بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

وهذا الّذي ذكرنا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا وليس مختصّا بالمقام أيضا ؛ لأنّ مسامحة العرف في موضوع الاستصحاب غير مختصّ بالمقام ، ولكنّك عرفت : عدم اطّراده فكلّما قطع ـ بمساعدة العرف ـ على الحكم بالوحدة ، فلا إشكال ـ بناء على كون المناط هو الصّدق العرفيّ المبني على المسامحة ـ وكلّما لم يقطع بذلك فيرجع فيه إلى استصحاب العدم ، سواء قطع بعدم المساعدة أو شكّ في ذلك ؛ لأنّ معه أيضا لا يعلم صدق النّقض على عدم الالتزام بآثار الوجود.

والقول : بأنّ الشّك في مساعدة العرف موجب لإلغاء الاستصحاب بالنّسبة إلى العدم أيضا ، فيتعيّن الرّجوع إذن إلى أصل آخر غير استصحاب الوجود والعدم ، فاسد جدّا ؛ لأنّ المانع من استصحاب العدم مع كون المورد مورده بحسب الدّقة لم يكن إلّا استصحاب الوجود بمساعدة العرف ، وشمول حكم الشارع بعدم جواز نقض اليقين بالشّك له الحاكم على استصحاب العدم ، فإذا لم يجر استصحاب الوجود من جهة الشّك في بقاء الموضوع أو القطع بانتفائه لم يكن المانع موجودا قطعا ، فيتعيّن الرّجوع إلى استصحاب العدم ، وليس هنا استصحاب وجودي واقعي يحتمل وجوده في صورة الشّك في بقاء الموضوع حتّى يشكّ في وجود المانع لاستصحاب العدم ؛ لأنّ مع الشّك في الموضوع لا يجري الاستصحاب واقعا ، لا أنّه محتمل الوجود والجريان لكنّا لا نعلم به.

هذا حاصل ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) في مجلس البحث وهو كما ترى ، لا يخلو عن مناقشة ؛ لأنّ الغرض منه : إن كان القطع بانتفاء الدّلالة مع الشّك في بقاء الموضوع عند العرف ، فهو جيّد لا محيص عنه. وإن كان القطع بانتفاء الإرادة ـ

٢١

على ما يقتضيه ظاهره ـ فتطرّق المنع إليه جليّ ، فافهم. هذا مجمل القول في القسم الثّاني.

وأمّا الكلام في القسم الثّالث وهو ما إذا كان الزّمان أو الزّماني قيد الحكم فملخّصه :

أنّه إن كان الشّك في الحكم من جهة الشّك في انقضاء الزّمان أو الزّماني وعدمه ، فيرجع إلى القسم الأوّل أو الثّاني ، فهو خارج عن مفروض البحث ، وإن كان الشّك في بقاء الحكم مع القطع بارتفاع الزّمان والزّماني الّذي هو محلّ البحث ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ المقيّد مع فرض كونه مقيّدا لا يعقل بقاؤه مع فرض انتفاء القيد ، بل ربّما يقال : إنّ قضيّة التّقييد هي الدّلالة على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد بالدّلالة اللّفظية من باب المفهوم ، لكنّه توهّم فاسد ليس المقام مقام التّكلّم فيه.

والحاصل : أنّ البقاء عبارة عن الوجود الثّانوي لما كان موجودا في الزّمان الأوّل ، وهذا لا يعقل في المقيّد بعد انتفاء قيده.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) سابقا في حكم القسم الأوّل من قوله ( دام ظلّه العالي ) : ( فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ) (١)(٢)

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٠٣.

(٢) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« قد يقال ـ بل قيل ـ : إن كلامه هذا من أولويّة جريان الإستصحاب في القسمين الأخيرين على تقدير جريانه في القسم الأوّل ينافي ما ذكره في القسم الثالث من القطع بعدم الجريان ،

٢٢

لا يخلو عن مناقشة ، إلّا أن يكون مبنيّا على جريان الاستصحاب في الزّمان بناء على الدّقة ، لكنّه مع ذلك لا أولويّة في البين ، مضافا إلى عدم وجود قائل بهذه المقالة ظاهرا.

(٢٣٤) قوله : ( وقد تقدّم الاستشكال ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٠٨ )

أقول : وقد تقدّم أيضا منه ( دام ظلّه ) ما يدفع الاستشكال المذكور : من جهة بناء الاستصحاب على المسامحة العرفيّة ، فيصدق معها البقاء على وجود الحكم في الزّمان الثّاني فيما ساعد العرف على المسامحة ، كما أنّك عرفت اختصاصه بالشّك في المقتضي.

وأمّا الشّك في الرّافع ـ سواء فرض في وجوده أو رافعيّته ـ فلا يرد عليه الإشكال المذكور أصلا ، إلّا أنّ الشّك في وجود الرّافع في الأحكام الشّرعيّة لا يتصوّر إلّا من جهة الشّك في النّسخ ، وقد عرفت : خروج استصحاب عدم النّسخ عن الاستصحاب الاصطلاحي ، وإن أدرجوه فيه من باب التّسامح كاستصحاب العموم والإطلاق ونحوهما.

والشّك في رافعيّة الموجود إنّما يتصوّر غالبا بالنّسبة إلى الأحكام الوضعيّة كالطّهارة ، والنّجاسة ، والملكيّة ، والزّوجيّة ، إلى غير ذلك ، إلّا أن يقال : إنّه بناء على

__________________

وفي القسم الأوّل من ميله إلى الجريان لكن بضرب من التردّد والإشكال فينبغي أن تكون الأولويّة بالعكس.

وفيه : أن قطعه بعدم الجريان في القسم الثالث من جهة أخرى لا من حيث خصوص الإشكالين المتقدّمين في الزمان والزّمانيّات ، فالأولويّة في محلّها باعتبار إشكال استصحاب الزمان والزماني » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢١٧.

٢٣

القول بعدم جعلها ، يرجع الشّك إلى الشّك في رافعيّة الموجود للأحكام التّكليفيّة الّتي انتزعت منها الأحكام الوضعيّة ، لكن ظاهر كلام الأستاذ العلّامة في المقام تخصيص الكلام بالشّك في الحكم التّكليفي ابتداء فتدبّر ، وإن كان كلامه في السّابق في مطلق الحكم الشّرعي فراجع.

(٢٣٥) قوله : ( إذا علم أنّ الشّارع أمر بالجلوس ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٠٨ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« ومحصّل مرامه : انّ الإستصحاب على قسمين :

الأوّل : مجرّد التعويل على اليقين السابق.

الثاني : عدم الإعتداد باحتمال الرّافع.

والأوّل من الأغلاط ولا سبيل اليه ؛ حيث ان اليقين بالوجود في كلّ مقام مجامع لليقين بالعدم ـ على ما عرفت ـ ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر ، فالذي ينفع في المقامات إنّما هو الأخذ بالمقتضي وعدم الأعتداد باحتمال المانع.

ولمّا كان شك في الأمور الخارجيّة أبدا شكّا في الرّافع لم يتعارض الإستصحابان فيها وجرى أصل عدم وجود الرافع.

وقد عرفت مثل هذا الكلام من غيره من المحققين في استصحاب حال الإجماع في مسألة المتيمّم ؛ فإن القدر المتيقن إنّما هو إستباحة الصلاة قبل وجدان الماء ، والأخذ بهذا اليقين معارض بالأخذ باليقين بالعدم حال وجد ان الماء الثابت أوّلا ، فمعنى تعارض الإستصحابين :

انه لا مرجّح لأحدهما على الأخر ، فلا يمكن اعتبار اليقين بالوجود من حيث هو هو ، فاندفع ما يتوهّم : من أنه أراد إجراء استصحاب الحكم الثابت للمقيّد بالزمان في غير المقيّد ، بل إنّما غرضه عدم الجريان بمجرّد احتمال التّقييد ، فلا مجال له ، إلّا إذا علم عدم التّقييد وكان الشك في البقاء من غير هذه الجهة وهو احتمال الرّافع ؛ حيث انّ الإستاذ العلامة أعلى الله

٢٤

أقول : حاصل ما ذكره على ما يستفاد من مطاوي كلماته : هو أنّ المستصحب : إمّا من الأمور الشّرعيّة ، أو غيرها ممّا تعلّق به الحكم الشّرعي. وعلى الأوّل : إمّا أن يكون الشّك في بقاء المستصحب من جهة الشّك في المقتضي بأقسامه ، أو من جهة الشّك في الرّافع بأقسامه. فإن كان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي من حيث المقتضي فلا يعتبر الاستصحاب فيه ؛ من جهة تعارض استصحابي الوجود السّابق والعدم الأزليّ في زمان الشّك فيتساقطان.

كما لو علم من دليل مهمل وجوب الجلوس في مكان إلى الزّوال وشك بعده في وجوب الجلوس ؛ فإنّ مقتضى استصحاب وجوب الجلوس الثّابت قبل الزّوال هو وجوب الجلوس بعد الزّوال أيضا ، ومقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس الأزليّ الّذي لم يقطع بانقلابه إلى الوجود بعد الزّوال هو عدم وجوبه فيه ؛ لأنّ انقلاب العدم إلى الوجود في الجملة لا يستلزم انقلاب مطلق العدم الأزلي ، وإنّما يستلزم انقلاب العدم المطلق ؛ لأنّ الموجبة الجزئية إنّما تناقض السّالبة الكليّة ،

__________________

في الفردوس مقامه خفى عليه مراده من تعارض الإستصحابين أورد عليه بوجوه ثلاثة.

[ ويرد على الايراد الاوّل ] : ان المقصود حصر الاستصحاب في صورة الشك في الرّافع وأنه حيث حيث احتمل دخل الزمان الخاص في الحكم فلا مسرح للإستصحاب حيث انه حينئذ ليس إلّا مجرّد ثبوت الحكم في زمان ، والإعتماد على مجرّد الوجود معارض باليقين بالعدم في غير ذلك الزمان ، وأمّا اذا كان الشك في الرّافع أو عدم الرّافعيّة كما هو المطّرد في جميع الموجودات الخارجيّة ، وكيف يخفى على أحد أن استصحاب العدم ـ على تقدير كون الزمان قيدا ـ لا يعارض استصحاب الوجود؟ ـ على تقدير الظرفيّة وعدم المدخليّة ـ مع ان من أجلى الضروريّات أن المعتبر في التعارض الاجتماع في محلّ واحد » [ ويأتي الايراد على الوجهين الآخرين في التعاليق الآتية ] إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٢٥

لا السّالبة الجزئية. فوجوب الجلوس قبل الزّوال لا يناقض عدم وجوبه ، بعده فإذا لم يناقضه والمفروض أيضا عدم دلالة الدّليل على الوجوه فيه فيرجع إلى استصحاب العدم الأزليّ الّذي لم يعلم بانتفاضه إلّا قبل الزّوال ، فهنا شكّ واحد وهو الشّك في وجوب الجلوس بعد الزّوال مسبوق بيقينين : أحدهما : اليقين بوجوب الجلوس قبل الزّوال. ثانيهما : اليقين بعدم وجوب الجلوس بعد الزّوال في الأزل ، ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر.

فإن قلت : المرجّح هو اتّصال اليقين الأوّل بالشّك ، دون الثّاني لفصل اليقين الأوّل بينهما.

قلت : هذا غلط ؛ لأن كلّا من اليقين متّصل بالشّك ؛ لأنّ اليقين الأوّل إنّما صار فصلا بين اليقين بالعدم المطلق والشّك ، لا بين العدم المقيّد بالزّمان المشكوك.

والكاشف عن ذلك ـ مضافا إلى وضوحه وظهوره ـ : هو أنّ هذا الشّك موجود في زمان اليقين بالوجود أيضا ؛ فإنّ الشّك في وجوب الجلوس بعد الزّوال موجود قبل الزّوال أيضا ، وكذا الشّك في وجوب صوم يوم الجمعة موجود في يوم الخميس أيضا الّذي يقطع بوجوب الصّوم فيه ، فلو كان اليقين بالوجود متّصلا وفاصلا دون اليقين بالعدم الأزلي لما جامع الشّك اليقين بالوجود ، والملازمة ظاهرة.

فما ذكره في العبارة من قوله : « واليقين المتّصل به هو عدم التّكليف ، فيستصحب إلى وقت الزّوال » (١) لا يكون المقصود منه نفي جريان استصحاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٠٩ نقلا عن مناهج الأحكام للفاضل النراقي أنظر المناهج

٢٦

الوجود من جهة عدم الاتّصال ، بل إثبات اتّصال اليقين بالعدم بالشّك أيضا فتدبّر (١). هذا إذا كان الشّك من حيث المقتضي.

وأمّا إذا كان الشّك من حيث الشّك في الرّافع للحكم الشّرعي سواء كان في وجوده أو وصفه ، كما إذا شكّ بعد خروج المذي في بقاء الطّهارة ، أو شكّ بعد الغسل مرّة في بقاء النّجاسة في المحلّ ، فالّذي يقتضيه القاعدة ـ بالنّظر إلى ما ذكرنا في الشّك في المقتضي ـ : هو الحكم بتعارض الاستصحابين في المقام أيضا ،

__________________

ص ٢٣٧.

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره بعد أن نقل الحاشية المزبورة من استاذه المحقق الآشتياني ـ لكن من الحاشية القديمة من بحر الفوائد المطابقة إلى حدّ كبير للحاشية الصغيرة الموجودة عندنا والتي هي البحر القديم المنتشر مخطوطه في المحافل العلميّة آنذاك ـ :

« أقول : الحاشية طويلة مغلوطة أرى إيجاز نقله بالمعنى أولى ولعلّه ـ والله أعلم ـ أراد أن يقول : أن المتّصل بالأوّل دون الثاني هو زمان المشكوك فإنه متصل بزمان المتيقن الوجودي وصار فاصلا بينه وبين زمان المتيقّن العدمي.

وأمّا نفس الشك فهو بالنسبة إلى اليقينيّين على حدّ سواء ، فالشك في وجوب الجلوس بعد الزوال يكون مع اليقينيّين قبل الزوال كما هو كذلك بعد الزوال ولو كان الإتصال مختصّا بأحدهما دون الآخر لما إجتمعا معه.

ثم الذي يقتضيه قاعدته كون الشك في الرّافع أيضا كذلك إلّا ان استصحاب عدم وجود الرّافع للحكم الشرعي حاكم على الأصلين المتعارضين لتسبّب الشك فيهما عن الشك فيه.

أمّا لو كان المستصحب من الأمور الغير الشرعيّة فالذي يقتضيه النظر هو حجّية الإستصحاب الوجودي لسلامته عن المعارضة بالإستصحاب العدمي ولمّا بلغ التعليق إلى هذا المقام ولم يبق في القرطاس مجال للنقض والإبرام ختمنا الكلام والسلام » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشي : ٣٧٦.

٢٧

أعني : استصحاب الطّهارة قبل المذي مثلا ، واستصحاب عدمها الأزليّ الّذي لم يقطع بانقلابه إلى الوجود إلّا قبل مجيء المذي ، إلّا أنّ استصحاب عدم وجود الرّافع للحكم الشّرعي حاكم على الأصلين المتعارضين لتسبّب الشّك فيهما عن الشّك فيه فلا يرجع إذن إلى أصل آخر ، بل يؤخذ حينئذ بمقتضى الاستصحاب الوجودي ، وإن كان المستند فيه استصحاب عدم الرّافع ولولاه لما حكم به ، بل يحكم بالرّجوع إلى سائر الأصول وفرض المتعارضين كأن لم يكونا.

وما ذكرنا في بيان الاستصحابين المتعارضين في المقام أولى ممّا ذكره الفاضل النّراقي : من استصحاب الطّهارة وعدم سببيّة الوضوء بعد المذي ؛ لسلامة ما ذكرنا عمّا أورد عليه الأستاذ العلّامة ثانيا وثالثا ، مضافا إلى عدم استقامته من جهة عدم التّقابل.

نعم ، لو جعل الاستصحاب الوجودي استصحاب السّببيّة ، والعدمي عدم السّببيّة لاستقام من حيث التّقابل ، إلّا أنّه لم يسلم عمّا أورد عليه الأستاذ العلّامة كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما لو كان المستصحب من الأمور الشرعيّة.

وأمّا لو كان من الأمور الغير الشّرعيّة فالّذي يقتضيه النّظر : هو حجيّة الاستصحاب الوجودي فيها لسلامته عن المعارضة بالاستصحاب العدمي ؛ لأنّ الوجود فيها ليس بجعل الشّارع حتّى يقال : إن المتيقّن من انقلاب العدم إلى الوجود قبل كذا أو بعد كذا ، بل الوجود بقول مطلق مناقض فيها لمطلق العدم. وهذا معنى ما ذكره : من عدم استصحاب حال العقل في الأمور الغير الشّرعيّة ، وإلّا فأصل الاستصحاب العدمي موجود فيها قطعا ، كما في غير المسبوق بالوجود

٢٨

المشكوك وجوده ، هذا ملخّص ما ذكره قدس‌سره.

ولكنّك خبير بفساده ؛ لعدم إمكان الجمع بين استصحاب وجود الشّيء وعدمه في زمان واحد مع بقاء الاستصحاب ، وهو ثبوت ما كان ثابتا في الزّمان الأوّل بعينه في الزّمان الثّاني بالمعنى الأعمّ من بقاء الوجود أو العدم حتّى يشمل الاستصحاب العدمي أيضا.

توضيح ما ذكرنا : من عدم إمكان الجمع : هو أنّه لا إشكال ولا ريب أنّ الوجود المطلق والعدم المطلق نقيضان لا يمكن اجتماعهما أصلا ، كما أن الوجود المطلق مع العدم في الجملة ، والعدم المطلق مع الوجود في الجملة أيضا نقيضان ؛ لأنّ السّالبة الجزئية نقيض للموجبة الكليّة ، كما أنّ الموجبة الجزئية نقيض للسّالبة الكليّة ، وإنّما الّذي يمكن اجتماعه هو مطلق الوجود مع مطلق العدم ، وبعبارة أخرى : الوجود المقيّد والعدم المقيّد.

وبعد ذلك نقول : إنّ الحكم الشّرعي الّذي فرض ثبوته في الزّمان الأوّل الّذي يريد استصحابه في الزّمان الثّاني كوجوب صوم يوم الخميس مثلا ، أو وجوب الجلوس إلى الزّوال مثلا لا يخلو : إمّا أن يؤخذ الزّمان قيدا له ، أو ظرفا له ، أو يهمل من الجهتين ، بمعنى : أنّا لا ندري أنّ الزّمان قيد له أو ظرف له ، وإن كان الأمر لا يخلو عن أحدهما في الواقع.

فإن فرض الزّمان قيدا له ، فلا مجال لاستصحابه بعد الزّمان المفروض ؛ لما عرفت : من عدم تعقّل بقاء المقيّد من حيث إنّه مقيّد مع فرض انتفاء القيد ، فلو كان موجودا في الزّمان الثّاني فهو وجود آخر غير ما كان ثابتا ، فلا دخل له بالاستصحاب كما لا يخفى ، فالمتعيّن حينئذ الرّجوع إلى استصحاب العدم الأزلي.

٢٩

فإن فرض ظرفا له بمعنى : كون الزّمان ظرفا للطّلب لا للمطلوب ، فإن فرض في دليل الحكم إذن إطلاق أو عموم فيرجع إليهما ولا معنى للاستصحاب أصلا لا الوجودي ، ولا العدمي ، كما هو واضح.

وإن لم نفرض له إطلاق واحتملنا اختصاص مصلحة الحكم بالزّمان الأوّل ـ إن لم يوجب الخروج عن الفرض ـ فلا معنى للاستصحاب العدمي ، بل يتعيّن حينئذ الرّجوع إلى الاستصحاب الوجودي ؛ لأنّ جريان استصحاب العدمي مبنيّ على احتمال اختصاص الوجود بالزّمان الأوّل ، وإلّا فلا يجامع العدم معه على ما عرفت. والمفروض أنّ الشارع حكم بإهمال هذا الاحتمال ، فلا معنى لاستصحاب العدم بعده المبنيّ على الاحتمال المذكور.

وإن فرض مهملا فلا يجري استصحاب الوجود للشّك في بقاء الموضوع.

وإن فرض حكم العرف بالبقاء مسامحة ، فلا معنى لاستصحاب العدم ؛ لأنّ حكم العرف مبنيّ على البناء على أخذ الزّمان ظرفا وقد عرفت : أنّه لا يجري بالملاحظة المذكورة استصحاب العدم.

نعم ، هنا كلام ـ على تقدير مساعدة العرف على الحكم بالبقاء بالنّسبة إلى الوجود في صورة إهمال القضيّة ـ في أنّه هل يوجب الإهمال في الوجود ـ من حيث كون الزّمان ظرفا أو قيدا ـ القدح في استصحاب العدم أيضا أم لا؟

لكنّك قد عرفت : أنّ الحقّ عدم قدحه فيه ؛ لأنّ القادح فيه هو حكم الشارع بالبناء على تعميم الوجود بالنّسبة إلى زمان الشّك ، فإذا لم يمكن ذلك في المقام ـ حسب ما هو قضيّة الفرض ـ فلا مانع من إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى العدم فتأمّل.

٣٠

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أنّ ربط نقل كلام الفاضل المذكور بما ذكره من القسم الثّالث إنّما هو من جهة كون ما ذكره منه على بعض التّقادير ، ولكن مقتضى التّأمّل في كلامه يعطي كون مراده هو الفرض الثّالث الّذي أهمله الأستاذ العلّامة ولم يتعرّض لحكمه أصلا ، لكنّك عرفت : أنّه لا ينفعه أيضا.

(٢٣٦) قوله : ( وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢١٢ ) (٢)

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان جريان الإستصحاب بعد ملاحظة كون الوضوء علّة تامّة وكون الشك في رافعيّة المذي قد اعترف به وانّما التعارض على تقدير كون الشك في مقدار السببيّة كما في مسئلة المتيمّم الواجد للماء ، مع انّ كون الوضوء علّة تامّة مع كون الشك في رافعيّة المذي تناقض صرف ؛ حيث انه يحتمل حينئذ أن يكون لعدم مصادفة المذي للوضوء مدخليّة في التأثير كما هو مقتضي الناقضيّة المشكوك فيها ، فكيف يقال : انه علّة تامّة في الفرض؟ » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٥.

* وقال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« قلت : إنّ هذا وكذا الإيراد الثالث مناقشة في الامثلة الّتي ذكرها لفرض التعارض فيما كان الشكّ في الرافع ووجد فيه الأصل الحاكم.

وملخّصه : ان الشكّ في الطهارة بعد المذي إن كان من جهة الشكّ في مقدار استعداد تأثير الوضوء ـ وبعبارة أخرى : كان الشكّ فيه في المقتضي ؛ بأن فرض عدم المذي جزء المقتضي ، لا وجوده مانعا عنه ؛ نظير الشك في مقدار تأثير الوضوء في حال التقيّة ، وكذلك وضوء المستحاضة ـ فلا مسرح لجريان استصحاب عدم كون المذي رافعا ؛ لأنّ المفروض كون الشك في المقتضي لا الرّافع لكي يتشبّث بالأصل فيه.

وإن كان الشكّ فيها من جهة الشك في الرافع بعد القطع بتأثير الوضوء في إحداث الطهارة

٣١

__________________

المستمرّة وكونه محرز التأثير لو لا ما جعله الشارع رافعا ، فلا معنى لاستصحاب عدم السببيّة بعد المذي ؛ لأنّ المفروض وجوده القطع بالسببيّة وعدم الشك في مقدار تأثير السبب ؛ هذا.

أقول : لو أبدل الفاضل النراقي رحمه‌الله* استصحاب عدم جعل السببيّة للوضوء باستصحاب عدم الطهارة ، لكان سالما عمّا أورد المصنّف رحمه‌الله عليه.

ولعلّ النكتة في عدم التبديل ـ مع أنّ مقتضى السياق ، جعل المعارض استصحاب عدم الطهارة دون عدم جعل السببيّة ـ أحد الوجهين :

أحدهما : عدم تحقّق الحالة السابقة ؛ لعدم طهارة المكلف بوصف كونه واجدا للمذي ؛ لأنّه في أي زمان فرض مع هذا الوصف لكان عدم الطهارة فيه بمحلّ الشك.

وإن شئت قلت : إن عدم الطهارة في هذا المكلّف قبل الوضوء وإن كان محرز الوجود ، لكن وجود المذي يوجب تنويع المكلّف ، وبناء على حصول التنويع يتعدّد الموضوع ، ومع تعدّده لا مسرح لتحقّق الاستصحاب ؛ فتأمّل.

والثاني : إنّه إن قلنا : بانّ الطهارة عبارة عن عدم الحدث ، يكون من مقولة الأعدام ، ولا معنى لإتيان الأمر العدمي تاليا لأصل العدم ؛ هذا.

ولكن هنا أصل آخر لا مسرح لإيراد المصنّف رحمه‌الله عليه ؛ وهو أصالة عدم تأثير الوضوء حال صدور المذي.

توضيح ذلك : أنّا نفرض الوضوء محرز السببيّة ، والشكّ فيه بعد المذي من جهة الشك في الرّافع دون الشّكّ في مقدار تأثيره ، لكن نقول : إنّ الشك في التأثير كما يتحقق في الصورة الأخيرة ، كذلك يتحقّق في الصورة الأولى أيضا. غاية ما هنا أنّ الشكّ في تأثير السبب حينئذ إنّما هو منبعث من الشك في الرّافع ، فالمعارض لاستصحاب الطهارة إنّما هو استصحاب عدم تأثير الوضوء. وفي قبال الثاني أصل حاكم عليه وهو أصالة عدم الرافع » إنتهى. أنظر قلائد الفرائد : ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(*) مناهج الأحكام : ٢٣٨.

٣٢

ما ذكره الاستاذ في الجواب الثاني

والثالث لا دخل له بأصل المطلب

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) من الجواب الثّاني والثّالث لا دخل له بالجواب عن أصل المطلب ، وإنّما هو مناقشة في بعض الأمثلة من حيث التّطبيق على ما ذكره من الكليّة وفيما ذكره من الرّجوع إلى أصل الحكم في بعضها ، وملخّص ما ذكره في الجواب الثّاني : هو أنّه لا يخلو :

إمّا أن يجعل الشّك في المذي من قبيل الشّك في الرّافع بعد القطع بإطلاق سببيّة السّبب ووجود المقتضي ـ كما هو الواقع ومقتضى كلامه أيضا ـ فلا معنى لاستصحاب عدم السّببيّة بعد المذي للقطع بوجودها على فرض القطع برافعيّة المذي فضلا عن الشّك فيها ؛ لأنّ معنى السّبب ما يقتضي الوجود ويؤثّر فيه لو لا المانع ، فمرجعه إلى قضيّة شرطيّة يصدق مع صدق الشّرط وكذبه والشّك فيهما. نعم ، لو جعل معارض استصحاب الطّهارة الثّابتة قبل المذي استصحاب عدمها الأزلي بعد المذي ، كان هذا الإيراد مدفوعا عنه كما عرفت سابقا أيضا.

وأمّا إن يجعل الشّك فيه من قبيل الشّك في المقتضي كما في الوضوءات المفيدة لمجرّد الإباحة لا الطّهارة ، كوضوء المستحاضة ، ومن به السّلس ، والمبطون ، وفي حالة التّقيّة في وجه ، فهو وإن كان موجبا لدخول ما ذكره في أمثلة الفرض ، إلّا أنّه لا معنى حينئذ لاستصحاب عدم جعل الشّيء رافعا ؛ لأنّ المفروض كون الشّك من حيث المقتضي وفي استعداد الوضوء ، لا في الرّافع بعد القطع ببقاء

٣٣

الاستعداد حتّى يرجع إلى استصحاب عدم جعل الشّيء رافعا ، فقوله ( دام ظلّه ) : « لأنّ المتيقّن تأثير السّبب مع عدم ذلك الشّيء ... إلى آخره » (١) بيان لما ذكره في سابقه : من عدم معنى لاستصحاب عدم جعل الشّيء رافعا ، لا أنّه أراد بذلك بيان عدم جواز الرّجوع إلى أصالة بقاء السّببيّة من جهة الشّك في موضوعها وتعيّن الرّجوع إلى أصالة عدم التّأثير والسّببيّة حتّى يقال : إنّه رجوع إلى الجواب الأوّل. فعدّه جوابا ثانيا ممّا لا معنى له هذا.

ولكن ما ذكره ( دام ظلّه ) بعده من الاستدراك بقوله : « إلّا أن يتمسّك باستصحاب وجود المسبّب ... إلى آخره » (٢)(٣) لم يعلم له معنى محصّل.

أمّا أوّلا : فلأنّ أصل فرضه هو إيقاع المعارضة بين الأصل في المسبّب وأصالة عدم تأثير السّبب بعد وجود ما يشكّ في رافعيّته فلم يكن فرضه غير ما ذكره ( دام ظلّه ) حتّى يبقى مجال للاستدراك.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الشّك في بقاء المسبّب على هذا التّقدير مسبّب عن الشّك في تأثير السّبب فمع جريان الأصل بالنّسبة إليه تبيّن حال المسبّب وجودا وعدما ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢١٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢١٣.

(٣) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذا إن قلنا بجريان الإستصحاب في الشك في المقتضي ولا تتوهّم حكومة أصالة عدم التّأثير على استصحاب وجود المسبّب ، فإنّ أثر هذا الأصل ليس إلّا عدم الحكم بثبوت الأثر في زمان الشكّ استنادا إلى ذلك المؤثّر ، فلا ينافيه الحكم ببقائه لأجل الاستصحاب ، فليتأمّل » انظر حاشية فرائد الأصول : ٣٩٥.

٣٤

فلا مجرى للأصل فيه على ما هو الأصل في كلّ شكّ سببيّ وشكّ مسبّبي هذا.

ولكن يمكن الذّب عن الأوّل ـ حسب ما صرّح به ( دام ظلّه ) في مجلس البحث ـ : بأنّ الإيراد لم يكن مبنيّا على فرض جعل التّعارض بين الأصلين في تأثير السّبب حتّى يكون على خلاف فرض الفاضل النّراقي ويكون الاستدراك في غير محلّه ، بل المقصود من الإيراد الأوّل : هو أنّه إذا فرض الشّك في مقدار تأثير السّبب واستعداده فلا يعقل تسبّب الشّك عن الشّك في الرّافع حتّى يرجع إلى استصحاب عدمه الحاكم على الأصل العدمي ، فأصالة عدم تأثير السّبب سليم عن معارضة أصالة عدم الرّافع ، فمن هذه الجهة لا مانع لها ، إلّا أنّ المانع لها استصحاب نفس المسبّب كما هو المفروض في كلام الفاضل المعاصر ، فقوله : ( إلّا أن يتمسّك ... إلى آخره ) (١) استثناء عن عدم المانع عن أصالة عدم التّأثير.

وعن الثّاني :

أمّا أوّلا : فبأنّ الكلام مبنيّ على الغمض عن ملاحظة الحاكم والمحكوم.

وأمّا ثانيا : فبأنّ مجرّد تسبّب الشّك في بقاء المسبّب عن الشّك في مقدار تأثير السّبب لا يوجب رفع اليد عن الأصل في المسبّب ؛ لأنّ إثبات رفع المسبّب بأصالة عدم تأثير السّبب في الزّمان المشكوك تأثيره فيه حتّى يترتّب عليه الحكم الشّرعي المترتّب على عدمه تعويل على الأصل المثبت ؛ إذ عدم المسبّب المترتّب على عدم السّبب في زمان الشّك من اللّوازم العقليّة لا الشّرعية.

وقد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا يجوز التّعويل على الأصول المثبتة بناء

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٢١٣.

٣٥

على حجيّة الاستصحاب من باب الأخبار.

نعم ، على القول باعتباره من باب العقل لا فرق بين الآثار. كما أنّك قد عرفت وستعرف أيضا : أنّ تسبّب أحد الشكّين عن الآخر إنّما يمنع عن العمل بالأصل في الشّك المسبّبي إذا أمكن إعمال الأصل في الشّك السّببي بحيث يقتضي رفع الشّك المسبّب شرعا ، وأمّا لا مع ذلك فيتعيّن الرّجوع إلى الأصل في الشّك المسبّبي ، إلّا بالنّسبة إلى الأصل الموضوعي والحكمي.

هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث للذّب عن الإيرادين ، وأنت خبير بأنّه لا يخلو عن تأمّل.

(٢٣٧) قوله : ( وأمّا ثالثا : فلو سلّم ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢١٣ )

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : تسليمه يبتني على المغالطة ، الّتي نشأ منها توهّم المعارضة بين استصحاب الوجود والعدم ، من أخذ الحالين ـ اي كون الطهارة قبل المذي وبعده ـ قيدا تارة وإهماله أخرى : أنّ إجراء أصالة عدم جعل المذي رافعا ، مبني على فرض كون الطّهارة أمرا مستمرّا باقيا بعد المذي ، لو لم يجعل المذي رافعا لها ، واستصحاب عدم جعل الشّارع الوضوء سببا للطّهارة بعد المذي مبنيّ على ملاحظة الطّهارة المقيّدة بما بعد المذي ، امرا مغايرا للطّهارة المعلومة سابقا محتاجا إلى جعل مغاير لجعل تلك الطّهارة ، ومن الواضح أنّه لا يتفرّع ثبوت هذه الطهارة المقيّدة على أصالة عدم جعل المذي رافعا ، لأنّ اثر هذا الأصل عدم ارتفاع تلك الطهارة ، لا ثبوت هذه الطهارة. غاية الأمر أنا نعلم أنّه لو لم يكن المذي رافعا للطهارة ، لكانت هذه الطهارة مجعولة في حقّ المكلّف ، كما أنا نعلم أنّه لو لم يكن الطهارة محقّقة ، لكان المذي رافعا للطّهارة السّابقة الحاصلة للمكلّف ، ومرجعه إلى أنا نعلم إجمالا أنّ الشارع إمّا جعل

٣٦

في الجواب الثالث عما أفاده الفاضل النّراقي

__________________

المذي حدثا ، أو الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وإجراء أصالة العدم في أحدهما ليس بأولى من الأخر ، فليتأمّل ». أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٩٥.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لا يخفى أنه لو سلّم جريان استصحاب العدم ومعارضته لاستصحاب الوجود يكون استصحاب عدم جعل الشيء رافعا حاكما عليهما لا محالة ؛ لأن مرجع جميع الشكوك المتصوّرة في المقام إلى الشك في رفع الحادث أثر المقتضي وعدمه ؛ إذ لو كان منشأ الشك :

الشك في اصل المقتضي وكيفية جعله لم يعقل أن يشك في الرّافع من هذه الجهه أي : من قبل وجود الشيء المشكوك الرافعيّة.

وبالجملة : لا فرق بين الشك في رافعيّة الموجود في مثل المذي وبين وجود الرّافع المعلوم الرّافعيّة كالبول في ان منشأ الشك : الشك في رفع أثر المقتضي فلا وجه للتفكيك بينهما ؛ لأن رفع أثر المقتضي إنّما يتحقق بتحقّق أمرين : كون الشيء رافعا بحقيقته وكونه موجودا ، والشك في كلّ منهما شك في الرافع ، وليس الشك في المثال المفروض في جعل الشارع للحكم المستصحب بعد وجود ما هو مشكوك الرّافعيّة إلّا من جهة الجهل بجعله رافعا أم لا ، وهذا واضح بعد التنبيه عليه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٤١.

* وقال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انه حيث كان المفروض ان الشك إنّما هو من جهة احتمال الرّافعيّة ، فاحتمال كون المجموع هو الحدث ناش عن احتمال الرّافعيّة بالضّرورة لا العلم الإجمالي بوجود أحد الحكمين.

وتوهّم : ان العمل بوجود أحد الحكمين مع احتمال طروّ المزيل يمنع من جريان الإستصحاب أوضح فسادا فتفطّن » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٥.

٣٧

أقول : ذكر ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّ هذا التّسليم والجواب مبنيّان على كون المراد من عدم التّأثير هو عدم التّأثير الفعلي لا عدم التّأثير الشّأني ، ومعنى رافعيّة الشّيء للطّهارة : هو حكم الشارع عقيبه بالحدث ، كما أنّ معنى عدم رافعيّته هو حكم الشارع عقيبه بالطّهارة ، ولا نعني بعدم تأثير الوضوء بعد المذي ، إلّا حكم الشارع عقيبه بكون المكلّف محدثا ، كما أنّه لا نعني ببقاء تأثير الوضوء بعد خروج المذي إلّا حكم الشارع بالطّهارة في هذه الحالة ، وهو معنى عدم رافعيّة المذي على ما عرفت.

فالشّك في تأثير الوضوء بالمعنى المذكور عين الشّك في رافعيّة المذي ، وإن كان قد يضاف إلى الوضوء ، وقد يضاف إلى المذي ، إلّا أنّهما عبارتان عن معنى واحد ، فمرجع الشّك في المقام إلى الشّك في أنّ المجعول في حقّ المكلّف أيّ شيء؟ الطّهارة الموافقة لاحتمال عدم رافعيّة المذي وبقاء تأثير الوضوء؟ أو الحدث الموافق لاحتمال رافعيّته وعدم تأثير الوضوء؟ فاحتمال تأثير الوضوء ورافعيّة المذي كلاهما مسبّبان عن الشّك في المجعول الشّرعي بعد خروج المذي ، وليس الأوّل مسبّبا عن احتمال عدم الثّاني على ما تخيّله الفاضل المتقدّم ذكره.

نعم ، ذلك يستقيم فيما إذا كان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي من جهة الشّك في وجود الرّافع المعلوم الرّافعيّة ، كما إذا شكّ في خروج البول ، أو كون الخارج بولا أو مذيا مع فرض معلوميّة حكم المذي في الشّريعة ؛ فإنّ الشّك في بقاء الطّهارة وعدمه حينئذ مسبّب عن الشّك في وجود البول وعدمه ، أو كون الخارج بولا وعدمه ، وليس أحد الشّكين عين الآخر ، ولا مسبّبين عن أمر ثالث ؛ لعدم معقوليّة أمر ثالث في المقام ؛ لأنّ الشّك ليس في المجعول الشّرعي كما هو

٣٨

المفروض حتّى يقال : إنّ احتمال وجود الطّهارة واحتمال وجود الرّافع مسبّبان عن الشّك في المجعول الشّرعي ، وأنّه الطّهارة أو الحدث.

فما ذكره : من فرض وجود الحاكم إنّما يستقيم في هذه الصّورة ، إلّا أنّ التّعارض فيها لا يمكن أن يجعل بين استصحاب الطّهارة واستصحاب عدم تأثير الوضوء ، بل لا بدّ أن يجعل بين استصحاب الطّهارة قبل زمان وجود ما يشكّ في بوليّته واستصحاب عدمها الأزلي ، ولكن لا بدّ من التّأمّل في أنّ كلامه هل يشمل مطلق الشّك في الرّافع حتّى في وجوده؟ أو مختصّ بالشّك في رافعيّة الموجود؟

والإنصاف : أنّ كلامه مشتبه المراد فيظهر من بعض مواضعه شموله له ، ومن بعض مواضعه الأخر عدم الشّمول فراجع إلى ما ذكره في « المناهج » (١) ؛ فإنّ المقام يطول بذكر كلامه ؛ فإنّه قد أطنب في المقام غاية الإطناب هذا.

ولكنّك خبير بأنّ الشّك في بقاء الطّهارة وعدمه في الحكم الجزئي وإن كان مسبّبا عن الشّك في وجود الرّافع وعدمه ، إلا أنّه ليس المقام مقام جريان الأصلين ، أي : استصحابي الوجود والعدم ، حتّى يرجع إلى استصحاب عدم الرّافع ويجعل حاكما على الاستصحابين ؛ لأنّ العلم الإجمالي : بأنّ حالة الشّخص في صورة الشّك ليست بخارجة عن الحدث والطّهارة مانع عن جريانهما ، فيكون هنا استصحاب واحد ليس إلّا ، وهو استصحاب عدم وجود الرّافع. فإن ترتّب حكم شرعيّ عليه وإلّا فلا يعمل به أيضا ؛ لعدم التّعويل على ما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ من الأصول.

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٢٣٨.

٣٩

وهذا هو المراد من قوله ( دام ظلّه ) : ( إلّا أن الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي ... إلى آخره ) (١)(٢) أعني : استصحابي الوجود والعدم لا الاستصحاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢١٣.

(٢) قال المحقق الأصولي الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« قوله : ( غير جار ) خبر أنّ ، والباء في ( بجعل أحد الأمرين ) متعلّق بالعلم الإجمالي يعني المانع من إجراء استصحاب عدم جعل الطهارة في حالة الشك في تحقق المزيل ليس هو حكومة استصحاب عدم وجود المزيل عليه ، بل المانع هو العلم الإجمالي بجعل الشارع في هذه الحالة في حقّ المكلّف أحد الأمرين : الطهارة أو الحدث ، ومع هذا العلم الإجمالي لا مجرى للإستصحاب في أحد الأمرين المعلوم أحدهما إجمالا لأنه لا أولويّة لاستصحاب عدم جعل الطهارة على استصحاب عدم جعل الحدث ، اللهم إلّا أن يقال : المحتاج إلى الجعل هو الطهارة ، وأمّا الحدث وهو عدم الطهارة فلا يحتاج إلى الجعل ، فعدم جعل الطهارة المشكوك فيه يكون مجرى للإستصحاب فالمانع هو الحكومة » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ٣٧٨.

* وقال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أن هذا الإستدراك لا يرتبط بسابقه ولا يستقيم ، والظاهر انه كان مقدّما على قوله : ( نعم ، يستقيم ... ) وكان وضعه هنا من قلم الناسخ كما لا يخفى على المتأمّل » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٤٥.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« هذه العبارة ليست موجودة في بعض النسخ وقد ألحقت في بعض النسخ في هامش الكتاب وفي بعضها في المتن ، ولا يخفي انه غير مرتبط بهذا المقام.

نعم ، يناسب أن تلحق قبل قوله : ( نعم ، يستقيم ... ) وظنّي أن المصنّف ألحقها هناك وكتبها في هامش كتابه واشتبه موضع الردّة على النسّاخ وكم له من نظير وجدناه في كتب المصنّف

٤٠