بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

يوجد في الأدلّة اللّبية كما في المثالين المذكورين في « الكتاب ». وأمّا الإجمال فلا يوجد في الأدلّة اللّبية.

والفرق بين الإجمال والإهمال : أنّ الحكم يمكن أن يكون مرادا من الدّليل المجمل في الزّمان الثّاني وإن كان غير دالّ بالنّسبة إليه قطعا ولا يمكن أن يكون مرادا من الدّليل المهمل على تقدير ثبوته واقعا. وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك في طيّ كلماتنا السّابقة.

* * *

٢٦١

* التنبيه العاشر (١) :

دوران الأمر بين التمسّك بالعام أو استصحاب حكم المخصّص

(٢٩١) قوله : ( بل مانع عنه ؛ إذ المعبّر (٢) في الاستصحاب ... إلى آخره ) (٣). ( ج ٣ / ٢٧٤ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« إن مقتضي ما حقّقناه : من ان مفاد الأخبار إنّما هو استصحاب حكم النّص ـ الذي يعبّر عنه بالعموم والإطلاق ـ انه لو علمنا بمخالفة خاصّ للعام في الحكم ـ في الجملة ـ ولم نعلم حكمه في حال آخر : إن الحكم المستفاد من دليل العام قد ثبت لموضوع مبيّن ونعلم بالمقتضي له تفصيلا وشرائطه وكذا دليل الخاص فحينئذ لا إشكال في الأخذ بما دلّ على حكم الخاصّ فانه لتأخّره يتقدّم على ما تقدّم ، وقد يثبت الحكمان أو احدهما على وجه الإهمال وحينئذ فالمرجع إنّما هو العام من الدليلين لما عرفت : من انّ القاعدة الشريفة إنّما تنفي احتمال المانع.

وبالجملة : فمورد الاستصحاب انّما هو ما دلّ الدليل على ثبوت الحكم على وجه الإطلاق والعموم بمعنى ثبوت الإقتضاء وعدم كون الشك في الشرط وإن كانت الشبهة موضوعيّة أو كان المعوّل موضوعا خارجيّا كالعقد الّذي تأخذ بإطلاقه عند الشك في الطلاق سواء كانت الشبهة حكميّة ـ كما في خليّة وبريّة ـ أو موضوعيّة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) كذا والصحيح كما في الكتاب : « إذ المعتبر ».

(٣) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

٢٦٢

الدليل الظني المعتبر ليس رافعا لموضوع

__________________

« وفيه : ما عرفت من الأخذ بالمقتضي الذي هو الإستصحاب عندنا وهو الشرط عنده لاختياره حجّيّته عند الشك في الرّافع خاصّة لا يتحقّق إلّا مع عموم الدليل ؛ لما عرفت : من انّ عمومه عبارة عن تماميّة الإقتضاء لا غير ، ولهذا لم يتحقّق التعارض بين العمومات وأدلّة الموانع في شيء من الأبواب.

وأمّا مع قصور الدليل عن إفادة هذا المعنى فضلا عن عدم إحراز الموضوع فلا معنى للإستصحاب.

وأمّا توهّم جريان الإستصحاب فيه من الأمثلة لا يخلو عن أحد الأمرين ؛ فإن تردّد أمر الليل بين الإستتار وذهاب الحمرة مرجعه إلى الجهل بالموضوع ، وكذا لو تردّد الأمر بين ان يكون للتغيير عنوانا يدور مداره كالخمر وبين أن يكون التغيّر كاشفا عن زوال الإعتصام وكون الموضوع هو الماء والملاقاة شرطا والكرّيّة مانعة ؛ فإن عدم جريان الإستصحاب حينئذ أيضا من الواضحات ؛ لعدم تبيّن الموضوع ؛ فإن زوال التغيّر من قبل نفسه ليس مزيلا بالضرورة وأمّا إذا كان الدليل لبّيّا لم يثبت به الّا الحكم على وجه الإهمال فهو أيضا لا يخلو عن الشك في المقتضي والموضوع.

فتبيّن انه لا إشكال في عدم جريان الإستصحاب في القسم الثالث ، فلا إشكال في ان الإستصحاب إنّما يجري في القسم الأوّل الدّال على العموم بمعنى تماميّة الإقتضاء كقولك : ( اكرم العلماء على كلّ حال وفي كلّ زمان ) ؛ فإنه لا يدل إلّا على عدم مدخليّة شيء في اقتضاء العلم للإكرام.

وأمّا انه لا شرط له أو لا يمنع عنه مانع فلا ، ولهذا لا ينافي العموم ذكر شرط أو بيان مانع كقولك : ( إن كانوا عدولا ) و ( لا تكرم الفاسق ) فهل يتوهّم أحد أن عموم حجّيّة فتوى الفقيه ينافي اعتبار الايمان والعدالة وطهارة المولد أو منع الفسق عنه؟! إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ٢ / ٢٩٢.

٢٦٣

الأصل وجدانا كالدليل القطعي

أقول : قد يتأمّل فيما ذكره ( دام ظلّه ) : بأنّ الدّليل الظّني المعتبر ليس كالدّليل القطعي رافعا لموضوع الأصل وجدانا حتّى لا يفرّق فيه بين أن يكون على طبق الأصل أو على خلافه ، وإنّما هو رافع لموضوعه بالحكومة الّتي يرجع حقيقة إلى تنزيل الموضوع الموجود منزلة عدمه.

فهذا الدّليل الظّني إن كان على خلاف الأصل فلا ريب في وجود هذا المعنى بالنّسبة إليه ؛ لأنّ معنى الأمر بتصديق خبر العادل القائم على الخلاف أو بالعمل بالعموم الدّال على خلافه : هو أنّ المقصود من الشّك الّذي أمر بالرّجوع فيه إلى الأصل غير هذا الشّك الّذي وجد فيه الخبر أو العموم مثلا ، فرفع اليد عن الأصل حينئذ ليس من التّخصيص.

وأمّا إذا كان على طبق الأصل فلا ينافي مقتضى الأصل حتّى يجعل دليل حجيّة الأمارة القائمة على الخلاف مفسّرا لدليل الأصل. ومن هنا ترى الفقهاء كثيرا ما يجمعون في الاستدلال بين الأصل والدّليل.

نعم ، بناء على ما قد قيل : إنّ العلم الّذي هو رافع لموضوع الأصول وأخذ عدمه فيه أعمّ من الظّن المعتبر كان لما ذكره وجه ، ولكن هذا البناء في غاية الضّعف وليس بمرضيّ عند الأستاذ العلّامة أيضا هذا.

ولكنّك خبير بأنّه لا وجه لهذا التّأمّل ؛ لأن مقتضى دليل حجيّة الأمارة من حيث كشفها عن الواقع هو ترتيب آثار الواقع عليه ورفع اليد عن الحكم المجعول

٢٦٤

للواقع من حيث الشّك فيه من حيث كونه مجعولا بلحاظ الشّك ، وكون المراد من الشّك الّذي هو الموضوع في أدلّة الأصول هو غير الشّك الّذي وجد فيه دليل كاشف عن الواقع سواء كان على طبق الأصل أو على خلافه.

وأمّا تمسّك الفقهاء كثيرا بالأصل والدّليل والجمع بينهما في الاعتماد على ما صاروا إليه فليس من جهة بنائهم على جريان الأصل في موضوع وجود الدّليل على الخلاف ، بل من جهة الإغماض عن وجود الدّليل في المسألة ، ولهذا ترى لا يفرّقون في الجمع بين الدّليل والأصل في التّمسك بين الدّليل القطعي والظّني كما لا يخفى على من راجع إلى كلماتهم في موارد الجمع بين الأصل والدّليل.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكره ( دام ظلّه ) بين كون اعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد أو من باب الظّن ؛ فإنّ وجود الدّليل في المسألة مطلقا مانع عن الرّجوع إلى الأصل وإن كان الدّليل أصلا لفظيّا مقيّدا بعدم قيام القرينة على الخلاف والأصل دليلا اجتهاديّا معتبرا من باب الظّن كما حقّق مستقصى في مسألة تعارض الأدلّة وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله في الجزء الرّابع من التّعليقة.

٢٦٥

(٢٩٢) قوله : ( ثمّ إذا فرض خروج بعض ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٧٤ )

أقول : تفصيل القول في المقام وتحقيقه يقتضي شرحا في الكلام فنقول :

إذا ورد عامّ وخاصّ على خلافه ولو حظت النّسبة بينهما بحسب الزّمان فلا يخلو إمّا أن لا يكون لهما شمول بالنّسبة إلى الزّمان أصلا سواء دلّا على عدم الشّمول أو احتملا الشّمول أو يكون لهما شمول بالنّسبة إليه أو يكون لأحدهما شمول بالنّسبة إليه دون الآخر فالصّور أربعة.

ثمّ الشّمول قد يكون بالعموم بمعنى أنّه أخذ كلّ جزء من أجزاء الزّمان يسع لوقوع الفعل فيه موضوعا متعلّقا للحكم المستفاد من الدّليل ، فينحلّ العموم بحسب الزّمان إذن إلى أحكام متعدّدة لا ارتباط بينها ، وقد يكون بالإطلاق واستفيد عموم الحكم بالنّسبة إلى جميع الأزمنة من الحكمة ، وقد يكون بالإطلاق مع التّصريح بما

__________________

(١) قال الفقيه الرباني الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انّ كون كلّ زمان فرادا مستقلّا لا يعقل إلّا فيما إذا كان موضوع الحكم زمانا أو مقيّدا به كقولك : ( صم الشهر ، أو كلّ يوم منه ) و ( تعبّد لله في شهر رمضان في كلّ ساعة وآن ) وأمّا إذا كان الموضوع هو العالم كما في المثال فعموم الحكم لا يعقل إلّا بالنسبة إلى أفراده ، ولا معنى للتعميم من حيث الزمان وغيره كالمكان والحالات إلّا انه لا دخل لأمر وراء العلم في ترتّب الحكم عليه فهو بيان لتماميّة اقتضاء العلم للحكم كما هو المدلول عليه بالوضع والحمل ، فقولك : ( في كلّ زمان ) مؤكّد لما استفيد من قولك : ( أكرم العلماء ) فلا فرق بين استفادة هذا النحو من العموم الزماني من الإطلاق وبين استفادته من كلمة ( كل ) ، كما انّ كون كلّ شخص من العلماء موضوعا مستقلّا بمقتضى تعلّق الحكم الكلّي الذي هو العالم فلا فرق بين أن يقال : ( أكرم العالم ) أو ( كلّ عالم ) أو ( العلماء ) الّا في قوّة الدلالة على تماميّة الإقتضاء وبما حقّقناه ظهر حال فروع الباب وما صدر من الأصحاب قدس‌سرهم » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٢٦٦

يقتضي عدم العموم الزّماني بالمعنى المذكور وإن اقتضى دوام الحكم كأن يقول المولى لعبده : « أكرم العلماء دائما ».

مثال الأوّل : ما إذا ورد من المولى « أكرم العلماء » أو « أضف الفقهاء » ثمّ ورد النّهي عن إكرام واحد منهم من غير أن يكون هناك ما يستفاد منه الشّمول بالنّسبة إلى أحدهما.

مثال الثّاني : ما إذا ورد « أكرم العلماء في كلّ يوم ». ثمّ ورد « لا تكرم زيدا العالم في كلّ يوم ». أو « ورد أكرم العلماء دائما ». ثمّ ورد « لا تكرم زيدا العالم ـ مثلا ـ دائما » ، أو فهم الشّمول في كلّ منهما من الإطلاق والحكمة فيما يفرض فيه وجود ذلك.

وأمّا مثال ما إذا كان للعام العموم بالنّسبة إلى الزّمان دون الخاص فهو : ما إذا ورد « أكرم العلماء في كلّ يوم ولا تكرم زيدا العالم » إذا لم يكن ثمّة ما يقتضي ٣ / ١٥٨ عمومه بالنّسبة إلى الزّمان.

وأمّا مثال ما إذا كان للخاصّ شمول زماني دون العامّ فهو ما إذا ورد من المولى « أكرم العلماء » ثمّ ورد « لا تكرم زيدا العالم في كلّ يوم » هكذا قيل.

ولكن الحقّ أنّ هذا القسم الأخير ممّا لا معنى له ؛ لأنّ عموم الخاصّ بالنّسبة إلى الزّمان ملازم لعموم العام بالنّسبة إليه كما لا يخفى ، بل اشتمال الخاص على الزّمان ربّما يستظهر منه دلالة العام على العموم ، كما إذا ورد بعد ورود أكرم العلماء : لا تكرم زيدا في يوم الجمعة مثلا ؛ فإنّ التّعرض للزّمان في الخاصّ بإخراجه من حيث الزّمان الخاصّ يقتضي عموم العام بالنّسبة إلى الأزمنة وإلّا لم يكن معنى لملاحظة المتكلّم الزّمان في القضيّة المشتملة على التّخصيص.

٢٦٧

كيفية اجتماع العام مع الخاص ودلالتها

أو دلالة أحدهما على العموم الزّماني

إذا عرفت ذلك فنقول : لا إشكال في الرّجوع إلى استصحاب حكم الخاصّ في الصّورة الأولى فيما إذا شكّ في بقائه في زمان من الأزمنة ؛ حيث إنّه لا معنى للرّجوع إلى العام ؛ إذ المفروض عدم عموم له أصلا حتّى يرجع الشّك في بقاء الحكم بالنّسبة إلى الزّمان الثّاني إلى الشّك في زيادة التّخصيص ، كما أنّه لا إشكال في الرّجوع إلى عموم الخاصّ في الصّورة الثّانية والرّابعة وفي خروجهما عن محلّ البحث.

إنّما الإشكال والكلام في الصّورة الثّالثة وهي : ما إذا كان للعام شمول بالنّسبة إلى الزّمان دون الخاصّ فهل يرجع إلى عموم العام بالنّسبة إلى زمان الشّك مطلقا ، أو إلى استصحاب حكم الخاصّ مطلقا ، أو يفصّل بين ما إذا كان شموله للزّمان على الوجه الأوّل من العموم ، أو على الوجه الثّاني منه ، فيحكم في الأوّل بالرّجوع إلى عموم العام ، وفي الثّاني إلى استصحاب حكم الخاص؟

وجوه بل أقوال : ظاهر المحقّق الثّاني في « جامع المقاصد » هو الأوّل ، وظاهر كلام بعض السّادة الفحول (١) حسب ما ستقف عليه هو الثّاني ، وصريح

__________________

(١) هو السيد بحر العلوم أنظر فوائده الأصولية : ١١٦ ـ ١١٧.

٢٦٨

الأستاذ العلّامة في « الكتاب » هو الثّالث ، وربّما يستفاد من كلام ثاني الشّهيدين (١) أيضا ، بل نسبه الأستاذ العلّامة في مجلس البحث إلى الأكثرين ، بل المشهور.

أمّا المحقّق الثّاني فاستدلّ في ظاهر كلامه : « بأنّ مقتضى عموم العام للزّمان هو الاقتصار في الخروج عن مقتضاه على قدر ما دلّ المخرج عليه ، فإذا فرض عدم دلالته إلّا على خروج فرد بالنّسبة إلى زمان مّا ، فاللّازم الرّجوع في غيره إلى العام بمقتضى أصالة العموم ، هذا ملخّص ما يستفاد من كلامه المحكيّ في مسألة « خيار الغبن في باب تلقّي الرّكبان » ؛ حيث إنّه استدلّ للفوريّة : بأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان وإلّا لم ينتفع بعمومه » (٢)(٣). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأورد عليه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : بالمنع من لزوم الرّجوع إلى العموم

__________________

(١) مسالك الأفهام : ج ٣ / ١٩٠.

(٢) جامع المقاصد : ج ٤ / ٣٨.

(٣) قال الأصولي الجليل المحقق الطهراني قدس‌سره :

« قد عرفت : ان عموم الأزمان في مثله عموم تبعي مرجعه إلى تماميّة الإقتضاء ، ومن المعلوم ان دليل الخيار إن كان قاصرا عن إفادة تماميّة الإقتضاء لم يجر الإستصحاب إلّا في اللزوم ، لكنّ المدرك في خصوص هذا الخيار إنّما هو انصراف المعاملة إلى القيمة العادلة ، فهو مقتضى إطلاق العقد كالحلول والنّقد الغالب ، وهذا المقتضي لا قصور فيه ولا إجمال في دليله.

وأمّا الإستناد إلى لا ضرر فهو من الأغلاط في كلّ ما استدلّوا له به وليس هذا مقام بيانه ، والإستناد إلى الآية الشريفة في إحراز اقتضاء اللزوم قد بيّنا فساده في كتاب ذخائر النبوّة بما لا يزيد عليه » انتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٤.

٢٦٩

فيما إذا لم يكن من القسم الأوّل ؛ فإنّ الحكم بخروج الفرد الخارج دائما عن العام الّذي دلّ على ثبوت الحكم لجميع أفراد موضوعه دائما لا يستلزم تخصيصات عديدة بحسب أجزاء الزّمان الّتي تسع لوقوع الفعل فيها ؛ حيث إنّ المفروض عدم أخذ كلّ جزء من أجزاء الزّمان موضوعا مستقلّا وملحوظا بحياله حتّى يلزم الحكم بعدم ثبوت الحكم لجميعها تخصيصات متعدّدة.

فيرجع الشّك حينئذ في المقدار الّذي لا يدلّ عليه الدّليل المشتمل على التّخصيص إلى الشّك في التّخصيص الزّائد على القدر المعلوم ، بل عموم الحكم من حيث الزّمان في هذا القسم من توابع دخول الفرد في العام ، فإذا فرض خروجه عنه فلا يبقى عموم له بالنّسبة إلى الزّمان ، وإن كان العموم المستفاد عموما أصوليّا استغراقيّا وضعيّا ، إلّا أنّه لم يلاحظ الزّمان فيه على الوجه الّذي ذكرنا.

ومن هنا لم يتأمّل أحد في الحكم بالحليّة بالنّسبة إلى زمان الشّك فيما لو ثبت تحريم فعل بعنوان العموم وخرج منه فرد خاصّ من ذلك الفعل ووقع الشّك في أنّ ارتفاع الحرمة عن ذلك الفرد مختصّ ببعض الأزمنة أو عام لجميعها.

والحاصل : أنّ معنى العموم بحسب الزّمان في هذا القسم أنّ كلّ فرد كان داخلا في هذا العام ومرادا منه فهو مراد منه دائما فالحكم ثابت له كذلك ، فقول المولى : « أكرم العلماء دائما » لا يدلّ إلّا على ما ذكرنا.

فاندفع منه ما ربّما يتوهّم من المناقشة فيما ذكره الأستاذ العلّامة من التّمثيل لهذا القسم بالقضيّة المشتملة على لفظ الدّوام ؛ فإنّ المقصود من دوام الحكم استمراره الّذي يستلزم عدم تعدّده ، وإلّا لم يكن معنى لاستمرار الحكم كما لا يخفى.

٢٧٠

نعم ، لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل ؛ لأنّ المفروض أنّ كلّ فرد في كلّ زمان بحسب الملاحظة مستقلّ في الموضوعيّة للحكم ، وهذا بخلاف الفرض ؛ حيث إنّ الزّمان لم يلاحظ إلّا بلحاظ وجود الفعل فيه مجرّدا ، فالّذي يمنع من الرّجوع إلى العموم بالنّسبة إلى الفرد الخارج عدم رجوع الشّك بالنّسبة إلى الزّمان المشكوك إلى الشّك في التّخصيص الزّائد كما هو واضح ولو لم يكن هناك استصحاب يرجع إليه.

وهذا بخلاف الفرض الأوّل ؛ فإنّه لا إشكال في عدم جواز الرّجوع فيه إلى الاستصحاب حتّى لو فرض عدم وجود العموم الحاكم على الاستصحاب على تقدير جريانه ؛ حيث إنّ مقتضى الفرض تعدّد موضوع الحكم بحسب أجزاء الزّمان ، فالفرد في زمان اليقين فرد وفي زمان الشّك فرد آخر في عالم الموضوعيّة ، فلا معنى للرّجوع إلى الاستصحاب من جهة تعدّد الموضوع لا من جهة العموم ، فلو لم يجز الرّجوع إلى العموم ؛ لفرض إجماله من جهة التّخصيص بالمجمل لم يجر الاستصحاب أيضا على عكس المقام ؛ حيث إنّه لا يجوز الرّجوع فيه إلى العموم ولو لم يجز الرّجوع إلى الاستصحاب.

فإن قلت : إذا سلمت العموم بحسب الزّمان سواء كان بمقتضى الحكمة أو ٣ / ١٥٩ باللّفظ الدّال عليه بحيث يكون المخالف له بالنّسبة إلى جميع الأزمنة مستحقّا لعقوبات متعدّدة بحسب أجزاء الزّمان بالنّسبة إلى كلّ فرد فلا بدّ أن يكون في جميع الموارد كلّ جزء من أجزاء الزّمان مقصودا بحياله ، وإلّا لم يكن معنى لتعدّد المخالفة والعقاب ، فلا يستقيم ما ذكرته : من الرّجوع إلى الاستصحاب ، إلّا فيما إذا فرض العموم بدليّا بحسب الزّمان وهو خارج عن الفرض ، فعلى هذا يتعدّد

٢٧١

الموضوع هنا أيضا ؛ لاستحالة تعدّد الطّلب مع وحدة المطلوب.

قلت : تسليم العموم بحسب الزّمان مع كونه تابعا لدخول الفرد في العام لا ينفع عند خروج الفرد عنه كما لا يخفى هذا. مع أنّ ما ذكر إنّما هو بحسب الدّقة والتّحليل العقليّ والاستصحاب ليس مبنيّا عليها ، بل إنّما هو مبنيّ على المسامحة ، ولهذا كثيرا مّا يجرون الاستصحاب فيما ينحلّ إلى الأحكام المتعدّدة في نظر التّحقيق كما لا يخفى على من راجع إلى كلماتهم ، فحينئذ لا يرجع الشّك في المقدار الزّائد من الزّمان إلى الشّك في التّخصيص الزّائد ؛ لفرض وحدة الموضوع ولو بحكم العرف ، وقد عرفت : أنّ المانع منه هو رجوع كلّ فرد من أفراد الموضوع بواسطة ملاحظة الحاكم إلى موضوعات متعدّدة بحسب تقطيع الزّمان.

لا يقال : إنّ المسامحة العرفيّة إنّما ينتفع بها في جريان الاستصحاب ولا ينافي ذلك جريان أصالة العموم أيضا بملاحظة الواقع ، فيكون التّعويل إذن ـ على فرض تسليم جريان الاستصحاب المذكور بالنّظر إلى المسامحة ـ على العموم أيضا. ولعلّ هذا مراد ثاني المحقّقين في « جامع المقاصد » أيضا ، لا نفي جريان الاستصحاب رأسا حتّى لو لم يكن ثمّة عموم ، واعتبار المسامحة في تحقّق موضوع الاستصحاب ، وشمول ( لا تنقض ) لا يلازم اعتبارها بالنّسبة إلى العام أيضا ؛ إذ ليس هنا لفظ حتّى يحكم بصدقه واقعا بنفس المسامحة ، كما في الرّوايات المشتملة على لفظ ( النّقض ) ونحوه ، بل مع وجود اللّفظ كثيرا مّا لا تعتبر المسامحة العرفيّة لعدم إيجابها للصّدق حقيقة ، ولذا يحكم تبعا للمشهور على كون التّحديد في موارده تحقيقيّا لا تقديريّا مع الصّدق المسامحي.

لأنّا نقول : أصالة العموم من الظّواهر المعتبرة عند أهل العرف عند الشّك في

٢٧٢

التّخصيص الّذي لا يمكن إلّا مع تكثّر الموضوع ، فإذا فرض بناؤهم على وحدة الموضوع في أمثال المقام فلا معنى لرجوعهم إلى العموم المنافي لفرض حكمهم بجريان الاستصحاب.

والحاصل : أنّه لا يمكن الجمع بين جريان الاستصحاب المبنيّ على وحدة الموضوع والرّجوع إلى العموم المبنيّ على تعدّده ، وأخذ الموضوع واحدا تارة ومتعدّدا أخرى لا معنى له أصلا ، وأخذ الدّوام في القضيّة أو استفادته منها ـ إذا كان الغرض منه استمرار الحكم الواحد بحسب أجزاء الزّمان ـ لا ينافي تعدّد الحكم بحسبها كما هو ظاهر فتدبّر.

هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) مع توضيح منّا ولكنّه لا يخلو عن غموض وإشكال.

مناقشة ما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره (١)

ثمّ إنّ ما ذكره المحقّق الثّاني في المسألة دليلا على مطلبه لا يخلو عن إشكال مع قطع النّظر عمّا ذكرنا أيضا.

أمّا أوّلا : فلعدم الملازمة بين عموم الأفراد والأزمان عقلا وعرفا فلا معنى للحكم باستتباع الأوّل للثّاني بل العموم بالنّسبة إلى الزّمان لا بدّ من أن يستفاد من أمر آخر غير مجرّد العموم للأفراد الّذي يحصل مضمونه بإطاعته في بعض الأزمنة أيضا مثل الحكمة ونحوها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مقتضى تبعيّة عموم الأزمان للأفراد هو ارتفاع العموم للأزمان بارتفاع العموم للأفراد بالنّسبة إلى الفرد المخصّص ، ولازمه القول بعدم

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٢٧٣

جواز الرّجوع إلى العموم على ما عرفت هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد هو التّبعيّة بحسب أصل الاقتضاء الوضعي أو الظّهور العرفي فلا يفرّق فيه دخول بعض الأفراد وخروجه في الجملة بل مطلقا في أصل الدّلالة بمعنى : أنّ ما يكون ظاهرا في العموم الأفرادي يكون ظاهرا في العموم الأزماني بحسب أصل الوضع أو الظّهور الثّانوي العرفي على حسب اختلاف منشأ الظّهور في الأوّل هذا.

وقد يوجّه أصل كلام المحقّق في المسألة بحيث يوافق ما اختاره الأستاذ العلّامة : بأنّ ما ذكره في المسألة مبنيّ على استفادة العموم ممّا دلّ على وجوب الوفاء بالعقد على الوجه الأوّل ، وإن كان قد أخطأ في هذه الاستفادة فالكلام معه راجع إلى التكلّم في الصّغرى فتأمّل.

ثمّ إنّ المستفاد من سيّد مشايخنا في « الرّياض » (١) في المسألة الّتي عرفتها عن « جامع المقاصد » : التّفصيل بين كون مستند الخيار الإجماع ، فوافق ثاني الشّهيدين في أنّه يتعيّن الرّجوع إلى الاستصحاب ، وأن يكون دليل نفي الضّرر ، فوافق ثاني المحقّقين « قدس‌سرهما » في الحكم بالرّجوع إلى ما دلّ على وجوب الوفاء بالنّسبة إلى زمان الشّك ؛ لاندفاع الضّرر بثبوت الخيار في الزّمان الأوّل هذا.

وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّه إن بنى على تعدّد الموضوع بتعدّد الزّمان فلا ريب أنّ المتيقّن حينئذ الرّجوع إلى العموم في زمان الشّك سواء كان مدرك الخيار

__________________

(١) الرّياض ( ط ق ) : ١ / ٥٢١ وج ٨ / ٢٨١ و ٣٠٥ ط آل البيت.

٢٧٤

الإجماع أو دليل نفي الضّرر.

وإن بنى على وحدة الموضوع فالمتعيّن الرّجوع في زمان الشّك إلى الاستصحاب لا العموم وإن كان المدرك للخيار هو عموم دليل نفي الضّرر ؛ إذ لم يرد أحد أن يتمسّك لإثبات الخيار في زمان الشّك بنفس دليل الخيار حتّى يقال بعدم دلالة نفي الضّرر على ثبوته ؛ لاندفاعه بثبوته في الزّمان الأوّل ، بل باستصحاب ما دلّ الدّليل على ثبوته في الزّمان الأوّل.

مع أنّه على هذا التّقدير لا بدّ من الحكم بالرّجوع إلى العام فيما كان المدرك ٣ / ١٦٠ الإجماع أيضا كما لا يخفى. ودليل الضّرر لا يدلّ على ثبوت الحكم في الزّمان الّذي لا ضرر فيه حتّى يصير فارقا ، وإنّما مفاده نفي الحكم الضّرري ، لا إثبات الحكم الغير الضّرري فالإثبات يحتاج إلى دليل آخر من عموم ونحوه هذا.

وذكر الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : أنّ ما ذكرنا من الرّجوع إلى الاستصحاب في هذا القسم إنّما هو بملاحظة أنّ العموم لا يمنع من الرّجوع إليه حسب ما زعمه جماعة ، وإلّا فربّما لا يحكم بالرجوع إلى الاستصحاب من جهة أخرى كرجوع الشّك إلى الشّك في المقتضي والموضوع كما يدّعي ذلك بالنّسبة إلى المسألة الّتي عرفت الكلام فيها ، وإن أمكن القول بعدم قدحه بالنّظر إلى كفاية المسامحة العرفيّة.

ولكنّه جزم في « المكاسب » في باب خيار الغبن بعدم جريان الاستصحاب ؛ نظرا إلى عدم كفاية المسامحة العرفيّة وعدم اعتبارها (١). وهو كما ترى ، مناف لما

__________________

(١) كتاب المكاسب « الخيارات » : ج ٥ / ٢٠٧.

٢٧٥

بنى عليه الأمر في « الكتاب » في باب إحراز الموضوع ، فلعلّ كلامه في « المكاسب » راجع إلى السّالبة الجزئيّة ، فلا ينافي ما في « الكتاب » ؛ فإنّ الغرض منه كفاية المسامحة فيما ساعد العرف على وحدة الموضوع فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت : أنّ كلّ مورد لا يحكم فيه بالرّجوع إلى العام مع فرض جريان الاستصحاب لا يحكم بالرّجوع إليه مع فرض عدم جريانه ، فلا بدّ من أن يرجع إلى أصل آخر في المسألة على تقدير الحكم بعدم جريان الاستصحاب ، هذا ملخّص الكلام في دليل القول بالرّجوع إلى عموم العام مطلقا.

حاصل كلام السيّد بحر العلوم في مختاره

وأمّا دليل القول بالرّجوع إلى استصحاب حكم الخاص مطلقا الّذي ذكرنا أنّه يستظهر من كلام بعض السّادة الفحول (١) فهو الّذي تعرّض له في طيّ كلامه الّذي لخصّه بعض أفاضل (٢) من تأخّر وهو الّذي حكاه الأستاذ العلّامة في « الكتاب » (٣) ، والمستفاد منه في ظاهر النّظر صلاحيّة الاستصحاب لتخصيص العام إبتداء فضلا عن صلاحيّته لإبقاء حكم الخاص في زمان الشّك وإن لزم منه التخصيص بالنّسبة إلى العام.

__________________

(١) السيّد بحر العلوم كما مرّ.

(٢) الشيخ محمّد حسين الإصفهاني صاحب الفصول المتوفى سنة ١٢٥٠ ه‍ في فصوله : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، وصاحب الفصول أخذه من الفاضل النراقي في عوائده : العائدة ٢٢ / ٢١٥ والمطلب في الفوائد الأصوليّة للسيّد بحر العلوم الفائدة : ٣٥ / ١١٦.

(٣) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٧٦.

٢٧٦

وحاصل ما ذكره من الاستدلال : هو كون الاستصحاب الجزئي أخصّ من العام الّذي في مقابله ، فتعيّن الخروج منه به على ما هو المقرّر في محلّه : من وجوب حمل العام على الخاصّ مؤيّدا ذلك باستشهاد الفقهاء في الموارد الّتي ذكرها في مقابل العمومات.

نقل كلام الفصول في تخصيص العام بالاستصحاب والمناقشة فيه

وذكر من لخّص كلامه من الأفاضل بعد نقله وجزمه بفساده ما هذا لفظه :

« بل التّحقيق أنّ هنا مقامين :

الأوّل : تخصيص العام ورفع شموله لبعض ما يتناوله بالاستصحاب.

والثّاني : إبقاء حكم المخصّص بعد قيام دليله في بعض ما يتناوله العام بالاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل : فلا ريب في عدم حجيّة الاستصحاب فيه سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له ؛ لأنّ أدلّة حجيّته مقصورة على صورة عدم دلالة دليل على الخلاف وإن كان في أدنى درجة من الحجيّة وعموم العام دليل فلا يصلح الاستصحاب لمعارضته وساق الكلام في الاستدلال على ذلك ».

إلى أن قال ـ بعد نفي الفرق فيما ذكره بين الاستصحاب الموافق للأصل والمخالف ـ :

« نعم ، يستثنى من ذلك استصحاب عدم النّسخ عند سبق المخصّص الغير المستوعب ؛ فإنّه ينهض دليلا على التّخصيص بضميمة مورده لقرب التّخصيص

٢٧٧

وبعد النّسخ كما سيأتي.

وأمّا المقام الثّاني : فلا ريب في حجيّة الاستصحاب فيه إذا اشتمل على شرائط الحجيّة من غير فرق بين الموافق منه للأصل والمخالف له وهو ممّا لا خلاف فيه بين القائلين بحجّيّته لكنّه ليس من باب تخصيص العام بالاستصحاب في شيء ، ومن هذا الباب ما ذكره من الأمثلة ؛ فإنّ عمومات البراءة إنّما دلّت على البراءة عند عدم قيام دليل على الاشتغال ، فإذا دلّ الاستصحاب على بقاء الاشتغال أو على بقاء موضوع يتفرّع عليه الاشتغال ثبت الاشتغال وليس شأن الاستصحاب حينئذ تخصيص تلك العمومات ، بل تحقّق عنوان اختصّت تلك العمومات بغيره وكذلك الكلام في عمومات الطّهارة ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« فاتّضح ممّا حقّقناه أنّ الفاضل المذكور قد خلط بين المقامين : من حيث إنّ صدر كلامه يدلّ على مصيره إلى الجواز في المقام الأوّل ، وذيله يدلّ على الجواز في المقام الثّاني ، واتّضح أيضا ضعف دليله وعدم مساعدة ما استشهد به من كلام الأصحاب على دعواه » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وقد يناقش فيما ذكره من التّحقيق والتّفصيل :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما ذكره من نفي الرّيب في حجيّة الاستصحاب في إبقاء حكم الخاصّ على إطلاقه حتّى فيما كان العام مشتملا على العموم بالنّسبة إلى الزّمان سيّما على الوجه الأوّل ممّا ليس على ما ينبغي قطعا ، بل قد عرفت عدم جواز

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢١٥ ـ ٢١٤.

٢٧٨

الرّجوع إلى الاستصحاب في الفرض ولو لم يجز الرّجوع إلى العموم ، اللهمّ إلّا أن يقال بخروجه عمّا ذكره بقوله : ( إذا اشتمل ... إلى آخره ) (١) سيّما بملاحظة قوله : « لكنّه ليس من تخصيص العام » (٢) والتّحقيق : أنّ مقصوده ممّا ذكره معنى آخر غير ما يقتضيه ظاهره حسب ما يفصح عنه مقالته بعد ذلك.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من كون شأن الاستصحاب تحقّق عنوان اختصّت تلك العمومات بغيره غير محصّل المراد ؛ فإنّ الاستصحاب لا يوجب تحقّق ذلك العنوان على وجه القطع واليقين كما هو ظاهر كلامه ؛ ضرورة أن استصحاب النّجاسة والحرمة لا يوجب العلم بهما ، كما أنّه لا يوجب تحقّق ما دلّ على ثبوت المستصحب من الدّليل فيما كان ظنيّا وإلّا خرج عن كونه استصحابا وحكما بالبقاء ظاهرا كما هو ظاهر.

وأمّا ثالثا : فبأنّ المأخوذ في موضوع عمومات الأصول عدم العلم بالواقع لا عدم قيام الدّليل على الواقع ولو كان ظنيّا وبينهما فرق ظاهر. نعم ، المأخوذ في ٣ / ١٦١ البراءة العقليّة ما يرتفع بوجود الدّليل المعتبر على التّكليف ولو كان ظنيّا ، بل يرتفع بجميع ما يقتضي التّكليف ولو كان استصحابا ، لكنّه لا دخل له بالمقام ؛ فإنّ الكلام في الأصول الشّرعيّة لا العقليّة فتدبّر.

وأمّا رابعا : فلأنّ ما ذكره أخيرا من خلط الفاضل المذكور بين المقامين بحسب صدر كلامه وذيله من حيث إنّ صدر كلامه يدلّ على الجواز في المقام

__________________

(١) نفس المصدر بالذات.

(٢) المصدر نفسه.

٢٧٩

الأوّل وذيله يدلّ على إثبات الجواز في المقام الثّاني يتوجّه عليه : بأنّ التّحقيق عدم تعلّق ما ذكره أخيرا بشيء من المقامين.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّ ما ذكره الفاضل المذكور لا يخلو عن المناقشات وإن أمكن دفعها.

فالتّحقيق في الجواب أن يقال : إن كان المراد من العمومات الّتي حكم بتخصيصها بالاستصحاب العمومات الاجتهاديّة.

ففيه : أنّ من الواضح المعلوم حكومة الأدلّة الاجتهاديّة على الأصول الشّرعيّة فكيف يجعل الأصل معارضا لها فضلا عن الحكم بتقديمه عليها؟

وإن كان المراد منها العمومات الفقاهيّة ـ كما ربّما يظهر ممّا ذكره من الأمثلة والاستشهاد بناء على إرادة عمومات أصالة الحليّة ممّا دلّ على حليّة الأشياء كما هو الظّاهر لا عمومات الحليّة الواقعيّة مثل قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ (١) ـ ففيه ما عرفته مرارا وستعرفه تفصيلا : من حكومة الاستصحاب عليها من غير فرق فيما ذكرنا على التقديرين بين الابتداء والاستدامة الّتي هي محلّ الكلام ، ولا بين الاستصحاب الموافق للأصل والمخالف له هذا.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في تقريب مرامه بقوله : « ولا ينافيه عموم أدلّة حجيّته ... إلى آخره » (٢) ففيه : ما عرفت سابقا : من المناقشة فيما أفاده في أوائل الاستصحاب ،

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٧٦ نقلا عن فوائد السيّد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧ لكن بوسائط عرفتها.

٢٨٠