بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

المذكور في غاية المتانة والوجاهة : وهو المنع من ظهور اختصاصه بالوجودي.

أمّا أوّلا : فلأنّ النّزاع المذكور : وهو أنّ الباقي يحتاج إلى المؤثّر أم لا؟يجري في العدميّات أيضا حسبما صرّح به بعضهم.

وأمّا ما اشتهر بينهم : من أنّ الأعدام لا تعلّل. فليس يراد منه : أنّها لا تحتاج إلى مرجّح ، كيف؟ والممكن طرفاه متساويان ، فكلّ منهما يحتاج إلى مرجّح وعلّة.

نعم ، هذا الكلام إنّما يحسن بالنّسبة إلى العدم المطلق لا في العدم المضاف والمسبوق بالوجود ، بل قد يقال : إنّ لكلّ من العدمين المذكورين حظّا من الوجود ولو اعتبارا فتأمّل. هذا كلّه لو كان الاستظهار مبنيّا على لفظ العلّة.

وأمّا لو كان مبنيّا على ظهور لفظ الباقي في الوجودي ؛ فلأنّ تعبيرهم بهذه العبارة إنّما هو من ضيق التّعبير وعدم وجود تعبير أجلى منه في المقصود. أترى من نفسك أن تقول : إن تعريفهم للاستصحاب بإبقاء ما كان ، أو إثبات شيء في الزّمن الثّاني تعويلا على ثبوته في الزّمان الأوّل إلى غير ذلك من التّعاريف الّتي ظاهرها الاختصاص بالوجودي ابتداء مختصّ بالوجودي وإنّهم لم يتعرّضوا للاستصحاب العدمي أصلا ولم يكونوا في مقام بيان تعريفه؟! حاشاك ثمّ حاشاك.

٨١

(١١) قوله قدس‌سره : ( وبأنّه يقتضي أن يكون النّزاع مختصّا بالشّك من حيث المقتضي ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٩ )

أقول : الوجه فيما ذكره ظاهر ؛ لأنّ المفروض في الشّك في الرّافع القطع بوجود المقتضي والمؤثر للبقاء ، وإنّما الشّك من حيث وجود ما يرفعه بالقول باحتياج الباقي في البقاء إلى المؤثّر لا يمنع من اعتبار الاستصحاب فيه فتأمّل.

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« وذلك لأنه مع إحراز المقتضي والمؤثّر لا يتفاوت الحال بين أن يقال بالإستغناء وعدمه.

وفيه : ان المراد من المؤثر في مسألة استغناء المؤثر هو العلّة التامّة ، ولا ريب في ان عدم الرّافع بالنسبة الى بقاء الشيء من أجزاءها كعدم المانع بالنسبة الى حدوثه ، فلا يقتضي اختصاص النّزاع بالشك في المقتضي ، فتدبّر جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٩٨.

٨٢

(١٢) قوله : ( بملاحظة ما ذكره قبل ذلك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠ )

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« قال [ الوحيد البهبهاني رحمه‌الله ] في رسالته المفردة في الاستصحاب :

( وهو على قسمين :

الأول : استصحاب متعلق الحكم الشرعي ، أي الأمور الخارجة عنه التي لها مدخل في ثبوته مثل عدم نقل اللفظ عن المعنى ومثل عدم التذكية في الحيوانات الميتات في العدميات ووجود الرطوبة في الثوب الواقع على النجس الذي وجد يابسا ومثل بقاء المعنى اللغوي على حاله في الوجودات.

الثاني : استصحاب نفس الحكم الشرعي وهو على ضربين :

الأوّل : أن يثبت به حكم شرعي لموضوع معلوم مثل : أنا لا أدري أن المذي المعلوم الوقوع ناقض للوضوء أم لا فيقال : قبل وقوعه كان متطهرا فالطهارة مستصحبة فالمذي ليس بناقض شرعا ومثل ذلك وجدان الماء حين الصلاة للمتيمم الفاقد له قبلها فيحكم بعدم ناقضيته للتيمم شرعا والضرب.

الثاني : عكس الضرب الأول وهو أن ثبوت الحكم الشرعي لموضوع معين معلوم جزما لكن لا ندرى هل تحقق ذلك الموضوع أم لا ، مثلا ندري أن البول ناقض للوضوء البتة لكن نشك أنه بعد الوضوء هل حدث البول أم لا فيقال : الأصل بقاء الوضوء فيحكم بعدم تحقق البول فهو متطهر ثم القول بالحجية مطلقا وبعدمها كذلك.

والتفصيل تارة : بإنكار القسم الأول ، وأخرى : بإنكار الضرب الأوّل ).

ثم قال : ( لكن الذي نجد من الجميع حتى المنكر مطلقا أنهم يستدلون بأصالة عدم النقل مثلا يقولون الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا فكذلك لغة ؛ لأصالة عدم النقل ويستدلون بأصالة بقاء المعنى اللغوي فينكرون الحقيقة الشرعية إلى غير ذلك كما لا يخفى على المتتبع. والأخباريون أيضا صرّحوا بحّجّية الإستصحاب في موضوع الحكم الشرعي على

٨٣

أقول : لأنّه قسّم الاستصحاب قبل الكلام المذكور إلى أقسام عديدة ، منها :التّقسيم باعتبار كون المستصحب وجوديّا وعدميّا ، فنسب إنكار اعتباره مطلقا بعده إلى جماعة.

(١٣) قوله : ( واستدلال المثبتين كما في « المنية » ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠ )

أقول : الوجه في صراحته في التّعميم : أنّ الاحتمالات الّتي تمنع من الاستنباط ، هل الاحتمالات الوجوديّة دائما ، أو غالبا؟ فلا بدّ من رفعها بالاستصحاب العدمي ، ولو كان المنكر مسلّما لاعتبار الاستصحاب في العدميّات لم يكن وجه للاستدلال بالدّليل المذكور كما لا يخفى.

(١٤) قوله : ( وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات ... إلى آخره ) ( ج ٣ / ٣٠ )

أقول : حكى الأستاذ العلاّمة : أنّه علّل إنكار الاستصحاب المذكور بوجهين :أحدهما : المنع من اعتبار الاستصحاب مطلقا. ثانيهما : معارضته باستصحاب عدم موت الحتف ، فكلامه صريح في المنع عن اعتبار الاستصحاب حتّى في العدميّات.

(١٥) قوله : ( إذ ما من مستصحب وجوديّ إلاّ ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١ )

أقول : لا يتوهّم : أنّ الاستصحاب في العدميّ لا يغني عن الاستصحاب

__________________

ما ذكره الشيخ الحر ١ فهم يقولون بحجية القسم الأوّل والضرب الثاني والفاضل صاحب الذخيرة صرّح بحجّيّة الضرب الثاني ولعله موافق للأخباريين والوحيد الأستاذ في شرح الدروس فصّل تفصيلا آخر ) إنتهى كلامه رفع في الخلد شأنه ومكانه » [ الرسائل الأصوليّة :

٤٢٣ ـ ٤٢٥ ] إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٤٠.

٨٤

الوجودي ؛ لأنّ إغناءه عنه مبنيّ على اعتبار الأصل المثبت ، وهو غير ثابت ؛ لأنّ عدم ثبوته إنّما هو على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد لا الظّن ، وإلاّ فلا فرق بين المثبت وغيره. وسيجيء تفصيل القول في هذا بعد هذا. إن شاء الله [ تعالى ].

(١٦) قوله : ( نعم ، قد يتحقّق في بعض الموارد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢ )

أقول : وبما ذكره يظهر : فساد ما قد يتخيّل : من أنّه لا يمكن المنع من اعتبار الاستصحاب في العدمي ؛ لاستلزامه سدّ باب الاستدلال بالأدلّة ، لجريان احتمالات فيها لا تدفع إلاّ بالأصل ، كاحتمال التّخصيص ، والتّقييد ، والمجاز ، إلى غير ذلك.

توضيح الفساد : أنّ لدفع هذه الاحتمالات المانعة من الاستدلال والاستنباط أصولا وقواعد ، قد اتّفقوا على العمل بها لا دخل لها بالاستصحاب أصلا ، كأصالة عدم التّخصيص ، والتّقييد ، والنّقل ، والاشتراك ، والمعارض إلى غير ذلك.

٨٥

(١٧) قوله : ( وفيه نظر يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشّرعيّ ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣ )

بيان المراد من الحكم الشرعي الكلّي

والفرق بينه وبين الحكم الجزئي

أقول : الحكم الشّرعي حسب ما صرّح به الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث :هو ما من شأنه أن يؤخذ من الشّارع ، وكان بيانه من وظيفته بحيث لا يمكن رفع الشّكّ الواقع فيه ، إلاّ بالرّجوع إليه ، أو إلى ما قرّره للرّجوع إليه في حقّ الجاهل بالحكم كالأدلّة ، والأصول ، وقول المجتهد في حقّ العامي ، وهذا قد يكون كليّا ، وقد يكون جزئيّا. فوجوب إكرام زيد العالم ، وعدم وجوبه من حيث كونه عالما ، حكم شرعيّ لا مبيّن له إلاّ الشّرع ، لكن بيانه له : قد يكون بطريق العموم ، وقد يكون بطريق الخصوص ، كما إذا سئل عن وجوب إكرام زيد العالم. فأجاب بوجوب إكرام كلّ عالم ، أو خصوص مورد السؤال ، أو قال : أكرم كلّ عالم إلاّ زيدا. أو لا تكرم زيدا إلى غير ذلك.

نعم بيان وجوب إكرام زيد من حيث الشّك في كونه عالما أو جاهلا بعد العلم بحكم العالم والجاهل في الشّرع ؛ بمعنى رفع الشّكّ منه بهذه الجهة ببيان : أنّه عالم ، أو جاهل ليس من شأن الشّارع قطعا. وهذا يسمّى بالشّبهة في الحكم الجزئي الّتي تكون تسميتها بهذا الاسم مسامحة ، لتمحّض الشّك فيه من حيث الموضوع حقيقة وإن صار سببا للشّك في الحكم بالعرض.

٨٦

نعم ، بيان حكم إكرام زيد المشتبه حاله بين العالم والجاهل من شأن الشّارع قطعا سواء كان من حيث العموم ، أو الخصوص.

فتبيّن ممّا ذكرناه : أنّ الشّك في الموضوع الخاصّ كالثّوب مثلا إن كان من جهة الشّك في أصل حكمه في الشّرع بعد إحراز جميع العنوانات القابلة لعروض الحكم من جهتها في الموضوع الخاصّ ، فرفعه ليس إلاّ من شأن الشّارع ، والحكم المبيّن حكم شرعيّ. كما إذا شكّ في : أنّ الثّوب الملاقي للنجس بعد القطع بملاقاته للنّجاسة نجس أم لا؟ سواء كان الشّك فيه من جهة الشّك في أصل حكم الملاقي للنّجس في الشرع ، أو من جهة شمول اللّفظ الّذي دلّ على حكمه له ، كما إذا شككنا من جهة انصراف لفظ المطلق إلى الأفراد الشّائعة الغالبة في الفرد النّادر ، أو من جهة غيره.

كما إذا شككنا في : أنّ أدلّة نجاسة الملاقي للنّجس هل يشمل البئر أم لا؟وإن كان من جهة الشّكّ في اندراجه تحت الموضوع العام والعنوان الكلّي من جهة اشتباه الأمور الخارجيّة بعد القطع بحكم العنوان الكلّي ببيان الشّارع ، كما إذا شكّ في ملاقاة الثّوب مثلا للنّجاسة بعد العلم بحكم الملاقي للنّجس فرفعه برفع السّبب الموجب له ، وهو بيان الملاقاة وعدمها في المثال ، ليس من وظيفة الشّارع. نعم ، رفع الشّك فيه من حيث حكم المشتبه ليس إلاّ من وظيفته كما لا يخفى.

فتحصل ممّا ذكرنا : أنّ الموضوع الخاصّ له اعتبارات ثلاثة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : المراد من الحكم الجزئي ، والحيثيّة الّتي لا يرجع من جهتها إلى الشّارع ، وتميّزها عمّا يرجع من جهته إلى الشّارع ، وهذا الّذي ذكرنا أمر لا سترة فيه أصلا ، فلازم الأخباريّين ـ بناء على ما نسب إليهم من التزامهم

٨٧

بالاحتياط في الشّبهة الحكميّة ـ الاحتياط لو كان الشّك من حيث الوجه الأوّل أو الثّالث ولم يكن هناك دليل يقضي بخلافه ، لا من الوجه الثّاني ؛ لأنّهم بنوا على عدم وجوب الاحتياط فيه من جهة قيام الدّليل على عدم الوجوب فيه.

(١٨) قوله : ( والأصل في ذلك عندهم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ الأصل في الشّبهة الحكميّة عند الأخباريّة ليس هو الاحتياط مطلقا ؛ لأنّ بناء أكثرهم على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة من الحكميّة.

نعم ، يظهر من بعضهم : الحكم بوجوب الاحتياط فيها أيضا ، وقد صرّح بما ذكرنا الأستاذ « دام ظلّه » في الجزء الثّاني من « الكتاب » (١) فراجع إليه.

(١٩) قوله : ( ومثّل للأوّل بنجاسة الثّوب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ تمثيله للحكم الشّرعي بخصوص نجاسة الثّوب الّتي ليست عندنا بحكم شرعيّ حقيقة إنّما هو من جهة الإشارة إلى كون المقصود من الحكم الشّرعي هو الأعمّ ممّا يكون من شأن الشّارع بيانه أوّلا ؛ لأنّ إطلاق الحكم الشّرعي على الأوّل ممّا لا يتوهّم فيه الإنكار ، ولهذا خصّ المثال بالثّاني.

(٢٠) قوله : ( وإنّما لم ندرج هذا التّقسيم في التّقسيم الثّاني ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦ )

أقول : أراد بذلك : بيان نكتة انفراد هذا التقسيم مع إمكان اندراجه في التّقسيم الثّاني ؛ لأنّه تقسيم لأحد قسميه ، فلا يرد عليه : أنّ الحكم الوضعي بهذا الإطلاق وإن لم يكن داخلا في الحكم الشّرعي ، إلاّ أنّه داخل في غيره الّذي هو

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥١.

٨٨

أحد القسمين في التّقسيم الثّاني ، فلم لم يندرجه (١) فيه بتقسيم الغير إلى الأسباب ، والشّروط وغيرهما.

توضيح عدم الورود : أنّه ليس المقصود ممّا ذكر عدم إمكان الاندراج حتى يورد عليه بما ذكر ، بل المقصود منه : الإشارة إلى أنّ التّخصيص بالذّكر إنما هو من جهة فائدة ، وإن كانت هي التّنبيه على مطلب المفصّل على وجه التّفصيل هذا.مضافا إلى أنّه ليس مفصّلا بين أقسام غير الحكم الشّرعي في اعتبار الاستصحاب فتأمّل.

(٢١) قوله : ( وقد فصّل بين هذين القسمين الغزّالي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٧ )

أقول : يمكن أن يقال : إنّ مراد الغزّالي من حال الإجماع ، وكذا مراد صاحب « الحدائق » : هو حال كلّ دليل يكون مثل الإجماع في سكوته عن الزّمان الثّاني سواء كان من الأدلّة اللّفظيّة ، أو اللّبيّة ، وسواء كان على التّقدير الأوّل من جهة إجمال اللّفظ ، أو إطلاقه مع عدم كونه مقصود المتكلّم وكونه في صدد بيانه ، فيكون على هذا الغزّالي من المنكرين مطلقا ؛ لأنّه إذا كان للدّليل إطلاق أو عموم بالنّسبة إلى الزّمان الثّاني لم يكن إثبات الحكم فيه من جهة التّمسك بالاستصحاب قطعا ، بل من جهة التّمسّك بالدّليل كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يبنى على التّسامح ويسمّى التّمسّك بالعموم والإطلاق من التمسّك بالاستصحاب كما بنوا عليه في كلماتهم حيث إنّهم قسّموا الاستصحاب إلى حال العموم والإطلاق وغيرهما فراجع وتأمّل وانتظر لتمام الكلام فيما سيجيء.

__________________

(١) كذا والصحيح : لم يدرجه.

٨٩

تقسيم الإستصحاب باعتبار دليل المستصحب

(٢٢) قوله : ( إلاّ أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدّليل العقلي ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٧ )

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« توضيحه : ان الشك في القضايا العقليّة لا يخلو : إمّا أن يكون من جهة الشك في الموضوع ولو في بعض القيود المأخوذة فيه ، وإمّا من جهة الشّك في المحمول بمعنى الشّك في حكمه على الموضوع المبيّن القيود تفصيلا بشيء ، والثاني غير معقول ؛ إذ بعد تبيّن الموضوع بجميع قيوده الذي هو مناط حكم العقل والعلّة التامّة فيه لا وجه لإجمال حكم العقل ؛ إذ لا ريب في بقاء حكمه حينئذ واستقلاله به.

ومن هنا يظهر : أنّ الشك في حكم العقل لا يعقل إلاّ من جهة الشك في موضوعه ولو باعتبار بعض القيود المأخوذة فيه ، مع أنّه أيضا غير معقول ؛ لأنّ العقل لا يحكم بشيء إلاّ بعد إحراز جميع قيود موضوعه ، فمع الشكّ في تحقّق بعض هذه القيود لا يحكم عليه بما كان حاكما عليه على تقدير العلم بوجوده ، فإذا حكم العقل بحسن الكذب النّافع وقبح الصّدق الضار فمع الشك في تحقّق النفع في الأوّل والضّرر في الثاني لا يحكم بالحسن في الأوّل والقبح في الثاني ، لا أن يتردد في حكمه لأجل الشكّ في تحقق موضوعه ، بل يكون حينئذ ساكتا عن الحكم بشيء منهما وخلافهما.

وبالجملة : إنّه لا يعقل الشكّ والتردّد في حكمه لا من جهة الشك في موضوعه ولا من جهة الشك في مدخلية بعض الأمور في حكمه ؛ لعدم التردّد في حكمه سواء كان الشكّ في وجود ما علم مدخليّته أو مدخلية ما علم وجوده ، بل لا معنى للشك في المدخلية كما لا يخفى.

ومع تسليمه فلا معنى للإستصحاب أيضا كما يظهر مما ذكره المصنف رحمه‌الله : لأنّه إذا حكم العقل

٩٠

__________________

بقبح الكذب الضار ثمّ تردّد في حكمه بقبحه لأجل الشكّ في زوال قيد الضّرر عنه ، فإن أريد باستصحاب حكمه إستصحاب القبح المحمول في القضيّة السّابقة على الكذب بعنوان كونه مضرّا فلا ريب أنّ هذا الحكم العقلي دائمي لم يقع فيه شك في زمان حتى يستصحب ، وإن أريد به استصحاب قبح هذا الكذب المشكوك بقاؤه على صفة الإضرار فلا شكّ أن هذا الموضوع لم يعلم اتّصافه بالقبح في السّابق حتّى يستصحب قبحه ؛ إذ لا بدّ في إبقاء الحكم السّابق من بقاء موضوعه على وجه اليقين ؛ لعدم تعقل بقاء العرض من دون معروضه.ثم إنّه يظهر بما قدمناه : عدم تحقق الشكّ في المانع في الأحكام العقليّة ؛ لأنّه فرع القطع بوجود الموضوع والموضوع في القضايا العقليّة علّة تامّة لحكمه وعدم المانع مأخوذ فيه من باب الشرطيّة لا في حكمه.

والفرق بينهما وبين الأحكام الشرعيّة ـ حيث ذكروا : أنّ الشكّ في بقاء الثانية تارة : ينشأ من الشك في بقاء الموضوع ، وأخرى : من الشكّ في وجود المانع ـ : أنّ الأحكام العقليّة ثابتة بحكم العقل وهو لا يحكم بشيء على موضوع إلاّ بعد إحراز المقتضي التّام له فيه ومن أجزاء المقتضي هو عدم المانع بخلاف الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّها مبيّنة في الأدلّة الشرعيّة ، فما كان الحكم مرتّبا عليه في ظاهر الأدلّة يسمّى موضوعا لهذا الحكم وإن فرضت له شرائط وموانع أخر ثابتة بدليل آخر ، وهذه التسمية اصطلاح أو مسامحة ، وإلا فالموضوع الحقيقي الّذي يقوم به الحكم لا يكون إلاّ علّة تامّة له ، وهذا هو الّذي أوقع السّائل في الشبهة فزعم :اتحاد موضوع حكم العقل والشرع ، فأورد بما ذكره في المتن ، وإلا فلا وجه له بعد ما عرفت.

وكيف كان فقد ظهر ممّا ذكرناه : الفرق بين الأحكام العقليّة والشرعيّة من حيث جريان الاستصحاب في الثانية دون الأولى.

أمّا عدم جريانه في الأولى : فلما عرفت : من عدم فرض الشكّ في حكم العقل في زمان حتى يستصحب فيه الحكم السّابق فهو في الزمان الثّاني إما حاكم به كالزمان الأوّل أو حاكم

٩١

__________________

بعدمه أو ساكت عنهما ، وعلى أيّ تقدير : لا معنى لاستصحاب حكمه الأوّل.

وأمّا جريانه في الثانية : فلما عرفت : أن المدار في بقاء الأحكام الشرعيّة هو صدق بقاء موضوعاتها المذكورة في الأدلة بحسب العرف ، فمع الشك في وجود المانع أو مانعية الموجود يستصحب الحكم الأوّل.

فإن قلت : على ما ذكرت ينحصر. مورد الإستصحاب بموارد الشكّ في وجود المانع أو مانعية الموجود ولا يجري مع الشك في المقتضي أعني الشكّ في بقاء الموضوع إمّا من جهة الشك في ارتفاع بعض قيوده الّتي علم مدخليّتها فيه أو من جهة العلم بارتفاع بعض ما احتملت مدخليّته فيه.

قلت ـ مع أن مختار المصنف رحمه‌الله عدم جريان الاستصحاب مع الشك في المقتضي كما سيجيء في محلّه ـ : إنّك قد عرفت : أنّ المدار في بقاء موضوع الأحكام الشرعيّة على الصّدق العرفي ، وهو قد يتحقّق مع الشك في ارتفاع بعض القيود المعلوم المدخليّة أو مع ارتفاع بعض ما هو محتمل المدخليّة كما هو واضح » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : أورد عليه :

( بأن الإنصاف أنّه قد يستقلّ العقل بقبح عنوان أو حسنه إجمالا مع عجزه عن التّمييز بين ما له المدخليّة ممّا هو عليه من الخصوصيّات في الحكم بهما وما ليس له ذلك وهذا يظهر من مراجعة الوجدان فعلى هذا لو شكّ في الزّمان الثّاني بعد تبدّل بعض الخصوصيّات يجوز استصحاب الحكم الشّرعي الّذي استتبعه الحكم العقلي بعد البناء على المسامحة العرفيّة في إحراز الموضوع فتبدّل بعض الخصوصيّات مانع عن إجراء الاستصحاب بناء على اعتبار الرّجوع في تشخيص الموضوع إلى العقل لا إلى العرف كما أنّه مانع عن بقاء الحكم

٩٢

__________________

العقلي في زمان الشكّ ). إنتهى ملخّصا.

وفيه : أنّ مراجعة الوجدان شاهدة بخلافه فضلا عن قيام البرهان على ذلك وكيف لا! مع انّ العقليّات لا بد إمّا أن تكون بنفسها ضروريّة أو منتهية إليها كما صرّح به المصنف رحمه‌الله فيما بعد ومعنى العجز عن التّميز ليس إلاّ الجهل بالمناط الّذي يقع وسطا في إثبات الأكبر للأصغر فكيف يعقل إدراك العقل للنّتيجة وجهله بالمقدّمات؟

ودعوى : كون الحكم في مثله بديهيّا لا يحتاج إلى وسط ، بديهيّ الفساد بعد الإعتراف بأنّ الجهات المكتنفة بها هي المحسّنة لها أو المقبّحة إيّاها فلا بد من أن يعلّل بها في إثبات الحكم.

إن قلت : إنّ ضرورة العقل قاضية بحسن الإطاعة وقبح المعصية ومع أنّ ماهيّة الإطاعة وكذا المعصية مشتبهة لوقوع الكلام في أنّ الإطاعة هل هي تحصيل غرض المولى مثلا أو إمتثال أمره وكذا الإشكال في وجه وجوبها وإلزام العقل بها هل هو لأجل كونها شكرا للمنعم أو لأجل التفصّي عن العقاب إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

قلت : تسمية هذه الأمور أحكاما عقليّة بعناوينها الإجماليّة اشتباه نشأ عن عدّ العلماء والعقلاء لها في المستقلاّت العقليّة ومن المعلوم أنّها لا تكون أحكاما عقليّة إلاّ لمن أدرك حسنها وقبحها وأنت إذا ألقيت عنان التّقليد وفرضت نفسك ممّن لم يبلغه كون وجوب الإطاعة من المستقلاّت العقليّة وأردت معرفتها بنفسك فلا بدّ لك من أن تتعقّل الماهيّة الّتي تريد إثبات الحكم لها أوّلا ثم تمحض الجهات المكتنفة بها المؤثّرة في حسنها أو قبحها فإن أدرك العقل في شيء منها حسنا ملزما أو قبحا ملزما يلزمك على فعله أو التجنّب عنه وإن لم يدرك في شيء منها شيئا منهما لا يحكم بشيء ، بل يتوقّف عن الحكم ففي الإطاعة مثلا يلتفت أوّلا إلى أنّ تحصيل غرض المولى بعد الإطّلاع عليه هل هو لازم أم لا ثمّ يلتفت إلى جهاته من أنّ فيه أداء لحقّه وهو موجب لمزيد شكره وأنّ في تركه استحقاقا للمذمّة واحتمال

٩٣

__________________

المضرّة إلى غير ذلك فإن أدرك في شيء منها جهة ملزمة بالفعل يحكم بوجوبه من تلك الجهة وإلاّ فلا ، سواء سمّي هذا المعنى بالإطاعة أم لا ؛ إذ ليس المدار في حكم العقل على التسمية ؛ ضرورة أنّه ليس في العقل لفظ وصوت حتّى يرجع في تشخيص معناه إلى غيره بل لا بدّ من أن يؤخذ موضوع حكمه بماهيّته وحقيقته من نفس العقل لا غير.

وإن أبيت إلاّ عن استقلال العقل في الحكم بقبح مخالفة العبد لسيّده وحسن امتثاله عند تصوّر نفس المخالفة والإمتثال من حيث هما على سبيل الإجمال من دون أن يتوقّف في ذلك على تصوّر جهاتهما تفصيلا.

قلت : لا نتحاشى عن ذلك ، لكن منشأه كون حسن إطاعة العبد لسيّده وقبح معصيته بعد أخذ الإضافة قيدا في الموضوع ذاتيّين حيث إنّ منافع العبد الّتي من أهمّها امتثال الأمر ملك لمولاه ، وإنما يحكم العقل بقبح المخالفة بعد إحراز استحقاق المولى لمنفعة العبد فيكون حكمه بقبح مخالفته نظير حكمه بقبح مخالفة الأجير للمستأجر ، ومن المعلوم أنّ نفس مخالفة الأجير للمستأجر من حيث هي ظلم وعدوان فلا يحتاج العقل في مثل الفرض في حكمه إلى تصوّر شيء آخر وراء ما تصوّره وهو التّفريط في حقّ الغير من دون عذر ، ومعلوم أنّ قبح منع الحقّ عن مستحقّه ذاتي لدى العقل ألا ترى أنّ العقل كما يستقلّ بوجوب إطاعة السيّد كذلك ربّما يستقلّ بوجوب إطاعة غيره كسلطان الجور والمكره ونحوهما؟ فهل يعقل أن يحكم العقل بالوجوب في مثل هذه الفروض من دون أن يتّضح لديه وجهه؟ حاشاه عن ذلك.

إن قلت : سلّمنا أنّ العقل لا يحكم على شيء إلاّ بعد إحراز جهاته مفصّلا إلاّ أنّه لا مانع من أن يكون للشّيء جهات متعدّدة كلّ واحدة منها سبب لحسن الفعل في الجملة ولا يكون كلّ منها بانفراده سببا مستقلاّ لإلزام العقل بفعله إلاّ أنّ مجموعها من حيث المجموع سبب لإدراك العقل اشتماله على الجهة الملزمة فكلّ واحدة من تلك الجهات بانفراده أو بانضمامه

٩٤

__________________

إلى بعض الجهات الأخر قابل لأن يكون مناطا للحكم بالوجوب واقعا وإن لم يكن للعقل طريق إلى إحرازه بعد تبدّل بعض الجهات لعدم استقلاله بالحكم حينئذ كما هو المفروض فعلى هذا لو تبدّل بعض جهات الفعل يزول الحكم العقلي جزما لاستحالة بقائه حال الشكّ في المناط لاستلزامه اجتماع اليقين والشكّ في شيء واحد شخصي في زمان واحد وهو باطل ولكنّه لا يوجب ذلك القطع بزوال الحكم الشّرعي المستكشف عنه لهذا الفعل لاحتمال بقاء مناطه ؛ لأنّ الحكم الشرعي إنما يتّبع المناط الواقعي لا ما هو المعلوم عند العقل كونه مناطا فيستصحب الحكم الشّرعي في زمان الشكّ إذا لم يكن الوصف الزّائد ممّا يوجب تغاير الموضوع عرفا.

قلت : ما توهّمته اشتباه نشأ من الغفلة عن تشخيص الموضوع الّذي يستقلّ العقل بحكمه ويستكشف منه الحكم الشّرعي له وعن المسامحة في تعيين مورد المسامحة العرفيّة الّتي تلتزم بها في إجراء الإستصحاب.

توضيح دفعهما : أنّ الموضوع في الأحكام العقليّة وكذا في الشرعيّات المستكشفة بها ليس إلاّ العقل المعنون بالعنوان الّذي يستقلّ العقل بحكمه لا ذات الفعل من حيث هي كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله فيما أفاد من أنّ الصّدق ليس موضوعا للحرمة بعنوان كونه صدقا وإنّما هو موضوع للحكم بعنوان كونه مضرّا فكذا المشتمل على الجهات المتعدّدة فالشّيء المشتمل على هذه الجهات من حيث كونه كذلك هو الموضوع للحكم العقلي ويتوصّل به إلى حكم الشّارع بحرمة هذا الفعل المعنون بهذا العنوان الّذي استقل العقل بحكمه ، واحتمال بقاء مناط الحكم في الفعل الّذي ليس معنونا بهذا العنوان لا ينفع في إجراء الإستصحاب بل ليس استصحابا حقيقة وإنما هو إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وأمّا الرّجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع في المستصحب وإلغاء بعض القيود التي يحتمل مدخليّتها فيه بحكمه إنما هو فيما إذا لم يعلم عنوان الموضوع مفصّلا.

٩٥

__________________

وأمّا إذا علم ذلك مفصّلا فلا اعتداد بمسامحة أهل العرف بحمل الحكم على الموضوع المعرّى عن هذا العنوان بل العرف أيضا لا يسامحون بعد اطّلاعهم على أنّ الوصف الزّائل ممّا أخذ عنوانا للموضوع فتأمّل.

إن قلت : سلّمنا أنّ عنوان الموضوع في الأحكام العقليّة ما هو مناط الحكم إلاّ أنّ لنا أن نقول في المثال السّابق مثلا قبل أن يعرض الشكّ في حكمه أنّ هذا الصّدق مضرّ وكلّ مضرّ قبيح فهذا الصّدق قبيح وكلّ قبيح حرام فينتج أنّ هذا الصّدق حرام ومن المعلوم أنّ الموضوع في النتيجة هو ذات الصّدق بعنوان كونه صدقا لا بعنوان آخر.

قلت : هذه مغالطة صرفة لا يخفى وجهه على المتأمّل وكيف لا! وإلاّ لجرى هذا القياس في جميع المصاديق المندرجة تحت المفاهيم الكلّية الّتي لها أحكام شرعيّة فتقول مثلا : هذا الجسم كلب وكلّ كلب نجس فهذا الجسم نجس ثمّ نستصحب النّجاسة بعد انقلابه ملحا ؛ لأنّ الموضوع باق على هذا الفرض وهو بديهيّ الفساد ؛ ضرورة أنّ الوسط واسطة في الثّبوت فلا يجوز إلغاؤه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣١٩ ـ ٣٢٣.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« سيأتي تحقيق هذه الدقيقة من المصنّف في التنبيهات ببيان أبسط وقد أشار إليها أيضا في غير موضع من فقهه وأصوله.

وكيف كان : قد يراد استصحاب حكم العقل بمعنى استصحاب نفس حكم العقل بالحكم وإذعانه به عند الشك في ثبوت الحكم واقعا كما اذا حكم العقل بحسن ردّ الوديعة ووجوبه في الزمان الأوّل ثم شك في حسنه واقعا بسبب كون ردّها مظنّة لمفسدة كذائيّة مثلا ، فيستصحب حكمه وإذعانه بالحسن.

وقد يراد استصحاب حكم العقل بمعنى استصحاب الحسن الواقعي الذي أذعن به العقل في الزمان الأوّل ثم شك في بقاءه واقعا فيحكم ببقاء الحسن واقعا بالإستصحاب.

٩٦

__________________

وقد يراد استصحاب موضوع حكم العقل كما لو فرض أنّ الصدق الضار يحكم العقل بقبحه ثمّ شكّ في بقاء الضرر في الصدق الكذائي بعد كونه ضارّا باليقين في السابق.

وقد يراد استصحاب الحكم الشرعي المترتّب على الحكم العقلي بقاعدة الملازمة.

أمّا الأوّل : فلا إشكال ولا خفاء في عدم كونه محلا للإستصحاب لعدم معقوليّة الشكّ فيه ، فمادام العقل حاكما بالقبح أو الحسن لا شكّ في حكمه به وإذا شكّ أعني في بقاء الحسن أو القبح الواقعيين فلا ريب أنّ حكمه به مقطوع العدم لأنّه يعلم بتردّده في بقاء الحسن أو القبح وهو مضادّ لحكمه البتة ، فلا يعقل بناء حكمه بالإستصحاب ولا غيره ، وهذا المعنى ليس بمراد للماتن ولا يشتبه على أحد.

وأمّا المعنى الثاني : وهو الذي أشار إليه في المتن هنا ظاهرا فقد استدلّ الماتن هنا على عدم تحقّق الاستصحاب فيه بأنّ الشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا في الإستصحاب ، واستدلّ عليه في ثالث التنبيهات بما محصّله : أنّ العقل لا يحكم بالحسن أو القبح إلاّ بعد العلم بجميع ما هو مناط في الحكم وله مدخليّة في ثبوته تفصيلا وهذا المعلوم موضوع حكمه ، فالحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم ، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيّا كما حكم به أوّلا ، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم ، ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا في موضوع جديد فلا يعقل الشكّ في الحكم المذكور ، ثمّ أضاف إلى هذا الدليل الدليل الأوّل الذي ذكره هنا.

ولا يخفى أنّ ما صدّر به الكلام هنا من قوله : ( نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي ) ظاهر في إرادة الدليل المذكور ثمة لو لا ما ذيّله به من قوله : ( والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ... إلى آخره ).

٩٧

__________________

وكيف كان يرد على الدليل المذكور : منع لزوم معلومية جميع ما له مدخليّة في ثبوت الحكم تفصيلا بمعنى لزوم تشخيص جميع قيود الموضوع وتميّزه مفصّلا ، بل يكفي العلم بوجود جميع القيود الواقعيّة إجمالا وإن لم يعلم شخصها ، لتردّدها بين عدّة أمور كلّها موجودة ، وحينئذ نقول لو علم بوجود موضوع حكم العقل كذلك على نحو الإجمال فلا ريب أنّه عند زوال بعض تلك الأمور الذي يحتمل كونه دخيلا في مناط الحكم يحصل الشك في بقاء الحكم لتردّد الأمر بين مدخليّة الأمر الزائل في مناط الحكم وموضوعه حتّى يكون الحكم منتفيا وعدم مدخليّته ليكون باقيا ، مثلا إذا حكم العقل بأنّ الكذب المضرّ قبيح لكن لم يعلم بأنّ كونه مضرّا أيضا له دخل في مناط القبح وموضوعه أم لا بل من المقارنات إلاّ أنّه يعلم بوجود مناط القبح حين وجوده قطعا فإذا زال وصف الإضرار عنه بعد وجوده يشكّ في بقاء القبح.

وتحصّل من ذلك كلّه أنّ الشكّ في بقاء الحكم العقلي بهذا المعنى أمر معقول فسقط الدليل المذكور ، فانحصر الأمر في التشبّث بذيل الدليل الآخر وهو رجوع الشكّ في الحكم الى الشكّ في الموضوع ، ولا مجال للاستصحاب إلاّ بعد العلم ببقائه كما بيّنه في المتن ، لكن لا يخفى أنّ بيانه هنا لا يخلو عن اختلال لأنّه جعل في آخر كلامه استصحاب الموضوع الذي جعلناه قسما آخر في صدر العنوان تبعا للمصنّف على ما بيّنه في التنبيهات مفصّلا من هذا القبيل ، وهو خلط بيّن ، فإنّ المراد من الشكّ في الموضوع في ما نحن فيه فإنّ المراد من الشكّ في الموضوع في ما نحن فيه هو الشك في عنوان الموضوع الذي هو مناط الحكم والمراد من الشك في الموضوع الذي أشرنا إليه في صدر العنوان هو الشكّ في بقاء عنوان الموضوع مع العلم بكونه عنوان الموضوع.

وبالجملة الفرق واضح بين أن يشكّ في أنّ موضوع القبح الذي يحكم به العقل هو الكذب مطلقا أو بقيد كونه مضرّا ، وبين أن يشكّ في بقاء مضرّة الكذب الفلاني مع العلم بأنّ موضوع

٩٨

__________________

حكم العقل هو الكذب المضرّ ، وكلامه في التنبيهات خال عن هذا الخلط والخلل ، لأنّه بيّن كلا من الأمرين ووجّه حال تحقّق الإستصحاب في كلّ منهما على حدة ببيان أوضح ممّا هنا هذا ، وقد بقي الكلام في صحّة الدليل المذكور هنا لعدم جواز استصحاب حكم العقل بالمعنى المذكور وسقمه وسيأتي التعرّض له عن قريب فانتظر.

وأمّا المعنى الثالث : وهو استصحاب موضوع حكم العقل كما اذا شكّ في بقاء مضرّية الصدق الفلاني بعد ما كان مضرّا في السابق مع فرض أنّ موضوع حكم العقل بالقبح هو عنوان المضرّ المنطبق على المشكوك قبل طروّ الشكّ ، فاستدلّ الماتن على عدم تحقّق الاستصحاب فيه بما ملخّصه :

أنّ موضوع حكم العقل هو المضرّ الواقعي تحقيقا ، وباستصحاب بقاء مضرّية الصدق الذي كان مضرّا في السابق لا يثبت موضوع حكم العقل بالقبح ليتفرّع عليه حكم الشرع بالحرمة بقاعدة الملازمة ، لأنّ موضوع حكم العقل بالقبح هو المضرّ الواقعي لا المضرّ التنزيلي الثابت بالإستصحاب ، فإذا لم يتحقّق موضوع حكم العقل بالقبح بالإستصحاب لم يتحقّق موضوع حكم الشرع بالحرمة أيضا ، لأنّ حكم الشرع هنا تابع لحكم العقل يدور مداره وجودا وعدما حكما وموضوعا.

ولكن التحقيق جريان استصحاب الموضوع هنا بملاحظة كونه موضوعا لحكم الشرع بالحرمة ولا يحتاج إلى توسيط كونه موضوعا لحكم العقل في مقام إجراء الإستصحاب وإن كان حكم الشرع تابعا لحكم العقل من أوّل الأمر ، بيان ذلك :

أنّ لنا في المقام قضية عقليّة بأنّ المضرّ قبيح دلّ عليها العقل ، لم يطرأ شك بالنسبة إليها لا في موضوعها ولا في حكمها ، ولنا قضية شرعية بأنّ المضر حرام دلّ عليها قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع ، لم يطرأ شك بالنسبة إليها أيضا ، ولا ريب أنّ الموضوع في كلّتا القضيّتين شيء واحد وهو عنوان المضرّ ، فكلّما تحقّق عنوان موضوع إحدى القضيّتين في مصداق

٩٩

__________________

خارجي تحقّق عنوان موضوع القضية الأخرى ؛ ضرورة اتّحاد عنوانهما ، وحينئذ نقول :لو فرض أنّ الصدق الفلاني مضرّ كان من مصاديق موضوع حكم العقل بالقبح وحكم الشرع بالحرمة ، فإذا شكّ في الزمان الثاني في بقاء مضرّيته يقال : إنّه كان مضرّا في السابق والأصل بقاء مضريته ليترتّب عليه الحرمة الشرعيّة ، ولا نحتاج إلى أن نقول : الأصل بقاء مضرّيته ليترتّب عليه حكم العقل بالقبح ثمّ تثبت به الحرمة الشرعيّة ، وإنّما كان حكم العقل واسطة في ثبوت الحرمة الشرعيّة من أوّل الأمر للموضوع الكلّي وهو عنوان المضرّ ، وذلك الحكم العقلي بعد باق لم يطرأ عليه شكّ.

نعم كان العلم بحرمة هذا المصداق من الأوّل بتوسيط حكم العقل ، إلاّ أنّ هذا لا يلازم أن يكون حكمنا عليه بالحرمة بسبب حكمنا ببقاء الموضوع أيضا بتوسيط حكم العقل.

ونظير ذلك بعينه أنّه لو قامت البيّنة على عدالة زيد مثلا وحكمنا بعدالته وجواز الإقتداء به وإيقاع الطلاق عنده الى غير ذلك ممّا يترتّب على العدالة بحكم الشرع ، فإذا حصل الشك في عدالته يقال : الأصل بقاء عدالته فيترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المترتّبة على العدالة ، ولا يحتاج إلى أن يقال : الأصل بقاء عدالته فهو عادل بحكم البيّنة فيثبت عدالته شرعا بدليل حجّيّة البيّنة ، وإنّما كانت البيّنة واسطة في إثبات عدالته من الأوّل ، وإن تردّدت البيّنة في عدالته الآن أو كان أحد الشاهدين جازما عدالته الآن فصار بعد قيام البيّنة عادلا شرعا ، فإذا شكّ في بقائها تستصحب لترتيب الأحكام الشرعيّة عليها من دون واسطة إدراجه فيما يشهد به البيّنة ثمّ ترتيب الأحكام الشرعيّة.

نظيره أيضا ما لو قام الإجماع على أنّ المضرّ حرام وشك في بقاء مضرّية الصدق الفلاني فلا يتأمّل في صحّة استصحاب المضرية ليترتّب عليه الحرمة ، ولا يحتاج إلى إدراجه فيما قام الإجماع على حرمته ثمّ يحكم بترتّب حكم الحرمة شرعا عليه لكي يورد عليه : أنّ هذا المصداق الآن لا يعلم أنّه من مصاديق الموضوع الذي قام الإجماع على حرمته هذا ، والذي

١٠٠