بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٧

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-350-7
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٦٣

المراد من المانع هو ما يمنع بوجوده عن تحقّق أصل ماهيّة العبادة من غير أن يكون له مدخل بخصوص جزء من الأجزاء فيكون عدمه معتبرا في الماهيّة كاعتبار وجود الأجزاء والشّرائط فيها بمعنى كونه في عرضها.

وأمّا المراد بالقاطع فهو ما يمنع بوجوده عن الهيئة الاتصاليّة المعتبرة بين الأجزاء عند الشارع ، ويقطع الأجزاء بعضها عن بعض ، ويرفع قابليّة اتّصال كلّ منها بالآخر ؛ فإنّا علمنا من إطلاق الشارع على بعض الأشياء بالقاطع ، والمبطل ، والنّاقض : أنّ للعبادة هيئة اتّصاليّة في نظر الشارع لا يعلم حقيقتها غيره يرفعها بعض الأشياء وإن كان قليلا كالتّكلّم ولو بحرف ، وشرب الماء ولو بقطرة ، ولا يرفعها بعض آخر وإن كان في نظرنا أولى بالرّفع من غيره الرّافع كالتّجشّؤ ، فإذن يمكن الشّك في اتّصاف بعض الأشياء بهذا المعنى.

وإن شئت قلت : في بيان الفرق بينهما : إنّ المانع ما له تأثير في أصل المادّة ، ولهذا يكون عدمه معتبرا فيها. والقاطع ما له تأثير في الصّورة ، أي : الجزء الصّوري. أعني : الاتّصال المعتبر في نظر الشّارع بين كلّ جزء ولا حقه بحيث يكون له مدخل في أصل قابليّة الأجزاء للجزئية والتّركيب وحصول الكلّ من اجتماعها. هذا مجمل الفرق بينهما بحسب المفهوم ، وأمّا تشخيص المصداق فهو بنظر الفقيه والرّجوع إلى الأدلّة كما هو واضح.

٢٠١

حكم الشك في المانعيّة (١)

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه وعدم تعقّله سواء جعل المستصحب صحّة المجموع ، أو الأجزاء السّابقة.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ لأنّ المفروض عدم حصول الكلّ قطعا ، فكيف يستصحب صحّته؟

والحاصل : أنّ مفروض البحث وقوع الشّك في أثناء العمل ، فمعه لا يعقل وجود الكلّ حتّى يستصحب صحّته ، هذا إن أريد بالصّحة المستصحبة الصّحة المنجّزة ، وإن أريد بها الصّحة التّقديريّة بأن يقال : قبل وجود هذا المشكوك لو أتي بمجموع الأجزاء والشّرائط كان موجبا لامتثال الأمر المتعلّق بالمركّب ، والأصل بقاؤه ، فكذلك أيضا قبل الإتيان بالمجموع ؛ لأنّ المفروض الشّك في اعتبار المشكوك في أصل الماهيّة ، فكيف يمكن مع هذا فرض صحّة للباقي؟

وبالجملة : إجراء الاستصحاب في الكلّ في الفرض ممّا لا يعقل له معنى ولم يدّعه أحد أيضا.

وأمّا الثّاني : فللقطع ببقاء صحّة الأجزاء السّابقة ولو مع ترك ما يقطع بجزئيّته ، أو فعل ما يقطع بمانعيّته فضلا عن المقام ؛ لأنّ المراد من صحّة الأجزاء السّابقة إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها من حيث إنّها جزء للمركّب المأمور به ، أو ترتيب الأثر عليها. وعلى أيّ من المعنيين لا معنى لإجراء الاستصحاب فيها.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

٢٠٢

أمّا على الأوّل : فلأنّ المفروض وقوع الأجزاء السّابقة على طبق الأمر بها ، وعدم مدخليّة وجود سائر ما يعتبر في العبادة في المعنى المذكور ؛ لأنّ وقوع كلّ جزء على طبق الأمر المتعلّق به لا يتوقّف على وجود غيره ممّا يعتبر في تحقّق الكلّ ، وإلّا لزم كونه كلّا وخروجه عن الجزئيّة ، وهو خلف.

فلا يعقل بعد فرض الموافقة صيرورتها مخالفة للأمر المتعلّق بها لاستحالة انقلاب الشّيء عمّا وقع عليه ـ حسب ما هو قضيّة العقل على سبيل البداهة ـ هذا. مع أنّه لو فرض احتمال مدخليّة المشكوك في وقوع الواقع على طبق الأمر المتعلّق به لم يعقل مع الاستصحاب أيضا ؛ لتعلّق الشّك حينئذ بنفس الحالة السّابقة وسرايته إليها فإذن لا بدّ لمن يريد الاستصحاب أن يحرز عدم اعتبار المشكوك في وقوع الأجزاء السّابقة على طبق الأمر المتعلّق بها كما لا يخفى.

وأمّا على الثّاني : فلأنّ الأثر المقصود من الجزء من حيث إنّه جزء ليس إلّا كونه بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في تحقّق الكلّ لتحقّق الكلّ ، كما أنّ فساده كونه بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في الكلّ لم يتحقّق الكلّ. فإذا قرأ المكلّف الحمد في الصّلاة على الوجه المقرّر في الشّريعة : من مراعاة القراءة وغيرها ممّا يعتبر فيها ، فهو حينئذ بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في الصّلاة لحقّقت الصّلاة ووجدت في الخارج سواء وجد بعده تمام ما يعتبر في تمام الصّلاة أو لا ؛ ضرورة عدم توقّف صدق الشّرطيّة على الشّرط. وإذا قرأه غير مراع لما اعتبر فيه فهو ليس بهذه المثابة وهكذا الأمر في غيره من الأجزاء.

وما ذكرنا في معنى الصّحة على التّقدير الثّاني ممّا لا شبهة فيه ؛ لأنّه لا يعقل أن يقال : إنّ أثر الجزء من حيث إنّه جزء تحقّق الكلّ به وإلّا لزم الخلف كما لا

٢٠٣

يخفى ، وهو محال. فإذا وجد الجزء بالصّفة المذكورة فلا يعقل أن يصير ترك جزء آخر ، أو وجود المانع من أصل العمل سببا لرفع الصّفة المذكورة عنه ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ صحّة الجزء بالمعنى المذكور مرجعها إلى قضيّة شرطيّة لا ينافي صدقها مع القطع بكذب الشّرط ، فإذا كان هذا حال ما يقطع بجزئيّته ومانعيّته ، فكيف بحال المشكوك؟ هذا.

مع أنّه لو فرض احتمال مدخليّة المشكوك في ترتّب الأثر على الجزء بمعنى كونه مشروطا به لسرى الشّك اللّاحق إلى أصل المتيقّن على ما عرفت.

فإن قلت : من معاني الصّحة إسقاط الإعادة وهو ممّا يقبل الاستصحاب ، وإلّا لزم عدم إعادة الأجزاء السّابقة في صورة ترك الجزء عمدا أو إيجاد المانع كذلك وهو خلاف الإجماع ، بل الضّرورة ، فإذا شكّ في مانعيّة شيء فيستصحب هذا المعنى.

قلت : الصّحة بهذا المعنى من لوازم الصّحة بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ موافقة الجزء للأمر المتعلّق به يلزمها سقوطه ؛ ضرورة اقتضاء كلّ أمر للأجزاء بالنّسبة إليه ، فإعادة الأجزاء لا يمكن أن يستند إليها بعد فرض تحقّقها على وجهها.

نعم ، قد يجب إعادتها من جهة وجود القاطع لها حسب ما ستقف عليه في المقام الثّاني.

فإن قلت : بناء على ما ذكرت يلزم عدم عروض البطلان للأجزاء السّابقة بعد فرض وجودها على الوجه المطلوب أصلا إلى يوم القيامة ، مع أنّ من المعروف في النّص والفتوى إطلاق المبطل على كثير من الأمور ، ولا يمكن أن يعتبر نسبة البطلان إلى الصّلاة حيث إنّ المفروض عدم وجودها.

٢٠٤

قلت : نلتزم بذلك فيما لا يكون البطلان من جهة وجود القاطع الرّافع للاتّصال المعتبر عند الشارع بين الأجزاء ، ومعنى بطلان الأجزاء السّابقة هو : عدم حصول الكلّ على تقدير انضمام سائر الأجزاء إليها من جهة عدم انضمام تمام ما يعتبر فيه إليها ، فليس النّقض من جهتها بل من جهة غيرها ، فنسبة البطلان إليها حقيقة مبنيّة على التّسامح. وأمّا إعادتها حينئذ فإنّما هي من جهة حصول قدح في أصل المادّة : من جهة وجود المانع الّذي اعتبر عدمه فيها فتدبّر.

هذا مجمل القول بالنّسبة إلى المقام الأوّل.

استصحاب الصحّة عند الشك في القاطعيّة

وأمّا الكلام في المقام الثّاني ، فالّذي بنى عليه الأستاذ العلّامة في « الكتاب » وفي مجلس البحث هو جريان الاستصحاب فيه واعتباره ؛ لأنّ المفروض أنّ القاطع بوجوده يمنع من وجود الهيئة المعتبرة في أصل قابليّة الجزء للجزئيّة ، فهو بوجوده يرفع القابليّة المفروضة للأجزاء القائمة بها المعتبر تحقّقها في صحّة الجزء ، فمع الشّك في وجوده يشكّ في ارتفاع القابليّة والهيئة فيبنى على بقاء القابليّة : إمّا من جهة استصحابها ، أو استصحاب الهيئة ، أو استصحاب عدم الرّافع لها.

والحاصل : أنّه لمّا كان بمقتضى الفرض اعتبار عدم القاطع في بقاء صحّة الأجزاء السّابقة على حالها من جهة اعتبار أمر فيها يلزمه رفعه ، نظير ما إذا اعتبر في قابليّة الخلّ لصيرورته جزءا للسّكنجبين وتحقّقه به كونه على صفة يرفعها بعض الأشياء إذا ألقي في الخلّ بعد فرض وجودها على الصّفة المعتبرة ، فإذا شكّ

٢٠٥

في وجوده فلا محالة يقع الشّك في بقاء صحّة الأجزاء السّابقة ، فالشّك في تحقّق الكلّ حينئذ ليس من جهة الشّك في انضمام تمام ما يعتبر إليها ، بل من جهة الشّك الرّاجع إليها ؛ لأنّ المفروض عدم اعتبار عدم القاطع في أصل المادّة ، بل اعتباره في تحقّق الاتّصال المعتبر في الأجزاء ، فهو وإن كان معتبرا في الماهيّة أيضا ، إلّا أنّ اعتباره فيها من جهة قدحه في الجزء الصّوري المعتبر بين الأجزاء ، فاعتباره فيها إنّما هو بالعرض لا بالذّات.

وبالجملة : مقتضى الفرض في المقام رفع الصّحة للأجزاء السّابقة بوجود القاطع من جهة اعتبار عدمه في وصف معتبر في الجزء ، ومقتضى الفرض في المقام الأوّل عدم قدح الموجود أو المعدوم في صحّة الأجزاء.

فإن قلت : مقتضى ما ذكرت : من البيان سريان الشّك في القاطع إلى الشّك في أصل المتيقّن ؛ حيث إنّ المفروض اعتبار عدم القاطع في أصل صحّة الأجزاء ، ومع هذا المعنى لا يجري الاستصحاب على ما اعترفت به غير مرّة.

قلت : مقتضى ما ذكرنا قدح القاطع في الأجزاء السّابقة بمعنى رفعه لصحّتها وقابليّة انضمامها لسائر الأجزاء بعد فرض وجودها على تلك القابليّة من أوّل الأمر ، فالاتّصال المعتبر في نظر الشارع بين الأجزاء ليس معتبرا في أصل صحّتها بل في بقائها على حالها فتأمّل.

فإن قلت : كيف تستصحب الهيئة الاتّصاليّة مع أنّها قائمة بالطّرفين والمفروض عدم وجود أحدهما؟ والقابليّة وإن كانت قائمة بكلّ من الطّرفين إلّا أنّ استصحابها غير مجد أيضا ؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه ؛ لأنّ المقصود من استصحابها هو إثبات بقائها على الوجه الّذي كان عليه من تحقّق الكلّ به على

٢٠٦

تقدير انضمام تمام ما يعتبر فيه إليه.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى ليس من الأمور الشّرعيّة.

ومنه يظهر فساد استصحاب عدم القاطع ، بل هو أشدّ فسادا ؛ لأنّ المقصود منه إثبات القابليّة المترتّب عليها تحقّق الكلّ فالاستصحابات المذكورة بأسرها غير جارية : إمّا من جهة عدم المتيقّن السّابق كما في استصحاب الهيئة ، أو من جهة عدم الأثر الشّرعي كما في الأخيرين هذا. مع أنّه لو فرض جريان الأوّلين أو الثّاني لم يكن معنى لاستصحابها ؛ لأنّ الشّك فيها مسبّب عن الشّك في وجود القاطع ، كما أنّ الشّك في الثّاني مسبّب عن الشّك في الأوّل أيضا كما لا يخفى.

قلت : أمّا الهيئة : فهي وإن كانت قائمة بالطّرفين ولا يجوز استصحابها بناء على الدّقة ؛ لعدم وجودها قبل تحقّق الجزء اللّاحق ، لفرض كونها أمرا نسبيّا قائما بالجزءين ، إلّا أن المكلّف لمّا كان عازما على إيجاد الأجزاء اللّاحقة فكأنّها موجودة فعلا بحكم العرف وتنزيله ، فيكون الأمر القائم بها أيضا موجودة بهذه الملاحظة ، فالهيئة وإن لم تكن متيقّن الوجود سابقا بالنّظر إلى الدّقة ، إلّا أنّها متيقّن الوجود بحكم العرف ، وهذا المقدار يكفي في إجراء الاستصحاب ، كما في نظائر المقام مثل استصحاب الكريّة ، والقلّة ، واستصحاب الزّمان ، ونحوها من الاستصحابات المسلّمة بين المثبتين.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرت يلزمك القول بجريان استصحاب الصّحة في المقام الأوّل أيضا ؛ فإنّ وجود المانع وترك الجزء وإن لم يرفعا صحّة الأجزاء السّابقة حقيقة إلّا أنّهما يرفعانها بحكم العرف من باب المسامحة ، ولذا يحكمون ببطلان الأجزاء السّابقة عند وجود المانع في الأثناء على ما اعترفت به ، فإذا شكّ ٣ / ١٤٧

٢٠٧

في وجود المانع ، فيشكّ في بقاء الصّحة للأجزاء السّابقة عرفا وإن لم يكن ذلك ثابتا على الحقيقة ، إلّا أنّ المدار ليس عليها بمقتضى الفرض ، ولا فرق عند التّحقيق في اعتبار المسامحة العرفيّة بين مسامحتهم في المتيقّن وبين مسامحتهم في صدق الشّك.

لأنّا نقول : لا معنى للحكم باعتبار المسامحة العرفيّة في صدق الشّك على فرض تسليم وجودها ، مع أنّه ممّا لا معنى له ؛ إذ لم يقم برهان على اعتبار المسامحة العرفية مطلقا. والقول باعتبارها في بعض الأشياء لا يلزم القول به في غيره فتأمّل ، هذا كلّه. مضافا إلى ما عرفت سابقا : أنّ صحّة الأجزاء السّابقة في صورة القطع بها لا تنفع في تحقّق الكلّ ووجود جميع ما يعتبر ، فكيف بوجودها الاستصحابي؟

وأمّا القابليّة فهي وإن لم يكن من الأمور الشّرعيّة ولا ممّا ترتّب عليه الحكم الشّرعي بلا توسيط ، إلّا أنّ الواسطة في المقام من الوسائط الخفيّة الملقاة في نظر العرف ؛ فإنّ المقصود من بقاء القابليّة عندهم ليس إلّا عدم وجوب الاستئناف وسقوطه بحكم الشارع.

كما أنّ المقصود من عدم بقائها هو وجوب استئناف العمل ، فعدم الالتزام ببقاء القابليّة نقض لعدم وجوب الاستئناف وسقوط الإعادة ، كما أن الحكم بعدم وجوب الاستئناف وسقوط الإعادة التزام ببقاء القابليّة.

ومنه يظهر الجواب عن الإيراد على استصحاب عدم القاطع ؛ فإنّ معنى الحكم بوجوده ليس إلّا الحكم بوجوب الاستئناف ، كما أنّ المقصود من الحكم بعدم وجوده ليس إلّا عدم وجوب الاستئناف هذا.

٢٠٨

ولكنّ التّحقيق : أنّ استصحاب عدم القاطع غير جار في المقام لاحتياجه إلى توسيط إثبات القابليّة المترتّب عليها الحكم الشّرعي بواسطة ، ومثل هذا ليس موردا للاستصحاب قطعا ؛ لعدم جريان ما ذكرنا من الميزان فيه.

ومنه ينقدح فساد ما ذكر أخيرا : من أنّ قضيّة تسبّب الشّك في القابليّة والهيئة عن الشّك في وجود القاطع هو عدم جريان الاستصحاب فيهما ؛ فإنّك قد عرفت غير مرّة : أنّ مع جريان الأصل في الشّك السّببي لا يجوز الرّجوع إلى الأصل في الشّك المسبّب. وأمّا مع عدم جريان الأصل فيه ، فلا مانع من الرّجوع إلى الأصل فيه. هذا محصّل ما قرّره الأستاذ العلّامة مع توضيح وتنقيح منّي.

ولكن الإنصاف عدم خلوّه مع ذلك كلّه عن النّظر ؛ لأنّ وجوب الإعادة والاستئناف على تقدير تسليم كون الواسطة خفيّة ليس من الأحكام الشّرعيّة لعدم موافقة المأتي به للمأمور به ، بل من الأحكام العقليّة له. وعلى تقدير تسليم كونه من الأحكام الشّرعيّة لا يكون عدمه من الأحكام الشّرعيّة قطعا ، إلّا أن يرجع الحكم بعدمه إلى جعل حكم شرعيّ آخر فتدبّر.

هذا بعض الكلام في المقام. وقد ذكرنا جملة من الكلام فيه أيضا في الجزء الثّاني من التّعليقة فراجع إليه.

ثمّ إنّ هنا طرق أخر لإثبات صحّة العمل عند الشّك في فساده في المقامين قد أشرنا إليها أيضا في الجزء الثّاني من التّعليقة :

أحدها : قوله تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (١) وفيه : ما عرفت ثمّة من منع

__________________

(١) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٣٣.

٢٠٩

دلالة الآية على حكم المقام بعد فرض دلالتها على الحرمة في صورة الإبطال اليقيني ؛ لاحتمال حصول البطلان بمجرّد وجود الموجود في الأثناء ، أو عدم المعدوم.

ثانيها : استصحاب حرمة القطع. وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّ المفروض الشّك في صدق القطع والإبطال ، وإلّا لوجب الحكم بها بمقتضى الآية ، فلا معنى للرّجوع إلى الاستصحاب أيضا.

ثالثها : استصحاب وجوب الإتمام ، ويعلم حاله ممّا ذكرنا في سابقه.

(٢٥٨) قوله : ( وكذا التّمسّك بما عداها ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٥٨ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه لم يسبق من الأستاذ العلّامة في أصالة البراءة التّمسك بما عدا الآية الشّريفة في مسألتنا هذه وإن سبق منه الاستدلال بها في غير المقام.

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« أقول : يحتمل أن يكون مراده رحمه‌الله من تلك العمومات إمّا عموم مثل حديث « لا تعاد » أو عموم أدلة التكاليف بناء على مذهب الأعمّي » إنتهى. أنظر القلائد : ٢ / ٣٥١.

٢١٠

* التنبيه التاسع :

عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقاديّة (١)

__________________

(١) قال الأصولي المؤسس الفاضل الطهراني قدس‌سره :

« انه لا فرق في موارد جريان الأصل بين ان يكون موضوعا أو حكما فرعيّا أو أصوليّا ؛ حيث انّ الواجب في الأصول هو الاعتقاد بمعنى عقد القلب والإلتزام وهذا ممّا يمكن ثبوته حال الشك ، بل هذا أظهر موارد الإستصحاب ؛ حيث إن الشك في النسخ مما قامت الضرورة على جريان الإستصحاب فيه ، فهل يمكن الرّيب في انّ الأمم السابقة حيث كانوا يحتملون نسخ أديانهم كان عليهم الإلتزام بما إلتزموا به إلى أن يثبت الخلاف ، وهل يجوّز ذو مسكة جواز الإعراض عن الدّين الثابت بمجرّد احتمال النّسخ؟ كلّا ثمّ كلّا.

وكشف السّر : أنّ الواجب في الأصول أمران :

الأوّل : الإلتزام المعبّر عنه بالإسلام.

والثاني : المعرفة والعلم المعبّر عنه بالإيمان. قال الله تعالى : قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [ الحجرات : ١٤ ].

ومن المعلوم انّ الذي يحصل لضرب السّيف إنّما هو السّلم والتمكين ، وبالضرورة كانوا يكشفون بذلك مع العلم بانّ الذي أقرّ بالشهادتين خوفا إنّما أذعن واعترف وصدّق لا عن علم ، وإلى انّ هذا المقدار يكتفي به اشار قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [ النساء : ٩٤ ].

نعم ، الذي يوجب النجاة في النشأة الأخرى والفوز بالدرجات إنّما هو الإيمان ، قال الله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ الذاريات : ٥٦ ].

وفي اخبار اهل بيت الوحي عليهم‌السلام أي : ليعرفون ، والمراد : أنّ الدخول في زيّ العبوديّة

٢١١

(٢٥٩) قوله : ( لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة أو اللّغويّة أو الأحكام الشّرعيّة ) (١). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

__________________

وصيرورة الشخص عبدا له مرتبتان :

الأولى : مجرّد التمكين واتخاذه مولى له وهو الإسلام كما هو المناط في كون الشخص رعيّة للسلطان ، وهذا المعنى يحصل بالبيعة.

الثاني : العلم بانه مستحق لذلك وأنّه أهل له وهذا هو الإيمان ، فالمسلم عبد ربّه في المرتبة الأولى والمؤمن بايمانه عبده في الثانية فترقّى إلى تلك الدرجة.

إلى أن قال :

وإلى ما حقّقناه ينظر تعريف الأصول بما يتعلّق بالإعتقاد والفروع بما يتعلّق بالعمل بلا واسطة يعني أنّ المطلوب في الأصول أوّلا إنّما هو الإعتقاد بخلاف الفروع ، فالإعتقاد يطلق في قبال العمل ، وإن كان هو أيضا عملا قلبيّا إختياريا يتعلّق به التكليف.

إلى أن قال :

والمقصود دفع توهّم : انّ ما كان من أصول الدين لا يمكن استصحابه عند الشك في ارتفاعه بالنسخ » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان الإستصحاب في باب اللغات ليس من باب التعبّد ولو كان كذلك في سائر الأبواب ، ولذا كان المثبت منه حجة بلا ارتياب ، بل كان من باب بناء العقلاء وأهل المحاورات عليه ، مع احتمال أن يكون الحجيّة ، لا من باب الاستصحاب بملاحظة الحالة السّابقة في الباب ، بل قاعدة بنوا عليها لدى الشكّ على ما قدّمناه فيما علّقناه على مباحث الظّنّ قديما وحديثا ، فراجع » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٦٨.

٢١٢

بعد إحراز موضوع الإستصحاب لا يفرّق بين أن يكون المستصحب

من الأحكام أو الموضوعات

أقول : لا إشكال بل لا يعقل الإشكال في عدم خصوصيّة للمستصحب في إجراء الاستصحاب في موارد تحقّق موضعه ومحلّه ، سواء قلنا باعتباره من باب الأخبار ، أو الظّن. وهو ما لو وجد هناك يقين وشكّ ، وكان المستصحب ممّا يترتّب على وجوده الواقعي حكم شرعي لا على العلم به ـ إذا لم يعلم كون أخذ العلم من باب الطّريقيّة ؛ فإنّ معروض الحكم حينئذ نفس الواقع أيضا كما لا يخفى ، ولم يكن ممّا يتوقّف الأخبار على ثبوته كمسألة النّبوّة ، ولا ممّا دلّ دليل على عدم حجيّة الظّن فيه كالموضوعات والعقائد من الأحكام الشّرعيّة ؛ فإنّه إذا كان منه لا يحتاج استصحابه إلى ترتّب أثر شرعيّ آخر عليه ، سواء كان التّرتّب بلا واسطة ، أو بواسطة في الجملة ، أو مطلقا على الاختلاف الّذي عرفت تفصيل القول فيه بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ـ فإنّه كيف يعقل الفرق في قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشّك » بين موارد وجود ما ذكرنا من المناط ، مع عدم الإشارة فيه إلى مورد مخصوص؟ وكذا بناء على القول باعتباره من باب الظّن ، فكلّ مورد يمنع فيه من اعتبار الاستصحاب ، فلا بدّ من أن يرجع إلى المنع عن تحقّق ما ذكرنا من المناط.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجود هذا المناط في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الشّرعيّة العمليّة سواء كانت أصوليّة ، أو فروعيّة في الجملة. وأمّا

٢١٣

الموضوعات اللّغوية والمستنبطة ، فلا إشكال في عدم وجود المناط المذكور فيها بناء على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة ، كما لا يخفى.

ومنه يظهر التّأمّل فيما ذكره الأستاذ العلّامة إلّا أنّك قد عرفت : عدم ابتناء الأصل في باب الألفاظ على التعبّد سواء جرى في الوضع أو المراد ، اللهمّ إلّا إذا ٣ / ١٤٨ فرض حكم شرعيّ مترتّب على بقاء الموضوع اللّغوي بلا واسطة إنّما الكلام والإشكال في المقام كلّه في الأحكام الشّرعيّة الاعتقاديّة.

والكلام فيها يقع :

تارة : في استصحاب نفس وجوب الاعتقاد الّذي يكون هو المراد من الحكم الشّرعي الاعتقادي ، والمقصود بالإثبات من الكلام في الاستصحاب في العقائد.

وأخرى : في متعلّق الاعتقاد كالنّبوّة والإمامة مثلا.

وثالثة : في الأحكام المترتّبة عليهما.

وأمّا استصحاب نفس الاعتقاد فلا يعقل له معنى سواء جعلناه مرادفا لليقين ، أو من عوارضه ، أو من الأفعال الاختياريّة الّتي يمكن وجودها مع فرض الشّك وعدم اليقين أيضا كما لا يخفى.

فالبحث يقع في مواضع ثلاثة : أحدها : في جريان الاستصحاب في وجوب الاعتقاد وعدمه. ثانيها : في جريانه في متعلّق الاعتقاد ، أي : المعتقد. ثالثها : في جريانه في الأحكام المترتّبة على المعتقد.

أمّا الكلام في الموضع الأوّل ، فتوضيح القول فيه يتوقّف على تقديم مقدّمة دقيقة شريفة وهي :

٢١٤

أنّ الاعتقاد بشيء هل هو عين اليقين به واليقين به عين الاعتقاد به ـ بمعنى كونهما عبارة عن معنى واحد وهو التّصديق القلبي فيكون كفر المتيقّن بالعقائد حينئذ بالجحود الظّاهري أو عدم الالتزام الظّاهري ؛ حيث إنّ الإسلام ليس مجرّد الاعتقاد بحسب الباطن بل هو مع الإقرار والالتزام بالمعتقد بحسب الظّاهر فيكون وجوب الاعتقاد حينئذ بمعنى وجوب تحصيله ؛ حيث إنّ نفس اليقين ليس اختياريّا إلّا بالاعتبار المذكور فتدبّر ـ أو غيره ـ وكونه فعلا إختياريّا من أفعال القلب بحيث يكون للمكلّف إيجاده في صورة اليقين بشيء وعدم إيجاده ـ وعلى تقدير كونه غيره ، هل يمكن وجوده في غير موضع اليقين وفي صورة الشّك ، أو يختصّ موضوعه بصورة اليقين؟

فلا بدّ من البحث في موضعين :

أحدهما : في تغاير اليقين والاعتقاد.

ثانيهما : في اختصاص موضوع الاعتقاد باليقين على تقدير التّغاير.

أمّا الكلام في الموضع الأوّل : فالّذي عليه أكثر المتكلّمين ـ على ما حكي ـ : أنّ الاعتقاد ليس مجرّد اليقين ، بل هو أمر قلبيّ إختياري يعرض بعد اليقين في مقابل الاستنكاف والجحود القلبي ، ويدلّ عليه : الوجدان السّليم مضافا إلى دلالة جملة من الآيات والأخبار عليه ، مثل الآيات الواردة في مذمّة جحود من استيقنت أنفسهم واستيقنوا بالوحدانيّة مع جحودها (١) ، والكفر الجحود [ ي ] أمر معروف لا ينبغي إنكاره لأحد ، وهذا هو الّذي اختاره شيخنا في الجزء الأوّل

__________________

(١) إشارة إلى الآية الشريفة رقم ١٤ في سورة النمل : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا .

٢١٥

من « الكتاب » وفي مجلس البحث مستدلّا بما عرفت.

ولكن قد يقال ـ بل قيل ـ : باتّحاد اليقين والاعتقاد ؛ لأنّ من المشاهد بالوجدان : أنّه ليس ممّا يعرض على النّفس من الأمور الاختياريّة بعد اليقين بنبوّة شخص مثلا ، إلّا الرّضا بنبوّته في مقابل الاستنكاف الباطني ، أو البناء والعزم على إطاعته فيما يأمر وينهى والتّديّن بجميع لوازم النّبوّة بالنّسبة إليه ، ومن المعلوم عدم ربط لهذه الأمور بالاعتقاد ، مع أنّه لو أريد به أحد هذه المعاني فلا مشاحة فيه.

وأمّا القول : بأنّ العقد القلبي بما تعلّق اليقين به أمر لا دخل له باليقين ولا بما ذكر من المعاني ، بل هو بناء قلبيّ على ثبوت المتيقّن في مقابل استنكافه ، فهو ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل.

وأمّا المراد بالجحود مع استيقان النّفس الّذي دل على وجوده الكتاب والسّنة فليس المراد منه عدم الاعتقاد ، بل الإنكار الظّاهري الّذي كان دأب الجاحدين ، أو مقابل أحد المعاني الّتي عرفتها. هذا مجمل الكلام في الموضع الأوّل ، وقد مرّ بعض الكلام فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة فراجع إليه.

وأمّا الكلام في الموضع الثّاني : فالّذي بنى عليه الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : عدم إمكان وجود الاعتقاد مع الشّك وكونه من عوارض اليقين مع بنائه على كونه مغايرا له ، وهذا كما ترى لا يخلو عن النّظر ؛ لأنّه بعد الاستشهاد على التّغاير بما يقتضي بظاهره باعتقاد المستشهد وجود اليقين مع عدم عقد القلب على مقتضاه بل على خلافه ، كيف يمكن إنكار وجوده في صورة الشّك؟ مع أنّ القطع بالخلاف أولى بالمنع من تعلّق الاعتقاد بما يقطع بخلافه.

فإن قيل : إنّ مع الشّك والتّرديد لا يمكن عقد القلب على أحد الطّرفين. قلنا :

٢١٦

لا يمكن ذلك مع عدم وجود المرجّح للبناء والاختيار لا معه ، مع أنّه منقوض بصورة القطع بالخلاف أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة : بعد البناء على كون الاعتقاد غير اليقين يشكل القول بعدم إمكان وجوده في صورة الشّك سيّما مع القول بوجوده في صورة القطع بالخلاف.

إذا عرفت ما قدّمنا لك من المقدّمة فنقول :

إنّه إن قلنا بأنّ الاعتقاد عين اليقين فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في وجوبه كما عرفت عدم تعقّل جريان الاستصحاب في نفسه ؛ ضرورة ارتفاع اليقين بالشّك ؛ لأنّ مرجع وجوب الاعتقاد على هذا التّقدير إلى وجوب تحصيل العلم به ـ على ما عرفت سابقا ـ ومفروض الكلام في الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة بعد العجز عن تحصيل العلم ، فمهما يمكن تحصيل الاعتقاد واليقين بالنّبوّة مثلا فلا إشكال في وجوبه ، فإذا حصل العجز عن تحصيل اليقين به فلا معنى لاستصحاب وجوب تحصيل اليقين.

نعم ، لو فرض وقوع الشّك في أصل وجوب تحصيل اليقين في زمان وارتفاعه بعد علمه بوجوبه عليه سابقا أمكن القول بجريان الاستصحاب فيه بعد فرض العجز عن تحصيل العلم بهذا الحكم في الشّريعة فتدبّر.

وإن قلنا بأنّه أمر اختياريّ غير اليقين فإن قلنا بكونه من عوارض اليقين فكذلك لأنّ عوارض اليقين والأحكام المختصّة به لا يعقل بقاؤها بعد فرض عدم ٣ / ١٤٩ اليقين كما هو واضح ، وإن لم نقل بكونه من عوارض اليقين فلا إشكال في إمكان الحكم بثبوته على القول بحجيّة الاستصحاب من باب التّعبد.

وأمّا على القول بحجيّته من باب الظّن فلا بدّ من أن ينظر دليله على فرض

٢١٧

تسليم حصوله هل هو بناء العقلاء أو برهان الانسداد؟ فإنّه يمكن أن يقال علي الأوّل بوجوب اتّباع الظّن في المقام وهذا بخلاف الثّاني ؛ فإنّ برهان الانسداد في الفروع لا يقتضي بحجيّة الظّن فيه وفي نفسه لا يجري على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة : من أنّ قضيّة انسداد باب العلم في الأصول هو التّوقف والتّدين بما هو الثّابت في الواقع ، لا التّديّن بمقتضى الظّن هذا كلّه في استصحاب وجوب الاعتقاد.

وأمّا استصحاب وجود المعتقد المقصود من الموضع الثّاني : فإن ترتّب حكم شرعيّ على وجوده الواقعي لا على العلم به فلا إشكال في الحكم بثبوته على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، إلّا أنّه قد يقال : إنّ الأحكام المترتّبة على العقائد إنّما ترتّب على العلم بها لا على وجودها الواقعي فتأمّل.

وأمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن فقد عرفت ما ينبغي سلوكه على تقدير القول به.

ثمّ إنّ ما ذكر كلّه إنّما هو في غير ما يتوقّف اعتبار الاستصحاب على ثبوته كالنّبوّة ، وأمّا هو فستعرف تفصيل القول فيه ، وأيضا ما ذكر إنّما هو مجرّد فرض وإلّا فلم نقف على مسألة في الأصول يقطع بثبوتها في السّابق ثمّ يشكّ في بقائها كما هو واضح ، بل لا يعقل ذلك في كثير من الموارد لثبوتها بالبراهين العقليّة كما لا يخفى على من له خبرة في الجملة ، هذا مجمل القول في استصحاب العقائد.

وأمّا استصحاب الأحكام المترتّبة عليها المقصود من الموضع الثّالث ، فغير جائز عندنا لما قد عرفت غير مرّة ؛ أنّ الحكم المترتّب على موضوع لا معنى لاستصحابه عند الشّك في هذا الموضوع.

٢١٨

وفذلكة الكلام وحاصله : أنّ الحكم الشّرعي الأصولي عبارة عن وجوب الاعتقاد والتّديّن بالعقائد الحقّة ، وكلام شيخنا ( دام ظلّه العالي ) مشتبه المراد ؛ من حيث إنّ المستصحب نفس هذا الحكم المتعلّق بالاعتقاد ، أو الاعتقاد ، أو المعتقد ، أو أحكامه الشّرعيّة الثّابتة غير وجوب الاعتقاد هذا.

مع أنّ الشّك في بقاء العقائد الحقّة لا يتصوّر بالنّسبة إلى غير النّبوّة ، وأمّا بالنّسبة إليها فلا يتصوّر أيضا إن كان المراد منها الملكات الثّابتة للنّبي القائمة بنفسه الشّريفة الموجبة لسلطنة تصرّفه في الآفاق والأنفس واستحقاقه للرّئاسة الكلّيّة الإلهيّة ؛ فإنّها باقية لا زوال لها أصلا ببقاء نفسه المطمئنّة في جميع عوالمه.

وكذا إذا كان المراد منها تصرّفه الفعلي في الآفاق والأنفس وولايته على النّفوس الخلقيّة ؛ فإنّ الولاية الحقّة المطلقة بالمعنى المذكور ينتقل إلى الوصيّ بعد ارتحال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الوصيّ إلى من بعده من الأوصياء بحسب الطّبقات فليست محتملة للقاء حتّى تستصحب.

نعم ، لو كان المراد منها ما ينتزع من وجوب إطاعته فيما جاء به من الأحكام والشّريعة فهي قابلة للارتفاع فيتعلّق بها الشّك لكن بقاؤها تابع لبقاء الأحكام والشّريعة فلا معنى لإجراء الاستصحاب في نفسها كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ المراد من الاعتقاد إن كان هو العلم أو ما لا يحصل إلّا مع العلم ، فلا يتصوّر الاستصحاب بالنّسبة إلى حكمه كنفسه كما هو ظاهر. وإن كان الأعمّ من العلم والظّن وقلنا بإفادة الاستصحاب للظّن ـ ولو في الشّبهات الحكميّة ولو في مثل هذه المسألة ـ فلا معنى لابتناء المسألة على اعتبار الاستصحاب وعدمه كما هو ظاهر ؛ ضرورة ابتنائها على هذا التّقدير على وجود الظّن.

٢١٩

وإن كان المراد منه ما ينفكّ عن العلم وإن جامعهما كما يجامع الشّك بل العلم بالخلاف ـ على ما قيل : من كونه العقد القلبي الاختياري الّذي يجامع الحالات كالإقرار باللّسان الذي يجامع الحالات كلّها ـ فلا ريب في جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى حكمه. هذا ملخّص الكلام فيما يقتضيه التّحقيق في المقام وبالحريّ أن نصرف العنان إلى بعض الكلام فيما ذكره الأستاذ العلّامة في بيان المرام.

(٢٦٠) قوله : ( والمفروض أنّ وجوب الاعتقاد ). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

أقول : هذا مبنيّ على ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : من أنّ الاعتقاد وإن كان غير اليقين ، إلّا أنّه لا يمكن وجوده في غير صورة اليقين. وقد عرفت ما فيه منّا سابقا فراجع.

ثمّ إنّه لا يخفى ما في كلامه ( دام ظلّه ) من الخلط بين استصحاب وجوب الاعتقاد والمعتقد ، فما حرّرنا في هذا المقام من إفراد كلّ منهما بالبحث والكلام أولى.

(٢٦١) قوله : ( بل الظّن غير حاصل فيما كان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

أقول : الوجه فيما ذكره ( دام ظلّه ) بالنّسبة إلى ما كان ثبوته بالعقل ما ذكره سابقا في طيّ الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة : من أنّه على تقدير فرض الشّك فلا بدّ من أن يرجع الشّك إلى الشّك في الموضوع والمناط ومع الشّك فيه لا يعقل الظّن بالبقاء ، وأمّا إذا كان الثّبوت بالدّليل الشّرعي القطعي كالإجماع ونحوه فهو ما ادّعاه في مجلس البحث : من أنّ الدّليل القطعي لا يمكن الشّك في مدلوله إلّا إذا فرض الشّك في موضوعه ، ومعه لا يحصل الظّن وإليه

٢٢٠