بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

(٢٥٠) قوله : ( ولا يخفى أنّ الملاقاة معلومة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه بناء على اشتراط سبق الكريّة في الاعتصام وكون الملاقاة في نفسها مقتضية للتنجّس على ما يستفاد من قوله : ( إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ) (٢) أو ( لم يحمل خبثا ) (٣) كما في بعض الرّوايات وعليه المشهور ،

__________________

(١) قال العالم الرّباني والفقيه الصّمداني الشيخ هادي الطهراني قدس الله نفسه الشريفة :

« ممّا يتوهّم : انه من الأصول المثبتة ما ذكره جماعة تبعا للمحققين قدس‌سره في كرّ وجد فيه نجاسة لا يعلم سبقها على الكرّيّة وتأخرها ؛ فانّهم حكموا : بان استصحاب عدم الكرّيّة قبل الملاقاة الراجع إلى استصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّيّة فيقال : إنّ الملاقاة معلومة فإن كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة وإلّا فالأصل عدم التأثير لم يكن وجه لمعارضة الاستصحاب الثاني بالإستصحاب الأوّل ... إلى آخر ما ذكره في الفرائد :

٣ / ٢٤٠.

وفيه ما عرفت : من أنه يكفي في الحكم بالإنفعال العلم بالمقتضي وهي النجاسة ، والشرط وهي الملاقاة ، وعدم العلم بالمانع وهي الكرّية فإنّها عاصمة فكون الملاقاة في زمان القلّة وإن لم يكن سبيل إلى إحرازه بالأصل لكن المناط إنّما هو العلم بالمقتضي والشرط فما لم يعلم بالمانع يحكم بتحقّق الأثر وقد عرفت : انّ الحكم بالميراث عند الجهل بتاريخ الإسلام من هذا الباب.

نعم ، معارضة استصحاب عدم الكرّية حال الملاقاة باستصحاب عدم الملاقاة حال القلّة لا وجه لها ؛ لما عرفت : من أنّ الملاقاة حال القلّة لا أثر لها وإنّما الأثر لنفس الملاقاة وليست القلّة إلّا عدم العاصم ولا يجب إحرازه.

وبالجملة : فليس استصحاب عدم الكرّيّة مثبتا لكون الملاقاة حال القلة كما توهّم » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٧.

(٢) الكافي الشريف : ج ٣ باب « الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ و ٢ ، والفقيه : ج ١ / ٩ ـ ح

١٦١

ولذا حكموا بتنجّس المتمّم كرّا بنجس لم يكن وجه للقول باحتياج الحكم بتنجّس الماء إلى إثبات القلّة ، فيكون إثباته بالأصل من باب الأصل المثبت ؛ لأنّ مجرّد حصول الملاقاة في حالة عدم حصول الكريّة حينئذ علّة لتنجّس الماء ، فاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة يقتضي تنجّس الماء من غير احتياج إلى إثبات القلّة.

والحاصل : أنّ ملاقاة غير الكرّ الاستصحابي بمقتضى الأخبار النّاهية عن

__________________

١٢ / والاستبصار ج ١ / ٦ باب « مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ و ٢ و ٣ ، والتهذيب : ج ١ / ٣٩ باب « آداب الاحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٤٦ و ٤٧ و ٤٨ ، عنها الوسائل : ج ١ / ١٥٨ باب « عدم نجاسة الكر من الماء الراكد بملاقاة النجاسة » ـ ح ١ و ٢.

الإنتصار : ٨٥ والناصريّات : ٧٠ والخلاف : ١ / ١٧٣ ـ ١٧٤ في المسألة رقم ١٢٧ والرّواية عاميّة ليس لها أصل في كتب حديثنا إطلاقا.

والسيّد الشريف المرتضى أعلى الله تعالى مقامه نسبها إلى رواة حديث الجمهور صريحا ، نعم الشيخ قدس‌سره في الخلاف نسبها إلى الأئمة عليهم‌السلام غفلة.

والموجود في السنن للبيهقي ١ / ٢٦٠ بهذا اللفظ :

« إذا كان الماء قلّتين لم يحمل خبثا » وفي ص ٢٦٣ : « إذا كان الماء قدر أربعين قلّة لم يحمل خبثا » وأورده الدارقطني في سننه / ٢١ باب « حكم الماء اذا لاقته النجاسة » ـ ح ٤١.

وانظر تحفه الأحوذي : ١ / ١٧٦.

ونصب الرّاية للزيلعي : ١ / ١٦٨.

والدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر : ١ / ٥٥ ـ ح ٤٣.

إلى غير ذلك.

وكيف كان : فما في العوالي : ١ / ٧٦ ـ ح ١٥٦ و ٢ / ١٦ ـ ح ٣٠ ـ أصله من العامّة كما في كثير من أخباره كما لا يخفى على أهله.

١٦٢

نقض اليقين بالشّك كملاقاة الغير الكرّ الواقعي : في كون مقتضاه انفعال الماء الملاقي ، فلا دخل له بالأصل المثبت في شيء ؛ لعدم ترتّب الحكم على غير المستصحب من الوسائط حتّى يكون الالتزام به بإثبات الواسطة من الأصول المثبتة. ولئن سلّم وجود الواسطة كانت من الوسائط الخفيّة قطعا.

نعم ، لو كانت القلّة شرطا في التّأثّر والتّنجّس في الشّريعة ـ كما يظهر من جماعة ـ كان ما ذكره ( دام ظلّه ) وجيها ، فالأولى على التّقدير الأوّل الحكم بكون المعارضة مبنيّة على الأصل المثبت من طرف العكس ؛ فإنّ عدم الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية لا يثبت الطّهارة حتّى يعارض استصحاب عدم الكريّة إلى حين الملاقاة إلّا بأن يثبت كون الملاقاة بعد الكريّة ، فيكون من الأصل المثبت كما لا يخفى.

إلّا أن يقال بكون الواسطة خفيّة ، فلا معنى حينئذ للحكم بالطّهارة لاستصحابها ، أو قاعدة الطّهارة بناء على عدم الاعتبار بالأصل المثبت. كما أنّه على الأوّل لم يكن معنى للحكم بالتّنجّس على هذا البناء.

نعم ، المعارضة بناء على أنّ هذا البناء إنّما يستقيم على القول برجوع ما دلّ على عدم تنجّس الكرّ بالملاقاة وما دلّ على تنجّس القليل بالملاقاة إلى التّنويع فتدبّر.

١٦٣

(٢٥١) قوله : ( والظّاهر أنّ مراده النّظر ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤١ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان المستفاد من صريح هذه الكلمات عدم الأعتداد باستصحاب الحياة لإثبات الضمان ؛ فإن هذا معنى تساوي الإحتمالين وإلّا فاستصحاب الحياة على تقدير جريانه يحكم على استصحاب عدم الضّمان ، وقد عرفت : شيوع التعبير عن عدم جريان الأصل بتعارضه من الجانبين.

والحاصل : إنّ المراد بتساوى الإحتمالين عدم صلوح استصحاب الحياة لمثل هذا الأثر وهو كون الشخص قاتلا ولهذا رجّح في « الشرائع » قول الجاني ، مع ان حكومة الأصل في الشك السببي أظهر من أن يخفى على هؤلاء الأساطين كما لا يخفى على من له خبرة بأحكامهم في جميع أبواب الفقه مما لا يحصى من الفروع حيث تراهم لم يتأمّلوا في تحكيم الأصل والسببي وهذا معنى قوله قدس‌سره : ( وفيه احتمال آخر ضعيف ).

يعني : ان احتمال حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم الضمان ناش عن خفاء كونه أصلا مثبتا ، والغفلة عن أن مجرّد كون الشك سببيا لا يكفي في تحرير الأصل الجاري فيه ، فهذه مبالغة في عدم اعتبار الأصل المثبت.

وهذا هو السرّ في تعقيب جريان الأصل من الجانبين بقوله قدس‌سره :

( وفيه نظر ) يعني : أنّ كون أصالة بقاء الحياة معارضا باستصحاب عدم الضمان مع أنّ الشك في الثاني مسبّب عن الشك في الأوّل يحتاج إلى نظر وليس أمرا واضحا يظهر لكلّ أحد.

وقد عرفت : ان الإحاطة على هذا يختصّ بها الأوحديّ من الناس وليت شعري كيف يتوهّم من هذه الكلمات التي تنادي بعدم اعتبار استصحاب الحياة لإثبات الضمان التزامهم بجريان إستصحاب الحياة ، فهل يستفاد الإثبات في النفي؟

فالذي ينبغي للمصنف قدس‌سره أن يستدلّ بهذه الكلمات على عدم إعتدادهم بالأصول المثبتة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

١٦٤

أقول : عدم جزمه بإرادة ما أفاده في وجه النّظر : من حكومة استصحاب الحياة على أصالة عدم الضّمان لو أريد منها الاستصحاب ، ووروده عليها لو أريد منها أصالة البراءة في وجه إنّما هو من جهة ما شوهد في هذا الفرع وفي نظائره منهم : من عدم التفاتهم إلى هذه الحكومة ، بل ترجيحهم المحكوم على الحاكم كما صرّح به المحقّق وغيره.

فيحتمل أن يكون وجه النّظر : تضعيف المعارضة من جهة عدم مساعدة الاستصحاب لإثبات القتل ، فأصالة عدم الضّمان سليمة عن المعارض في المقام لا راجحة على استصحاب الحياة حتّى يطالب وجه التّرجيح ، أو يضعف التّرجيح ـ بناء على الإغماض عن الحكومة ـ فيكون الأصلان في مرتبة واحدة ، وإن حكم بمقتضى استصحاب عدم الضّمان من جهة الرّجوع إلى أصالة البراءة بعد تساقطهما فتدبّر.

(٢٥٢) قوله : ( لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٤٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ موارد عدم تمسّكهم بالأصول المثبتة في جنب موارد تمسّكهم بها كالبحر والقطرة ، إنّما الإشكال على ما عرفت في وجه اختلاف حكمهم بحسب الموارد ، مع أنّك قد عرفت : أنّه مما لا وجه له ولا يستقيم بحسب الظّاهر أصلا.

(٢٥٣) قوله : ( وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٤٤ )

أقول : لا إشكال فيما أفاده من اختلاف مرتبة الوسائط ، فالمعلوم حاله من

١٦٥

حيث الوضوح والخفاء لا إشكال في حكمه ، وما لم يعلم حاله من الرّجوع إلى العرف يحكم بعدم اعتبار الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ نظرا إلى الشّك في صدق النّقض على عدم ترتّب الآثار بالنّسبة إليه فلا ظهور للأخبار بالنّسبة إليه ، فلا بدّ من الرّجوع إلى سائر الأصول.

(٢٥٤) قوله : ( وفيه نظر ) (١). ( ج ٣ / ٢٤٥ )

أقول : وجه النّظر ظاهر ؛ لأنّ دعوى السّيرة مع الالتفات والشّك على عدم الالتفات من دون فحص من الكلّ في جميع الأزمنة ممنوعة كدعوى الإجماع القولي من العلماء مع عدم عنوان المسألة في كلماتهم ، بل هي أولى بالمنع كما لا يخفى.

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لعلّ وجهه : أن هذا المثال من قبيل خفاء الواسطة فلا حاجة إلى التمسّك بالإجماع والسيرة.

وفيه نظر.

ويمكن أن يكون إشارة إلى ان الاجماع والسيرة يكشفان عن حجّيّة الظن بعدم الحاجب إذا حصل كما هو الغالب ، ونمنع الإجماع والسيرة في غير الصورة المفروضة كما في صورة الشك الحقيقي ، ويشهد لهذا الإحتمال أن المصنّف قيّد المسألة في فتاواه بصورة الظن بالعدم كما ذكرنا.

ويمكن أن يكون إشارة إلى أن المتيقن من مورد الإجماع والسيرة من البناء على عدم الحاجب هو العلم العادي أو الظن المتآخم للعلم بالعدم كما هو الأغلب ، وأمّا في غيره نمنع الإجماع والسيرة على عدم الفحص والبناء على العدم » إنتهى.

انظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٨٦.

١٦٦

نعم ، يمكن القول بعدم الالتفات بدعوى كون الواسطة خفيّة بناء على ما بنى الأمر عليه شيخنا ( دام ظلّه العالي ) : من اعتبار الاستصحاب فيما علم كون الواسطة فيه خفيّة.

نعم ، على القول : باعتباره من باب الظّن تعيّن المصير إليه من دون حاجة إلى الفحص ؛ نظرا إلى كون الشّبهة في الموضوع وإن كان سؤال الفرق بينه وبين نظائره متوجّها.

١٦٧

* التنبيه السابع

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« إن العلم بالزوال لا يمنع من جريان الأصل بالنسبة إلى ما لا يعلم به بالنسبة إليه ، والعلم إجمالا بوقوعه في زمان مردّد بين الأزمنة لا أثر له فيقتصر في رفع اليد عن الأصل على علم الزوال فيه مفصّلا ، وهذا هو المعروف بأصالة تأخّر الحادث ؛ فإن التأخّر ليس إلّا كالتقدّم والتقارن ، فالجميع مخالف للأصل ، ولا وجه لكون التأخّر موافقا للأصل ، بل الأصل عدمه ، لكن لمّا كان مقتضي الأصل الإقتصار على ترتيب الآثار بالنسبة إلى الزّمان المتأخّر حيث انّه هو المعلوم وقوع الزوال بالنسبة إليه ، والقدر المتيقّن من تبدّل الأصل والخروج منه بالنسبة إليه عبّر عنه بأصالة التأخّر ، لا انّ التأخّر من حيث انه نسبة خاصّة بين الحادثين في مقابل التقدّم والتقارن يثبت بالأصل وهذا هو السرّ في عدم ثبوت تأخّر موت زيد في المثال المتقدّم في زمان علم وقوعه فيه بوقوعه فيه.

وزعم الأستاذ ان كونه مثبتا باعتبار انّ الأثر ليس شرعيّا وقد عرفت ما فيه.

ومن الغريب انه قال بعد ما حكم بانه أصل مثبت : ( إلّا أن يقال : إن الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل عدم الشيء سابقا وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل تحقق مفهوم الحدوث ) إنتهى. [ الفرائد : ٣ / ٢٤٨ ].

فإن الملزم في كون الأصل مثبتا إنّما هو عدم كون ما يترتب عليه أثرا شرعيا من غير فرق بين أن يكون متولّدا من الأصل بانضمام أمر آخر معلوم وبين غيره والإلتزام بثبوت الموضوع الخارجي بإثبات أحد جزئي مفهومه بالأصل إعتراف باعتبار الأصل المثبت.

والحاصل : إنّ من الواضح ان كون يوم معين يوم الوفاة مثلا ليس مما يثبت بالإستصحاب ولو بانضمام المعلوم إلى المستصحب وهكذا الحال في غيره من الأمثلة ، والّا لثبت القتل

١٦٨

__________________

باستصحاب الحياة بانضمام الأمر المعلوم وهو القدّ نصفين أو الرّمي الموجب لزهوق الرّوح على تقدير الحياة فيقال : إنّ قدّ الحيّ نصفين قتل له ، وقد ثبت أحد جزئي المفهوم بالإستصحاب والآخر بالوجدان ، وتبيّن ممّا حقّقناه : انه لو علم بوجود حادثين متنافيين في التأثير فلا سبيل إلى إثبات تأخّر أحدهما عن الآخر بالإستصحاب.

إلى أن قال :

نعم ، لو ترتّب على جميع التقادير اثر على المعلوم أخذنا به ، كما انه إذا علم بانّ هذا الحدث وقع بعده عمل مشروط بالطهارة فصلّى قبل الزوال وبعده فعلى أي تقدير بطلت الصلاة ووجب التدارك ، وأمّا مع الجهل بتاريخهما فمع العلم بالحالة السابقة على الحالتين يعوّل على استصحاب ضدّها ، ومع الجهل رأسا فالمرجع هو الأصل المتقدّم على الأصلين لتساقطهما.

وتوضيح الحال في هذا المثال الذي اضطربت فيه كلمة الأساطين :

انّ كلّا من الحدث والطهارة أمر وجودي ومقتضى الأصل عدمهما من غير فرق بينهما من هذه الجهة وإنّما يفترقان في انه يكفي في الجريان : الأصل بالنسبة إلى الأوّل مجرّد الجهل به وعدم ثبوته حيث انه مانع بالنسبة إلى الأحكام ، وأمّا الثاني فلا بد من إحرازه فمع التساقط يحكم بفساد كلّ عمل مشروط بالطهارة وبجواز كلّ ما يوجب الحدث حرمته ، فإذا تعارض استصحاب الجنابة والغسل جاز الدخول في المسجد وبطلت الصّلاة إلّا بطهارة جديدة ولم يجز مسّ كتابة القرآن ؛ لأن الطهارة شرط له.

وأمّا لو تعارض الأصلان في الطهارة عن الخبث بني على الطهارة ؛ لأنّها عدميّة بخلاف الطهارة عن الحدث ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ فمعنى ما اشتهر : من أنّ المانع يكفي في الجزم بعدمه مجرّد الشك في وجوده ان مقتضي الأصل ذلك.

وامّا الشرط فلا أصل يقتضي الحكم بتحقّقه فحدوث الأثر أو بقاءه ان كان الشك فيهما

١٦٩

هل تجري أصالة تأخّر الحادث؟

(٢٥٥) قوله : ( لا فرق في المستصحب بين أن يكون ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤٧ )

__________________

مستند إلى الشك في المانع لم يعتدّ به ، وامّا إذا كان مستندا إلى جهة أخرى : كعدم إحراز الشرط والجهل بالإقتضاء فلا يحكم بتحقّق الأثر وهذه طريقة الأساطين قدس‌سرهم في تمام الأبواب ولها أعلام واضحة وأنوار ساطعة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٧٢.

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« أقول : أراد قدس‌سره في هذا المقام شرح الكلام في الأصلين المعروفين ، أعني : أصالة تأخّر الحادث وأصالة تقدّمه المعبّر عنه باستصحاب القهقري تارة والإستصحاب المعكوس أخرى.

امّا الأوّل : فمورده ما إذا علم بوجود حادث في زمان وشك [ في ] وجوده قبل ذلك الزمان ، فيحكم من جهة استصحاب عدمه قبل ذلك بسلب وجوده في الزمان المشكوك ، فيترتّب عليه ما هو من أحكام مجرّد عدم التقدّم.

ولا يثبت به وصف التأخّر لكي يترتّب عليه ما هو من أحكام هذا الوصف إلّا على القول بالمثبت.

وممّا يتفرّع على ذلك الأصل : حمل اللفظ على المعنى اللغوي فيما إذا حصل التعارض بين العرف واللغة ، فيثبت باستصحاب عدم تقدّم العرف في زمان صدور الخطاب ظهور اللفظ في المعنى اللغوي.

لا يقال : إنّ هذا اصل مثبت ؛ لأن ظهور اللفظ الثابت به ليس بأثر شرعي.

لأنّا نقول : إنّ مدرك اعتبار هذا الأصل إنّما هو بناء العقلاء لكونه من الأصول الجارية في باب ظواهر الألفاظ ، فلا يفرّق فيه بين المثبت وغيره.

١٧٠

في أصالة تأخّر الحادث وبيان حقيقتها

أقول : من الواضحات الّتي لا ينبغي الارتياب فيها عدم الفرق في جريان الاستصحاب ، بل عدم تعلّقه بعد فرض إحراز ما يعتبر في تحقّق الاستصحاب موضوعا في زمان الاستصحاب ، وهو القطع بوجود الشّيء في زمان والشّك في وجوده في زمان آخر بين أن يقطع بوجود شيء قبل زمان وجوده ، ثمّ يشكّ في بقاء وجوده بعد هذا الزّمان كأن يقطع بوجود ولد لزيد يوم الجمعة في يوم الخميس مثلا ، ويشكّ في زمان القطع في بقائه يوم السّبت.

وأن يقطع بوجوده في زمان وجوده ثمّ شكّ فيه فيما بعد ذلك الزّمان سواء حصلا في زمان واحد ، أو في زمانين وسواء كان الزّمان الّذي يشكّ في بقائه فيه موجودا بالفعل ، أو موجودا في المستقبل بشرط تعلّق حكم على وجوده المستقبل عند إرادة الاستصحاب ، أو حصل القطع والشّك في زمان واحد مع تعدّد زمان متعلّقهما مع عدم زوال الشّك.

وأن يقطع بوجوده في زمان ويشكّ فيه في زمان آخر مع حصولهما في زمان القطع بارتفاعه ، فلو ترتّب أثر على الحكم ببقائه إلى زمان القطع بارتفاعه

__________________

لكن يقتصر الأثر الغير الشرعي الثابت به بمجرّد ظهور اللفظ دون غيره كتعيّن ابتداء زمان حدوث المعنى العرفي وأمثاله ؛ لأن مدرك هذا الأصل وإن كان بناء العقلاء لكن يقتصر في ترتّب الأثر عليه بمقدار ما استقرّ بناءهم عليه وهو ليس إلّا مجرّد إثبات الظهور في اللفظ ، هذا » إنتهى. أنظر قلائد الفرائد : ٢ / ٣٤٦.

١٧١

في كلّ من الصّور لم يعقل الفرق بينها في الحكم بجريان الاستصحاب وترتّب الأثر ، وإن كان قد يتأمّل الغير المتأمّل في جريانه في القسم الأوّل ، بل يمنعه ؛ نظرا إلى الجمود على ظاهر تعريف الاستصحاب وبعض أخبار الاستصحاب.

ولكنّك خبير بضعفه وكونه في غير محلّه وليس مقصودنا التّكلّم فيه ، وإنّما المقصود بالبحث هو القسم الأخير وهو ما لو كان المستصحب مشكوك البقاء في جزء من الزّمان اللّاحق ، وإن قطع بارتفاعه بعده سواء كان عدميّا أو وجوديّا.

والاستصحاب في هذا القسم هو الّذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به استصحاب عدم ما علم بحدوثه في زمان قبل ذلك الزّمان من أزمنة الشّك ، فيلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث على تقدير الثّبوت في نفس الأمر ، فيثبت به أوّل زمان وجوده الّذي يعبّر عنه بالحدوث ، واستصحاب عدم ما علم بحدوثه في أحد الزّمانين بعد العلم بارتفاعه بعدهما إلى أوّل الزّمان المتأخّر ، فيثبت به أصل الوجود في ذلك الزّمان حيث إنّ المفروض عدم العلم به ، لا جريان الاستصحاب في نفس التّأخّر كما قد يتوهّم من العبارة ؛ لعدم إمكان جريان الاستصحاب فيه في طرفيه من الوجود والعدم.

أمّا في الأوّل : فلأنّ التّأخر من أنحاء الوجود وكيفيّاته ، ومن المعلوم ضرورة استحالة انقلاب الشّيء عمّا هو عليه من الحالة.

وأمّا في الثّاني : فلأنّ استصحاب عدم الأمر القائم بموجود بعد القطع بالوجود ، إنّما يمكن بعد القطع بوجود الشّيء مع الغضّ عمّا فيه فيما أمكن اتّصاف الشّيء به في زمان وارتفاعه عنه وهو ممّا لا يعقل بالنّسبة إلى ما هو محلّ البحث على ما عرفت.

١٧٢

والحاصل : أنّ استحالة جريان الاستصحاب في طرف الوجود مستلزم لاستحالة جريانه بالنّسبة إلى طرف العدم أيضا ، مع أنّ محلّ البحث إنّما هو الأوّل.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أنّ ردّ أصالة التّأخّر ـ بناء على كون المراد منها المعنى الثّاني ـ بعدم وجود الحالة السّابقة للتّأخر حتّى يستصحب الظّاهر في تسليم جريان الاستصحاب فيه على تقدير فرض الحالة السّابقة له ممّا لا يخلو عن تأمّل ، كما أنّ القول بعدم جواز إثبات التّأخّر بالأصل بأيّ معنى من جهة المعارضة باستصحاب عدمه أيضا لا يخلو عن تأمّل. مضافا إلى ما قد يقال علي تقدير إرادة إثباته بالطّريق الأوّل : أنّ الشّك فيه مسبّب عن الشّك في مجرى الأصل المقتضي لإثباته ، فلا معنى لإيقاع التّعارض بينهما.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا في المقام : من عدم تعقّل إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى نفس التّأخّر ليس مختصّا به ، بل يجري بالنّسبة إلى التّقدّم والتّقارن أيضا ؛ فإنّ التّحقيق عدم تعقّل جريان الاستصحاب في أنفسهما أيضا ؛ لما عرفت : من الوجه في استحالة جريانه بالنّسبة إلى التّأخّر ؛ ضرورة جريانه بالنّسبة إليهما أيضا ، فالمراد من أصالة عدم التّقدم هو استصحاب عدم الشّيء إلى زمان القطع بوجوده سواء أريد إثبات عدم تقدّمه بالنّسبة إلى نفس الزّمان ، أو غيره ؛ فإنّه لا بدّ من أن يرجع إلى هذا المعنى ، وإلّا فلا معنى للتمسّك بها كما لا يخفى. هذا مجمل الكلام في المراد من أصالة التّأخر.

وأمّا الكلام في حكمها من حيث الاعتبار والعدم :

فالتّحقيق أن يقال : إنّ كلّ حكم شرعيّ ترتّب على نفس عدم الشّيء في أزمنة الشّك ، فلا يعقل المنع من اعتبار الاستصحاب المذكور بالنّسبة إليه ، وكلّ

١٧٣

حكم شرعيّ ترتّب على تأخّره عن ذلك الزّمان بحسب الوجود ، فلا يحكم باعتبار الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ لاستلزامه التّعويل على الأصول المثبتة الّتي أثبتنا عدم اعتبارها فيما سبق القول فيه ، فلو فرض عدم ترتّب أثر شرعيّ على نفس عدمه في زمان الشّك أصلا ، بل إنّما ترتّب على تأخّره لم يكن معنى للحكم بجريانه حينئذ ؛ حيث إنّك قد عرفت غير مرّة : أنّ الأصل الّذي لا يترتّب الأثر الشّرعي على مجراه بلا توسيط أمر غير شرعيّ لا معنى لجريانه. هذا مجمل القول في تحقيق المقام.

وإن أردت شرح الكلام وتوضيحه فيه بحيث يرفع عنك غواشي الأوهام فاستمع لما نتلو عليك حسب ما يساعدنا التّوفيق من الملك العلّام. فنقول :

إنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالنّسبة إلى ما قبله من أجزاء الزّمان ، بمعنى : أنّه يقصد من إجراء استصحاب عدمه في زمان سابق إثبات كون زمان وجوده هو الزّمان المتأخّر ، ويلزمه تأخّر الوجود عن ذلك الزّمان أيضا.

فقد يكون أصل وجوده في الزّمان المتأخّر معلوما ، وإنّما الشّك في مبدأ وجوده الّذي يسمّى بالحدوث.

كما إذا علم بموت زيد يوم الجمعة مثلا ، وشكّ في أنّ أوّل زمان موته هذا اليوم أو سابقه ، وكذا إذا علم بكريّة الماء يوم الجمعة وشكّ في أوّل زمان كريّته هذا اليوم أو سابقه إلى غير ذلك ، ففي هذا القسم لا يترتّب على الاستصحاب إلّا أحكام نفس عدم الحادث في زمان الشّك ، لا أحكام حدوثه في زمان اليقين بوجوده ؛ لأنّه من اللّوازم العقليّة لعدم وجوده قبل زمان اليقين بوجوده ، لا من اللّوازم الشّرعيّة له كما لا يخفى.

١٧٤

نعم ، لا إشكال في ترتيب حكم مطلق الوجود على وجوده في ذلك الزّمان ، إلّا أنّه لا دخل له بالاستصحاب بل هو بمقتضى القطع المفروض بالوجود ، وهذا بخلاف الحدوث ؛ فإنّ مجرّد الوجود لا يكون حدوثا حتّى يقطع به من القطع به كما لا يخفى.

وقد يكون أصل وجوده فيه مشكوكا فيريد باستصحاب عدمه قبله بعد العلم الإجمالي بوجوده في أحد الزّمانين إثبات وجوده فيه.

كما إذا علم بصيرورة ماء حوض كرّا في أحد يومين من الخميس والجمعة ، وهو غير كرّ في يوم السّبت ، أي : علم بكلّ من وجود الكريّة في اليومين وارتفاعها إجمالا ، فيعلم أنّها لو كانت موجودة يوم الخميس ارتفعت يوم الجمعة قطعا فلا يكون فيه كرّا ، ولو لم تكن موجودة فيه كانت موجودة في يوم الجمعة ، فيستصحب عدمه يوم الخميس فيثبت وجودها يوم الجمعة ، ففي هذا القسم أيضا لا يترتّب على الاستصحاب أحكام أصل الوجود في المتأخّر. نعم ، يترتّب عليه أحكام عدمه في الزّمان المتقدّم.

كما أنّه لا إشكال في أنّه يترتّب الحكم الشّرعي على وجوده في أحد الزّمانين لو فرض ترتّب حكم عليه لكنّه ليس من جهة الاستصحاب بل بمقتضى العلم الإجمالي بوجوده في أحد الزّمانين على ما هو قضيّة الفرض ، فالوجود في هذا القسم نظير الحدوث ، وفي الفرض الأوّل في كون كلّ منهما من غير الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب ، وهذا معنى قوله ( دام ظله ) : ( لأنّ وجوده

١٧٥

مساو لحدوثه في كون كلّ منهما موضوعا خارجيّا ... إلى آخره ) (١).

والحاصل : أنّ وجود الشّيء في زمان في عرض وجوده في زمان آخر ، فإذا علم به في أحدهما لا على التّعيين لم يكن معنى لإثبات اليقين بإجراء الأصل في عدمه بالنّسبة إلى أحدهما ، غاية الأمر : أنّه اتّفق كون عدمه بالنّسبة إليه صار على وفق الأصل فلا يترتّب عليه إلّا أحكام عدمه ، فهذا نظير ما لو علم بوقوع نجاسة على أحد جسمين يعلم بطهارة أحدهما ويشكّ في طهارة الآخر ؛ فإنّه لا يمكن إثبات وقوع النّجاسة في مشكوك الطّهارة باستصحاب الطّهارة في معلوم الطّهارة ، وإن كان الحقّ عندنا عدم جريان الأصل المذكور رأسا ، خلافا لجماعة ، إلّا أنّه على فرض الجريان لا يمكن إثبات نجاسة الآخر به.

فلو فرض وقوع نجاسة في الفرض في الحوض يوم الجمعة لا يمكن إثبات طهارته باستصحاب عدم الكريّة في يوم الخميس المقتضي للكريّة يوم الجمعة على خلاف التّحقق ، بل يحكم بنجاسته على القول بكون الملاقاة مقتضيا ، كما أنّه يحكم بنجاسة مائه لو وقع فيه نجاسة يوم الخميس أيضا على القول المذكور ، كما أنّه يحكم بطهارته في الفرضين على القول بلزوم إحراز القلّة في التّأثر ، لكن لا من جهة الاستصحاب بل من جهة قاعدة الطّهارة.

نعم ، يمكن الحكم بالطّهارة أيضا من جهة استصحاب طهارة الماء كما لا يخفى ، ولا يلزم على ما ذكرنا مخالفة العلم الإجمالي الغير المجوّزة فيما ذكرنا في الصّورتين كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٤٨ هذا ، ولكن الموجود في الكتاب الى « مساو لحدوثه » وليس فيه بقيّة العبارة المزبورة ولعلّها من النسخة المختصّة بالميرزا « رحمة الله تعالى عليه ».

١٧٦

والحاصل : أنّه لا بدّ من أن يلاحظ ويفرّق في كلّ مورد بين الحكم الشّرعي المترتّب على نفس مجرى الأصل وبين الحكم الشّرعي المترتّب على ما يلازمه ، ٣ / ١٤٠ ولا يجري حكم التّأخّر في القسمين على الاستصحاب الجاري فيهما ، بل ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّه على فرض جواز إثبات الحكم المترتّب على الحدوث في القسم الأوّل والوجود في الزّمان المتأخّر في القسم الثّاني لا يجوز إثبات الحكم المترتّب على عنوان التّأخّر ؛ لأنّه ملازم للأمرين في القسمين ، لا أن يكون عينهما وإن كان ما ذكره لا يخلو عن تأمّل.

فإن قلت : ليس التّأخّر إلّا عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم ، فإذا فرض القطع بوجوده في زمان وشكّ في وجوده في زمان سابق عليه ، وفرضنا إجراء الأصل ، وحكمنا بعدمه في زمان الشّك ، كان هذا معنى التّأخر وهو عين ما أجري الأصل فيه ، لا أن يكون ملازما له.

نعم ، الفرق بينهما باختلاف اللّفظ ، فتارة يقال ـ علي هذا المعنى ـ التّأخّر وأخرى : الوجود المسبوق بالعدم بحكم الأصل ، فلم يرد بإجراء الأصل إثبات الوجود في زمان من الأزمنة حتّى يكون مثبتا ، بل أريد نفس إثبات العدم إلى زمان القطع بالانقلاب إلى الوجود ، فليس إذن مانع عن إثبات التّأخّر بالأصل كما لا يخفى.

قلت : مجرّد كون التّأخّر عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم لا يخرج الأصل المذكور عن كونه من الأصول المثبتة ؛ ضرورة أنّ إثبات المفهوم الثّابت أحد جزءيه بالوجدان بإجراء الأصل في إثبات جزئه الآخر لا يخرج الأصل المذكور عن الأصول المثبتة ، وهذا معنى ما ذكره ( دام ظلّه ) ، اللهم إلّا أن يدّعى

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

١٧٧

كون الواسطة من الوسائط الخفيّة الموجبة لصدق نقض المستصحب على ترك الالتزام بآثارها في حكم العرف كما هو المشاهد في كثير من المقامات.

كما في استصحاب عدم الهلال في يوم الشّك ؛ فإنّ الحكم به عبارة عند العرف عن الحكم بكون غده من الهلال وأوّل الشّهر. ولهذا يقال عليه : أوّل الشّهر الشّرعي ، مع أنّه لم يرد من الشّرع إلّا الحكم بعدم جعل اليوم المشكوك من الهلال على ما ذكره في « الكتاب » من كون الفرض من أمثلة الوسائط الخفيّة في الأمر السّابق.

نعم ، هنا إشكال على ما ذكرنا وذكره الأستاذ العلّامة : بأنّه إذا كانت الواسطة خفيّة في بعض الموارد ، كان الأمر كذلك في جميع موارد إثبات التّأخّر ؛ لأنّ الواسطة أمر واحد لا يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى. فاللّازم إذن الالتزام باعتبار أصالة التّأخّر بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على صفة التّأخر أيضا. وهو كما ترى.

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالنّسبة إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر لا بمعنى إجراء الأصل بالنّسبة إلى التقدّم فيقال : الأصل عدم تقدّمه عليه ـ كما قد يتوهّم ـ بل بمعنى استصحاب عدمه إلى زمان القطع به الّذي هو مؤخّر عن زمان القطع بالحادث الآخر كما في جملة من الموارد ، إذن لم يثبت تأخّره عن زمان وجوده للجهل.

والحاصل : أنّ أصالة التّأخّر مرجعها في جميع الموارد إلى استصحاب عدم الحادث اليقيني إلى زمان القطع بانقلابه ، فمنه يظهر ما في كلام الفاضل القميّ رحمه‌الله في « القوانين » : من أن إطلاق أصالة تأخّر الحادث على هذا المعنى لا يكون على

١٧٨

حقيقته ؛ لأنّ تأخّر الحادث إنّما يلاحظ بالنّسبة إلى الزّمان.

ثمّ إنّ الحادثين قد يجهل تاريخهما ، وقد يعلم تاريخ أحدهما ، ومثله في الحكم في الجملة ما لو علم تقدّم أحدهما على الآخر وإن جهل التّاريخان ، أو لم يحتمل تأخّر أحدهما بالخصوص عن زمان معيّن وإن احتمل تقدّمه وتقارنه مع الحادث الآخر المحتمل تأخّره عنه ، فالمقصود من القسم الأوّل وهو مجهولي التّاريخ المقابل للقسم الثّاني هو : ما احتمل التّقدّم والتّأخّر في كلّ منهما.

بيان حكم القسم الأوّل ( صورة جهل تاريخهما )

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في جريان الأصل بالنّسبة إلى عدم كلّ من المجهولين إلى زمان القطع بانقلابه إلى الوجود ـ لو ترتّب على كلّ منهما أثر شرعيّ ـ فيعمل بكلّ منهما إن لم يكن بينهما تعارض : بأن يحصل من العمل بهما طرح العلم الإجمالي المعتبر ، وإلّا فيحكم بتساقطهما والرّجوع إلى غيرهما من الأصول ، أو عدم جريانهما فيما لو استلزم طرح العلم الإجمالي على القولين ، وإلى عدم أحدهما فيما لو ترتب عليه أثر دون عدم الآخر ، وإن ترتّب على تأخّره عنه ؛ فإنّه لا إشكال أيضا في وجوب الأخذ بما ترتّب عليه أثر شرعيّ بلا توسيط أمر غير شرعيّ.

كما أنّه لا إشكال في عدم جريان الأصل بالنّسبة إلى عدم كلّ منهما لو فرض عدم ترتّب أثر شرعي عليه ، أو ترتّب أثر شرعيّ على تأخّر أحدهما عن الآخر ؛ نظرا إلى عدم المعنى للحكم بعدم نقض ما لا يكون له أثر شرعيّ أصلا ، أو بواسطة أمر غير شرعيّ على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا. مضافا إلى لزوم

١٧٩

التّعارض على التّقدير الثّالث كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه لا معنى لإهمال أخبار الاستصحاب بالنّسبة إلى كلّ متيقّن كان موضوعا لحكم في الشّريعة إذا لم يتعارض إجراء الاستصحاب فيه بإجرائه في غيره بحيث لا يجوز معه العمل بهما ، فاللّازم منه هو العمل على ما ذكرنا من التّفصيل والأخذ به وسلوكه في الفرض ، فما ذكرنا ميزان كلّي لا يجوز التّخطّي عنه ـ بناء على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة ـ فلا بدّ للشّخص أن يلاحظ الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الموضوعات الواقعيّة من حيث ترتّبها على نفس عدم الحادث ـ أو على تأخّره عن الحادث الآخر بحسب الزّمان.

فلو علم بحصول الكريّة للماء وملاقاته للنّجاسة وجهل تاريخهما : بأن وجد كرّا فيه نجاسة يعلم بعدم حصول الكريّة للماء في زمان وعدم وجود النّجاسة فيه أيضا ، ولكن لا يعلم زمان حدوثهما ، فيحتمل تقدّم كلّ منهما على الآخر وتقارنهما ، فتستصحب حينئذ عدم كلّ منهما إلى زمان العلم بهما ويترتّب على كلّ منهما الحكم المترتّب عليه فكلّ حكم ترتّب على الكريّة لم يحكم به ، بل يحكم بما يترتّب على عدم الكريّة من جهة استصحاب عدمها.

كما أنّ كلّ حكم ترتّب على نجاسة الماء أيضا لم يحكم به ، بل يحكم بما ترتّب على عدمها ، فلو غسل بالماء المذكور متنجّس قبل زمان العلم بالكريّة والنّجاسة يحكم بطهارته إذا فرض ورود مائه عليه لا وروده عليه ، وإلّا فيحكم بنجاسته ونجاسة الماء المغسول به كما لا يخفى.

وأمّا الحكم بطهارة الماء ونجاسته ففيه وجهان مبنيّان ـ مع قطع النّظر عن إحراز إثبات التّقارن ـ على لزوم إحراز الكريّة في الحكم بعدم الانفعال قبل

١٨٠