بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

ملاقاة النّجاسة ، أو لزوم إحراز القلّة في الحكم بالانفعال قبل ملاقاة النّجاسة. فعلى الأوّل : يحكم بنجاسته على تأمّل ، وعلى الثّاني بطهارته على تأمّل.

كما أنّه بناء على كون الكريّة مقتضية للاعتصام والقلّة مقتضية للانفعال بحيث لا يكون لأصل الملاقاة اقتضاء أصلا يحكم بطهارته أيضا لا من جهة إثبات التّقارن ، بل من جهة استصحاب طهارة الماء السّالم عن الأصل الحاكم عليه ، كما هو قضيّة الفرض.

ولو علم بوجود الحدث والطّهارة منه وشكّ في المقدّم منهما على الآخر فيحكم من جهة استصحاب عدم تقدّم كلّ منهما بالمعنى الّذي عرفت على حكم كلّ من عدم الحدث والطّهارة إن لم يلزم منه مخالفة قطعيّة ، ولازمه عدم جواز دخوله في الأعمال المشروطة بالطّهارة ، كما أنّ لازمه جواز الدّخول في الأعمال الممنوع من الدّخول فيها من جهة الحدث. هذا كلّه بناء على عدم القول بالأخذ بالضدّ في الشّك في تقدّم أحد الحادثين على الآخر ، وإلّا فحكمه لا يخفى على المتأمّل. وسيجيء ما هو تحقيق القول من المسلكين.

وكذا إذا شكّ كلّ من الرّجل والمرأة المتحاذيين في الصّلاة في تقدّم شروعه في الصّلاة على الآخر وتقدّمه عليه ، فيدفع بالأصل تقدّم الآخر عليه ويحكم بصحّة صلاته ـ بناء على كفاية هذا المقدار في صحّة الصّلاة ـ ولا تعارض بأصالة عدم وجود صلاته حين صلاة الآخر ؛ لعدم ترتّب أثر عليه كما لا يخفى ، هذا بالنّسبة إلى أنفسهما.

وأمّا بالنّسبة إلى غيرهما فلو أراد ترتّب أثر على صلاتهما الصّحيحة واقعا ، فلا يجوز له الحكم بصحّة صلاتهما كما لا يخفى ، بل صلاة أحدهما أيضا. ومثل

١٨١

الفرض ما إذا شكّ في تقدّم إحدى الجمعتين على الأخرى.

نعم ، لو فرضنا القول بجواز إثبات التّقارن في مجهولي التّاريخ كان الحكم الفساد في المسألتين كما لا يخفى.

تنبيهان في مجهولي التاريخ

ثمّ إنّ هنا أمرين ينبغي التّنبيه عليهما :

الأوّل : أنّه هل يحكم بالتّقارن ويترتّب عليه جميع ما ترتّب عليه شرعا في المقام فيما يحتمل فيه التّقارن كما في المثال الأوّل إذا لم يعلم بتقدّم أحدهما الغير المعيّن ، لا المثال الثّاني ؛ فإنّه لا يحتمل فيه التّقارن أم لا؟ وجهان ، بل قولان مبنيّان على كونه من الأمور الغير الشّرعيّة فلا يجوز إثباته بالأصل ، وكونه من الوسائط الخفيّة ؛ حيث إنّ التّقارن عند العرف عبارة عن نفس عدم تقدّم أحد الحادثين على الآخر ؛ بحيث يحكمون من دون توقّف : بأنّ عدم الالتزام بحكمه نقض لحكم عدم وجود كلّ من الحادثين قبل الآخر.

وهذا هو الوجه بناء على ما عرفت : من التّفصيل في اعتبار الاستصحاب بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة بين كون الواسطة من الوسائط الخفيّة وغيرها فلعلّ ما بني الأمر عليه في « الرّوضة » لثاني الشّهيدين ( قدّس سرهما ) في مواضع من إثبات التّقارن ، مبنيّ على ذلك ، وإن احتمل ابتناؤه على القول باعتبار الأصول المثبتة ؛ نظرا إلى كون اعتبار الاستصحاب عنده من باب الظّن لا التّعبد.

ثمّ إنّه لا يعارض : بأنّ الأصل عدم التّقارن أيضا ؛ حيث إنّه على خلاف

١٨٢

الأصل ، لا لأنّ الشّك في التّقارن وعدمه مسبّب عن الشّك في تقدّم كلّ من الحادثين على الآخر وعدمه حتّى يمنع من ذلك ويقال : إنّ الشّك فيه في عرض الشّك المذكور وكلاهما مسبّبان عن الشّك في زمان الوجود قياسا على الآخر ، بل لما عرفت من أنّ التّقارن كالتّأخّر والتّقدّم من كيفيّات الوجود وأنحائه ، فلا يعقل أن يجري الأصل في نفسه على ما عرفت تفصيل القول فيه في أوّل المسألة.

فعلى ما ذكرنا يترتّب على الأصل المذكور جميع الآثار المترتّبة على تقارن الحادثين ، فيحكم :

في مسألة الشّك في تقدّم الكريّة والنّجاسة بنجاسة الماء ـ بناء على اشتراط سبق الكريّة في الاعتصام وكون الملاقاة بنفسها مقتضية ـ وفي الفرضين الأخيرين بفساد كلّ من الصّلاتين كما عرفت.

وفي مسألة الشّك في تقدّم رجوع الرّاهن عن الإذن في البيع بالصّحة ـ بناء على كون الإذن السّابق مقتضيا لصحّة البيع الواقع عن المرتهن ما لم يسبق بمنع من الرّاهن ورجوع منه ـ وبالفساد ـ بناء على كون الإذن السّابق مقتضيا للصحّة ـ إذا وقع البيع حال بقاء الإذن وعدم الرّجوع منه فالبيع المقارن للرّجوع إذن ملغى في نظر الشارع.

وهكذا الأمر في سائر المقامات ، فلا بدّ من أن يتأمّل الفقيه بحسب المقامات ويفرّق بين ما يترتّب على التّقارن شرعا ، وبين ما يترتّب على تأخّر أحد الحادثين عن الآخر.

الثّاني : أنّه لا يشترط فيما ذكرنا من الحكم بين مجهولي التّاريخ العلم التّفصيلي باجتماعهما في زمان من الأزمنة ، بل يكفي مجرّد احتمال اجتماعهما

١٨٣

في زمان من الأزمنة وإن قطع بارتفاعهما في زمان الحكم باستصحاب عدمها ، كما إذا علم بوقوع النّجاسة في الماء في أحد اليومين وحصول الكريّة له أيضا في أحدهما مع القطع بارتفاعهما من الماء في اليوم الثّالث ؛ فإنّه لا مانع من استصحاب عدم كلّ منهما لأحكامهما والأحكام المترتّبة على تقارنهما وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا هذا مجمل الكلام في القسم الأوّل.

١٨٤

الكلام في القسم الثاني ( ما لو علم بتاريخ أحد الحادثين )

وأمّا الكلام في القسم الثّاني (١) : وهو ما لو علم بتاريخ أحد الحادثين ، أو

__________________

(١) قال المؤسس الأصولي الفقيه الرّباني الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وأمّا مع العلم بتاريخ أحدهما فيستصحب معلوم التاريخ ولا يعتدّ باحتمال طروّ الضدّ بعده ؛ بإنّ كلّا من التقدّم والتأخر والتقارن يدفع بالأصل حيث انه لا تلزم مخالفة عمليّة من مخالفة هذا العلم الإجمالي فلو علم بأنّه كان متطهّرا أوّل الزوال استصحب الطهارة.

وان علم بالحدث المردّد بين أن يكون واقعا قبله أو بعده فإن الأصل يجري بالنّسبة إلى خصوصيّات الزّمان ، فهذا الزمان الخاص لا يمكن أن يدفع عنه الطهارة لمكان العلم بتحقّقها فيه وأمّا الحدث فالأصل عدم وقوعه فيه.

ومنه يعلم حال العكس.

وتبيّن من هذا : انه إذا علم بملاقاة الماء مع النجاسة وكرّيّته ولم يعلم التاريخ حكم بالإنفعال لعدم إحراز المانع مع العلم بالسبب.

وأمّا إذا علم تاريخ القلّة ولم يعلم تاريخ الملاقاة حكم بالطهارة ؛ لأصالة عدم وقوع الملاقاة في هذا الزمان الخاص ، والأصل في السّببي حاكم عليه في المسبّب.

كما انه إذا علم تاريخ الملاقاة ولم يعلم تاريخ القلّة فانه يحكم ايضا فيه بالطهارة.

وأمّا إذا تاريخ الكثرة خاصّة أو تاريخ الملاقاة فيما كان قليلا مع عدم معرفة زمان الخروج عن القلّة إلى الكثرة فيحكم بالإنفعال كصورة الجهل بالتاريخ ، بل بالأولويّة.

ومن هذا الباب ما لو علم بإسلام أحد الوارثين في زمان موت المورّث دون الآخر لاشتباه زمان إسلامه وكفره مع العلم بإتّصافه بهما ؛ فانه يرث لعدم ثبوت اقتران المانع بتحقّق السبب.

١٨٥

بما يرجع إليه بحسب الحكم على ما عرفت ، فملخّصه :

أنّه لا إشكال بناء على ما عرفت : من عدم اعتبار الأصول المثبتة على ما هو قضيّة التّحقيق عندنا في جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى مجهول التّاريخ ، وترتيب جميع الأحكام المترتّبة على عدمه في الواقع عليه حتّى في زمان القطع بالحادث الآخر إن كان له حكم في الشّريعة دون الأحكام المترتّبة على تأخّره عن المعلوم التّاريخ. فإذا علم زمان غسل الثّوب النّجس بماء الحوض وشكّ في زمان حصول الكريّة ، فيستصحب حينئذ بقاء عدم الكريّة والقلّة إلى بعد زمان غسل الثّوب ، فيحكم حينئذ بنجاسة الثّوب : إمّا من جهة استصحاب القلّة وعدم

__________________

وأمّا إذا علمنا بانه كان كافرا فأسلم في زمان معيّن ولم نعلم تاريخ الموت ، فلا يرث لأصالة عدم وقوع الموت في هذا الزمان.

وإذا علمنا تاريخ خروجه عن الإسلام إلى الكفر ولم نعلم تاريخ الموت فيرث لأصالة عدم وقوع الموت حال الكفر. وإذا علم تاريخ الموت فمع الجهل بتاريخ حدوث الكفر يرث ومع الجهل بتاريخ الإسلام لا يرث.

وظهر ممّا حقّقنا : انّ ما ورد في الغرقى والمهدوم عليهم مخالف للقواعد وإلّا فمقتضي القاعدة اختلاف الحكم باختلاف العلم بتاريخ أحدهما أو الجهل به ، كما انّ الأصل مع احتمال التقارن عدم التوارث بينهما ومع العلم بسبق أحدهما القرعة ، أو أنّ المرجع قاعدة العدل والإنصاف على الخلاف.

وأمّا الجمعتان فمقتضي القاعدة الحكم بصحّة كلّ منهما حتى مع العلم بسبق إحداهما على الأخرى ؛ فانه من قبيل الإشتباه في المكلّف كواجدي المني في الثوب المشترك.

فتبيّن : انّ فروع الباب تختلف غاية الإختلاف ، فعليك بالتأمّل التام ؛ فإنه من مزالّ الأقدام.

وتحصّل ممّا حقّقنا : أنّ أصالة تأخّر الحادث من الأغلاط وإنّما الثابت هو عدم التقدّم » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

١٨٦

الكريّة في الماء ، أو من جهة استصحاب نجاسة نفسه.

وإذا علم زمان الكريّة وشكّ في تاريخ الملاقاة ، فيحكم باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة وبعده ، لكنّه لا ينفع إلّا للحكم بطهارة الماء فيحكم باستصحاب نجاسته.

نعم ، على القول : باعتبار الأصل المثبت يحكم بطهارة الثّوب أيضا.

وإذا علم بوجود الحدث عنه في زمان معيّن وشكّ في زمان الطّهارة أنّه قبل الحدث أو بعده ، فيحكم باستصحاب عدمه قبل زمان الحدث ، لكنّه لا ينفع إلّا لما ترتّب شرعا على نفس عدم الطّهارة في السّابق ، كفساد الصّلاة المأتي بها فيه على تأمّل ، فلا يثبت به طهارته حتّى يترتّب عليه جميع ما ترتّب شرعا على الطّهارة ، بل يحكم بمقتضى الأصل بعدم جواز الدّخول في الأعمال المشروطة بالطّهارة له كما لا يخفى.

نعم ، على القول : باعتبار الأصل المثبت يحكم بالحكم المذكور.

وإذا علم زمان الطّهارة وشك في زمان الحدث ، فيحكم باستصحاب عدمه لترتّب جميع ما رتّب عليه شرعا من الأحكام ، لا لترتيب جميع ما رتّب على تأخّره عن الطّهارة ، فلا يحكم بعدم جواز دخوله في الأعمال المشروطة بالطّهارة من جهة ، وإن جاء الحكم من جهة استصحاب الحدث لو فرض كون الحالة السّابقة على الحادثين هي الطّهارة بناء على الأخذ بالضدّ في المسألة ، أو قاعدة الاشتغال ، ولكنّه لا دخل له بمحطّ البحث كما هو واضح.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّ كلّ حكم شرعيّ يترتّب على عدم الحادث المجهول التّاريخ يجب ترتيبه عليه ، سواء كان قبل زمان معلوم التّاريخ ، أو مقارنه ،

١٨٧

أو بعده ، ولا يترتّب ما ترتّب شرعا على تأخّره عن المعلوم التّاريخ ، كما أنّه لا يترتّب على عدم معلوم التّاريخ في زمان وجود مجهول التّاريخ ما رتّب عليه من الآثار الشّرعيّة ؛ لعدم جريان الاستصحاب فيه بالنّسبة إلى عدمه حتّى يترتّب عليه حكمه باستصحابه ؛ لأنّ المستصحب : إمّا أصل الوجود ، أو وجوده في زمان الآخر.

أمّا الأوّل : فلا يعقل له معنى ؛ لأنّه قبل تاريخه معلوم العدم وفي زمانه مقطوع الوجود ، فلا شكّ في أصل وجوده حتّى يمكن استصحابه.

وأمّا الثّاني : فلأنّه وإن كان مشكوكا إلّا أنّه ليس له حالة سابقة ؛ لأنّ عدم وجوده في الأوّل في زمان الآخر من جهة السّالبة بانتفاء الموضوع.

نعم ، بناء على القول باعتبار الأصول المثبتة يمكن إجراء الأصل في الحادث الآخر وإثبات تأخّره عن المعلوم التّاريخ وتقدّمه وعدم كون وجوده في زمانه.

والقول : بأنّه يمكن إجراء الأصل في معلوم التّاريخ باعتبار الزّمان بأن يقال : إنّ الأصل عدم كون زمان وجوده زمان وجود الآخر ، فيثبت بذلك عدم وجوده في زمانه فيه ، وأصالة عدم كون زمان وجوده غير زمان الآخر لا يترتّب عليه أثر حتّى يصحّ الحكم بالمعارضة ، فيه ما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : بمثل ما ذكرنا فيما يكون بحكم معلوم التّاريخ في الجملة ، كما لو لم يحتمل التّأخّر بالنّسبة إلى أحدهما معيّنا. هذا ملخّص ما يقتضيه التّحقيق في القسم الثّاني.

١٨٨

قولان آخران في القسم الثاني

ولكن يظهر من الأصحاب فيه قولان آخران بين إفراط وتفريط :

أحدهما : جريان الأصل في طرف مجهول التّاريخ وإثبات تأخّره عن معلوم التّاريخ ليترتّب عليه أحكام التّأخّر وهو المحكي عن ظاهر المشهور في كلام الأستاذ العلّامة ، منهم : الّذين أشار إليهم بأعيانهم فيه بالنّسبة إلى ما استظهر عنهم في بعض الموارد (١).

وهذا كما ترى ، ليس على ما ينبغي على ما عرفت منّا.

نعم ، كلّ من قال باعتبار الأصول المثبتة يلزمه الالتزام بالمقالة المذكورة ، فما حكي عن ظاهر المشهور في بعض الموارد بناء على ما بنوا عليه في الجملة : من اعتبار الأصول المثبتة في محلّه جزما كما لا يخفى ، وإن كان خلاف التّحقيق عندنا.

نعم ، يبقى الكلام في الموارد الّتي أطلقوا القول فيها بالتّوقف في صورة العلم بالحادثين من غير تفصيل بين العلم بتاريخ أحدهما والجهل به ، فهل يحمل على صورة الجهل بتاريخهما ـ نظرا إلى جعل تفصيلهم في بعض الموارد قرينة لإطلاقهم في بعض آخر ، حملا للنّص على الظّاهر سيّما بعد ملاحظة قول بعضهم بالتّفصيل فيما أطلقوا ـ أو يحمل على الاضطراب في كلماتهم؟ ـ كما كان الأمر

__________________

(١) كالشيخ في المبسوط : ٨ / ٢٧٣ ، وابن حمزة الطوسي في الوسيلة : ٢٢٥ ، والمحقق في الشرائع : ٤ / ١٢٠ ، والعلّامة في القواعد ( الطبعة الحجريّة ) ٢ / ٢٢٩ ، والشهيد الأوّل في الدروس : ٢ / ١٠٨ ، والشهيد الثاني في المسالك : ٢ / ٣١٩.

١٨٩

كذلك في أصل العمل بالأصول المثبتة بحسب الموارد على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا ـ وجهان كما في « الكتاب ».

والحقّ هو الثّاني ؛ لأنّه لا معنى لجعل مجرّد تفصيلهم في بعض الموارد قرينة لسائر الموارد ما لم يعلم من القرينة إرادة التّفصيل منهم سيّما بعد ملاحظة ما يشاهد من الاختلاف والاضطراب في كلماتهم.

وبالجملة : ليس المورد من موارد حمل الظّاهر على النّص كما لا يخفى ، سيّما إذا كان الإطلاق من بعض والتّفصيل من آخر خصوصا إذا كانا في مسألتين ، ولهذا ليس لنا أن ننسب إليهم التّفصيل فيما أطلقوا بحسب القول ، مع أنّ لازم الحمل المذكور ذلك كما لا يخفى.

وقد اعترف الأستاذ العلّامة بذلك ، ولهذا قال في مجلس البحث : إنّه لا يمكننا أن نعمل بأصالة التّأخّر فيما أطلقوا وإن قلنا باعتبار الأصل المثبت أيضا ، بل ذكر : أنّ العمل بالأصل في مجهول التّاريخ فيما أطلقوا القول فيه بالنّسبة إلى الحكم المترتّب على عدمه أيضا في غاية الإشكال ، وإن كان ما ذكره ( دام ظلّه ) لا يخلو عن إشكال ما لم يستظهر إجماع منهم في المسألة على العمل بخلاف الأصل ، فتبيّن ممّا ذكرنا فساد الوجه الأوّل هذا.

وقد يتأمّل فيما ذكره الأستاذ العلّامة من الجمع بين الوجهين ، وإن كان الثّاني مبنيّا على التّنزّل ؛ لأنّ الجزم بالأوّل ينافي الثّاني وإن كان على الوجه المذكور فتأمّل.

١٩٠

نقل كلام صاحب الجواهر والمناقشة فيه

ثانيهما : ما يظهر من بعض مشايخنا (١) تبعا لبعض الأساطين (٢) حسب ما استظهره الأستاذ من كلامه الّذي ستقف عليه : من عدم العمل بالأصل في مجهول التّاريخ مطلقا حتّى بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على نفس مجرى الأصل ؛ حيث قال ـ في ذيل جملة كلام له في باب الرّهن في مسألة اختلاف الرّاهن والمرتهن في تقدّم الرّجوع عن الإذن في البيع على البيع وتأخّره عنه ـ ما هذا لفظه :

« نعم ، يبقى شيء أشار إليه في « الدّروس » و « الحواشي » وتبعه عليه غيره ، وهو : أنّ كلام الأصحاب يتمّ فيما إذا أطلق الدّعويان ولم يعيّنا وقتا للبيع أو الرّجوع ، وأمّا إذا عيّنا وقتا واختلفا في الآخر فلا يتمّ ؛ لأنّهما إذا اتّفقا على وقوع البيع يوم الجمعة مثلا واختلفا في تقديم الرّجوع عليه وعدمه ، فالأصل التّأخّر وعدم التقدّم ، فيكون القول قول الرّاهن. وينعكس الحكم لو اتّفقا على عدم تقدّم وقت الرّجوع واختلفا في تقديم البيع عليه وعدمه ، وهذه مسألة تأخّر مجهول التّاريخ عن معلومه ، وقد حقّقنا الكلام فيها في مقام آخر ، ولعلّ إطلاق الأصحاب هنا ، وفي مسألة الجمعتين ، ومسألة من اشتبه موتهم في التّقدم والتّأخر ، ومسألة

__________________

(١) بطل الجواهر الشيخ محمّد حسن النجفي أعلى الله مقامه الشريف المتوفي سنة ١٢٦٦ ه‍ أنظر الجواهر : ٢٥ / ٢٦٩ و ٢ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٢) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفي سنة ١٢٢٨ ه‍ ، أنظر كشف الغطاء : ٢ / ١٠٢.

١٩١

تيقّن الطّهارة والحدث وغيرها شاهد على أنّ أصالة التّأخّر إنّما تقضي بالتّأخّر على الإطلاق لا بالتّأخّر عن الآخر ومسبوقيّته به ؛ إذ وصف السّبق حادث والأصل عدمه ، فيرجع ذلك إلى الأصول المثبتة وهي منتفية ، فأصالة الرّهن هنا حينئذ بحالها ، إلّا أنّ الإنصاف عدم خلوّ ذلك عن البحث والنّظر خصوصا في المقام » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ مورد استفادة هذا المطلب منه ليس إلّا استشهاده بإطلاق كلمات الأصحاب في المسائل المذكورة حسب ما اعترف به الأستاذ العلّامة ، ولكنّه لا يخفى عليك أنّ كلامه بعد التّأمّل وإعطاء حقّ النّظر فيه كالصّريح في أنّ مقصوده نفي الآثار المترتّبة على تأخّر أحد الحادثين عن الآخر ، وأنّه إنّما استشهد بكلماتهم لذلك على ما يشهد به قوله : « إنّما تقتضي بالتّأخّر على الإطلاق لا بالتّأخّر عن الآخر » (٢) لا لنفي الآثار المترتّبة على عدم أحد الحادثين.

كيف؟ وهو سلّم اقتضاء الأصل المذكور التّأخر على الإطلاق بالمعنى الّذي عرفته منّا في المراد من أصالة التّأخّر ، هذا كلّه. مع أنّ ما نقله من الأصحاب واستشهد به إنّما يكون مبنيّا على مجرّد الاحتمال على ما يشهد به لفظة « لعلّ » سيّما بعد ملاحظة ذيل كلامه فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّه على تقدير القول بهذه المقالة لا إشكال في ظهور فساده ممّا ذكرنا وفصّلنا القول فيه.

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام : ج ٢٥ / ٢٦٩.

(٢) نفس المصدر.

١٩٢

تنبيهان

وينبغي التّنبيه على أمرين :

الأوّل : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه ، فيحكم بتقدّمه من جهة أصالة التّقدّم وتشابه الأزمان. وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقرى مجازا ، وقد عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة : أنّ هذا المعنى غير معتبر عندنا ، وأنّه لا دخل له بالاستصحاب موضوعا ، بل هو على عكس الاستصحاب كما لا يخفى.

نعم ، قد يكون تأخّره ملازما لحدوث حادث آخر قبله فبأصالة عدم حدوثه يحكم بتقدّمه.

فإن كان فيما نقول باعتبار الأصول المثبتة فيه كما في باب الألفاظ فلا إشكال في العمل عليه ، كما إذا شكّ في الوضع اللّغوي بعد العلم بالوضع العرفي ، ولكنّه لا دخل له بالاستصحاب القهقري ، بل ولا دخل له بالاستصحاب. فإنّك قد عرفت : أنّ اعتبار الأصول اللّفظيّة لا دخل له بمسألة الاستصحاب ، بل من باب بناء العقلاء عليها من جهة الظّن.

وإن كان فيما لا نقول باعتبار الأصل المثبت فيه ، فلا إشكال في عدم جواز العمل عليه.

وممّا ذكرنا كلّه تعرف النّظر فيما ذكره الأستاذ العلّامة ؛ فإنّ إثبات التقدّم بأصالة عدم وجود الحادث الآخر الّذي يكون الشّك في التّقدم مسبّبا عنه لا دخل له بالاستصحاب القهقرى كما لا يخفى.

الثّاني : أنّ ما ذكرنا كلّه من الحكم في الشّك في الحادثين إنّما هو مع قطع

١٩٣

النّظر عن الحالة السّابقة قبل العلم بهما ، أي : من حيث اقتضاء نفس الشّك في التّقدّم والتّأخر ؛ إذ هو محطّ البحث في الشّك في الحادث كما لا يخفى.

وأمّا إذا فرض وجود الحالة السّابقة هناك ـ كما فيما علم بصدور حدث وطهارة منه وشكّ في المقدّم منهما مع العلم بكون الحالة السّابقة الطّهارة أو الحدث. وكما فيما غسل الثّوب النّجس بماءين يعلم بطهارة أحدهما ونجاسة الآخر إلى غير ذلك ـ فهل يؤخذ بمقتضى الحالة السّابقة ، أو يؤخذ بخلافها وضدّها ، أو لا يؤخذ بشيء منهما ، بل يرجع إلى الأصول ، أو يفصّل بين العلم بتاريخ أحدهما والجهل بتاريخهما فيؤخذ في الأوّل بالثّاني ، وفي الثّاني بالأوّل؟ وجوه بل أقوال.

في الجملة قد يقال : بأنّ الأوجه ثاني الوجوه ؛ لأنّ مقتضى العلم بوجود الحادثين اللّذين يقتضي أحدهما رفع الحالة السّابقة العلم بارتفاعها ووجود ضدّها ، ولمّا لم يعلم تقدّمه على ما يقتضي حدوث مثل الحالة السّابقة في المحلّ القابل وتأخّره عنه ، فيشكّ من أجل هذا الشّك في ارتفاع الضدّ فيستصحب وجوده.

فإن قلت : قد ذكرت غير مرّة : أنّه يعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان المتيقّن على الزّمان المشكوك وتغاير زمانيهما ، وإن اتّحد زمان نفس الوصفين ، وهذا المعنى غير موجود في المقام ؛ لأنّ الّذي تعلّق به العلم هو وجود الضدّ إمّا قبل ما يكون على طبق الحالة السّابقة ، أو بعده ؛ لأنّ هذا المقدار هو القدر المتيقّن ، فيحتمل وجوده في نفس زمان الشّك ، فكيف يحكم مع ذلك بإجراء الاستصحاب فيه؟

قلت : لا إشكال في وجود المعنى المذكور في المقام أيضا ؛ ضرورة أنّ

١٩٤

المشكوك هو ارتفاع الضّد بعد طروّه على المحلّ ، وإلّا لكان الشّك من الشّك السّاري ، مع أنّ من المشاهد بالوجدان وجود اليقين والشّك معا ، فلو لم يتأخّر زمان المشكوك عن المتيقّن لم يمكن اجتماعهما.

والحاصل : أنّ المشكوك ارتفاع الضّد بعد حصوله قطعا ومن المعلوم بداهة أنّ زمان الارتفاع بعد زمان الوجود فتأمّل.

نعم ، لو بني على اعتبار أصالة التّأخر لزم الأخذ على طبق الحالة السّابقة فيما إذا فرض العلم بتاريخ المخالف لها وشك في مبدأ زمان الموافق لها ، فيحكم بمقتضى أصالة التّأخّر على كون زمانه مؤخّرا عن زمان المخالف ، لكن قد عرفت ما في هذا البناء.

ووجه البناء على الحالة السّابقة مطلقا هو تعارض الأصلين ، أي : أصالة عدم وجود كلّ منهما في زمان الآخر وتقدّمه عليه حتّى فيما لو كان أحدهما معلوم التّاريخ ـ بناء على التّوهم الّذي عرفته : من إجراء الأصل في طرف المعلوم أيضا ـ فيتساقطان ، فيبقى الحالة السّابقة سليمة عن الرّافع والأخذ بها سالما عن المعارض هذا وفيه ما لا يخفى.

ووجه البناء على الرّجوع إلى الأصول مطلقا : هو العلم بارتفاع الحالة السّابقة وتساقط الأصلين بعد تعارضهما وعدم جواز الأخذ بالحالة السّابقة أيضا ، لما عرفت في السّؤال الّذي أوردناه على المختار ، فيلزمه الرّجوع إلى سائر الأصول. وفيه أيضا ما لا يخفى ، ووجه التّفصيل مع جوابه أيضا ممّا لا خفاء فيه.

(٢٥٦) قوله : ( نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين حكم بطهارته من باب انغسال

١٩٥

الثّوب بماءين مشتبهين ). ( ج ٣ / ٢٤٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الحكم بالطّهارة في الفرض من جهة حصول العلم بها على كلّ تقدير ، ولا تعلّق له بغسل الثّوب النّجس بماءين مشتبهين بالنّجس الّذي وقع فيه الخلاف المعروف ، ويجري فيه الوجوه والأقوال الّتي عرفت الإشارة إليها في كلامنا أخيرا في طيّ الأمر الثّاني. وتنزيل الكلام على انغسال الثّوب بماءين مشتبهين بالمضاف لا تساعده العبارة ونظائرها ؛ فإنّ حقّ التّعبير على تقدير إرادة ما ذكر في التّوجيه أن يقال ـ بدل القول المذكور ـ : نظير الغسل بالمشتبهين بالمضاف ونحو ذلك ، ممّا يرجع إلى تشبيه المقام بالمشتبهين بالمضاف ، لا جعله من بابه. فالتّعبير بما ذكر قرينة واضحة على إرادة المشتبهين بالنّجس كما لا يخفى.

والقول : بأنّ الغرض جعل الفرض من أمثلة انغسال الثّوب النّجس بالماءين المشتبهين بالنّجس مع عدم فرض نجاسة الماء في الفرض أصلا من حيث العلم بزوال النّجاسة الأوّلية من الثّوب وإن كانت الطّهارة الفعليّة مشكوكة ، ممّا يضحك به الثّكلى كما لا يخفى ، فالاعتراف بكونه سهوا من قلمه الشّريف أولى من هذه التّوجيهات الباردة المضحكة.

١٩٦

* التنبيه الثامن :

في استصحاب صحّة العبادة عند الشك في طروّ المفسد (١)

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« انه قد اشتهر التمسّك باستصحاب الصحّة عند الشك في طروّ المفسد بين الأساطين كالشيخ والحلّي والمحقق والعلّامة قدس‌سرهم.

ولا ريب في انه من أظهر مجاري هذا الأصل ؛ فإنّ طروّ الفساد على العمل مما لا إشكال في إمكانه ، وعليه يبتني حرمة الإبطال التي لا مورد لها إلّا أثناء العمل ، والصحّة ضدّ الفساد ، ولا فرق بين استصحاب عدم طروّ المفسد وبين استصحاب الصحّة.

وما وقعت من الوسوسة في هذا الأصل لا يصغى إليها ومنشأها : ما اشتهر : من أنّ الصحّة إمّا موافقة الأمر ، وإمّا ترتّب الأثر.

أمّا الأوّل : فإن كان بالنّظر إلى ما تعلّق بالمجموع فلم يتحقّق وبعد تحقّقه يستحيل زواله ، وإن كان بالنّظر إلى الأمر المتعلّق بالأجزاء فيستحيل أن تخرج عمّا وقعت عليه.

أمّا الثاني : فكون الجزء بحيث يلتئم منه الكلّ بانضمام سائر الأجزاء لا ينفع إذا كان الشك في اعتبار شيء وجودا أو عدما في المركّب ، ولا مناص عن نفي اعتباره بأصالة العدم أو أصالة البراءة.

وبالجملة : تحقّق المركّب وفراغ الذمّة من التكليف به ليس من آثار صحّة الأجزاء المحقّقة ؛ فإنّها أعمّ.

وتندفع : بانه لا إشكال في خروج الأجزاء عن الصلوح للإنضمام من جهة طروّ المفسد ، ولا إشكال في ان هذه الجهة طارية يعوّل على الأصل في الحكم بعدمها » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٧٨.

١٩٧

(٢٥٧) قوله ( دام ظلّه ) : ( قد يستصحب صحّة العبادة عند الشّك في طروّ مفسد كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة أو وجود ما يشكّ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٥٥ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« إعلم أوّلا : ان الكلام هنا ممحّض في صحّة إجراء استصحاب الصحّة مع الإغماض عن الأصول الأخر لو كانت جارية كالبراءة وقاعدة التجاوز ونحوها.

فنقول : قد يقال : إنّ الفعل المركّب المأمور به لا يتصف بوصفف الصحة الّا بعد كمالها تام الأجزاء والشرائط وفي أثناء العمل لا يتصف بصحة ولا فساد ، وهذا الاحتمال بعيد في الغاية ، لأن الامتثال وموافقة الأمر يحصل بالشروع في المركّب شيئا فشيئا إلى أن ، يتمّه بشهادة العقل والعرف.

وقد يقال : إنّ وصف الصحة يعرض لأجزاء المركّب من أوّل الشروع فيه شيئا فشيئا إلّا أنه لا يعلم به بعد تمام العمل ، لأنّ صحّة كلّ جزء مشروطة بانضمام باقي الأجزاء صحيحا إليه ، وحيث إنّه لا يعلم المكلّف بذلك لا يمكنه الحكم باتصاف أجزاء العمل بالصحة إلّا بعد تمامه.

وقد يقال : إنّ كل جزء يوجد يتصف بالصحة في حدّ نفسه من غير توقّف على وجود الأجزاء التالية.

ولا يخفى أنه لا وجه لدعوى جريان استصحاب الصحة في اثناء العمل على الاحتمال الأوّل ، لأنّ وصف الصحة قبل تمام العمل مقطوع العدم على هذا الاحتمال ، وكذا على الإحتمال الثاني لفرض عدم تحقق اليقين بالصحة إلّا بعد تمام العمل فلا متيقن في اثناء العمل حتى يمكن استصحابه ، فانحصر صحة دعوى جريان الاستصحاب في الاحتمال الثالث لأنه بوجود كل جزء نحكم بوصفه بالصحة واقعا بالفرض ، ويمكن أن يشك في الصحة فيما بعده ونقول فيه إنّ المفسد المحتمل قد يكون إفساده بمعنى أنّه مانع عن صحّة الأجزاء

١٩٨

أقول : التمسّك باستصحاب الصّحة قد يكون في الشّك في المانعيّة وجودا أو منعا ، وقد يكون في الشّك في القاطعيّة وجودا أو قطعا ، وقد يكون في الشّك في الجزئية والشّرطيّة ، وقد يكون في الشّك في الرّكنيّة بعد ثبوت أصل الجزئيّة في

__________________

الباقية كما يظهر من المتن ، وقد يكون بمعنى أنه مزيل لوصف الصحة عن الأجزاء الماضية ، وقد يكون بمعنى أنّه مزيل لصحة الأجزاء الماضية مانع عن صحّة الأجزاء التالية ، فإن كان الثاني فلا مانع من جريان استصحاب الصحة عند الشك فيها لفقد ما يشك في شرطيته أو وجود ما يشك في ما نعيته ، وإن كان الأوّل فلا معنى لاستصحاب الصحة عند الشك للعلم بصحة الأجزاء الماضية ، وإنما الشك في وجود الصحة بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة ، فليس هناك شيء يمكن استصحابه كما بيّنه في المتن.

وأمّا على الثالث ، فإنه وإن أمكن إجراء استصحاب الصحّة أعنى صحة الأجزاء السابقة إلّا أنه لا يفيد بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة للزوم إحراز صحتها أيضا وهي مشكوكة من الأصل.

والحاصل : أنه يمكن إجراء استصحاب الصحة على بعض الوجوه ، فيمكن حمل كلام من تمسك به على ذلك الوجه.

لكن الإنصاف عدم جريانه لما عرفت من انحصار مورد جريانه بما إذا شك في الفساد بالمعنى الثاني ، ولا نعلم له مصداقا في الشرعيّات في الصوم والصلاة والحج ونحوها ، إذ ما علم لنا من مفسداتها أو شك فيه مردّد بين كونه مفسدا للسابق فقط أو اللاحق فقط أو هما معا ، والاستصحاب لا يجري إلّا إذا علمنا بأنه من القسم الأول ولم نعلم به.

ثم لا يخفي أنّ الحق من الوجوه الثلاثة المتقدمة لاتصاف العمل بوصف الصحة هو الوجه الثاني ، لأنّ الكلام في المركّب الارتباطي ، ولا معنى للارتباط سوى توقّف صحّة كلّ جزء منه على وجود الآخر وصحته ، وقد عرفت أنه لا معنى لاستصحاب الصحة على ذلك الوجه ، وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ المصنّف في اختياره عدم جريان استصحاب الصحة بنى الأمر على الوجه الأوّل من الاحتمال الثالث بدعوى عدم معقوليّة الوجهين الآخرين » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٩٥ ـ ٢٩٧.

١٩٩

الشّريعة في الجملة.

وذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : أنّ المعروف بين الأصحاب سيّما القدماء هو التّمسك بالأصل المذكور في الشّك في المانع والقاطع سواء كان في الشّبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ، وأمّا التمسّك به في سائر الموارد ؛ فإنّما يوجد في كلام من تأخّر منهم سيّما في الشّك في أصل الجزئيّة والشّرطية ، ولكن الّذي يظهر منهم : هو التّمسك به في الشّبهة الحكميّة لا الموضوعيّة ؛ إذ هو ممّا لا معنى له كما لا يخفى.

ثمّ طريق التمسّك به في غير الشّك في الجزئية والشّرطيّة وكيفيّة الاستدلال به ظاهر ، وأمّا كيفيّة التّمسك به في الشّك في الجزئية فهي : بأن يفرض دخول المكلّف فيما بعد المشكوك من الأجزاء المعلومة غفلة عن المشكوك ، ثمّ بعد الدّخول فيما بعده التفت إلى الحال ، فيحكم هنا باستصحاب الصّحة وعدم جزئيّة المشكوك ويلحق صورة الالتفات به بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

والوجه في كون كيفيّة التمسّك به ما ذكرنا هو : أنّه لا معنى للتمسّك به في صورة الالتفات ؛ إذ قبل دخوله فيما بعد المشكوك لا يتحقّق مورد للتمسك بالأصل المذكور للقطع ببقاء الصّحة ، وبعد الدّخول فيه يقطع بفساد صلاته : من جهة عدم تمكّنه من إحراز الأمر بالنّسبة إلى الجزء الدّاخل فيه والحال هذه ، فتدبّر.

ثمّ إنّ حكم غير الشّك في القاطعيّة لمّا كان حكم الشّك في المانعيّة فبالحريّ أن نحرّر البحث في مقامين :

أحدهما : في حكم الشّك في المانعيّة وما يشاركه في الحكم.

ثانيهما : في حكم الشّك في القاطعيّة والمبطليّة ، مقدّما للبحث عن الفرق بين المانع والقاطع مفهوما على البحث عن الحكم فيهما ، فنقول :

٢٠٠