقة (١) ـ في ردّ من زعم جواز إرادة التّقسيم والتّرديد من قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال » (٢) ـ : أنّ استعمال قوله عليه‌السلام منه في المعنيين موجب لاستعمال اللّفظ في أكثر من معنى ؛ إذ لا جامع بينهما والله العالم وبه الاعتصام.

فالرّواية على هذا المعنى تختصّ بالشّك في الوجود ولا يشمل الشّك في الصّحة ، وعلى المعنى الثّاني يختصّ بالشّك في الصّحة ولا يشمل الشّك في الوجود ؛ لأنّ المفروض كون المشكوك إذن بعض ما يعتبر في الشّيء شطرا أو شرطا. وقد عرفت : أنّه لا جامع بين الشّك في الشّيء بالمعنى الأوّل وبينه بالمعنى الثّاني.

(٣٤٤) قوله : ( بل لا يصحّ ذلك في موثقة ابن أبي يعفور ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٩ )

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٢٢.

(٢) انظر محاسن البرقي ج ٢ / ٤٩٥ باب الجبن ـ ح ٥٩٦ ، والكافي : ج ٥ / ٣١٣ باب النوادر ـ ح ٣٩ ـ وج ٦ / ٣٣٩ باب الجبن ـ ح ١ ، والفقيه : ج ٣ / ٣٤١ ـ ح ٤٢٠٨ ، والوسائل عن الكافي والفقيه : ج ١٧ / ٨٨ باب عدم جواز الإنفاق من الكسب الحرام ... » ـ ح ١ وج ٢٥ / ١١٧ باب « جواز أكل الجبن ونحوه ممّا فيه حلال وحرام ... » ـ ح ١ وفي لفظ الرواية اختلاف يسير بين المصادر.

٤٥٣

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يورد عليه : بأنّ المتعيّن في الموثّقة هو المعنى الأوّل بمقتضى ظاهرها ؛ فإنّ الظّاهر من قوله : « إذا شككت في شيء من الوضوء » (١) كون المراد من الشّيء نفس المشكوك الّذي هو جزء الوضوء ، لا كون المراد منه الوضوء وكون المشكوك أجزاءه حتّى يتعيّن إرادة المعنى الثّاني ، ولا ينافيه كون المراد من الغير غير الوضوء بالإجماع ؛ إذ لا تنافي بينهما ، فلا يصير دليلا على كون المراد من الشّيء نفس الوضوء ، بل ربّما قيل بكونه يصير دليلا على كون مرجع الضّمير هو الوضوء فتأمّل.

وبالجملة : كلّما نتأمّل لا نفهم وجها لما ذكره أصلا ، بل أصل إرادة المعنى الثّاني من الرّواية لا يستقيم بظاهرها ؛ لانحصار تصحيحه بجعل قوله : « ومن الوضوء » بيانا للشّيء وهو كما ترى فتدبّر.

(٣٤٥) قوله : ( ولكنّ الإنصاف : إمكان تطبيق ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٩ )

أقول : قد عرفت وجه تطبيقه على وجه يمكن إرادة المعنى الأوّل فراجع ، وأمّا الموثّقة الثّانية : فوجه تطبيقها على ما في الرّوايات هو جعل الوضوء أمرا بسيطا في نظر الشّارع لا تركيب له أصلا حتّى يتصوّر فيه المعنى الثّاني وستقف على شرح القول فيه.

__________________

(١) التهذيب : ج ١ / ١٠١ ـ ح ٢٦٢ ـ ١١١ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٤٧٠ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ـ ح ٢.

٤٥٤

٢ ـ ما هو المراد من « محلّ الشيء المشكوك فيه »؟

(٣٤٦) قوله : ( إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك ظهور ما ذكره من التّعميم على القول بكون المناط المستكشف من الأخبار هو مجرّد التّجاوز عن محلّ المشكوك فيلغو الشّك فيه بعده ، وأمّا على القول باعتبار الدّخول في الغير فيمكن الحكم بالتّعميم أيضا فنقول على تقديره : إنّ المراد من الغير هو ما كان مترتّبا على المشكوك إمّا ترتّبا شرعيّا ، أو عقليّا ، أو عرفيّا ، أو عاديّا ، فلا فرق في التّعميم بين القولين.

ثمّ إنّ الدّليل على هذا التّعميم هو كون التّجاوز عن المحلّ ، أو الدّخول في الغير من قبيل غيرهما من الألفاظ الّتي لا بدّ من الرّجوع في المراد منها عموما وخصوصا ، إطلاقا وتقييدا إلى اللّغة ، أو العرف ، أو الشّرع على ما هو الشّأن في جميع موارد تعلّق الحكم باللّفظ. والمفروض عدم ثبوت الحقيقة الشّرعيّة فيها ، فتعيّن الرّجوع فيها إلى اللّغة والعرف ، وليس اختلاف بينهما في المقام حتّى نتكلّم في ترجيح أحدهما على الآخر ، مع أنّه لا إشكال في ترجيح الثّاني ، ومن المعلوم حكم العرف بما ذكرنا من التّعميم.

(٣٤٧) قوله : ( ومحل الرّاء من أكبر قبل أدنى فصل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الرّاء في « أكبر » ليس من الرّاء السّاكن ، فلعلّه سهو

٤٥٥

من قلمه الشّريف ، فالمتعيّن المثال له بالكاف (١).

(٣٤٨) قوله : ( فإنّه ربّما يتخيّل انصراف إطلاق الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك فساد هذا التّخيّل ؛ إذ لا وجه له أصلا ؛ إذ لو بني على أنّ المراد بالمحلّ هو المحلّ الشّرعي ، وأنّ المراد بالغير هو الأمر المترتّب شرعا على المشكوك ، فلا بدّ من أن يبتنى على عدم اعتبار غير المحلّ الشّرعي والغير الشّرعي. وهو كما ترى ، مضافا إلى أنّه لا شاهد لهذا الانصراف أصلا كما لا يخفى.

(٣٤٩) قوله : ( مع أنّ فتح هذا الباب بالنّسبة إلى العادة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ البناء على اعتبار المحلّ مطلقا وبعمومه يلزم منه فروع لا يلتزم بها الفقيه قطعا ، بل لا يبعد كون الالتزام به في بعض الفروض خلاف الضّرورة من الفقه ، والفرق أيضا ممّا لا معنى له.

نعم ، ظاهر جماعة ـ حسبما حكى عنهم الأستاذ العلّامة ـ الالتزام باعتبار العادة في معتاد الموالاة في الغسل ، فإذا شكّ وقت الظّهر أنّ الغسل الّذي فعله سابقا كان تامّا من حيث الأجزاء من حيث كونه ترتيبيّا مع اعتياده عدم الفصل

__________________

(١) قال المحقق الشيخ رحمة الله الكرماني رحمه‌الله :

« لمّا كان الرّاء من أكبر ساكنة في تكبيرة الإحرام لم يجز تحريكها ووصلها وإن كانت في غير هذا الموضع يجوز وصلها وتحريكها فمحلّها بعد الباء بلا فصل يوجب الإبتداء بالساكن ، والحاكم بهذا المحل هو العقل بعد ملاحظة عدم جواز تحريك الرّاء وتعذّر الإبتداء بالساكن فيحكم بأن محلّها بعد الفراغ من الباء بلا فصل.

والعجب من المحقّق الآشتياني حيث قال هنا : ( لا يخفى عليك أن الراء ... إلى آخره ) فقد عرفت : انّ السهو في قلمه لا في قلمه الشريف » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٤١١.

٤٥٦

بين أجزائه ـ كما هو المتعارف ـ بنى على وقوعه تامّا.

ولكن لم يظهر من هؤلاء الالتزام بهذه المقالة في أمثال الفرع ممّا أشار إليه الأستاذ العلّامة وممّا لم يشر إليه من الفروع الكثيرة الغير المخفيّة على المتأمّل ، ولكن لم يفهم المراد ممّا ذكره الأستاذ العلّامة : من أنّ فتح باب اعتبار العادة يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة.

فإنّه إن أريد به إطلاقات أوامر الأفعال. ففيه : أنّ الأوامر المتعلّقة بالأفعال لا يقتضي إلّا وجوب إيجادها في الخارج ، أمّا وجوب الإتيان بها وامتثالها عند الشّك فيها فهو حكم عقلي لا دخل له بحديث الإطلاقات والعمومات ؛ من حيث إنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، بل لا يمكن استفادة هذا المعنى من هذه الأوامر حسبما قرّر تفصيل القول فيه في محلّه.

وإن أريد به إطلاقات أوامر وجوب الإطاعة. ففيه : أنّ التّمسك بإطلاقاتها في صورة الشّك أيضا ممّا لا معنى له ؛ لأنّ غاية ما يستفاد منها هو أصل وجوب إطاعة الأمر المتوجّه إلى الشّخص. وأمّا الإقدام بالفعل في صورة الشّك ، فلا يمكن أن يستفيد منها ؛ لأنّه من التّمسك بالعمومات والإطلاقات مع الشّك في الموضوع وهو كما ترى هذا.

مع أن هذه الأوامر إمضاء لما يحكم به العقل ، فليست في مقام تأسيس حكم حتّى يتمسّك بإطلاقها. وبالجملة : الحكم بإلقاء العادة من جهة الإطلاق والحكم باعتبارها أيضا مشكل في غاية الإشكال : من عمل جماعة به في الجملة ، وكونه مقتضى قوله في بعض الرّوايات : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » ، ومن كون البناء عليه مستلزم لتأسيس فروع جديدة لم يلتزم بها أحد من الفقهاء.

٤٥٧

فالحقّ : أنّ الرّجوع إليه بإطلاقه لا يجوز. وأمّا الحكم بمقتضاه في المورد الّذي حكموا به كما في الغسل ، ومعتاد الاستنجاء حيث حكم بعض الأساطين بعدم اعتبار الشّك فيه بعد الخروج عن بيت الخلاء لمن كان الاستنجاء من عادته فلا يخلو عن إشكال أيضا. وإن لم يكن بمثابة الالتزام بالإطلاق ؛ فإنّا نعلم إنّ حكمهم بعدم الاعتناء بالشّك فيما حكموا به ليس من أجل دليل تعبّدي خاصّ وصل إليهم ، بل من أجل نفس عموم الأخبار المتقدّمة.

٣ ـ هل يعتبر في التجاوز والفراغ الدخول في الغير أم لا؟

(٣٥٠) قوله : ( الدّخول في غير المشكوك إن كان محقّقا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٣٢ )

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لا يخفى ان هذا الموضع مشتمل على مطلبين يمكن إفراد كلّ منهما بالبحث :

أحدهما : ان المناط في جريان القاعدة مجرّد صدق التجاوز عن المشكوك والفراغ عنه أم يعتبر مع ذلك تحقق الدخول في الغير؟

الثاني : ان المراد بالغير ما هو؟ هل هو مطلق غير المشكوك فيه كائنا ما كان ، أو الأفعال المعنونة بعنوان خاص عرفي أو شرعي ، أو خصوص الثاني منهما ، أو الفعل المعتدّ به دون الفعل الحقير أو اليسير لكنّ لمّا كان أحد البحثين متفرّعا على الآخر ناسب إدراجهما في موضع واحد.

بيان ذلك : أنّ فائدة البحث الأوّل إنّما تظهر في محل انفكاك عنوان الدخول في الغير عن عنوان التجاوز والفراغ وإلّا فإن لم يكن هناك انفكاك يلغو هذا البحث بالمرة ، وإنّما يتصوّر

٤٥٨

__________________

الانفكاك إذا لم يكن المراد بالغير مطلقة وإلّا فكلّما تحقق عنوان التجاوز عن الشيء صدق الدخول في مطلق غيره ، بل إذا كان المراد بالغير أحد المعاني الباقية فحينئذ يمكن صدق التجاوز بمجرد الخروج عن الشيء والدخول في شيء آخر ولكن لم يدخل فيما اريد من الغير من العناوين المذكورة.

وبالجملة : فقد تبيّن وجه صرف المصنّف كلامه في خلال البحث الأول إلى البحث الثاني وأنه مبني للبحث الأوّل ، ومحصّل ما أفاده فيه في المتن : أنّ الظاهر من لفظ « غيره » المذكورة في أخبار الباب وإن كان مطلق غير المشكوك إلّا أنّ الأمثلة المذكورة في خبر اسماعيل بن جابر بملاحظة كونها في مقام التحديد ومقام التوطئة للقاعدة المقرّر بقوله عليه‌السلام بعدها : « كل شيء شك فيه وقد جاوزه » إلى آخره ، تدل على انّ حدّ الغير الذي يعتبر الدخول فيه أمثال الركوع والسجود والقيام ونحوها من الأفعال المعنونة المجعولة أجزاء مستقلة للصلاة دون مثل الهويّ للسجود والنهوض للقيام وأمثالهما من مقدمات الأفعال المذكورة ، فالقاعدة مضروبة لأمثال هذه الأمثلة لا تعم غيرها.

وبعبارة أخرى : خصوصية صدر الخبر تصير قرينة على تخصيص عموم الذيل ، ونحن نقول هذه المسألة سيالة في نظائر المقام مما إذا ذكر في صدر الكلام حكما لمورد خاص وعلّله بعلة عامة ، فهل تكون خصوصيّات المورد وقيوده المأخوذة فيه قرينة لصرف عموم العلة إلى أمثاله مما اشتمل على تلك القيود أم لا ، بل يؤخذ بعمومها بحسب مدلولها في حد نفسه ، فتكون قيود المورد ملغاة فيما يرجع إلى حكمه ، هذا.

ومن جملة أمثلته موثقة ابن أبي يعفور « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » فانه فرض المسألة في صدرها في مورد تحقق الدخول في الغير ، وعلّق عموم التعليل في ذيلها على مجرد التجاوز ، فيحتمل أن يكون المناط هو الدخول في الغير بقرينة الصدر ، وان يكون المناط

٤٥٩

أقول : لا يخفى عليك أنّه ربّما يتراءى في باديء النّظر من هذه العبارة كون الدّخول في الغير أعمّ من التّجاوز عن المحلّ مع وضوح فساده ؛ لأنّ الأمر بالعكس ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ المراد من العبارة حسبما يقتضيه التّأمل فيها هو أنّ الدّخول في الغير إن كان محقّقا للتّجاوز عن المحلّ بأن استند التجاوز إليه فلا إشكال ؛ لأنّه مجمع الاخبار المتعارضة بظاهرها وإن لم يكن الدخول في الغير محقّقا للتجاوز عن المحل ، بل تحقّق التّجاوز قبله. ففيه : إشكال ، وكيف كان : الأمر في هذا سهل.

فبالحريّ أن نصرف عنان القلم إلى بيان تعارض الأخبار والجمع بينها. فنقول :

__________________

مجرد التجاوز كما هو مقتضى ظاهر التعليل ، وذكر الدخول في الغير في الصدر من باب المثال ولأنه من الأفراد الواضحة الشائعة اختاره من بين الأمثلة ، وهكذا يكون الاحتمالان فيما نحن بصدده في خبر اسماعيل بن جابر.

والتحقيق أنّ ترجيح أحد الاحتمالين لا يدخل تحت ضابطة كلية يبحث عنه الأصولي ، لأنّ مناط الترجيح أقوائية ظهور الصدر في اعتبار خصوصيات المورد قيدا على ظهور الذيل في الإطلاق أو العكس ، فربما يكون هذا وربما يكون ذاك ، فلا بدّ للفقيه من ملاحظة خصوصيات الموارد ويختار في كل مورد ما يترجّح في نظره من أحد الوجهين ، فنقول فيما نحن فيه إنه لم يظهر لنا أنه عليه‌السلام عند ذكر هذه الأمثلة في مقام التوطئة وبصدد تحديد الغير الذي يعتبر الدخول فيه ليصير ذلك قرينة على صرف العموم إلى أمثال هذه الأمثلة ، وحيث لا صارف لظهور عموم العام يؤخذ بعمومه ويحمل اختياره لتلك الأمثلة على أنها أقرب للأذهان لكونها من الأمثلة الواضحة الشائعة ، فناسب ذكرها أوّلا ليستأنس الذهن بالمطلب ثم ذكر عموم القاعدة بحيث يشمل سائر الأفراد الخفية أو الواضحة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٦٣ ـ ٣٦٥.

٤٦٠