بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

(٣١٤) قوله : ( واختلاف مؤدّى الإبقاءين (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٥ )

مناقشة دعوى الاستاذ في عدم إرادة القاعدتين

من الحديث المزبور وتوجيهه لها

أقول : قد يورد عليه : بأنّ اختلاف مؤدّى الإبقاءين إن لم يمنع من إرادتهما من العبارة الّتي ذكرها ( دام ظلّه ) فلا يمكن أن يمنع من قوله : « من كان على يقين فشكّ ... (٢) » الحديث. وقوله : « لا تنقض اليقين بالشّك » (٣) الحديث ، وغيرهما من الأخبار والعبائر ؛ ضرورة أنّه إن لم يكن بين المعنيين جامع يحكم بإرادتهما من إرادته من الكلام فلا يجوز إرادتهما بناء على منع استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من أيّ كلام فرض ، وإن كان بينهما جامع على الوجه المذكور أمكن إرادتهما من أيّ لفظ فرض ؛ ضرورة أنّ خصوصيّات الألفاظ والأصوات لا يعقل أن يكون لها مدخليّة في الاستحالة والإمكان.

__________________

(*) موافقة لنسخة ( ظ ) من ط مؤتمر تكريم الشيخ كما في الفرائد : ج ٣ / ٣٠٥ وفي النسخ المعتمدة : القاعدتين.

(١) فقرة من حديث الأربعمائة الذي أورده الصدوق في الخصال : ٦١٩ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٢٤٧ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، باب « انه لا ينقض الوضوء إلا اليقين بحصول الحدث دون الظن والشك » ـ ح ٦.

(٢) لم نجدها بهذا اللفظ في جوامع الحديث كما نبّهنا على ذلك فيما مرّ. نعم الموجود منها : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر » انظر التهذيب : ج ١ / ٨ ـ ح ١١.

عنه الوسائل : ج ١ / ٢٤٥ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ـ ح ١.

٣٨١

غاية الأمر : أن يكون بعض الألفاظ ظاهرا أو نصّا في أحد الفردين وبعضها الآخر ظاهرا في الفرد الآخر وبعضها غير ظاهر في أحدهما ، لكن مجرّد هذا لا يعقل أن يكون سببا لاستحالة القدر المشترك حتّى في صورة عدم نصب القرينة فضلا عن صورة نصبها على إرادته.

وبالجملة : ما ذكره ممّا لم يعلم له معنى محصّل.

فإن قيل : إنّ المراد من إرادتهما من كلام واحد هو إرادتهما من أمرين في كلام واحد.

ففيه : أنّ هذا لا يحتاج إلى الاستدراك ولم يتأمّل في جوازه جاهل فضلا عن عالم هذا. مضافا إلى كونه خلاف ظاهر ما ذكره ( دام ظلّه ) إن لم يكن خلاف نصّه ؛ فإنّ من قوله : « لا عبرة به » (١) لا بدّ من أن يراد المعنيان كما هو واضح هذا.

وكان الأستاذ العلّامة يوجّه ما ذكره : بأن المراد من إمكان إرادتهما من كلام واحد ليس هو إرادتهما من حيث المناط المعتبر فيهما بحيث يمكن الاستدلال به على القاعدتين ويجعل مدركا لهما ، بل بمعنى إرادة معنى قدر مشترك لا ربط له بالقاعدتين من حيث المناط المتغير فيهما يجتمع معهما بحسب المورد ولو في أغلب الموارد هذا.

ولكنّك خبير بما فيه أيضا :

أمّا أوّلا : فبأنّه خروج عن الفرض ولا يحتاج إلى الاستدراك ومخالف لظاهر قوله في « الكتاب » إن لم يكن مخالفا لصريحه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٠٥.

٣٨٢

وأمّا ثانيا : فبأنّ تخصيص الإمكان بهذا المعنى بالعبارة الّتي ذكرها ممّا لا معنى له ، غاية الأمر : أن يكون إرادة هذا المعنى من قوله : « من كان على يقين فشكّ ... » الحديث. ونحوه خلاف الظّاهر أو الصّريح ، وهو لا يوجب استحالة الإرادة كما لا يخفى ، وبالجملة : ما ذكره ( دام ظلّه ) لا يخلو عن مسامحة.

(٣١٥) قوله : ( قلت : لا ريب في اتّحاد متعلّقي الشّك واليقين ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٦ )

أقول : قد عرفت ما في هذا الجواب في طيّ كلماتنا السّابقة ، وأنّه إنّما يكون جوابا على تقدير كون المراد من السّؤال هو دعوى وجود القاعدتين في مورد واحد ، وهو ليس كذلك ، بل المراد هو دعوى كون المضي بمقتضى اليقين السّابق أمرا يجامع كلّا من القاعدتين في مورد وجودها ، ويكون مفاده بملاحظة التّعلّق ٣ / ١٨١ بمورد معنى إحدى القاعدتين وبملاحظة تعلّقه بمورد آخر معنى الأخرى ، فيكون المضي كلفظ الصّلح له معنى قدر مشترك يحصل منه معاني بحسب التّعلّقات والإضافات.

فكما أنّ إفادة الصّلح نقل العين في مورد ، ونقل المنفعة في مورد آخر ، والإبراء في الثّالث ، إلى غير ذلك لا يوجب تعدّد معنى لفظ الصّلح والحكم بكونه موضوعا بالاشتراك اللّفظي لمعنى البيع والإجارة والإبراء إلى غير ذلك ، بل معناه أمر واحد ، وهو التّسالم الّذي يحصل منه هذه الأمور بحسب التّعلّقات ، كذلك المراد من وجوب المضي على اليقين السّابق أمر واحد لا تكثّر فيه أصلا ، وإنّما يحصل الاختلاف بحسب الموارد من جهة التّعلّقات بحكم العرف.

ومثل ما لو قال المولى لعبده : « إنّ إكرام زيد العالم هكذا ، وعمرو العالم

٣٨٣

هكذا ، وبكر العالم هكذا ، وهكذا » ثمّ قال له : أكرم كلّ عالم دخل عليك » ؛ فإنّه لا يرتاب أحد أنّه لم يستعمل قوله : « أكرم » في أكثر من معنى ، فيكون الحال في المقام أيضا كذلك هذا.

مع أنّه يمكن الجمع بين القاعدتين في مورد واحد لكن لا على سبيل الفعليّة بالنّسبة إلى كلّ واحد منهما ، بل على سبيل التّقدير بالنّسبة إلى الاستصحاب على بعض التقادير فتدبّر.

(٣١٦) قوله : ( وقس على هذا سائر الأخبار الدّالّة على عدم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٧ )

أقول : قد عرفت سابقا ظهور الأخبار بأسرها في وحدة متعلّق اليقين والشّك بل صراحتها في ذلك ؛ لأنّ الشّك فيما لا دخل له بالمتيقّن السّابق لا يتوهّم كونه ناقضا حتّى يرد الأخبار على نفيه ، فلو أريد منها الاستصحاب فلا بدّ من أن يجعل متعلّق اليقين والشّك نفس المتيقّن بقول مطلق معرّاة عن التّقييد بالزّمان السّابق فيه لا المتيقّن السّابق بملاحظة تقييده بالزّمان السّابق ، فلا بدّ أن يكون المراد من الشّيء المتيقّن هو ذاته المعرّاة من اعتبار الزّمان السّابق حتّى يرجع الشّك فيه إلى الشّك في البقاء فينطبق على الاستصحاب.

وأن يجعل المراد منه المتيقّن المقيّد بالزّمان السّابق ، فيكون الشّك متعلّقا به بهذه الملاحظة ، فعلى الأوّل : يكون الأخبار مختصّة بالاستصحاب ، وعلى الثّاني : تكون مختصّة بقاعدة الشّك السّاري كما لا يخفى ، فيكون سائر الأخبار كقوله : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » في عدم إمكان إرادة المعنيين منها هذا.

٣٨٤

ولكنّك خبير بأنّ العبارة قاصرة عن إفادة المراد فتدبّر.

(٣١٧) قوله : ( ثمّ إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٨ )

أقول : قد عرفت عند التّمسّك بالأخبار على اعتبار الاستصحاب الكلام في إثبات ظهورها في الاستصحاب ، لا في غيرها حتّى الأخبار العامّة حتّى قوله : « من كان على يقين فشكّ ... » فضلا عن غيره ممّا كان واردا في خصوص مورد الاستصحاب فراجع.

(٣١٨) قوله : ( أمّا لو أريد منها إثبات عدالته ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠٩ )

أقول : قد يورد على ما ذكره ( دام ظلّه العالي ) : بأنّه إن كان المراد من الحكم بالاستمرار إلى زمان الشّك إنشاء استمرار ما حكم بحدوثه ظاهرا بإنشاء مستقلّ فيكون من الاستصحاب في الحكم الظّاهري ـ كما تقدّم في تمسّك بعض أفاضل من تأخّر بما دلّ على طهارة الأشياء وحليّتها ـ فلا يكون عدم جوازه مبنيّا على عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، بل إرادة الإنشاءين من الأمر الواحد

__________________

(١) قال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت : انّ الجمع بين القاعدة والاستصحاب ثمّة لا يوجب استعمال الكلام في المعنيين ، ولا يبعد أن يكون الأمر هاهنا أوضح ، فإنّ الشّكّ المتعلّق بما كان اليقين متعلّقا به على قسمين : ( أحدهما ) : ما يتعلّق بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا وكان اليقين متعلّقا بها ، مع القطع بعدالته بعد اليوم أو فسقه. ( ثانيهما ) : ما يتعلّق بعدالته فيه وفيما بعده ، فالنّهي عن نقض اليقين بالشّكّ يعمّ بإطلاقه النّقض لكلّ من الشّكّين وقضيّة عدم نقضه بالثّاني المعاملة مع مشكوكه معاملة اليقين بترتّب آثار العدالة عليه ، وربّما أيّد ذلك بالاستدراك بقوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر فتدبّر فانّه دقيق » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٨٩.

٣٨٥

محال ، ولو قيل بجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من جهة استلزامه تقدّم الشّيء على نفسه على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا.

وإن كان المراد منه الحكم بوجوب الالتزام بآثار وجود الشّيء في الزّمان السّابق واللّاحق بعد اليقين بوجوده في زمان مّا لم يقطع بارتفاعه ولو تعلّق الشّك بأصل حدوثه ، كما هو الظّاهر من كلامه إن لم يكن صريحه حسب ما ستقف عليه : من أنّه أحد معاني القاعدة.

ففيه : أنّ إرادة هذا المعنى لا يوجب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ؛ لإمكان أن يراد من جميع الأخبار عدم الاعتناء بالشّك بعد اليقين ووجوب الالتزام بآثار الشّيء الّذي تعلّق به اليقين إلى أن يقطع بخلافه.

(٣١٩) قوله : ( ثمّ لو سلّمنا دلالة الرّوايات على ما يشمل القاعدتين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠٩ )

أقول : لا يخفى عليك وضوح ما ذكره ( دام ظلّه ) لأنّه بعد سريان الشّك إلى

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لا نسلّم ان حصول التعارض في بعض أفراد القاعدتين مسقط للإستدلال بالروايات على القاعدة الثانية ، بل اللازم سقوطهما في مورد التعارض خاصة لو لم يكن ترجيح ، وليس ذلك إلّا كتعارض الإستصحابين بناء على اختصاص الأخبار بالإستصحاب إذا لم يكن أحدهما حاكما على الأخر.

نعم ، لو كان التعارض المذكور حاصلا في جميع موارد القاعدة كان مسقطا للإستدلال لها بهذه الأخبار ، وليس كذلك ؛ لأنّه قد لا يعلم الحالة السابقة على اليقين المبدّل بالشك حتى يجري استصحابها » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٤٤.

٣٨٦

ما تعلّق به اليقين يتحقّق مورد الاستصحاب والقاعدة معا ؛ فإنّ الشّك فيه من حيث كونه مسبوقا بالقطع بالعدم الأزلي يكون مجرى لاستصحاب العدم الأزلي ومن حيث كونه مسبوقا بالاعتقاد بالوجود في زمان تعلّق به الشّك في زمان لا حق عليه يكون مجرى القاعدة ، فالشّك في الفرض معارض لفردين من اليقين باعتبار ما فيه من الاحتمالين والطّرفين ، فمن حيث احتمال الوجود معارض باليقين بالعدم الأزليّ ، ومن حيث احتمال العدم معارض باليقين بالوجود.

لا يقال : اليقين بالعدم الأزلي قد انتقض باليقين بالوجود في زمان بالفرض فلا مجرى للاستصحاب إذن وتكون القاعدة سليمة عن المعارض والمنافي.

لأنّا نقول : نمنع من انتقاض اليقين بالعدم الأزلي ومنعه عن جريان الاستصحاب ؛ فإنّه إن أريد من الحكم بالانتقاض الحكم به حين اليقين بالوجود.

ففيه : أنّه لم يحكم أحد بجريان الاستصحاب في حقّ المعتقد حين الاعتقاد ، كما أنّه لا يمكن لأحد الحكم بجريان القاعدة حين اليقين ؛ فإنّ جريان كلّ منهما لا يمكن بدون الشّك.

وإن أريد منه الحكم به حين الشّك المتعلّق بنفس ما تيقّن سابقا بطريق السّريان الّذي هو زمان الحكم بجريان الاستصحاب والقاعدة معا.

ففيه : أنّه لا وجه للحكم بانتقاض اليقين بالعدم الأزلي ؛ فإنّ الشّك في مطابقة الاعتقاد السّابق عين الشّك في انتقاض العدم الأزلي كما هو واضح ظاهر. ٣ / ١٨٢

وبالجملة : قد عرفت سابقا : أنّ اليقين بالوجود إذا كان مقيّدا بزمان ـ وإن كان مطابقا للواقع ـ لا ينقض العدم الأزلي بقول مطلق فضلا عمّا يشكّ في كونه مطابقا للواقع أو لا.

٣٨٧

فإن قلت : ستعرف بعد هذا : أنّه على فرض تماميّة القاعدة وقيام الدّليل عليها يكون مقدّما على الاستصحاب : إمّا من باب الحكومة ـ كما يقتضيه اعتبارها على أحد الوجهين ـ أو من باب التّخصيص ـ على ما هو قضيّة اعتبارها على الوجه الآخر ـ فالحكم باعتبار القاعدة لا يوجب التّعارض بينها وبين الاستصحاب المسقط للقاعدة عن الاعتبار.

قلت : هذا الكلام ممّا لا يصدر عن جاهل فضلا عن العالم ؛ فإنّ الحكم بحكومة القاعدة على الاستصحاب ، أو بكونها مخصّصة لعموم ما دلّ على الأخذ بالحالة السّابقة إنّما هو فيما إذا جعل الدّليل على اعتبار القاعدة أمر آخر غير عموم الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ، وإلّا ـ كما هو المفروض ـ فلا يمكن أن يجعل القاعدة حاكمة ، أو مخصّصة كما هو غير مخفيّ على من له أدنى دراية (١).

(٣٢٠) قوله : ( مضافا إلى ما ربّما يدّعى من ظهور الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الكلام منه ( دام ظلّه ) يشهد : بأنّ ظهور الأخبار

__________________

(١) علّق عليه الفاضل الكرماني الشيخ رحمة الله قدس ‌سره قائلا :

« أقول : قد أتى أستاذنا المحقق في تقريب ما أورده الشيخ الأعظم على شمول الأخبار للقاعدتين بما لا مزيد عليه ، والذي أنا عليه هو الشمول وقد انتقض العدم الأزلي باليقين بالوجود في المثال ، والشك الطاري مسلوب الأثر بالخبر فمن أين عاد العدم الأزلي بعد انقطاعه حسّا وشرعا إلى حكمه قبل انقطاعه من كونه مجرى الإستصحاب؟

ولو لا خروج التعليق عمّا التزمناه من الإيجاز لزدتك ما تقرّ به عينك ، فاجعل المداد على هذا المقدار تكن من ذوي الأبصار » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ٤٠٥.

٣٨٨

في الشّك في البقاء غير مجزوم به عنده ، وكلامه في هذا المطلب مضطرب فراجع إلى مجموع كلماته وتتبّع فيها حتّى تقف على حقيقة الأمر.

مدرك قاعدة اليقين سوى عموم الأخبار

(٣٢١) قوله : ( غير عموم هذه الأخبار لها ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا إشارة إلى أن ما تقدّم من الكلام سابقا في دلالة الأخبار على القاعدة وعدمها إنّما هو بحسب العموم ، فلا ينافي التّكلّم في دلالتها عليها في المقام من حيث الخصوص ، ولا يلزم عليه تكرار أصلا هذا.

ولكنّك خبير بأنّه قد تقدّم منه ( دام ظلّه ) الكلام في عدم إمكان دلالة الأخبار على القاعدة ببعض المعاني ولو أريد خصوص القاعدة أيضا.

(٣٢٢) قوله : ( إمّا أن يكون إثبات حدوث المشكوك فيه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٠ )

أقول : لا يكاد أن يخفى الفرق بين هذه المعاني على من له أدنى دراية.

أمّا الفرق بين المعنى الأوّل والأخيرين فظاهر ؛ لأنّ المقصود منه الحكم بترتيب آثار الحدوث والبقاء جميعا وفيهما ليس المقصود الحكم بترتيب آثار البقاء أصلا.

وأمّا الفرق بين المعنى الثّاني والثّالث فهو : أنّ المقصود في الثّاني هو الحكم بحدوث المشكوك واقعا بالنّسبة إلى جميع ما يترتّب عليه من الآثار حتّى بالنّسبة إلى ما يترتّب عليه في الزّمان اللّاحق ، بمعنى : أنّه لو كان لحدوث الشّيء أثر رتّب عليه في الزّمان المتأخّر حكم بترتّبه عليه بناء على المعنى الثّاني.

٣٨٩

وهذا بخلاف المعنى الثّالث ؛ فإنّ المقصود منه ليس إلّا الحكم بصحّة ما يترتّب سابقا على المتيقّن من الأحكام والآثار ، وأمّا الحكم بحدوث المشكوك بحيث يترتّب عليه ما رتّب شرعا عليه في الزّمان اللّاحق فلا ، فهذه المعاني كما ترى مترتّبة بحسب العموم والخصوص ؛ لأنّ كلّ لا حق أخصّ من سابقه (١).

(٣٢٣) قوله : ( فإن أريد الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّه إذا فرض عدم إمكان الجمع بين الحكم بالبقاء والحدوث فكيف يستظهر عدم الدّليل عليه؟ بل ينبغي القطع بعدم إمكان قيام دليل عليه.

ولكنّك خبير بإمكان التّفصّي عن هذا الإيراد : بأنّ عدم إمكان الجمع بين إرادتهما من كلام واحد وإنشاء واحد لا ينافي الحكم بثبوت المعنيين ، فقيام الدّليلين عليهما أحدهما : يدلّ على وجوب الحكم بالحدوث. ثانيهما : يدلّ على لزوم الحكم بالبقاء كما لا يخفى.

(٣٢٤) قوله : ( لكنّه لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ إثبات البقاء ظاهرا بإثبات الحدوث كذلك من الأصل المثبت ؛ فإن ترتّب البقاء على الحدوث على تقدير ثبوته ليس من أحكامه الشّرعيّة ، والأصل المثبت ليس مختصّا بالاستصحاب ، بل كلّ أصل يراد به إثبات

__________________

(١) وعلّق عليه الفاضل الكرماني الشيخ رحمة الله رحمه‌الله قائلا :

« ينبغي أن يراد من زمان الحدوث زمان اليقين ولو طال بعد الحدوث ومن زمان البقاء زمان حصول الشك ولا يكاد يخفى وجهه على من له لبّ غير مشوب فافتهم » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّي : ٤٠٦.

٣٩٠

واسطة ملازمة لما يترتّب عليها الحكم الشّرعي يسمّى بالأصل المثبت سواء كان في الأحكام أو الموضوعات وسواء كان استصحابا أو غيره من الأصول ، كما أنّ نفيه عندنا ليس مختصّا بالاستصحاب أيضا لاتّحاد مناط المنع كما هو واضح لمن له أدنى دراية.

(٣٢٥) قوله : ( لأنّه على تقدير الدّلالة لا يدلّ ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : لا يخفى عليك صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) ؛ فإنّ المفروض كون محلّ الوجود المشكوك في الزّمان الثّاني الّذي يسمّى بالبقاء عين زمان الشّك كما هو واضح ، فلا يمكن أن يقال بتجاوز محلّه ، اللهمّ إلّا أن يكون هناك عمل مركّب اشترط فيه شيء يشك في أثناء العمل في بقائه على تقدير الحدوث بحيث يكون محلّ إحرازه حتّى للأجزاء اللّاحقة قبل الدّخول في العمل كالطّهارة للصّلاة فتأمّل.

(٣٢٦) قوله : ( وأضعف منه الاستدلال ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : لا يخفى عليك صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) ؛ إذ لا مستند لهذا الأصل إلّا دعوى أصالة الصّحة في جميع الموجودات حتّى الاعتقاد على ما ذكره فقيه عصره في « كشف الغطاء » (١) وستقف على فساد هذه الدّعوى وعدم مستند لها.

(٣٢٧) قوله : ( وحاصل الكلام في هذا المقام ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٣ )

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) هو أنّ المحصّل من جميع ما ذكر : عدم

__________________

(١) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء : ج ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠١.

٣٩١

دليل على اعتبار مجرّد الاعتقاد بشيء سابقا مع الشّك في مطابقته للواقع وعدمه من حيث هو هو مطلقا ، سواء كان في الأحكام أو الموضوعات ، حصل عن قصور أو تقصير ، وسواء كان في الموضوع الاجتهادي ، أو التّقليدي ، أو غيرهما.

وهذا ما يقال : إنّ الشّك السّاري لا اعتبار به. نعم ، قد توجد في بعض موارد تلك القاعدة قاعدة أخرى تقتضي البناء على مقتضى تلك القاعدة ببعض معانيها ، ٣ / ١٨٣ لكن لا دخل لها بتلك القاعدة ؛ لأنّ مناطها لا تعلّق له بها ، وهذا ليس معنى اعتبار اليقين السّابق من حيث هو هو ، ولا دخل له به ، وإلّا لجاز التّمسك على اعتبار كثير من الأمور بوجود بعض ما حكم باعتباره في بعض موارده ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه.

ثمّ إنّ هنا توهّما آخر لم يشر الأستاذ العلّامة إلى فساده وهو : جريان الاستصحاب في الحكم الاعتقادي الظّاهري المتحقّق باليقين السّابق ، ويسمّى في لسان جماعة ممّن عاصرناه أو قارب عصرنا : بالاستصحاب العرضي.

وهو كما ترى ؛ فإنّ الحكم الظّاهري الثّابت في صورة الاعتقاد على تقدير ثبوته مترتّب على نفس الاعتقاد فبقاؤه مع ارتفاع الاعتقاد ممّا لا يعقل له معنى ، وإلّا لزم قيام العرض بعد معروضه في غير موضوع ، وكلاهما ممّا يشهد بداهة العقل باستحالته (١).

__________________

(١) وعلّق عليه تلميذه الفاضل الكرماني قدس‌سره قائلا :

« أقول : إن ثبت انّ الإعتقاد كما انه علّة لحدوث الحكم أو تنجّزه علّة لبقاءه فهو وإلّا فيمكن أن يقال : علّة البقاء هو الإستصحاب وزوال الإعتقاد لا يضرّ بالبقاء بعد الحدوث أو التنجّز.

٣٩٢

* الثالث ممّا يعتبر في جريان الاستصحاب :

إشتراط عدم العلم بالبقاء أو الإرتفاع

(٣٢٨) قوله : ( الثّالث : أن يكون كلّ منها (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٣ )

الموضوع في جميع الأدلّة والأصول يرتفع بحصول العلم في مواردها

أقول : لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب مع وجود العلم في مورده سواء كان على طبق الحالة السّابقة أو على خلافها ، بل لا يعقل الإشكال في ذلك ؛ ضرورة استحالة تعبّد الشارع المكلّف مع علمه على طبق علمه ، أو على خلافه ـ على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة ـ سواء في ذلك على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، أو الظّن.

وهذا ليس مختصّا بالاستصحاب ، بل الموضوع في جميع الأدلّة والأصول

__________________

وما ذكره قدس‌سره : من قيام العرض بعد معروضه في غير الموضوع.

فيه : ان الإعتقاد عرض فكيف يكون موضوعا للعرض فكما يمتنع قيام العرض بلا معروض وفي غير موضوع يمتنع قيام العرض بالعرض.

فالأولى : بكلّ ذي فنّ ان لا يخرج من حدود فنّه ، ومع ذلك ما علّقه قدس‌سره على الفرائد هو أتقن ما رأيناه من التعاليق عليه ، جزاه الله خير الجزاء ورفعه أعلى مدارج العلماء » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشّي : ٤٠٧.

(١) كذا وفي الكتاب « من ».

٣٩٣

يرتفع بعد حصول العلم في مواردها ؛ لأنّها بأسرها مجعولة في موضوع عدم العلم ؛ إذ التّعميم محال.

فإن شئت قلت : إنّ الشّك مأخوذ في الاستصحاب مطلقا وارتفاعه بالعلم ضروريّ ، فالدّليل العلمي مطلقا وارد على الاستصحاب بالضّرورة ، ولم يتوهّم أحد خلاف ما ذكرنا.

وأمّا ما يتراءى من جمعهم في التّمسّك بين الدّليل العلمي والاستصحاب كثيرا مّا ، أو غير الاستصحاب من الأصول والأدلّة الظنيّة ؛ فإنّما هو مبنيّ على الإغماض عن وجود الدّليل العلمي في المسألة ـ كما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ فعدم قيام الدّليل العلمي في المسألة مطلقا شرط في جريان الاستصحاب.

(٣٢٩) قوله : ( إنّما الكلام فيما أقامه الشّارع مقام العلم بالواقع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٣ )

أقول : لا يخفى عليك ما في هذا الكلام من التّسامح ؛ لأنّ قيام الشّيء مقام العلم لا يوجب حصول العلم منه بالبقاء والارتفاع فيما قام عليه. والعلم بالحجيّة ، أو وجوب العمل ليس له دخل بالعلم بالارتفاع أو البقاء.

ومنه يظهر فساد ما وقع من بعض : من أنّ المراد باليقين ، أو العلم في أدلّة الأصول أعمّ من العلم الوجداني والشّرعي ، فمفاد الدّليل الظنّي المعتبر وإن لم يكن علما بالمعنى الأوّل ، إلّا أنّه علم بالمعنى الثّاني.

ثمّ إنّ المقصود ممّا أقامه الشّارع مقام العلم بالواقع هو كلّ أمر اعتبره الشارع من حيث كشفه الظّني عن الواقع ولو نوعا ، لا كلّ ما أمر بوجوب سلوكه

٣٩٤

ولو لم يكن من الحيثيّة المذكورة ؛ فإنّه خارج عن محلّ كلامه هنا.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكره ( دام ظلّه ) بين أن يكون الدّليل قائما على خلاف الحالة السّابقة ، أو على طبقها ؛ فإنّ التّحقيق عدم جريان الاستصحاب في الثّاني أيضا على ما سبق القول فيه ، بل لا معنى للفرق بينهما عند التّأمّل ، وإن كان ربّما يتوهّم الفرق بينهما بما ستقف على فساده وما ذكرنا ؛ وإن كان ربّما يقال : إنّه لا يظهر من كلام الأستاذ العلّامة إلّا أنّه قد صرّح به في مجلس البحث جازما به.

(٣٣٠) قوله : ( لا ريب في العمل به دون الحالة السّابقة لكنّ الشّأن ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٤ )

أقول : بل لم يخالف فيه أحد على التّحقيق ؛ فإنّه وإن كان ربّما يظهر من جماعة كالسيّد السّند المتقدّم ذكره في طيّ الشّبهات والفاضل القميّ وغيرهما خلاف ذلك وأنّه قد يعمل بها دونه ، إلّا أنّ مقتضى التّأمّل في كلامهم عدم إرادتهم ما ينافي ما نحن فيه على ما عرفت في توجيه كلام السيّد المتقدّم ذكره وستعرف في توجيه كلام الفاضل القمّي رحمه‌الله.

ثمّ إنّ ما يحتمل أن يكون وجها للعمل به دون الحالة السّابقة وجوه ذكرها الأستاذ العلّامة ، وذهب إلى كلّ فريق في الحكم بالتّقديم.

أحدها : أن يكون العمل به من باب تخصيص عموم أدلّة الاستصحاب ، وهذا يظهر من جماعة.

ثانيها : من باب التّخصّص وهو ارتفاع موضوع الاستصحاب حقيقة لقيام

٣٩٥

الدّليل. المعتبر على خلافه كما في الدّليل العلمي (١) ، ولكن تسمية هذا المعنى

__________________

(١) قال الأصولي المحقق الآخوند الخراساني قدس‌سره معلّقا على قول المصنّف قدس‌سره : ( ولا تخصّصا بمعنى خروج المورد ... إلى آخره ) :

« لا يخفى ان مجرد الدليل على الخلاف وإن لم يوجب خروج المورد عن مورد الإستصحاب إلا أنه يخرجه حقيقة عمّا تعلّق به النهي في أخبار الباب من النقض بالشك ؛ فإنه لا يكون معه نقضا بالشك ، بل بالدليل ، فلا يعمه النهي فيها كما لا يخفى.

وليس أفراد العام هاهنا هو أفراد الشك واليقين كي يقال : ان الدليل العلمي إنما يكون مزيلا للشك بوجوده ، بل أفراده أفراد نقض اليقين بالشك ، والدليل المعتبر ولو لم يكن علميّا يكون موجبا لأن لا يكون النقض بالشك ولو مع الشك ، بل بالدليل*.

٣٩٦

__________________

اليقين نفسه ، فلا ينبغي أن يرتاب ان خروج موارد الأمارات المعتبرة من باب التمحيص [] وإن كان المراد منه أخصّ من ذلك وهو ما لم يثبت اعتباره ، ومن اليقين أعمّ منه وهو ما ثبت اعتباره كان خروجها من باب التخصص.

وأمّا الحكومة المخترعة من الشيخ الأعظم فالمتكفّل ببيانها بيانه » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشي : ٤٠٧.

إن قلت : نعم لو قلنا باعتباره مطلقا ولو في مورد الاستصحاب ، لكنّه بعد محلّ الإشكال.

قلت : لا مجال للإشكال في اعتباره ، لعموم أدلّة اعتباره بلا مخصّص إلّا على وجه دائر ، فانّه لا وجه لتخصيصها بذلك إلّا شمول عموم الخطاب للمورد معه ، ولا يكاد يشمل إلّا إذا كان نقضا بالدّليل كما عرفت ، وهو يتوقّف على تخصيص دليل الاعتبار ، والمفروض انّه لا وجه له أصلا إلّا شمول العموم للمورد فدار كما لا يخفى.

وبالجملة : العمل بالدّليل على خلاف اليقين عمل بعموم دليل اعتباره من دون لزوم محذور مخالفة دليل ، (١)

بخلاف العمل بالاستصحاب ، فانّه يستلزم إمّا تخصيص العموم بلا وجه أو بوجه دائر ، فظهر أنّ العمل به انّما هو من باب تخصيص دليل الإستصحاب ، وإلّا فمن الواضح انّه لا تعرض للدّليل ، ولا لدليل اعتباره بمدلولهما اللّفظي لبيان حال الاستصحاب ، كما هو معنى الحكومة على ما أفاده في التّعادل والتّرجيح كي يكون العمل بالدليل دونه من باب حكومته أو حكومة دليله على دليله ، وليس إلغاء الاحتمال المخالف المخالف لما قامت به البيّنة ورفع اليد من آثاره الّتي منها الاستصحاب إلّا ملازما لمعنى دليل اعتبارها عن تصديقها ووجوب العمل على طبقها ، ضرورة انّ ذلك يلازم رفع اليد عن العمل على خلافها ، كما انّ وجوب العمل على وفق الحالة السابقة يلازم أيضا عدم وجوب العمل على خلافها وهو مؤدّي البيّنة كما لا يخفى ، فيكون كلّ منهما ينفي الآخر بملاك ينفيه به الآخر وهو المضادة والمنافاة بين إيجاب العمل على وفق احتمال شيء ، وبين إيجابه على طبق احتمال نقيضه

٣٩٧

__________________

من غير تفاوت في ذلك بين تفاوتهما بحسب لسان دليلهما وعدم تفاوتهما ، لا أن يكون أحدهما نافيا بمدلوله اللّفظي ، فيكون حاكما دون الآخر ، فلو لا ما ذكرنا من وجه التقديم ، لا يندفع مغالطة المعارضة بينهما أصلا كما لا يخفي.

لا يقال : قضيّة قوله في بعض أخبار الباب « ولكنّه تنقضه بيقين آخر » هو النّهي عن النّقض بغير اليقين والدّليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا ، فكيف يقدّم كذلك.

لأنّا نقول : لا محالة يكون الدّليل موجبا لليقين ، غاية الأمر لا بالعناوين الأوّليّة للأشياء ، بل بعناوينها الطّارية الثّانويّة مثل كونه قام على وجوبه أو حرمته خبر العدل ، أو قامت البيّنة على ملكيّته أو نجاسته بالملاقاة ، إلى غير ذلك من العناوين المنتزعة من سائر الأمارات ، وبأدلة اعتبارها علم أحكام هذه العناوين بلا كلام ، فلا يكون نقض اليقين إلّا باليقين بالخلاف ، ولا منافاة بين الشّكّ فيه من وجه والقطع من وجه آخر.

وبذلك انقدح وجه تقديم الأمارات على سائر الأصول ، وذلك لأنّها أحكام لما شكّ في حكمه ولم يعلم بوجوبه أو حرمته بوجه ، ضرورة أنّ ما علم حكمه ولو من وجه ليس محكوما بالحلّيّة بكلّ شيء لك حلا مثلا ، وقد علم بوجه ، وببعض العناوين حكم المشكوك عند قيام الأمارة ، فما قامت الأمارة المعتبرة على حرمته أو خمريته قد عرفت حرمته ، فدخل في الغاية فلا يعمّه حكم المعنى في « كلّ شيء لك حلال » كما لا يخفى.

إن قلت : الأمارات في قبال الأصول إنّما يكون موجبة للقطع لو كانت معتبرة في هذا الحال ، وهو بعد محلّ الإشكال.

قلت : إنّ عموم دليل اعتبارها يقتضي الاعتبار في قبالها كما في سائر الأحوال ، ولا وجه لتخصيصه في هذا الحال إلّا على وجه محال.

وبذلك تندفع أيضا : مغالطة معارضة ما ذكرنا : بأنّه لا مجال للأمارة أيضا ، مع القطع بالحكم ، وقد قطع بانّ مشكوك الحرمة حلال لعموم « كلّ شيء » فإنّ عمومه لا يعمّه مع الأمارة

٣٩٨

تخصّصا لا تخلو عن مسامحة ، بل المتعيّن تسميته بالورود حسب ما سمّاه به ( دام ظلّه ) في غير مورد من كلماته ، واعتذر عنه : بأنّ المراد من التّخصّص في المقام هو عدم الشّمول ولو بملاحظة الدّليل القائم في المسألة ، لا عدم الشّمول الذّاتي كما في قوله : « أكرم العلماء » الغير الشّامل للجهّال.

ثالثها : من باب حكومة ما دلّ على اعتباره على أدلّة الاستصحاب.

__________________

المعتبرة إلّا على وجه محال.

ثمّ إنّ وجه تقديم الاستصحاب على سائر الأصول هو بعينه وجه تقديم الأمارات عليه ، فإنّ المشكوك معه يكون من وجه وبعنوان ممّا علم حكمه وإن شكّ فيه بعنوان آخر ، وموضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات.

وقد انقدح اندفاع مغالطة المعارضة هاهنا أيضا بما ذكرناه في اندفاعها في تقديم الأمارات على الاستصحاب وسائر الأصول ، فإنّ العمل على وفق أصالة الإباحة في مورد استصحاب الحرمة تخصيص لخطاب « لا تنقض اليقين » ، ضرورة أنّ الحكم على خلافه مع الشّكّ يكون نقضا له بالشّكّ ، بخلاف العمل على الاستصحاب ، فإنّه يوجب خروجه عمّا هو موضوع للأحكام الأصوليّة ، وهو ما شكّ في حكمه من جميع الوجوه حقيقة ، فلا يكون تخصيصا لأدلّتها كما لا يخفى.

فتلخّص : أنّ وجه تقديم الأدلّة على الأصول وتقديم الاستصحاب على ما عداه ، هو عدم لزوم محذور يلزم من العكس وهو التّخصيص بلا وجه ، أو بوجه دائر ، ولعمري لا أرى لأحد بدّا ممّا حقّقناه إلّا القبول والاتباع وإن كان يقرع الأسماع ويثقل على الطباع ، فما هي عليها ، وعليك بالتأمّل التّام فيما ذكرناه في المقام » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٠ ـ ٣٩٢.

٣٩٩

الفرق بين الحكومة والورود والتخصيص

والفرق بين هذه الثّلاثة مفهوما لا يكاد يخفى على ذي مسكة ؛

فإنّ الأول : هو رفع الحكم عن الموضوع المندرج تحت ما يشمله بحيث يكون بلسانه ناظرا إلى رفع الحكم مع بقاء الموضوع على حاله ، فيحكم العقل ـ بعد التّنافي بينهما وأرجحيّة التّخصيص برفع اليد عن العام والحكم ـ بأنّ المراد منه غير مورد الخاصّ. ولازمه كما ترى ، وحدة الموضوع حقيقة فهذا لا ينفكّ عن التّعارض بالضّرورة ، لكن هذا فيما إذا لم يكن الخاصّ نصّا بحسب الدّلالة بل كان أظهر ، وإلّا فهو وارد على العام أو حاكم على ما ستقف على تفصيل القول فيه ، فإطلاق القول مبنيّ على ما ذكرنا فتدبّر.

والثّاني : هو الورود وهو كون أحد الدّليلين بوجوده رافعا لموضوع الدّليل الآخر على فرض وجوده كالدّليل العلمي في مقابل الأصول ، ومثله مطلق ما ٣ / ١٨٤ يكون معتبرا في مقابل أصالة البراءة وأصالة الاحتياط والتّخيير على القول باعتبارها من باب العقل إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلازم هذا كما ترى المنع من تحقّق التّعارض ؛ لأنّه يشترط فيه وحدة الموضوع وتوارد المتعارضين عليه بطريق التّناقض ، أو التّضاد.

والثّالث : كون أحد الدّليلين بمدلوله اللّفظي ناظرا إلى الدّليل الآخر ومفسّرا لمقدار دلالته بحيث لو لم يكن المحكوم موجودا لكان الحاكم لغوا. وبعبارة أخرى : ما كان أحد الدّليلين بلسانه ناظرا إلى إخراج ما يكون داخلا في موضوع

٤٠٠