بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

دليل وتنزيله منزلة عدمه ، والحكم بأنّه ليس داخلا فيه على سبيل الحكومة ، أو إدخال ما يكون خارجا عنه حقيقة.

مثال الأوّل : ما دلّ على عدم الاعتناء بكثرة الشّك ؛ فإنّه حاكم على أدلّة الشكوك على التّوجيه الأوّل ، وما دلّ على اعتبار الظّنون الاجتهاديّة في مورد الأصول المتقدّمة بناء على ما ستقف عليه من حيث اقتضائها تنزيل الشّك منزلة عدمه إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومثال الثّاني : ما دلّ على اعتبارها بالنّسبة إلى تعلّق الحكم فيه باليقين كأدلّة الأصول ؛ فإنّها منزّلة منزلة اليقين على خلاف الحالة السّابقة إذا قامت عليه ، مع أنّها ليست من اليقين.

ثمّ إنّ تطبيق المثال الأوّل على مسألة الحكومة ظاهر ؛ فإنّه لو لم يكن هناك ما يدلّ على جعل حكم للشّك في الصّلاة كان ما دل على عدم اعتبار كثرة الشّك لغوا ، وأمّا تطبيق سائر الأمثلة فستقف عليه.

ثمّ إنّه لا فرق في الحكومة بين أن يكون النّسبة بين الحاكم والمحكوم عموما مطلقا كالمثال الأوّل ، أو من وجه كالمثال الثّاني ؛ فإنّه بعد الحكومة لا معنى لملاحظة النّسبة ، وإنّما النّسبة تلاحظ بين الدّليلين اللّذين يكونان في مرتبة واحدة لا بين الوارد والمورود والحاكم والمحكوم ، بل التّحقيق ـ حسب ما صرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث وعرفت تفصيل القول فيه في طيّ أجزاء التّعليقة ـ هو عدم وجود نسبة بين الحاكم والمحكوم أصلا ، كما أنّه لا معنى لملاحظتها بين الوارد والمورود أصلا ؛ إذ النّسبة بين الشّيئين فرع اجتماعهما في موضوع واحد ، والمفروض أنّ الحاكم يحكم بمدلوله اللّفظي بعدم وجود الموضوع

٤٠١

للدّليل المحكوم. ومنه يعلم أنّه لا معارضة بين الحاكم والمحكوم.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا من الوجوه بين أن يكون الدّليلان اجتهاديّين ، أو فقاهيّين ، أو مختلفين على ما هو واضح. مضافا إلى ما أشرنا إليه في طيّ أجزاء التّعليقة وستقف على تفصيل القول فيه.

نعم لازم الدّليل الاجتهادي أن يكون إمّا واردا على الدّليل الفقاهتي أو حاكما فيما لم يكن الدّليل الفقاهتي أخصّ.

وجه تقديم الأدلّة على الإستصحاب

ثمّ إنّك بعد ما عرفت الفرق بين الأمور الثّلاثة ، فيقع الكلام في تحقيق الحال في وجه تقديم الأدلّة على الاستصحاب فنقول : إنّ الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في حكم الاستصحاب مع الدّليل الموجود في مورده على القول باعتباره من باب التّعبّد.

ثانيهما : في حكمه معه على القول باعتباره من باب الظّن.

ولنقدّم في كلّ من المقامين حكم صورة قيام الدّليل على خلاف الحالة السّابقة ، ثمّ نعقّبه بذكر حكم صورة قيام الدّليل على طبق الحالة السّابقة.

أمّا المقام الأوّل : فملخّص القول فيه : أنّه قد يقال : إنّ الدّليل الاجتهادي القائم على خلاف الحالة السّابقة وارد على الاستصحاب بوجوه :

أحدها : من جهة أنّ المراد من الشّك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو التّحير المرتفع بعد قيام الدّليل المعتبر من جانب الشّارع على خلاف الحالة

٤٠٢

السّابقة في الزّمان اللّاحق.

ثانيها : من جهة أنّ نقض اليقين السّابق بالدّليل القائم على الخلاف بملاحظة دليل اعتباره نقض باليقين لا بالشّك ؛ فإنّه وإن لم يوجب القطع بالارتفاع واقعا لفرض كونه ظنيّا ، إلّا أنّه لمّا كان المفروض القطع باعتباره فيكون نقض الحالة السّابقة به نقضا باليقين.

ثالثها : من جهة أنّ الأخبار مسوقة لبيان عدم جواز الرّجوع لما تقرّر عند الشّك من الأصول العمليّة إذا كان له حالة سابقة ، وإن كان الشّك لا يرتفع بعد قيام الدّليل هذا.

ولكنّك خبير بضعف هذه الوجوه :

أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت غير مرّة : من أنّ المراد من الشّك في أدلّة الأصول هو خلاف اليقين الموجود في صورة قيام الظّن على الخلاف لا التّحير الّذي هو مجرى التّخيير العقلي هذا. مضافا إلى ما ذكره الأستاذ العلّامة بقوله : « وفيه : أنّه لا يرتفع التّحيّر ولا يصير الدّليل الاجتهادي ... إلى آخره » (١). وإن كان قد يتأمّل فيه : بأنّه بعد تسليم كون الموضوع في دليل الاستصحاب هو التّحيّر يكون تقديم الدّليل عليه من باب الورود ، كما هو الشّأن في تقديم الدّليل على التّخيير العقلي.

وأمّا الثّاني ؛ فلما عرفت غير مرّة أيضا : أنّ المراد من اليقين الّذي جوّز الشارع نقض اليقين السّابق به هو اليقين على خلاف الحالة السّابقة ، لا اليقين بأمر آخر. مضافا إلى أن قطعيّة اعتبار الدّليل في مقابل الاستصحاب مع قطع النّظر عن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣١٥.

٤٠٣

حديث الحكومة قابلة للمنع. ومن الغرائب ما ربّما يقال بل قيل : من أنّ قيام الدّليل على اعتبار الظّن يدخله في العلم موضوعا.

وأمّا الثّالث ؛ فلمنع الدّعوى المذكورة ؛ إذ لا شاهد لها أصلا ، ومجرّد القول بكون الاستصحاب حاكما على الأصول بناء على اعتبارها من باب التّعبّد الشّرعي لا يوجب كون الأخبار مسوقة لما ذكره كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ الوجه الأوّل لا دخل له بهذا الوجه ، فما ربّما يظهر من الأستاذ العلّامة من اتّحادهما لا وجه له ، هذا.

وقد يقال : إنّ الدّليل الاجتهادي القائم على خلاف الحالة السّابقة مخصّص لعموم الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ؛ من حيث كون كلّ منهما حاكما بحكم في موضوع الشّك ؛ فإنّ النّسبة بين ما قام على اعتبار الأمارة بل نفس الأمارة والعموم المذكور وإن كانت عموما من وجه ، إلّا أنّ بعد قيام الإجماع على عدم الفرق بين موارد الدّليل يصير في حكم الخاص المطلق ؛ من حيث إنّ إخراج مورد الاجتماع منه مستلزم لطرحه كلّية على نحو ما عرفت تقريره في الجزء الثّاني من التّعليقة في بيان : توهّم كون الدّليل الاجتهادي مخصّصا لعمومات البراءة.

ولكنّك خبير بفساده أيضا ؛ لأنّ مفاد ما دلّ على اعتبار الدّليل القائم على خلاف الحالة السّابقة ليس مجرّد العمل به من حيث كون المقوّم عليه مشكوكا ، بل مفاده تنزيل مفاد الأمارة منزلة الواقع ، والحكم بأنّه واقع ، والبناء على عدم الشّك فيه ، وهكذا كما ترى معنى الحكومة لا التّخصيص.

ومنه يظهر الوجه فيما اختاره الأستاذ العلّامة : من حكومة الأدلّة على

٤٠٤

الاستصحاب من حيث إنّ أدلّة اعتبارها حاكمة بخروج موردها عن مجاري الأصول ، ومفسّرة لما دلّ على وجوب البناء على الحالة السّابقة ، فما اختاره الأستاذ العلّامة هو المختار وستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الرّابع من التّعليقة.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا : أنّ تقديم الدّليل القائم على خلاف الحالة السّابقة على الاستصحاب من باب الحكومة ، وأنّه لا مجرى للاستصحاب في مورده ؛ فإنّه يحكم بعدم وجود الشّك في مورد وجوده فلا يكون ترك العمل بالأصل طرحا له حتّى يحكم بوجود مورده حسب ما هو الميزان في وجود الموضوع ، هذا مجمل القول فيما لو قام الدّليل على خلاف الحالة السّابقة.

وأمّا الكلام فيما لو قام على طبقها فملخّص القول فيه : أنّ حكمه حكم الصّورة السّابقة ؛ فإنّ ما ذكرنا وجها للحكومة فيها يجري بعينه فيه أيضا كما هو ظاهر ؛ ضرورة أنّه لا يختلف مفاد دليل اعتبار الدّليل من حيث كونه منزّلا المشكوك منزلة الواقع بين قيامه على طبق الأصل أو خلافه.

نعم ، القول بالتّخصيص لا يجري في الفرض ، وأمّا القول بالورود فالظّاهر جريانه.

هذا مجمل الكلام على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا بناء على القول باعتباره من باب الظّن فالّذي ينبغي أن يقال : هو أنّ الأمر لا يخلو على هذا التّقدير : من أنّه إمّا أن نقول باعتباره من باب الظّن الشّخصي حسب ما هو ظاهر شيخنا البهائي ، أو الظّن النّوعي المقيّد بعدم قيام الظّن على الخلاف ولو كان نوعيّا على ما يظهر من بعض ، أو الظّن النّوعي المطلق حسب

٤٠٥

ما هو قضيّة مقالة المشهور.

فإن قلنا باعتباره من باب الظّن الشّخصي ، فلا إشكال في كون الدّليل الظنّي القائم على خلاف الحالة السّابقة واردا على الاستصحاب على تقدير منعه عن حصول الظّن من الاستصحاب على ما هو قضيّة تقابلهما لو خلّيا وطبعهما ، بل ذلك غير مختصّ بالدّليل المعتبر ، بل يجري في الأمارة الغير المعتبرة أيضا ، إلّا أنّه لا يسمّى واردا ؛ لأنّ الورود مختصّ ظاهرا برفع الدّليل المعتبر موضوع الدّليل الآخر لا مطلق رفع الأمارة ولو لم يكن معتبرة ، وأمّا لو فرض عدم رفعه للظّن الحاصل منه ، ولكن كان اعتباره من باب الظّن النّوعي المطلق فحكمه حكم الصّورة الثّالثة.

وإن قلنا : باعتباره من باب الظّن النّوعي المقيّد على ما هو قضيّة كلام العضدي على بعض الوجوه فلا إشكال في ورود الدّليل عليه لو حصل منه ظنّ بخلاف الحالة السّابقة ، وأمّا لو لم يحصل منه ظنّ بالخلاف فيدخل في الفرض الثّالث.

وإن قلنا باعتباره من باب الظّن النّوعي المطلق ـ حسب ما هو قضيّة مقالة المشهور على ما استظهره الأستاذ العلّامة فيما سبق ـ فتأتي فيه الوجوه الثّلاثة المتقدّمة على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، فالحقّ هو كون الدّليل حاكما عليه ، وإن كان كلّ منهما دليلا اجتهاديّا ؛ إذ الحكومة والورود ليسا من خصائص الدّليل الاجتهادي بالنّسبة إلى الأصول ، بل قد يوجدان بين الأصلين كما يوجدان بين الدّليلين أيضا على ما عرفت بعض الكلام فيه وستعرف تفصيله إن شاء الله تعالى.

٤٠٦

نعم ، قد يقال : إنّ هذا إنّما هو على القول باعتبار الاستصحاب من باب الغلبة ، وأمّا بناء على اعتباره من باب بناء العقلاء فالحقّ ورود الدّليل عليه ، كما هو الشّأن في تقديم الخاصّ الظّني السّند النّص بحسب الدّلالة على أصالة العموم في العام بناء على القول باعتبارها من باب بناء العقلاء من حيث الظّهور النّوعي ، فعدم إناطة اعتباره بالظّن الشّخصي ، أو عدم قيام الظّن على الخلاف إنّما ينفع في مقابل الأمارة الغير المعتبرة ، لا الأمارة المعتبرة ؛ لأنّ بناء العقلاء ليس موجودا مع قيام الدّليل على الخلاف هذا.

ولكنّك خبير بعدم الفرق بينهما ؛ إذ عدم بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب في مورد لا يكشف عن عدم جريانه ؛ لأنّ عدم العمل أعمّ من الورود ؛ لأنّه يجامع الحكومة أيضا هذا. وستقف على تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

كما أنّه قد يقال بورود الدّليل الظّني المعتبر على الاستصحاب مطلقا من غير فرق بين كون المدرك فيه الغلبة ، أو بناء العقلاء من جهة ملاحظة نفس الحالة السّابقة ؛ إذ الغلبة إنّما تلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، ولذا يحكم بعدم جريان غلبة الأعمّ إذا كانت في مقابلها غلبة الأخصّ وإن كان هذا فاسدا أيضا : بأنّ هذا خروج عن الفرض كما هو واضح هذا.

وممّا ذكرنا كلّه يعرف ما وقع من الأستاذ العلّامة في المقام من المسامحة في البيان ؛ فإنّ قوله : « وإن أخذ من باب الظّن فالظّاهر أنّه لا تأمّل لأحد في أنّ

٤٠٧

المأخوذ ... إلى آخره » (١).

٣ / ١٨٦ مناقض صريح لما حكاه سابقا من المشهور من كون مناط اعتبار الاستصحاب عندهم هو الظّن النّوعي المجامع لقيام الظّن على خلافه ، فكيف يقال مع ذلك كون الدّليل واردا على الاستصحاب؟ لأنّ عدم تأمّل أحد في اشتراط حصول الظّن الشّخصي من الاستصحاب بعدم قيام الظّن على خلافه ولو لم يكن معتبرا ، بل كان ممّا قام الدّليل القطعي على عدم اعتباره لا يجدي نفعا بعد كون المناط الظّن النّوعي المجامع للظّن على الخلاف ، مع أنّه بناء على ما ذكره ( دام ظلّه ) لا معنى للفرق بين الظّن الغير المعتبر القائم على الخلاف والظّن المعتبر القائم عليه مع أنّه كما ترى.

اللهمّ إلّا أن يوجّه ما ذكره : بأنّ مراده هو الظّن المعتبر ومراده من إفادته الظّن هو الظّن المعتبر عند العقلاء. ولكن فيه أيضا ما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره العضدي فقد عرفت : أنّه صرّح ( دام ظلّه ) بكونه مخالفا لظاهر كلماتهم إن بقي على حاله.

وأمّا ما ذكره دام ظلّه في تقرير حكم الغلبة القائمة على خلاف الحالة السّابقة : من كونها واردة على الاستصحاب كغيرها من الأدلّة الاجتهاديّة فقد عرفت ما في إطلاق القول بكون الدّليل الاجتهادي واردا على الاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب الظّن سيّما بالنّسبة إلى الغلبة.

وبالجملة : فلا بدّ إمّا من رفع اليد عمّا جزم به سابقا في أمر الاستصحاب بناء

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣١٧.

٤٠٨

على القول باعتباره من باب الظّن ، وإمّا من رفع اليد من هذه الكلمات المنافية له بطريق الصّراحة.

وأمّا الاستشهاد لما ذكره : من حديث ورود الدّليل على الاستصحاب بعدم تقديم أحد من الأصحاب الاستصحاب على الأمارة المعتبرة ولو كانت في غاية الضّعف فلا يخفى ما فيه ؛ لأنّ عدم تقديم الاستصحاب من باب حكومة الأمارة عليه. وقد عرفت : أنه لا مجرى للمحكوم بعد وجود الحاكم ولا نسبة بينهما أصلا حتّى يقع التّعارض بينهما ، فما ذكره ( دام ظلّه ) لازم أعمّ لا يمكن الاستشهاد به.

نعم ، الاستشهاد به في قبال من يقول : بأن الاستصحاب في عرض سائر الأدلّة وتقديمها عليه يحتاج إلى مرجّح ، وإلّا فقد يقدّم الاستصحاب عليها ، وقد يحكم بتساقطهما والرّجوع إلى غيرهما في كمال المتانة والجودة ؛ لأنّ الظّاهر منها كون تقديمها على الاستصحاب من حيث الذّات لا لمكان المرجّح هذا مجمل الكلام فيما إذا قام الدليل على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن على خلاف الحالة السّابقة.

وأمّا إذا قام على طبقها بناء على هذا القول فحكمه ما عرفت في الفرض السّابق ؛ لأنّ قضيّة اعتبار الأمارة كون مؤدّاها منزّلة منزلة الواقع وعدم وجود شكّ في موردها بالحكومة ، ولا يعقل الفرق في هذا المعنى بين الصّورتين ؛ لأنّ اعتبارها ليس مختصّا بما إذا قام على خلاف الأصول ومفاد دليل اعتباره أيضا لا فرق في معناه.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الدّليل الاجتهادي الموجود في مورد الاستصحاب حاكم على ما دلّ على الأخذ بالحالة السّابقة مطلقا وأنّه لا تعارض بينه وبين الدّليل أصلا ، هذا.

٤٠٩

نقل كلام المحقّق القمّي والفاضل النّراقي في المقام

ولكن قد خالف فيما ذكرنا جماعة من المتأخّرين على ما يظهر من كلماتهم في باديء النّظر قال المحقّق القميّ رحمه‌الله بعد نقل كلام (١) من اشترط في العمل بالاستصحاب عدم قيام الدّليل في مورده ما هذا لفظه :

« أقول : إن أراد من الدّليل ما ثبت رجحانه على معارضه فلا اختصاص لهذا الشّرط بالاستصحاب ، بل كلّ دليل عارضه دليل أقوى منه رجّح عليه فلا حجيّة فيه ويعمل على الدّليل الرّاجح ، فلا مناسبة لذكر ذلك في شرائط الاستصحاب.

وإن أراد من الدّليل ما يقابل الأصل. ففيه : أنّ الإجماع على ذلك إن سلّم في أصل البراءة وأصل العدم فهو في الاستصحاب ممنوع ، ألا ترى أنّ جمهور المتأخّرين قالوا : إنّ مال المفقود في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته؟ استصحابا للحال السّابق مع ما ورد من الأخبار المعتبرة بالفحص أربع سنين ، ثمّ التّقسيم بين الورثة ، وعمل عليها جماعة من المحقّقين فكيف يدّعى الإجماع على ذلك؟

وإن أراد أنّ الاستصحاب من حيث إنّه استصحاب لا يعارض الدّليل القطعي من حيث هو هو إجماعا فله وجه ، كما أنّ العام من حيث إنّه عام لا يعارض الخاصّ من حيث إنّه خاصّ ، والمفهوم من حيث إنّه مفهوم لا يعارض

__________________

(١) هو الفاضل التوني أعلى الله تعالى مقامه الشريف في الوافية / ٢٠٨.

٤١٠

المنطوق كذلك (١) ». انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

ثمّ اعترض على ما ذكره البعض على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن يقف عليه من راجع إلى « القوانين ».

وقال الفاضل النّراقي في « المناهج » بعد نقل ما عرفت من المحقّق القميّ رحمه‌الله ما هذا لفظه :

« ففيه : أنّا نختار الثّاني ، ومنع الإجماع فاسد كما هو ظاهر على المتتبّع ، وما ذكره من مال المفقود فعمل جمهور المتأخّرين بالاستصحاب ليس به نفسه بل لموافقة أخباره أيضا فعملهم عليها مضافا إلى ردّهم دلالة الأخبار المخالفة له » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت بعد التّأمّل فيما ذكرنا تعرف أنّه لا وجه لما ذكراه قدس‌سرهما.

أمّا ما ذكره الفاضل القميّ فلما عرفت : من أنّ الدّليل حاكم على الاستصحاب مطلقا سواء طابق الحالة السّابقة أو خالفها ، وسواء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، أو الظّن حسب ما اعترف قدس‌سره به على التّقدير الأخير ، فكيف يمكن مع ذلك إيقاع التّعارض بينهما فضلا عن ترجيح الاستصحاب ببعض المرجّحات؟

ومنه يظهر ضعف ما سلّمه على التّقدير الثّالث ؛ فإنّ ما ذكره يتمّ على تقدير وجود الاستصحاب موضوعا مع الدّليل حتّى يقال : إنّ الدّليل راجح بالذّات على

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ٧٥.

(٢) مناهج الأحكام في أصول الفقه : ٢٣٥.

٤١١

الاستصحاب مع أنّه قد يقال بمنع ما ذكره على تقدير تسليم وجودهما في موضوع واحد ؛ إذ لا مدرك له بعد كون النّسبة بينهما عموما من وجه ، اللهمّ إلّا أن يتمسّك له ٣ / ١٨٧ بما وجّهنا به القول بكون الدليل مخصّصا للاستصحاب ، فما ذكره رحمه‌الله يرجع إليه عند التّحقيق.

وأمّا ما استشهد لمنع الإجماع : « من عمل جمهور المتأخّرين بالاستصحاب في المفقود ... إلى آخره » (١).

ففيه : أنّه لا دخل له بالمقام ؛ فإنّ الكلام فيما إذا قام الدّليل في مورد الاستصحاب والأخبار المذكورة ليست بأدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ؛ فإنّها تثبت حكما ظاهريّا مثل : عموم ما دلّ على عدم جواز نقض اليقين بالشّك ، فهي أيضا من الأصول كالاستصحاب ، فعلى هذا لا بدّ من الاستشهاد بتقديم قاعدة الشّك بعد الفراغ على الاستصحاب وغيرها من القواعد والأصول ، وإنّما الدّليل المقابل له ما قام على موت زيد كالبيّنة ونحوها. فهل ترى أحدا قدّم الاستصحاب على البيّنة المعتبرة على الموت؟

وبالجملة : الأخبار المذكورة أخصّ مطلقا من الاستصحاب من حيث كون مفادها حكما ظاهريّا في بعض موارد عموم لا تنقض ، فمن بنى على اعتبار الأخبار قدّمها على الاستصحاب من حيث التّخصيص ، ومن لم يبن علي اعتبارها ، بل طرحها من حيث ضعفها فيعمل بالعموم المذكور من حيث سلامته عن المخصّص.

__________________

(١) قوانين الأصول : ٢ / ٧٥.

٤١٢

ومنه تعرف إيرادا آخر على ما ذكره رحمه‌الله ؛ فإنّه على فرض تسليم كون الأخبار المذكورة من الأدلّة نقول : إنّ وجه عدم عملهم بها ليس من جهة ترجيح العموم عليها عندهم ، بل من جهة طرحهم للأخبار المذكورة.

ومنه يعرف فساد ما قد يقال في توجيه ما ذكره المحقّق القميّ : من أنّ الظّاهر من الأخبار المذكورة اعتبار الظّن الحاصل من الفحص عند الشارع ، فيكون الأخبار أدلّة في مقابل الاستصحاب.

وجه الفساد ـ على فرض تسليم ما ذكر ـ ما عرفت : من أنّ عدم تقديمهم إنّما هو لأجل ضعف الأخبار عندهم لا من جهة ترجيح الاستصحاب عليها هذا.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ المختار هو الشّق الثّاني من الشّقوق الّتي ذكرنا ، وإثباته لا يتوقّف على ثبوت الإجماع ، مع أنّه لا إشكال في ثبوته هذا.

وأمّا ما أورد عليه الفاضل النّراقي ؛ فلما عرفت غير مرّة أنّ الاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب الأخبار ليس إلّا نفس مفاد الأخبار ، وليس هو بنفسه دليلا ، والأخبار دليل عليه كما زعمه بعض السّادة الأجلّاء فيما عرفت من كلامه.

ثمّ على تقدير تسليم تغايرهما كآية النّبأ بالنّسبة إلى آحاد أخبار الآحاد ، يرد عليه : أنّ مفاد أخبار الاستصحاب أيضا مفاد الأصل ، فلا يمكن أن يعارض دليلا فإذا فرض ورود أخبار معتبرة على البناء على موت المفقود بعد الفحص أربع سنين لم يكن أيضا حاكمة عليها ، كما أنّ الاستصحاب لا يكون حاكما عليها هذا. مضافا إلى عدم معنى محصّل لضمّ الأخبار بالاستصحاب.

وبالجملة : لم يظهر معنى محصّل لما ذكره أيضا هذا.

٤١٣

ولكن وجّه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) ما ذكره المحقّق القميّ : بأنّ ما أورده على من اشتراط في العمل بالاستصحاب عدم الدّليل على الخلاف لعلّه كان مبنيّا على ظاهر كلامه في النّظر الابتدائي ؛ فإنّ الظّاهر من التّعارض الّذي ذكره هو التّعارض مع عموم لا تنقض ، فعليه يكون ما ذكره في غاية الوجاهة كما هو ظاهر ، لا ما استظهرنا من كون مراده من الدّليل هو القائم على خلاف الحالة السّابقة أي : على نفس الواقع لا الواقع المشكوك هذا.

ولكنّك خبير بأنّ التّأمّل في كلامه يعطي كون مراده ما استظهره الأستاذ العلّامة لا ما يظهر منه في باديء النّظر ، فالإيراد متوجّه عليه.

ثمّ إنّه كما يرد النّقض عليهما كذلك يرد النّقض على المشترط أيضا زيادة على ما عرفت في التّوجيه : من ظهور كلامه في عدم المعارض ؛ لعموم لا تنقض ؛ فإنّك قد عرفت : أنّه لا معنى للحكم بوجود المعارض في المقام حسب ما هو صريح مقالته بعد ما عرفت : من كون الدّليل حاكما على الاستصحاب فتأمّل.

(٣٣١) قوله : ( ثمّ المراد بالدّليل الاجتهادي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٨ )

أقول : فيكون الدّليل الفقاهتي على ما ذكره ( دام ظلّه ) : هو ما انتفى فيه أحد القيدين ، فالأصول بأسرها أدلّة فقاهتيّة وإن أفادت الظّن في بعض الموارد كالاستصحاب في الشّك في وجود الرّافع.

٤١٤

وجه تسمية الدليل بالإجتهادي والأصل بالفقاهتي

ثمّ إنّه لا إشكال فيما ذكره من الفرق المفهومي بين الدّليلين إلّا أنّ الكلام يقع في مواضع :

أحدها : في وجه تسمية الأوّل بالدّليل الاجتهادي. والثّاني بالفقاهتي.

فنقول : إنّ الوجه فيها يعلم بالمناسبة الّتي ذكروها في تعريف الاجتهاد : بأنّه استفراغ الوسع في تحصيل الظّن بالحكم الشّرعي. وتعريف الفقه : بأنّه العلم بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة بناء على كون المراد من الأحكام الأعمّ من الأحكام الظّاهريّة ؛ فإنّ تحصيل الظّن المعتبر بالحكم الشّرعي لا ينفكّ عن العلم بالحكم الظّاهري كما هو واضح ، فالدّليل الاجتهادي لمّا كان ناظرا إلى الواقع ويحصل الظّن منه به ولو نوعا سمّي بالدّليل الاجتهادي.

وأمّا الأصل فلمّا لم يكن مناط اعتباره حصول الظّن منه ، وإنّما الحاصل ممّا دلّ عليه العلم بالحكم الظّاهري فلذا سمّي بالدّليل الفقاهتي ؛ فإنّ الدّليل الاجتهادي وإن كان يحصل منه العلم بالحكم الظّاهري أيضا ، إلّا أنّه لمّا كان فيه جهة الكشف عن الواقع لا محالة وأرادوا الفرق بينه وبين الأصول في تسمية الدّليل ، فلذا سمّوا الدّليل بالاجتهادي والأصل بالفقاهتي.

ثانيها : أنّ ما ذكر من التّعريف للدّليل الاجتهادي والفقاهتي وإن كان ظاهره الاختصاص بما إذا كان موردهما الحكم النّفس الأمري الفرعي ، إلّا أنّ الأمر ليس

٤١٥

كذلك قطعا ، بل يعمّه وما إذا كان موردهما الحكم الأصولي ، فلو قام الدّليل على حجيّة شيء واقعا سمّي دليلا اجتهاديّا ، كما أنّه لو ثبت حجيّة شيء بالاستصحاب مثلا كان دليلا فقاهتيّا وهذا ظاهر.

ثالثها : أنّ ما ذكر من التّعريف للدّليل الاجتهادي يعمّ الدّليل العلمي والظّني ؛ لأنّ الاجتهاد ـ على ما هو قضيّة التّحقيق الّذي عليه جمع من المحقّقين ـ أعمّ من تحصيل العلم بالحكم الشّرعي ، أو الظّن به. ولذا نقول : إنّ القطعيّات من الفقه كالظّنيات. نعم ، الضّروريّات خارجة.

وأمّا ما ذكرنا سابقا في وجه المناسبة ؛ فإنّما كان مبنيّا على تعريف الأكثرين للاجتهاد من العامّة والخاصّة ومال إليه الأستاذ العلامة بعض الميل في مسألة الاجتهاد والتّقليد : من حيث إن تعريفهم للاجتهاد سواء كان بمعنى الملكة أو الفعليّة ينطبق عليه. وهو كما ترى لا يخلو من وجه.

رابعها : أنّه قد يقال ـ بل قيل بل ربّما يستفاد من مطاوي كلمات الأستاذ العلّامة ـ : أنّ النّسبة بين الحاكم والمحكوم قد يكون عموما من وجه. وقد يكون عموما مطلقا. وأمثلة كلّ منهما كثيرة في الغاية ، ولكنّه كما ترى على خلاف التّحقيق ؛ لأنّ النّسبة فرع اجتماع الدّليلين في موضوع واحد ، والحاكم بمدلوله يرفع موضوع الآخر بالحكومة ، فكيف يمكن أخذ النّسبة بينهما؟

وأمّا ما ربّما يستفاد من كلمات الأستاذ العلّامة فهو مبنيّ على ملاحظة الدّليلين من حيث الواقع مع قطع النّظر عن لسانهما ، فتدبّر.

خامسها : أنّ ما ذكره الأستاذ العلّامة هو المناط في الدّليل الاجتهادي

٤١٦

والفقاهتي ، ولا فرق بعد وجوده بين كون الدّليل الدّالّ على حجيّة الدّليل أو الأصل من حكم العقل أو السّمع ، ولا بين أن لا يكون الشّك مأخوذا في موضوعه وبين أن يكون مأخوذا فيه ، فالاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب الظّن دليل اجتهادي وإن كان الشّك مأخوذا في موضوعه.

سادسها : أنّه كما يطلق على ما كان معتبرا من حيث الكشف الدّليل بقول مطلق والدّليل الاجتهادي في مقابل الأصول كذلك يطلق عليه الأمارة أيضا ، لكن ثبوت هذا الإطلاق بالنّسبة إلى الموضوعات أكثر ، بل قد يقال : إنّه لم يطلق الدّليل عليه بالنّسبة إلى الموضوعات.

سابعها : أنّ من لوازم الدّليل الاجتهادي والفقاهتي عدم التّعارض بينهما بل كون الأوّل واردا على الثّاني ، أو حاكما عليه. وأمّا الدّليلان الاجتهاديّان ، أو الفقاهتيان فقد يوجد بينهما الورود والحكومة ، إلّا أنّه لا إشكال في وقوع التّعارض بينهما كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه.

نعم ، قد أشرنا إلى أنّ ما ذكرنا : من كون الدّليل واردا على الأصل ، أو حاكما عليه إنّما هو فيما لم يكن الأصل أخصّ من الدّليل ، وإلّا فلا بدّ من العمل على الأصل والوجه فيه ظاهر.

ثامنها : أنّ الدّليلين إن علم حالهما من حيث كونهما اجتهاديّين أو فقاهيّين أو كون أحدهما اجتهاديّا والآخر فقاهيّا فهو ، وإن لم يعلم حالهما ولم يكن هناك ما يرجع إليه من الظّنون المعتبرة المشخّصة فيحدث في المسألة إشكال : من حيث إجراء أحكام التّعارض بينهما ، إلّا أنّ هذا قليل في الغاية ؛ لأنّ مصاديق الأدلّة

٤١٧

والأصول معلومة غالبا في الأحكام والموضوعات ، وإنّما الإشكال والخلاف وقع بالنّسبة إلى بعضها ، فلهذا احتيج إلى التّكلّم في تشخيصه وفي بيان حكمه على تقدير عدم العلم به.

ثمّ إنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ سبب الاشتباه إنّما هو عدم العلم بأنّ الشارع اعتبر الشّيء من حيث كونه كاشفا ولو بالنّوع ، أو اعتبره لا من حيث كشفه سواء كان كاشفا أم لا ، لا عدم العلم بأنّه كاشف أم لا ، وإن كان هذا أيضا ممكنا إذا كان المدار على الكشف النّوعي.

* * *

٤١٨

تعارض الاستصحاب مع سائر

الأمارات والأصول

والكلام فيها في ثلاث مقامات :

* المقام الأوّل : عدم معارضة الاستصحاب لليد

١ ـ تقدّم اليد على الاستصحاب

٢ ـ تقدّم قاعدة الفراغ والتجاوز عليه

٣ ـ أصالة الصحة في فعل الغير

* المقام الثاني : تعارض الاستصحاب مع القرعة

* المقام الثالث : تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة

٤١٩
٤٢٠