بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

بقاء مورده وحدوث ما يترتّب عليه أوّلا من أحكامه الشّرعيّة ، فيثبت باستصحاب الطّهارة بقاؤها فيترتّب عليه صحّة الصّلاة المأتي بها معها ، وحصول البراءة بها ، وباستصحاب الكرّية بقاؤها ، ويترتّب عليه طهارة ما يرد عليه من المتنجّس ».

إلى أن قال :

« فإنّ هذه الأمور وإن كانت حادثة ومقتضى الاستصحاب عدمها وقضيّة ذلك تعارض الاستصحابين إلّا أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في المقام ثبوت تلك الأمور بالاستصحاب ، ألا ترى أنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة السّابقة : ( ولا تنقض اليقين بالشّك ) بعد قوله : ( فإنّه على يقين من وضوئه ) يعطي البناء على يقينه السّابق وإثبات ما يترتّب عليه من أحكامه الشّرعيّة كصحّة الصّلاة إذا أتى بها ، وبراءة ذمّته منها في مسألة الشّك في بقاء الطّهارة ـ كما هو مورد الرّواية ـ وإن كانت مخالفة للاستصحاب » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت خبير بأنّه لا مجال للرّيب بعد التّأمّل في هذا الكلام أنّ مقصوده ممّا ذكره أخيرا هو ما ذكرنا من ثاني شقيّ التّرديد ، وأنّه ليس مقصوده ما ذكره الأستاذ العلّامة : من كونه تتميما للدّليل الأوّل بملاحظة القولين في مدرك الاستصحاب.

ومنه يعلم : أنّ كلامه أخيرا مناقض لما ذكره أوّلا من فرض التّعارض ؛ لأنّه إذا لم يثبت حجّية الأصل في الواسطة ، كيف يمكن إيقاع التّعارض بينه وبين الأصل في الملزوم؟ ومع ثبوته لا معنى لما ذكره أخيرا كما لا يخفى.

نعم ، لو جعل ما ذكره أخيرا دليلا مستقلّا لم يرد عليه إيراد التّناقض كما هو

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٧٧.

١٤١

واضح ، لكنّه بعيد غاية البعد هذا.

ولكنّك خبير بتطرّق المناقشة إلى كلا الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّه لا معنى للحكم بوقوع التّعارض كلّية ، وفيما يصحّ الحكم بوقوع التّعارض لا ينفع المستدلّ.

توضيح ذلك : أنّك قد عرفت : أنّه إذا كانت بين المستصحب والواسطة علقة ولزوم ـ سواء كانت الواسطة عقليّة أو عادية ـ لا يخلو الأمر بحكم العقل في ثلاث صور : الأولى : أن تكون الواسطة لازمة للمستصحب. الثّانية : أن تكون ملزومة له. الثّالثة : أن تكون ملازمة معه لأمر ثالث.

أمّا الصّورة الأولى ، فلا إشكال في عدم تعارض الأصل في الواسطة مع الأصل في المستصحب على فرض القول بإمكان تعلّق الجعل بها باستصحابه على ما هو لازم القول بالتّعارض ؛ لأنّ الشّك فيها مسبّب عن الشّك فيه. وسيجيء : أنّ الأصل في الشّك المسبّب لا يعارض الأصل في الشّك السّببي.

نعم ، على ما بنينا عليه : من عدم إمكان جعل الواسطة لا إشكال في جريان الأصل في الواسطة وحجيّته وسلامته عن الأصل الحاكم عليه.

نعم ، هنا مسلك آخر للقول باعتبار الأصول المثبتة يمكن أن يحكم ـ بناء عليه ـ بوقوع التّعارض بين الأصل في الملزوم والأصل في الواسطة. وهو : الحكم بحجّية الاستصحاب بالنّسبة إلى الأثر المترتّب على المستصحب بالواسطة : من جهة دعوى صدق النّقض على ترك الالتزام به على ما عرفت في الأثر المترتّب على المستصحب بالواسطة الخفيّة من دون أن يلتزم بتعلّق الجعل الظّاهري بنفس الواسطة ؛ فإنّه بناء على هذا يمكن أن يحكم بوقوع التّعارض بين الأصل في

١٤٢

الملزوم المقتضي لجعل الآثار المترتّبة عليه بالواسطة والأصل في الواسطة المقتضي لعدم جعل تلك الآثار ، وليس الأصل في الأوّل حاكما على الأصل في الثّاني حتّى يقال بتقدّمه عليه ؛ فإنّ المفروض عدم إمكان إثبات الواسطة بالأصل في الملزوم وإن كان الشّك فيها مسبّبا عن الشّك فيه ؛ فإنّ مجرّد تسبّب الشّك لا يكفي في تحكيم الأصل في الشّك السّببي على الأصل في الشّك المسبّب ما لم يقتض الأصل في الأوّل رفع الثّاني كما لا يخفى.

وأمّا الأثر المترتّب على الملزوم بالواسطة فهو وإن كان الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في الملزوم ، إلّا أنّه ليس المقصود إجراء استصحاب العدم فيه ، بل في نفس الواسطة الّتي يكون الشّك في الأثر مسبّبا عن الشّك فيها أيضا أوّلا وبالذّات هذا.

ولكن يمكن أن يتفصّى عمّا ذكرنا بوجهين :

أحدهما : ادّعاء وجود مناط تقديم الحاكم على المحكوم في المقام أيضا ؛ لأنّ الشّك في الأثر الشّرعي مسبّب أوّلا وبالذّات عن الشّك في الملزوم ؛ لتقدّمه بحسب الرّتبة ، فإذا حكم الشارع بثبوته بمقتضى الأصل في الملزوم ثبت كون الأصل في الواسطة ممّا لا يترتّب عليه أثر ، فيكون خروجه عن أخبار الاستصحاب من باب التخصّص لا التّخصيص بناء على ما عرفت : من عدم جريان الأصل الّذي لا يترتّب عليه أثر فتأمّل.

ثانيهما : أنّ الواسطة وإن لم يكن مجعولة بناء على هذا المسلك إلّا أنّها ممّا يتعلّق به التّنزيل بالواسطة فلا معنى أيضا لجريان الأصل فيها كما لا يخفى هذا كلّه. مع أنّه لو بني على معارضة الأصل في اللّازم مع الأصل في الملزوم في اللّوازم العقليّة والعادية لعورض بمعارضته معه في اللّوازم الشّرعيّة فيلزم الحكم بسقوط

١٤٣

الاستصحاب عن الاعتبار مطلقا. ودعوى : الفرق بين اللّوازم مع القول بإمكان تعلّق الجعل بالنّسبة إلى اللّوازم العقليّة والعادية ، فاسدة جدّا كما هو واضح على الأوائل فضلا عن الأواخر.

أمّا في الصّورة الثّانية ، فلا إشكال أيضا في عدم تعارض الأصل في اللّازم مع الأصل في الملزوم وإن كانت الملازمة شرعيّة أيضا ، لأنّ الأصل في الملزوم حاكم على الأصل في اللّازم ، كاستصحاب النّجاسة في الملاقى الحاكم على استصحاب الطّهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ وكاستصحاب الكريّة في الماء الحاكم على استصحاب النّجاسة في المغسول به ، وكاستصحاب بقاء الطّهارة الحاكم على استصحاب بقاء الاشتغال إلى غير ذلك. هذا كلّه لو كان المقصود من الأصل في اللّازم هو ترتيب الأثر المترتّب على مورده.

وأمّا لو قيل : بأنّ المقصود من القول بحجيّة الأصل المثبت في اللّازم : هو إثبات الملزوم به على ما يظهر من كلمات بعض فيثبت باستصحاب الطّهارة في المثال الأوّل : طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ أيضا ، وفي المثال الثّاني : نجاسة الماء أيضا من حيث تسبّب النّجاسة في المغسول به على تقدير ثبوتها عن نجاسته قطعا كما هو المفروض ، وفي المثال الثّالث : كون المكلّف محدثا من حيث تسبّب بقاء الاشتغال واقعا عن كون المكلّف محدثا ، فستعرف الحال فيه من الكلام في حكم الصّورة الآتية هذا.

ولكن صرّح الأستاذ العلّامة : بأنّ مراد القائل بتعارض الأصلين في المقام ليس هو تعارضهما من حيث اقتضاء الأصل في اللّازم إثبات الملزوم ، بل من حيث اقتضائه ترتّب الأثر المترتّب على مورده فيكون تعارضهما من حيث كون

١٤٤

الأصل في الملزوم منافيا لما يلزمه من حكم الواسطة.

وأمّا الصّورة الثّالثة : وهي ما لو كان كلّ من المستصحب والواسطة لازما لأمر ثالث ، كما في موارد العلم الإجمالي بوجود أحد الحادثين ؛ فإنّ عدم كلّ منهما مع وجود الآخر متلازمان للعلم الإجمالي بوجود أحدهما ؛ فإنّ الشّك في أحدهما ليس مسبّبا عن الشّك في الآخر كما لا يخفى. فمقتضى التّحقيق وإن كان تعارض الأصلين فيها مع الغضّ عمّا عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة في هذا الجزء والجزء الثّاني : من عدم جريان الأصول في صورة العلم الإجمالي ، إلّا أنّ مجرّد لزوم التّعارض من القول باعتبار الأصول المثبتة في بعض الموارد لا يوجب الحكم بعدم اعتبارها كليّة ، وإلّا لجرى المنع إلى اعتبار أكثر الأمارات بل كلّها كما لا يخفى هذا.

مع أنّه لا ثمرة بين القول باعتبار الأصول المثبتة والقول بعدم اعتبارها ؛ لأنّه إن فرض الكلام بالنّسبة إلى الأثر الّذي ترتّب على مجرى كلّ من الأصلين من غير تعارض بينهما ؛ لعدم لزوم مخالفته عمليّة للعلم الإجمالي ، فلا معنى للقول بعدم اعتبار الأصلين بالنّسبة إلى هذا الأثر وإن فرض الكلام بالنّسبة إلى الأثر الّذي يلزم من الالتزام به مخالفة العلم الإجمالي ، فلا معنى للقول بجواز الالتزام به ولو على القول باعتبار الأصول المثبتة ، بل لا بدّ حينئذ من القول بتساقط الأصلين والرّجوع إلى أصل آخر. هذا كلّه على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن فعدم التّعارض بين الأصلين فيما حكمنا بعدم التّعارض بينهما من الأقسام الثّلاثة أوضح ؛ لاستحالة

١٤٥

تعلّق الظّن بعدم اللّازم مع الظّن ببقاء الملزوم من حيث هو ولو كان بالظّن النّوعي ؛ لمنافاته بالضّرورة لفرض قضيّة اللّزوم بينهما وتسبّب الشّك في أحدهما عن الشّك في الآخر. كما أنّه يستحيل أن تصير الحالة السّابقة في طرف المحكوم مانعة من حصول الظّن من الحالة السّابقة في الملزوم هذا. وقد عرفت جملة من الكلام في ذلك في طيّ كلماتنا السّابقة وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله في باب تعارض الاستصحابين. هذا ملخّص الكلام على الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثّاني : فلأنّه لا معنى للحكم بكون الأخبار مسوقة لبيان جعل الآثار الشّرعيّة فقط مع تسليم إمكان تعلّق الجعل بغيرها أيضا. هذا مجمل القول في المقام على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار والتّعبّد الظّاهري.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن : فالّذي صرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث وفي « الكتاب » والمعروف في الألسنة ويقتضيه فتاوى الأصحاب في الجملة في المسائل الفرعيّة والنظر الدّقيق : هو عدم الفرق بين الأصول المثبتة وغيرها سواء كانت في الأحكام الشّرعيّة ، أو الموضوعات الخارجيّة. وسواء كانت الواسطة عادية ، أو عقليّة ، لا بمعنى تعلّق الجعل الشّرعي بنفس الواسطة على هذا التّقدير حتّى يرجع إلى التّفصيل في إمكان تعلّق الجعل الشّرعي بغير الأمر الشّرعي بين القولين ، كيف! وهو ممّا لا يقول به أحد ؛ إذ ضرورة العقل قاضية بعدم الإمكان مطلقا واستحالة الفرق ، بل لأنّ الظّن باللّازم لمّا يكون ظنّا بالملزوم قهرا لقضيّة الملازمة فيحكم الشارع بحجيّة الظّن من حيث كشفه ومرآتيّته على الإطلاق. وإيجابه الالتزام بمقتضاه بالحيثيّة المذكورة جعل ظاهريّ لجميع آثار ما تعلّق الظّن به ، فبضميمة استحالة الانفكاك بين الظّن بالملزوم والظّن باللّازم يحكم

١٤٦

بتعلّق الجعل بآثار كلّ منهما.

وهنا وجه آخر للحكم بحجيّة الأصل المثبت على هذا التّقدير وهو : أن يقال بتعلّق الجعل أوّلا وبالذّات بنفس الحكم الشّرعي المترتّب على المستصحب بالواسطة ؛ من حيث إنّ الظّن بالمستصحب كما يكون ظنّا بنفس الواسطة ، كذلك يكون ظنّا بالحكم الفرعي المترتّب عليه في الشّريعة أيضا لقضيّة التّرتّب.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا من عدم اعتبار الأصول المثبتة على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد الظّاهري ، واعتباره من باب الظّن ليس مختصّا بالمقام ، بل يجري في جميع ما كان حكما ظاهريّا محضا ومعتبرا من باب الظّن كأصالة البراءة ، والاحتياط ، وقاعدة الشّك بعد الفراغ ، وأصالة الصّحة في فعل المسلم ، ونحوها ؛ فإنّ في اعتبار المثبت منها وعدمه وجهان : مبنيّان على اعتبارها من باب التّعبّد والحكم الظّاهريّ والظّن.

نعم ، على القول باعتبار أصالة الصّحة من باب ظهور حال المسلم أيضا يمكن أن يقال بعدم اعتبار المثبت منها لعدم دليل على اعتبارها من حيث كشفها بقول مطلق ؛ إذ عمدة الدّليل عليها عندنا الإجماع وهو ليس له إطلاق يؤخذ بمقتضاه ويحكم باعتبارها مطلقا.

والحاصل : أنّه إذا قام دليل على اعتبار أمارة بقول مطلق لم يعقل الفرق فيه بين الظّن بنفس موردها وما يلزمه ولو بوسائط عديدة وهذا هو المدّعى ؛ إذ لسنا في صدد ادّعاء الملازمة بين اعتبار الظّن بشيء ولازمه في جميع المقامات كيف! والتّفكيك والتخلّف قد شوهد في جملة من المقامات ، كما في المسألة الأصوليّة ، والفرعيّة ، والقبلة ، والوقت ، والمسألة اللّغويّة ، والفرعيّة ، ولا ضير فيه أصلا ؛ لأنّ

١٤٧

التّفكيك بين المتلازمين في الظّاهر فوق حدّ الإحصاء في الشرعيّات بحيث لا يحتاج من كثرة الوضوح إلى المثال ، وحكاية السّودة والسّمعة معروفة ، إلّا أنّ الحكم فيها محمول على الاستحباب.

والّذي يجمع موارد التّفكيك على سبيل الضّابطة يرجع إلى أمور :

الأوّل : أن يكون الدّليل مقتصرا فيه على ترتيب بعض الأحكام المترتّبة على مورد الظّن ، كما فيما دلّ على وجوب الصّوم عند الشّك في هلال رمضان بشهادة عدل واحد ، فلا يحكم حينئذ بترتيب جميع الآثار عليه ، فلا يلزم منه جواز الإفطار بعد مضي ثلاثين من ذلك اليوم ؛ لأنّه لم يحكم بثبوت الهلاليّة بشهادة العدل الواحد حتّى يلزم منه الحكم المذكور.

الثّاني : أن يقوم الدّليل من الخارج على عدم اعتبار الظّن باللازم كما في الظّن بالمسألة الفرعيّة المستلزم للظّن بالمسألة الأصوليّة إن فرض تسبّب الأولى من الثّانية على القول : بأنّ عدم اعتبار الظّن في الأصول إنّما هو من حيث الخصوص ، لا من حيث الاندراج تحت ما دلّ عموما على حرمة العمل بالظّن.

الثالث : أن يكون الدّليل الدّال على اعتبار الظّن في الملزوم مهملا حاكما باعتبار الظّن في الجملة ، فيكون الحكم بعدم اعتبار الظّن في اللّازم حينئذ من حيث عدم قيام الدّليل على اعتباره ، لا من حيث قيام الدّليل على اعتباره.

وهذا قد يكون في الأحكام الكليّة والشّبهات الحكميّة ، كما في الظّن بالمسألة الفرعيّة المستلزم للظّن بالمسألة الأصوليّة ، أو اللّغوية بناء على كون حرمة العمل بالظّن في الأوّل من حيث عدم قيام الدّليل على الاعتبار.

وقد يكون في الموضوعات الخارجيّة ، كما في الظّن بالقبلة المستلزم للظّن

١٤٨

بالوقت ولو في بعض الأوقات.

فإن قلت : بعد البناء على جواز التّفكيك بين اعتبار الظّن بالملزوم والظّن باللّازم في الشّريعة ، فما يحملك على الحكم بالتّعميم في المقام؟ مع أنّ المتيقّن من اعتبار الظّن الاستصحابي إنّما هو بالنّسبة إلى ما يترتّب على المستصحب من الأحكام الشّرعيّة أوّلا وبالذّات ؛ لأنّ عمدة الدّليل على اعتباره من باب الظّن هو بناء العقلاء ، والمتيقّن من بنائهم إنّما هو بالنّسبة إلى تلك الآثار ، وليس له إطلاق حتّى يتمسّك به ، وكذلك إذا قلنا باعتباره من باب دليل الانسداد الّذي أقاموه لحجيّة مطلق الظّن ؛ فإنّه لا إطلاق له يقتضي بالحجيّة مطلقا سيّما إذا قلنا بكون النّتيجة مهملة.

قلت : دعوى : اختصاص بناء العقلاء على العمل بالظّن الاستصحابي في خصوص الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بدون واسطة أو كون القدر الثّابت منه ذلك ، فاسدة جدّا ؛ إذ بناء العقلاء على الظّن إنّما هو من حيث الطّريقيّة المحضة الّتي لا يفرّقون فيها بين أنحاء الانكشاف ومجرّد كون الدّليل لبيّا لا يقتضي المصير إلى إهماله كما هو واضح على الأوائل ، هذا بالنّسبة إلى بناء العقلاء.

وأمّا دليل الانسداد فالأمر فيه أوضح ؛ لأنّ نتيجة مقدّماته على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة : هي حجيّة الظّن المتعلّق بالحكم الشّرعي الكلّي سواء كان بلا واسطة أو بواسطة هذا. ولكن الّذي استقرّ عليه بناء القائلين باعتبار الاستصحاب من باب الظّن عدم الالتزام باعتبار الأصول المثبتة في جميع الفروع ، وإن كان يظهر منهم الاعتماد عليها في جملة منها كما يقف عليه المتتبّع في كلماتهم ويكفي شاهدا ما ذكره الأستاذ العلّامة في « الكتاب » من

١٤٩

موارد التخلّف.

وهذا كما ترى ، لا يجامع ما ذكرنا ؛ لأنّه إن كان الدّليل على اعتبار الظّنّ الاستصحابي مهملا فلا بدّ من إلقائه والقول بعدم اعتبار الأصول المثبتة مطلقا وفي جميع المقامات وإن كان الدّليل عليه دالّا على اعتبار جهة طريقيّته بقول مطلق ، فلا بدّ من الالتزام باعتبارها في جميع الموارد فما وجه التّفكيك؟

وأمّا ما يقال في توجيه كلماتهم : من أنّ موارد عدم التزامهم بها إنّما هي فيما يكون الواسطة فيها من المقارنات لا اللّوازم ، ويمكن دعوى الفرق في بناء العقلاء بين اللّوازم والمقارنات.

فيدفعه : أنّ المعلوم للمتتبّع في كلماتهم التزامهم في بعض المقامات بآثار المقارنات ، وعدم التزامهم في بعضها بآثار اللّوازم ، مع أنّ دعوى : الفرق في بناء العقلاء بين الوسائط ضعيفة جدّا.

نعم ، قد عرفت : أنّه بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد يمكن التّفصيل بين الوسائط واللّوازم ولم يظهر لي عاجلا ما يدفع الإشكال عنهم ، إلّا بأن يدّعى اختصاص موارد التزامهم بما يكون الواسطة فيه خفيّة مع اختصاص بناء العقلاء على العمل بالظّنّ الاستصحابي بالنّسبة إلى هذا المورد ؛ لأنّ عدم التزامهم بالحكم المترتّب على الوسائط البعيدة معلوم بالوجدان هذا ولكنّ الدّعويين غير نقيّين عن الإشكال والله العالم بحقيقة الحال ، هذا مجمل ما يخطر بالبال في توضيح المقام.

١٥٠

(٢٤٦) قوله : ( وهذه المسألة نظير ما هو المشهور ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٣٥ )

المسألة المذكورة لا دخل لها بالمقام

أقول : لا يخفى عليك أنّه ليس للمسألة كثير دخل بالمقام وليست نظيرا له أصلا. نعم ، يمكن أن يقال بوجود أدنى مناسبة بينهما من حيث إنّه يجب أن يلاحظ في التّنزيل الشّرعي نفس الموضوع الّذي صار موردا للحكم لا ما يلازمه من العنوانات.

توضيح ذلك : أنّ المشهور بين الأصحاب أنّ المحرّم بالرّضاع هي نفس

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« كما إذا حصل الرضاع المحرّم بين أخ زيد وهند ، فتصير هند أخت أخ زيد ، فلو أريد بذلك أن يثبت عنوان أختيّة هند لزيد ؛ نظرا الى أنّ أخت الأخ في النسب ملازم لعنوان الأخت ويحكم بحرمتها على زيد كان نظيرا لما نحن فيه ، هذا غاية توجيه كلام المتن وفيه نظر بيّن ؛ لأن ما هو المسند إلى المشهور في باب الرّضاع ـ كما هو ظاهر المتن ـ إجراء حكم عنوان لعنوان آخر ملازم للعنوان الأوّل في النسب.

ففي المثال يحكم بترتّب حكم الحرمة على عنوان أخت الأخ الذي يلازم عنوان الأخت في النسب.

ويجاب : بأنّ المحرّم في النسب هو عنوان الأخت ، لا أخت الأخ.

وبالجملة : التنظير إنّما يصح لو كان الحكم في الشرع مترتّبا على عنوان الملازم غير المتحقّق وأريد إثبات ذلك العنوان بعموم المنزلة كما وجّهنا الكلام به أوّلا ، لا إذا كان مترتّبا على عنوان وأريد إجراءه على عنوان آخر لم يجعل له حكم في الشرع إلا انه ملازم للعنوان الأوّل ، فافهم » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٧٧.

١٥١

العنوانات الّتي صارت موردة للتّحريم في الكتاب والسّنة ، فإن حصلت بالرّضاع حكم بالحرمة وإن لم تحصل بالرّضاع تلك العنوانات ، بل حصل ما يلازمها لم يحكم بالحرمة. فأمّ الأخ من الرّضاع ليست محرّمة على الشّخص ؛ فإنّ المحرّم من النّسب هي الأمّ وزوجة الأب لا أمّ الأخ وإن كانت لازمة الحصول مع أحد العنوانين في النّسب ، والمفروض عدم حصولهما وصدقهما على أمّ الأخ من الرّضاع وإذا لم تكن رضيعة للشّخص أيضا ؛ لأنّ دليل التّنزيل وهو قوله عليه‌السلام : « يحرم بالرّضاع ما يحرم من النّسب » (١) وكذا قوله : « الرّضاع لحمة كلحمة النّسب » (٢) لا يقتضي إلّا تحريم ما ذكر. (٣)

__________________

(١) لفظ الحديث في المصادر هكذا : « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب » أنظر الكافي الشريف : ج ٥ / ٤٣٧ باب « الرضاع » ـ ح ٢ و ٣ ، الفقيه : ج ٣ / ٤٧٥ ـ ح ٤٦٦٥ ، الاستبصار ج ٣ / ١٩٤ باب « مقدار ما يحرم من الرضاع » ـ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ / ٢٩١ باب « من أحل الله نكاحه من النساء وحرم منهن في شرع الاسلام » ـ ح ٥٩ و ٦٠ و ٦١ ، عنهما الوسائل : ج ١٨ / ٢٤٧ باب « ان الرجل لا يملك من يحرم عليه من الإناث » ـ ح ١.

(٢) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة بهذا اللفظ ، نعم الموجود في كثير من الجوامع الحديثيّة عند الشيعة والسنة « الولاء لحمة كلحمة النسب ».

أنظر الفقيه : ج ٣ / ١٣٣ ـ ح ٣٤٩٤ ، والتهذيب : ج ٨ / ٢٥٥ باب « العتق وأحكامه » ـ ح ١٥٩ ، والاستبصار : ج ٤ / ٢٤ ـ ح ٣ باب ١٣ « ان ولاء المعتق لولد المعتق اذا مات مولاه الذكور منهم دون الإناث ».

عنها الوسائل : ج ٢٣ / ٧٥ « باب انه لا يصلح بيع الولاء ولا هبته » ـ ح ٢.

ومن كتب العامة :

سنن الدرامي : ج ٢ / ٣٩٨ باب « بيع الولاء ».

١٥٢

ويحكى عن غير واحد ، منهم : المحقّق المير داماد : أنّ المحرّم بالرّضاع هو كلّ عنوان يحكم بحرمته في النّسب وإن لم يكن بنفسه موردا للحرمة في الكتاب والسّنة ، بل كانت حرمته باعتبار تحقّق بعض العنوانات الكتابيّة في ضمنه ولم يتحقّق فيه في الرّضاع ؛ لأنّ الموصول للعموم وحمله على العهد على خلاف الأصل ، فيقال : إنّ أمّ الأخ مثلا كانت محرّمة في النّسب ولو من جهة تصادقه مع عنوان آخر ، وكلّ ما كان محرّما في النّسب يحرم بالرّضاع ؛ للحديث الشّريف ، فيحكم بحرمة أمّ الأخ من الرّضاع (١).

فإن قلت : إنّ أمّ الأخ أو أمّ الأخت مثلا لم تكونا محرّمين في النّسب فقد كابرت ؛ لأنّ صدق الأكبر على الأصغر لا يلازم أن يكون صدقا أوّليا ومن دون واسطة ، وإلّا لكذبت أكثر القضايا كما لا يخفى.

وإن قلت : إنّهما وإن صارتا موردتين للحرمة في النّسب ، إلّا أنّا نمنع من تكرّر الأوسط بالنّسبة إلى الرّضاع ؛ لأنّ المحرّم في النّسب هو أمّ الأخ الّتي كانت

__________________

وسنن البيهقي : ج ٦ / ٢٤٠ باب « الميراث بالولاء ».

ومستدرك الحاكم : ج ٤ / ٣٤١ باب « الولاء لحمة كلحمة النسب ».

ومسند الشافعي : ٣٣٨.

وكنز العمّال : ج ١٠ / ٣٢٤ ـ ح ٢٩٦٢٤.

والجامع الصغير : ج ٢ / ٧٢٣ ـ ح ٩٦٨٧.

وغيرها كثير.

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

(١) الرسالة الرضاعيّة للمحقّق الداماد قدس‌سره المعروفة بضوابط الرضاع والمطبوعة في ضمن كتاب ( كلمات المحقّقين ) : ١٦ ـ ١٧.

١٥٣

أمّا أو زوجة أب ، وهذا المعنى لم يحصل بالرّضاع بالفرض ، فقد ادّعيت ما ليس لك ؛ لأنّه إن كان المراد أنّ المحرّم هو أم الأخ على وجه التّقييد ـ كما هو الظّاهر من الكلام المذكور ـ فمنع من ذلك ؛ لأنّ الواسطة في العروض ليس قيدا للمعروض. وإن كان المراد أنّ المحرّم في النّسب هو أمّ الأخ لعلّة كونها أمّا أو زوجة للأب وهو غير حاصل بالرّضاع.

ففيه : أنّه لا معنى لاشتراط وجود العلّة في فرديّة بعض أفراد الكبرى بالنّسبة إلى جميع الأفراد في عروض الأكبر لها ، فإذا قلت : الخمر حرام لكونه مسكرا ، وكلّ ما كان حراما حكمه كذا ، لا يتوهّم أحد اشتراط وجود الإسكار في عروض الحكم لجميع أفراد المحرّمات هذا ملخّص ما قيل بتوضيح منّا في وجه ما قال به الجماعة خلافا لما عليه المشهور.

ولكنّك خبير بفساده :

أمّا أوّلا : فلما عرفت : أنّ المراد بالموصول العهد لا العموم.

وأمّا ما ذكر في وجه تقريب دليل الجماعة : من أنّ الموصول للعموم حيث لا عهد فلا معنى لحمله على العهد مع عدم العهد كما هو ظاهر.

ففيه : أنّا وإن ذكرنا في محلّه تبعا للمحقّقين : أنّ الموصول للعموم ومقتضاه مع قطع النّظر عن قيام القرينة هو الحكم بالعموم في المقام ، إلّا أنّا ندّعي كون المراد منه في المقام العهد ؛ لوجهين :

أحدهما : ذكر كلمة ( ما ) في القضيّة فإنّه وإن قلنا بكونه موضوعا للأعمّ ممّن يعقل ، إلّا أنّه لا إشكال في ظهوره عند الإطلاق وعدم القرينة فيما لا يعقل ، فذكره في المقام : من جهة الإشارة إلى نفس العنوانات الّتي صارت مورده للتّحريم في

١٥٤

الشّريعة وهي ممّا لا يعقل كما هو واضح.

ثانيهما : قوله عليه‌السلام في المروي : ( الرّضاع لحمة كلحمة النّسب ) (١) فإن الظّاهر منه كون معروض الحرمة في الرّضاع هو معروض الحرمة في النّسب شرعا فتأمّل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الظّاهر من القضيّة بالنّظر إلى الوضع هو تحقّق نفس ما كان في النّسب في الرّضاع ، فإذا تعذّر الحمل عليه فلا بدّ من أن يحمل على ما كان مثله من جميع الجهات ، إلّا ما يعلم إلقاؤه كما في اللّون والقامة وغيرهما ، فإذا كان أمّ الأخ في النّسب موصوفا بكونها أمّا ، فلا بدّ أن يكون في الرّضاع أيضا كذلك للعلم بمدخليّته في الحرمة في النّسب ، بل وإن لم يعلم بذلك حكم باعتباره أيضا ، فالحكم بكون الموصول للعموم وإن كان مسلّما إلّا أنّه لا ينفع في المقام على ما عرفت.

وأمّا ثالثا : فلأنّ من الواضح المعلوم لكلّ أحد أنّ عموم الموصول وغيره إذا قيس بالنّسبة إلى العنوان فإنّما هو باعتبار العنوانات المختلفة بحسب المصداق ، لا العنوانات المتّحدة بحسبه ، فما يكون متّحدا بحسب المصداق من العنوانات لا يمكن أن يكون مشمولا للموصول بجميع أفراده ، بل لا بدّ من أن يكون الدّاخل بعضها ليس إلّا ، فحينئذ نقول :

إنّه لا إشكال أنّ للأعمّ في النّسب عنوانات كثيرة منتزعة كأمّ الأخ ، وأمّ الأخت ، وأخت الخالة ، وبنت الجدّة ، وزوجة الأب ، وعرس الجدّ من الأب ، أو الجدّة منه ، وأخت الخال إلى غير ذلك من العنوانات المنتزعة ، ولا يمكن الحكم

__________________

(١) مرّ آنفا انه لا يوجد خبر بهذا اللفظ لا عند الخاصّة ولا عند العامّة.

١٥٥

بإرادة الجميع من الموصول لما قد عرفت ، فلا بدّ من أن يحكم بأنّ الدّاخل أحدها « بشرط لا » ولمّا لم يمكن الحكم بخروج الأم باتّفاق من الخصم ؛ حيث إنّها الوسط في التّحريم لسائر العنوانات ومن حيث صيرورتها موردة للتّحريم في الكتاب تعيّن الحكم بعدم دخول غيرها من العنوانات المتّحدة معها بحسب المصداق.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا مجال لما توهّمه الجماعة من الحكم بالتّعميم والله العالم. هذا بعض الكلام في المسألة ، وتفصيل القول فيه يطلب من الفقه وقد خرجنا عن وضع التّعليقة بل عن الفنّ إجابة لالتماس من لا أستطيع ردّه.

(٢٤٧) قوله : ( كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٣٥ )

بعض أمثلة الأصل المثبت والتعرّض لها

أقول : قد يجعل المستصحب في المثال : الماء باعتبار الكرّية. فيقال : إنّ الماء قبل أخذ جزء منه وطروّ النّقص عليه كان كرّا ، والأصل بقاؤه على كرّيّته.

وهذا خارج عن المقام ولا دخل له بالأصل المثبت ؛ لأنّه من استصحاب الوصف حقيقة لا المتّصف ، لكن إجراؤه وعدمه مبنيّان على المسامحة في إحراز الموضوع وعدمها. وقد يجعل نفس الكرية من غير اعتبار تعلّقها بماء خاص فيقال : إنّ الكريّة كانت موجودة في السّابق في الحوض مثلا بطريق الظّرفيّة والأصل بقاؤها ، فيثبت به كريّة الماء الموجود من باب انطباق الكلّي على الفرد ؛ لأنّ بقاء الكريّة في الحوض ملازم عقلا لكريّة الماء الموجود فيه.

ومن هنا يعلم أنّ جعل الأستاذ العلّامة اللّزوم عاديّا في المثال لا يخلو عن تأمّل ، وكذلك في المثال الثّاني ، للشّق الثّاني بل في جميع ما مثله للأمر العادي ؛

١٥٦

فإنّ عدم المانع الثّابت بالاستصحاب ملازم عقلا لوجود الحادث المفروض وجود المقتضي له وعدم مانع له ، إلّا المشكوك فتدبّر.

(٢٤٨) قوله : ( كاستصحاب الحياة للمقطوع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٣٦ )

أقول : ما ذكره من الأمثلة إنّما هو على طريق اللّف والنّشر المشوّش ، فالأوّل مثال للثّاني ، والأخيران مثالان للأوّل إن جعل التّوالي عدميّا.

فباستصحاب الحياة إلى زمان وقوع السّيف على المقطوع يثبت كون التّنصيف والسّيف واقعا على الحيّ ، فيثبت بذلك إزهاق الحياة الّذي هو عبارة عن القتل. فالمقصود ليس إثبات نفس التّنصيف للعلم بحصوله ، بل التّنصيف الخاص باعتبار ترتيب الأثر على الخصوصيّة فهي المقصودة بالإثبات ليس إلّا.

كما أنّ باستصحاب عدم خروج دم الاستحاضة عن المرأة في المثال الثّاني للقسم الأوّل ثبت اتّصاف الدّم الموجود بأنّه ليس باستحاضة ، فيترتّب عليه : أنّه حيض بالملازمة الشّرعيّة. فاستصحاب عدم خروج دم الاستحاضة يثبت أمرا غير شرعيّ ، وهو : كون الدّم الموجود ليس باستحاضة ، ويترتّب عليه الحكم الشّرعي : بأنّه حيض.

لكن المقصود من إثبات الواسطة هو إثبات قيدها العدمي وهو عدم استحاضيّته ، لا كونه دما ؛ لأنّه حسّي ، ولا يمكن إثبات ذلك بجريان الاستصحاب في الدّم ؛ لعدم العلم بالحالة السّابقة كما لا يخفى. ولا يعارض باستصحاب عدم خروج دم الحيض فيثبت كون الدّم غير حيض وهو استحاضة ؛ لأنّه لم يثبت من الشّارع : أنّ كلّ دم ليس بحيض فهو استحاضة ، وإنّما ثبت أنّ كلّ دم ليس باستحاضة فهو حيض فتأمّل.

١٥٧

(٢٤٩) قوله : ( إلّا أن يوجّه (١) : بأنّ المقصود في المقام إحراز إسلام الوارث ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٢٣٩ )

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) من التّوجيه : هو أنّ الإرث لو كان مرتّبا على موت الشّخص عن وارث مسلم فهو معنى الأصل المثبت. وأمّا لو لم يكن كذلك بل كان المقتضي للتّوريث هو وجود الولد المسلم للشّخص في حال حياته ؛ لأنّ مقتضى التّوريث هي القرابة.

نعم ، من أحد أجزاء العلّة التّامة للحكم بالتّوريث الفعلي حصول الموت أيضا ، فإذا أحرزت الحياة في حال الإسلام ولو بالأصل يجب الحكم بالتّوريث بعد القطع بالموت الحاصل بالفرض ، فحياة المورث في حالة إسلام وارثه ممّا يترتّب عليها شرعا التّوريث عند الموت ، فلم يرد باستصحاب الحياة إثبات الآثار الغير الشّرعيّة حتّى يدخل في الأصول المثبتة. وممّا يدلّ على كون نظر هؤلاء إلى ما ذكرنا أخيرا لا إلى الأصل المثبت الفرع الّذي ذكره المحقّق قدس‌سره في « الشّرائع »

__________________

(١) أقول : ولصاحب الجواهر قدس‌سره مسلك آخر في المقام لاحظ المجلّد : ٤٠ / ٥٠٤.

(٢) قال المحقق الأصولي المؤسس الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان العلاقة هي النبوّة المعلومة ولا تحدث العلاقة بالإسلام حال الحياة وإنّما الإسلام رافع للمانع ولا حاجة إلى إحراز عدمه حال وجود المقتضي ، ألا ترى أنّ كون اللباس من مأكول اللحم لا يجب إحرازه ـ إذا بنينا على أنّ كونه من غير مأكول اللحم مانع وأن ليس شرطا ـ؟ مع انه لا سبيل إلى إحراز ذلك عند الشك لتعارض الأصلين من الجانبين وقد نبي الفقه على الفرق بين المانع والشرط ، وانّ الثاني يجب إحرازه دون الأوّل وهو من أقوى الشواهد على القاعدة الشريفة » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ٢ / ٢٦٦.

١٥٨

قبل هذا الفرع حيث قال :

« لو مات المسلم عن إبنين فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب ، وادّعى الآخر مثله فأنكر أخوه ، فالقول قول المتّفق على تقدّم إسلامه مع يمينه : أنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه (١) ». انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

فإنّه لو كان المدرك للحكم بالتّنصيف في الفرع الّذي ذكره بعده هو الأصل المثبت تعيّن الحكم به في هذا الفرع أيضا ؛ لأنّه يثبت باستصحاب بقاء حياته إلى زمان الإسلام كون موت مورثه بعد الإسلام وكون الإسلام قبله ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن المدرك فيه الأصل المثبت بل ما ذكرنا أخيرا ؛ فإنّه لا يمكن إثبات حياة المورث في حال إسلام وارثه من غير أن يتمسّك بالأصل المثبت.

هذا ملخّص ما يستفاد من كلامه ( دام ظلّه ) في توجيه الاستصحاب في المقام بحيث لا يرجع إلى الأصل المثبت.

ولكنّك خبير بتطرّق المناقشة فيه :

أمّا أوّلا : فللمنع من كون المقتضي للإرث ما ذكره ( دام ظلّه ) ، بل الّذي يقتضيه الدّليل هو ما ذكره أوّلا ؛ إذ لا معنى لجعل الحياة في حال إسلام الوارث مقتضيا للإرث.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير البناء على التّوجيه المذكور أيضا لا يمكن إثبات التّنصيف إلّا بالتّعويل على الأصل المثبت ، غاية الأمر : كون الواسطة خفيّة

__________________

(١) شرائع الإسلام : ج ٤ / ٩٠٧ ( نشر استقلال طهران ١٤٠٣ ه‍ ).

١٥٩

على ما اعترف به ( دام ظلّه ) في مجلس البحث فتدبّر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الفرع المذكور قبل هذا الفرع لا شهادة له على ما ذكر ، سيّما إذا فرض العلم بتاريخ موت الأب ؛ لأنّه إنّما هو من جهة استصحاب بقاء الكفر في غير المتّفق على إسلامه قبل الموت إلى زمان الموت ، فإن كان تاريخ الموت معلوما فهو ، وإلّا فيتعارض الأصلان من جانبين فيرجع إلى عدم استحقاق الغير المتّفق على إسلامه.

ولا يعارض بأصالة عدم استحقاق المتّفق على إسلامه قبل الموت مقدار الزّيادة ؛ لأنّ الشّك فيه مسبّب بعد فرض كون نسبته مقتضية لاستحقاق التّمام عن الشّك في استحقاق الآخر ، فإذا حكم بعدم استحقاقه بحكم الأصل ارتفع الشّك عن الأوّل فتدبّر.

ثمّ إنّه ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّ الفاضل في « القواعد » قد صرّح بما وجّهنا كلام المتمسّكين بالأصل في المقام فراجع إليه (١) ، وعليه يتعيّن إرادتهم لما أفاده ( دام ظلّه ).

__________________

(١) قواعد الأحكام للعلّامة الحلي قدس‌سره ج ٣ / ٤٨٠ جماعة المدرسين ١٤١٩ ه‍.

١٦٠