بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

فلا معنى للرّجوع إليه.

وأمّا عدم استقامة أقرب الأصناف ، فلإيجابه تخصيص اعتبار الاستصحاب بموارد قليلة.

وأمّا عدم الضّابط لتعيين المتوسّط من الأصناف فلتعذّره في أكثر الموارد ؛ حيث إنّ كثيرا من الأشياء مندرج تحت أصناف كثيرة ، فكيف يشخّص المتوسّط؟ فالمراد عدم الدّليل على تعيين المتوسّط ، لا عدم الدّليل على اعتبار الغلبة بالنّسبة إليه ، كما قد يتوهّم من العبارة فتدبّر.

(٢١٨) قوله ( دام ظلّه ) : ( مع أنّ اعتبار الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٩٤ )

أقول : ما ذكره في قوّة جواب آخر.

وحاصله : أنّه لو سلّم مانعيّة تردّد المستصحب بين ما انتفى وما هو باق عن التمسّك بالاستصحاب على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن ؛ لمنع من حصول الظّن ببقاء المردّد حينئذ ؛ لما قد عرفت : من قضيّة السّببيّة في شكّه ، لكن لا نسلّم مانعيّته عن استصحابه بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار المتوقّف جريانها في موارده على صدق البقاء عرفا.

(٢١٩) قوله ( دام ظلّه ) : ( لأنّ النّبوّة نظير سائر الأمور ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٤٠ ) (١)

أقول : توضيح ما ذكروه : هو أنّ نبوّة كلّ نبيّ ليس نوعا من النّبوة حتّى يلاحظ في استصحاب نبوّة نبيّ من الأنبياء استعداد أغلب النّبوّات للبقاء ، بل هي

__________________

(١) أقول : لم نجده في طبعة المؤتمر ووجدناه في طبعة جماعة المدرسين ص ٦٤٠ كما أشرنا إليه ، وهي بعد فيها بين معقوفتين إشارة إلى أنها في بعض النسخ.

٦٠١

فرد من النّبوة يكون المقتضي لمقدار بقائها المصلحة الواقعيّة الّتي لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب ، فالنّبوة من هذه الجهة كسائر الأحكام الشّرعيّة يكون المقتضي لمقدار بقائها نفس المصلحة الواقعيّة ، فابتناء ردّ الكتابي على ما ذكره : من الكليّة على فرض تماميّته : من أنّه لا بدّ في استصحاب نوع من الكلّي ملاحظة استعداد أغلب أنواعه ، ممّا لا وجه له.

وقد يقال : إن نسخ النّبوة ورفعها ممّا لا معنى له ، وإنّما المنسوخ والمرتفع هو الحكم الثّابت من النّبي فتدبّر.

وسيجيء تفصيل الكلام في ردّ الكتابي ، وفي صحّة الاستصحاب الّذي تمسّك به بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وقد صرّح ( دام ظلّه ) فيما سيجيء من كلامه في الموضع المذكور بعدم قابليّته للارتفاع.

(٢٢٠) قوله ( دام ظلّه ) : ( وأمّا الثّالث : وهو ما إذا كان الشّك ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٩٥ )

في انقسامات القسم الثالث وأنّ الحق فيها

التفصيل من حيث جريان الاستصحاب

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا القسم بناء على ما ذكره ( دام ظلّه العالي ) يرجع إلى ثلاثة أقسام :

أحدها : ما لو علم بوجود الكلّي في ضمن فرد مشخّص معيّن وعلم انعدام هذا الفرد أيضا ، لكن يحتمل وجود فرد آخر غير هذا الفرد المعلوم انعدامه مقارنا

٦٠٢

معه في الوجود ، أو قبل انتفائه وانعدامه ، بحيث يعلم أنّه على تقدير الوجود يكون باقيا فيشكّ من جهته في ارتفاع الكلّي وبقائه.

ثانيها : أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فرد معيّن وعلم انتفاء ذلك الفرد قطعا ، لكن يحتمل أن يحدث فرد آخر حين انتفائه بتبدّله إليه.

ثالثها : هذه الصّورة بتغاير كون احتمال وجود فرد آخر بعد انتفائه من جهة مجرّد احتمال حدوثه مقارنا لزمان انتفائه لا من جهة احتمال التّبدّل كما في القسم الثّاني.

وذكر الأستاذ العلاّمة وجوها ثلاثة في حكم هذه الأقسام :

أحدها : عدم جريان الاستصحاب مطلقا ؛ لأنّ المستصحب في جميع المقامات إنّما هو وجود الشّيء لا ماهيّته ؛ لأنّ استصحاب الماهيّة مع عدم كونها معروضة للحكم الشّرعي أصلا حسب ما تقرّر في محلّه غير معقول ؛ لعدم طروّ الشّك بالنّسبة إليها أصلا ؛ لاستحالة تغيّر الماهيّة عمّا عليه وانعدامها ؛ ضرورة أنّ العدم إنّما يلاحظ بالنّظر إلى الوجود ، وهذا مع كمال وضوحه وظهوره بحيث لا يعتريه ريب قد أقيم البرهان عليه في محلّه.

ومن المعلوم ضرورة أنّ وجود الكلّي الطّبيعي والماهيّة في ضمن فرد غير وجودها في ضمن فرد آخر ، والظّاهر من الأخبار هو الحكم بإبقاء نفس ما تعلّق به اليقين في الزّمان السّابق بحيث لا يكون فرق بين ما تعلّق به اليقين وما تعلّق به الشّك إلاّ تغاير الزّمان ، فالّذي تعلّق به اليقين في هذه الصّور هو وجود الكلّي في ضمن أحد الأفراد قد انتفى قطعا ، والّذي تعلّق به الشّك وهو وجوده في ضمن فرد آخر غير متيقّن سابقا فلا معنى لاستصحابه ، بل يرجع إلى استصحاب عدمه.

٦٠٣

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكرت لما جرى الاستصحاب في القسم الثّاني ؛ إذ ما ذكرته بعينه جار فيه أيضا ؛ إذ لا يفرّق في عدم جريان الاستصحاب بين أن يعلم أنّ الوجود المتيقّن غير الوجود المشكوك ، أو يشكّ في ذلك ؛ إذ معه أيضا لا يعلم أنّ ما تعلّق به اليقين عين ما تعلّق به الشّك.

نعم ، لا إشكال في جريان الاستصحاب بناء على ما ذكرت في القسم الأوّل ، فلا بدّ أن يختصّ القول بجريان الاستصحاب في الكلّي به.

قلت : قياس القسم الثّاني على القسم الثّالث قياس مع الفارق ؛ لاتّحاد ما تعلّق به اليقين مع ما تعلّق به الشّك في القسم الثّاني ؛ لأنّ متعلّق اليقين فيه هو وجود الكلّي في ضمن أحد الفردين لا على التّعيين ، ومتعلّق الشّك هو بقاء هذا المتيقّن الّذي تعلّق العلم به. هكذا ذكره الأستاذ العلاّمة.

ثانيها : الجريان مطلقا نظرا إلى أنّ الوجود المتيقّن سابقا يلاحظ تارة : من حيث كونه محقّقا للفرديّة ، وأخرى : من حيث تعلّقه بالكلّي ، والممنوع من استصحابه هو الأوّل لا الثّاني. وبعبارة أخرى : المراد إنّما هو استصحاب وجود النّوع بالنّسبة إلى الأحكام المتعلّقة به ، ومن المعلوم أنّ تعدّد الوجودات لا ينافي صدق البقاء بالنّسبة إليه ، وإن كان منافيا بالنّسبة إلى الشّخص.

ثالثها : التّفصيل بين الأقسام الثّلاثة ، فيجري في القسم الأوّل دون القسمين الأخيرين ؛ حيث إنّ فيهما يعلم بارتفاع الوجود الأوّل قطعا ، وإنّما الشّك في قيام وجود آخر مقامه ، وهذا بخلاف القسم الأوّل ؛ فإنّ وجود الكلي على تقدير ثبوته في الزّمان اللاّحق هو عين وجوده الأوّلي ، فيصدق فيه البقاء بخلاف القسمين الأخيرين ، وهذا هو المختار عند الأستاذ العلاّمة « دام ظلّه العالي » في « الكتاب » وفي مجلس البحث.

٦٠٤

وقد صرّح ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : بأنّ هذا التّفصيل مبنيّ على المداقّة بمعنى كون الحكم بالجريان في القسم الأوّل مبنيّا على الدّقة العقليّة لا المسامحة العرفيّة ، حتّى يدّعى جريانه في القسمين الأخيرين أيضا ، مع أنّها دعوى فاسدة على إطلاقها.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) مناف لتصريحه في « الكتاب » : بأنّ مرجع الشّك فيه إلى الشّك في مقدار استعداد الكلّي ؛ لأنّ مقتضاه كون الشّك فيه من قبيل الشّك في المقتضي لا الشّك في الرّافع ، مع العلم بمقدار الاستعداد هذا.

مع أنّه لو لم يكن مبنى هذا التّفصيل على المسامحة العرفيّة ، مع دعوى جريانها في القسم الأوّل وعدم جريانهما في القسمين الأخيرين ، لم يستقم ما ذكره قطعا ، وإن كان جريان الاستصحاب في القسم الأوّل مطلقا على تقدير البناء عليها أيضا لا يخلو عن إشكال ، فإن أردت شرح هذا الكلام فاستمع لما يتلى عليك من التّفصيل حسب ما يساعدنا التّوفيق من الملك الجليل متقدّما عليه الفرق بين القسم الثّالث والقسم الثّاني حتّى تكون على بصيرة ، فنقول :

أمّا الفرق بين القسم الثّاني والثّالث فيقع الكلام فيه :

تارة : بالنّسبة إلى جريان وجه عدم جريان الاستصحاب فيه بالنّسبة إليه.

وأخرى : بالنّسبة إلى توجّه الإشكال المدفوع في القسم الثّاني من حديث السّببيّة والمسبّبيّة بين الشّك في بقاء الكلّي ووجود الفرد في المقام وعدمه.

أمّا الكلام في الجهة الأولى فحاصله :

أنّك قد عرفت في طيّ الاستدلال على الفرق بينهما ، لكنّه كان مبنيّا على ما ذكره الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) والحقّ جريان وجه عدم جريان الاستصحاب في

٦٠٥

القسم الثّالث في القسم الثّاني أيضا وإن كان أخفى من جريانه فيه ؛ لأنّ المتيقّن سابقا هو وجود الكلّي في ضمن إحدى الخصوصيّتين لا على التّعيين ، والمشكوك لا حقا هو وجوده في ضمن إحدى الخصوصيّتين على التّعيين ، فاختلف المتيقّن والمشكوك فتأمّل.

اللهمّ إلاّ أن يبتنى الاستصحاب على حكم العرف بالبقاء مع دعوى حكمهم به في القسم الثّاني دون الثّالث ، ولكنّه خارج عن الفرض فتأمّل.

وأمّا الكلام في الجهة الثّانية : فالحقّ هو ثبوت الفرق بينهما ؛ حيث إنّ الشّك في بقاء الكلّي في القسم الثّاني لم يكن مسبّبا عن الشّك في وجود الفرد بخلاف المقام ؛ فإنّ الشّك في بقاء الكلّي مسبّب عن الشّك في وجود الفرد بأقسامه الثّلاثة كما لا يخفى ؛ لأنّ وجود الكلّي في ضمن أحد الفردين معيّنا وارتفاعه بالنّسبة إليه قطعيّ ، وإنّما الشّك فيه بطرفيه مسبّب عن الشّك في وجود الفرد الآخر ، فأصالة عدمه حاكمة على استصحاب بقاء الكلّي هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا السّببيّة إنّما ينفع بناء على رأي المشهور : من كون اعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو بناء على رأي بعض من لم يفرّق على القول باعتباره من باب الأخبار بين لوازم المستصحب ؛ فإنّه بأصالة عدم وجود الفرد على هذين القولين يمكن إثبات عدم وجود الكلّي وإن كان من لوازمه العقليّة ، ولهذا لم يظهر من كلماتهم استصحاب الكلّي في أمثال الفرض.

وأمّا بناء على القول باعتباره من باب الأخبار مع القول باختصاصه بإثبات الآثار الشّرعيّة ، فلا إشكال في أنّ هذه السّببيّة لا ينفع أصلا ؛ لأنّ انعدام الكلّي بانعدام الفرد ليس من اللّوازم الشّرعية ، بل من اللّوازم العقليّة. وهذا بخلاف القسم

٦٠٦

الثّاني ؛ فإنّه على القول باعتبار الأصول المثبتة أيضا لم ينفع الاستصحاب هناك لمكان المعارضة.

نعم ، على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة أيضا يمكن القول بعدم جريان الاستصحاب في الكلّي في القسم الثّالث حتّى بالنّسبة إلى الصّورة الأولى فتدبّر.

هذا مجمل القول فيما ينبغي تقديمه.

تفصيل شرح ما يتعلّق باستصحاب الكلّي وأقسامه

أمّا الكلام في أصل المسألة فنقول :

إنّ الحقّ عدم جريان استصحاب الكلّي في جميع أقسام هذا القسم حتّى بالنّسبة إلى القسم الأوّل منها بالنّظر إلى الدّقة العقليّة ؛ لعدم وجود المتيقّن سابقا في جميعها.

توضيح ذلك : أنّه لا إشكال ولا ريب أنّه على القول بوجود الكلّي الطّبيعي بوجود الفرد ـ كما عليه المحققون ـ يكون وجود الكلّي عين وجود الفرد ، وإن كان له اعتباران وإضافتان ، إحداهما : بالنّسبة إلى الكلّي ، وأخرى : بالنّسبة إلى الفرد ، فبعد القطع بانتفائه لا يعقل احتمال وجود الكلّي وإن احتمل وجوده بوجود فرد آخر ، ولا ريب أيضا بل لا خلاف في تعدّد وجود الكلّي بتعدّد الحصص والأشخاص وتغاير الوجودات جميعا ، ولهذا يصير موردا للضّدين باعتبار شخصين ، ولا ريب أيضا أنّ ما يتعلّق بالطّبائع باعتبار الوجود من الأحكام والآثار الشّرعيّة فإنّما يتعلّق بها باعتبار مصداق الوجود لا مفهوم الوجود ، وإلاّ لعاد المحذور.

٦٠٧

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه لا إشكال في أنّ الّذي تعلّق به اليقين في السّابق هو وجود الكلّي في ضمن أحد الفردين بخصوصه ، فإذا قطع بانعدام الفرد فيقطع بارتفاع هذا الوجود للكلّي لما عرفت : من قضيّة الاتّحاد ، وما يشكّ فيه هو وجود الطّبيعة في ضمن فرد آخر ، وهذا المشكوك غير ذلك المتيقّن ؛ لما عرفت من تغاير وجودات الكلّي بتعدّد الأشخاص والحصص ، فلا بدّ أن يرجع مع هذا الشّك إلى الاستصحاب العدمي ، والمفروض أنّ الحكم المتعلّق بالكلّي باعتبار الوجود إنّما تعلّق به باعتبار شخص الوجود فإذن لا متيقّن سابقا حتّى يستصحب ، مع أنّه لو قيل بتعلّق الحكم بالطّبيعة من حيث هي هي ، أو بها باعتبار مفهوم الوجود لم يعقل طروّ الشّك لاستحالة انعدام المفهوم حسب ما عرفت سابقا ، فيتعيّن حينئذ الرّجوع إلى استصحاب عدم الكلّي.

فتبيّن من جميع ما ذكرنا : أنّ الحقّ عدم جريان الاستصحاب في جميع الأقسام وفساد القول بجريان الاستصحاب مطلقا ، وكذلك القول بالتّفصيل كما اختاره ( دام ظلّه ) ؛ لأنّه إن لاحظ في القسم الأوّل وجود النّوع مع الغضّ عن جهة الوحدة ؛ نظرا إلى بقاء الكلّي ببقاء الحصص فذلك جار بعينه في القسمين الأخيرين أيضا ، وإن لوحظ فيهما وجوده الشّخصي من حيث الوحدة فذلك جار بعينه في الأوّل أيضا.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا كلّه إنّما هو على القول باعتبار الاستصحاب من باب الدّقة العقليّة ، وأمّا على القول باعتباره من باب المسامحة العرفيّة ، فقد يستشكل في الحكم بمساعدة العرف بالحكم بالبقاء في جميع صور القسم الأوّل أيضا فتأمّل.

٦٠٨

الفروع التي لم يلتزم أحد بجريان الاستصحاب فيها

ثمّ إنّ هنا فروعا لم يلتزم أحد بجريان الاستصحاب فيها ، مع أنّه قد يقال : إنّ لازم ما اختاره الأستاذ العلاّمة من التّفصيل هو جريانه فيها لا بأس بذكر بعضها.

فمنها : ما لو علم المكلّف بوجود الحدث في ضمن الأصغر منه ويشكّ في وجود الحدث الأكبر أيضا سواء كان قبل القطع بحدوث الحدث الأصغر أو بعده ، مع عدم إتيانه بما يرفعه ، أو مقارنا مع العلم بوجوده ، ثمّ أتى بما يقتضي رفع الحدث الأصغر ، فمقتضى ما ذكره ( دام ظلّه ) حينئذ هو الرّجوع إلى استصحاب بقاء الحدث الكلّي القدر المشترك بين الحدثين والحكم بعدم جواز دخوله في الصّلاة وعدم جواز مسّه لخطّ المصحف ، وأسماء الله ، وأنبيائه ، وأوليائه ( عليهم الصّلاة والسّلام ) إلى غير ذلك من الأحكام المترتّبة على وجود كلّي الحدث من غير اعتبار وجود خاصّ فيه ، مع أنّه لم يلتزم به أحد.

نعم ، ذلك لا يتصوّر فيما لو علم بوجود الحدث في ضمن الأكبر منه كما لا يخفى.

ومنها : ما لو احتمل خروج ما يحتاج إلى الدّلك مع البول والغائط مع غسل المخرجين بما يوجب تطهيرهما عنهما لو لم يكن معهما غيرهما ، وكذا لو احتمل خروج ما يعتبر التّعدد في إزالته كالدّم مثلا إلى غير ذلك.

ومنها : ما لو علم المكلّف بكونه مديونا بمقدار معيّن وشكّ في اشتغال ذمّته بمقدار آخر في أحد الأزمنة الّتي عرفتها في الفرض السّابق ، ثمّ أدّى المقدار الّذي

٦٠٩

يعلم به ، فمقتضى ما ذكره : هو استصحاب الدّين وترتيب جميع أحكامه المترتّبة عليه من حيث هو ، وكذا لو علم اشتغال ذمّته بمقدار من الفوائت معيّنا ويشكّ في اشتغال ذمّته بالزّائد قبل إتيانه بما يعلم به ، فبعد الإتيان به لا بدّ من الحكم باستصحاب كلّي الفائتة وترتّب أحكامها ، وكذا في باب الزّكاة والخمس إلى غير ذلك ممّا دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، مع أنّ أحدا لم يلتزم بجريان الاستصحاب في أمثال هذه الموارد.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ هذا إنّما يرد على ما ذكره الأستاذ العلاّمة ، وإلاّ فقد عرفت : أنّ لازم المشهور هو الحكم بعدم جريان الاستصحاب في جميع أقسام القسم الثّالث ؛ لما قد عرفت : من حكومة أصالة عدم وجود الفرد ـ على مذهبهم ـ على أصالة بقاء الكلّي ، وإن كان يظهر من بعضهم في بعض أمثلة الفرض التّمسّك بالاستصحاب ، ولعلّه مبنيّ على غفلته. بل قد يقال : إنّ لازم القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة ذلك أيضا بالنّسبة إلى جميع الصّور ؛ لأنّ عدم الفرد عين عدم وجود الكلّي من حيث تحصله به فتأمّل.

وقد أجاب الأستاذ العلاّمة بمنع الملازمة بين ما ذكره وجريان الاستصحاب في هذه الموارد :

أمّا بالنّسبة إلى الفرع الأخير : فبأنّ جريان الاستصحاب فيه مبنيّ على القول بجريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الاشتغال ومقتضى التّحقيق فساد هذا القول ، فيرجع بالنّسبة إلى الزّائد إلى البراءة مع جريان ما نذكره في التّفصي عن المثال الأوّل بالنّسبة إلى أكثر أمثلته أيضا إن لم يجر بالنّسبة إلى كلّها.

أمّا بالنّسبة إلى الفرع الأوّل : فإن فرض الكلام في صورة التّقارن بمعنى : أنّه

٦١٠

لا يعلم أنّ الحادث هل هو خصوص الحدث الأصغر ، أو هو مع الأكبر ، فيدخل في القسم الثّاني من الأقسام في أصل إجراء الاستصحاب في الكلّي ؛ لأنّ الحدث الأصغر لا أثر له في صورة الاجتماع مع الحدث الأكبر ، فيرجع الأمر بالآخرة إلى الدّوران بين الغسل والوضوء بالدّوران التّبايني ، فيلتزم حينئذ باستصحاب القدر المشترك كما في القسم الثّاني.

وإن فرض في صورة كون احتمال الحدث الأكبر مقدّما على العلم بالحدث الأصغر ، فيرجع الشّك إلى وجود المانع عن تأثير الحدث الأصغر ، والمفروض أنّه لا استصحاب حينئذ لعدم الحالة السّابقة فيحكم بأصالة عدمه ، وأنّ الأحكام المترتّبة على المتطهّر وغير المحدث غير مشروط بغير الوضوء ، فبعد الوضوء لا معنى لاستصحاب القدر المشترك ليترتّب أحكام الحدث الكلّي عليه ؛ إذ معناه عدم الاكتفاء بالوضوء وقد فرضنا حكم الشارع بالاكتفاء به.

وإن فرض في صورة تأخّر احتمال الحدث الأكبر ، فمقتضى الحكم برافعيّة الوضوء شرعا بالاستصحاب ـ الثّابتة في صورة عدم احتمال الحدث ، وعدم اشتراط جواز الدّخول في الصّلاة ، ومسّ المصحف ، وغيرهما من أحكام الحدث بغير الوضوء ـ هو عدم الاعتناء باحتمال وجود القدر المشترك بعد الوضوء ، فمعنى حكم الشارع باستصحاب وجوب الوضوء إذا فرضنا كون وجوده مطلوبا من جهة كونه محصّلا للطّهارة المشروطة بها صحّة أمور في الشّريعة.

كما هو المفروض كون الوضوء رافعا للحدث بحكم الشارع فلا يبقى مجال لاستصحابه بعد الوضوء ، فقبل الوضوء يحكم بعدم اشتراط الأمور المشروطة بالطّهارة بغير الوضوء ، فاستصحاب الكلّي إنّما يستقيم فيما لم يكن الفرد المحتمل

٦١١

رافعا لأثر الفرد المتيقن الوجود كما في مثال الحيوان ونظائره ، وإلاّ فلا يجوز استصحاب الكلّي ، إلاّ في صورة احتمال التّقارن حسب ما عرفت هذا محصّل ما أفاده ( دام ظلّه ).

ولكنّك قد عرفت : أنّ الحقّ هو عدم جريان الاستصحاب في الكلّي في جميع الأقسام الثّلاثة إلاّ فيما يساعد العرف على الحكم بأنّ عدم ترتّب الأثر على الكلّي في الزّمان اللاّحق يكون نقضا لليقين كما فيما فرضه الأستاذ العلاّمة من الأمثلة في « الكتاب » للقسم الثّاني لو بني على كفاية صدق البقاء عرفا في باب الاستصحاب حسب ما صرّح به الأستاذ العلاّمة هنا ، وستقف على تفصيل القول فيه منه ومنّا فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(٢٢١) قوله ( دام ظلّه ) : ( ولذا لا إشكال في استصحاب الأعراض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٩٦ )

أقول : لا بدّ من أن يستثنى من ذلك ما كان من الأعراض من مقولة الحركة ، والزّمانيّات الّتي تتصرّم وجودها فيوجد شيئا فشيئا كالزّمان ، كالمشي والتكلّم ونحوهما ؛ فإنّه ربّما لا يساعد العرف في الحكم بالبقاء في بعض الموارد حتّى على القول بكونها من مقولة الكمّ المتّصل ، فكلّ مقدار يتحقّق في الخارج يكون شيئا واحدا على ما ستقف عليه.

نعم ، ما لا يكون منها من مقولة الحركة فلا إشكال في استقامة ما أفاده بالنّسبة إليه ، بل الأمر كذلك بالنّسبة إلى الجواهر أيضا على القول بالحركة الجوهريّة.

٦١٢

(٢٢٢) قوله ( دام ظلّه ) : ( ولقد أجاد فيما أفاد من عدم جواز استصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٩٧ )

بيان حال أصالة عدم التذكية

أقول : لا يخفى عليك أنّ حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) في بيان عدم مماثلة استصحاب عدم التّذكية مع استصحاب الضّاحك الموجود في ضمن زيد لإثبات وجود عمرو فيها بعد موت زيد يرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنّ الحكم الّذي أراد المشهور ترتّبه على استصحاب عدم التّذكية من الحرمة والنّجاسة لم يترتّب على الموت حتف الأنف حتّى يحتاج إلى إثباته باستصحاب عدم التّذكية ، فيصير من قبيل استصحاب القدر المشترك الموجود في ضمن فرد لإثبات فرد آخر ، بل إنّما يترتّب على الغير المذكّى ، كما في النّجاسة ، أو على أكل غير المذكّى ، كما في الحرمة فيحكم بمقتضى استصحاب عدم تحقّق التّذكية في اللّحم أنّه غير مذكى ، فبالأصل يحكم في الظّاهر أنّ المشكوك من أفراد ما ترتب عليه الحرمة والنّجاسة واقعا. وهذا هو مراده ( دام ظلّه ) وإن كان في بعض أجزاء العبارة نوع تسامح لكنّ المراد معلوم من ملاحظة تمامها.

فإن قلت : إذا فرضت ترتّب الحكم الشّرعي على لحم لم يكن خروج الرّوح منه بطريق التّذكية ، كيف يمكن إثبات هذا الموضوع باستصحاب عدم التّذكية؟ مع أنّه ليس نفس المستصحب. هب أنّ الحكم لم يترتّب على الموت حتف الأنف ، إلا أنّ المحذور الّذي يلزم على تقديره يلزم على التّقدير الّذي ذكرته أيضا ؛ فإن المفروض أنّ نفس عدم التّذكية ليس موضوعا للحكم الشّرعي ؛ لاستحالة تعلّق

٦١٣

الحكم بالأمر العدمي مستقلاّ ، بل ولا تبعا ؛ لاستحالة التّأثير في الأعدام.

قلت : ما ذكرته من عدم ترتّب الحكم على عدم التّذكية من حيث هو هو ، ممّا لا شبهة فيه ، إلاّ أن ما جزمت به : من أنّه لو كان الحكم مترتّبا على غير المذكّى لم يمكن إثباته بالأصل ؛ لأنّه تعويل على الأصل المثبت جزم في غير محلّه ؛ لأنّ المحتاج إلى إثباته بعد فرض تعلّق الحكم الشّرعي بغير المذكّى لا يكون إلاّ عدم التّذكية فلا نريد من إثباته إثبات موضوع آخر مشكوك حتّى يكون تعويلا على الأصل المثبت.

نعم ، لو أريد إثبات المعنى المذكور بنفس استصحاب عدم التّذكية من غير إضافته إلى الأمر الوجودي المشكوك تذكيته لم يكن له معنى أصلا ، وأمّا لو أريد إثباته باستصحاب عدم تذكيته ، فلا شبهة فيه لعدم وجود واسطة أخرى حينئذ ، ولو بني على عدم اعتبار الاستصحاب في أمثال المقام لزم عدم جريان الاستصحاب في كثير من المقامات الّتي لا شبهة في جريانه فيها. والحاصل : أنّ ما ذكرنا واضح في الغاية.

وأمّا شبهة استحالة مدخليّة العدم في التّأثير ، فهي مندفعة : بأنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التّامة المؤثّرة في الوجود ، فكيف يقال ـ مع ذلك ـ باستحالة مدخليّة الأمر العدمي في التّأثير؟

نعم ، العدم بقول مطلق من دون إضافته إلى شيء لا أثر له أصلا ، لكنّه لا تعلّق له بالمقام كما لا يخفى.

فإن قلت : إن أردت بعدم التّذكية المستصحب هو المجامع مع الحياة فلم يترتّب عليه شرعا ما أريد ترتيبه في الزّمان اللاّحق ، وإن أريد عدم التّذكية حين

٦١٤

خروج الرّوح فلا يكون له حالة سابقة ، مع أنّه معارض بالمثل ؛ فإنّه كما يقال : الأصل عدم كون خروج روح هذا الغنم بطريق التّذكية ، كذلك يقال : الأصل عدم خروج روحه بغير طريق التّذكية.

قلت : أوّلا : لا يشترط في الاستصحاب ترتّب الحكم الّذي أراد منه المستصحب في الزّمان السّابق ، بل يكفي ترتّبه عليه ولو في الزّمان اللاّحق حسب ما ستقف على تفصيل القول فيه في الاستصحاب التّعليقي.

وثانيا : أنّ الحكم بعدم تحقّق الحالة السّابقة على التّقدير الثّاني ممّا لا معنى له ؛ فإنّ العدم الأزلي مستمرّ دائما ، إلاّ إذا فرض قطعه بالوجود في زمان.

وثالثا : أنّ المعارضة الّتي ذكرتها على التّقدير الثّاني ممّا لا معنى لها ؛ لعدم ترتّب الأثر الشّرعي على الأصل المعارض ، وما يترتب عليه أثر لا يمكن إثباته بالأصل ؛ لأنه بأصالة عدم خروج الرّوح بغير التّذكية لا يمكن إثبات كونه بطريق التّذكية ، وإلاّ فيلزم التّعويل على الأصل المثبت ، وما لم يثبت ذلك لم يترتّب عليه أثر كما لا يخفى.

وهذا بخلاف أصالة عدم كون خروج الرّوح عن المشكوك بطريق التّذكية فإنّه لا يريد بها إثبات موضوع آخر ؛ لأنّ الحكم الشّرعي مترتّب على نفس كونه غير مذكّى ، وهذا أصل يجري في كلّ ما قطع بحدوث شيء وشكّ في الحادث.

نعم ، لو ترتّب الأثر الشّرعي على كلّ من مجرى الأصلين على وجه يفضي إلى التّعارض أو لم يترتّب عليهما أثر أصلا كان الحكم عدم اعتبار الأصلين هذا. وقد عرفت الإشارة إلى ذلك سابقا وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى بعد هذا.

٦١٥

فإن قلت : ما ذكرته إنّما يصحّ على تقدير إجراء الأصل في نفس عدم التّذكية ، وأمّا لو أجري في شرط من شروطها مشكوك وجوده ـ كما يظهر من الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » ـ فلا ؛ لأنّ استلزام عدم الشّرط عدم المشروط عقليّ لا يمكن إثباته بالأصل.

قلت : ما ذكره الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) مبنيّ على ما بنى عليه الأمر في الجزء الثّاني من « الكتاب » وغيره : من أنّ عدم الشّرط عين عدم المشروط وعدم الجزء عين عدم الكلّ ، وإن كان الحقّ فيه التّفصيل بالنّظر إلى ملاحظة الذّات والوصف. والحاصل : أن هذه الإيرادات غير واردة على المشهور قطعا ، فالإشكال في المسألة من جهتها ممّا لا ينبغي لأحد.

نعم ، هنا شيء لم يتعرّض له الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » ولا في مجلس البحث قد ينتصر به للقائل بعدم اعتبار الاستصحاب المذكور من جهة المعارضة وهو :

أنّ التّفصيل الّذي ذكرنا في مسألة الشّك في الحادث إنّما يستقيم على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة حسب ما هو قضيّة التّحقيق ، وأمّا على القول باعتبارها كما عليه المشهور : من جهة ذهابهم إلى كون اعتبار الاستصحاب من باب الظّن ـ كما عن الأكثرين ـ أو من باب التّعبّد مع عدم الفرق بين الأصول المثبتة وغيرها ـ كما عن جماعة ممّن تأخّر ـ فلا وجه للتّفصيل المذكور ، بل يجوز إجراء الأصل في المقام وأمثاله من كلّ من الطّرفين.

فكما يقال : الأصل عدم كون خروج الرّوح بطريق الموت حتف الأنف ، فيثبت كون المشكوك وقع عليه التّذكية ، إذ لا يلزم عليه شيء إلاّ كونه من الأصول

٦١٦

المثبتة ، والمفروض الالتزام باعتبارها.

والحاصل : أنّ ترتّب الأحكام في الشّريعة على التّذكية وعدمها لا يمنع من المعارضة الّتي ذكرها المانع على القول باعتبار الأصول المثبتة ، ولم يظهر لي ما يدفع هذا الإشكال على هذا التّقدير.

نعم ، بناء على القول : بأنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ـ كما ستقف عليه في الوجه الثّاني ـ لم يكن معنى للمعارضة المذكورة كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : من أنّه إذا بني على أنّ الموت عبارة عن خصوص خروج الرّوح عن الأنف ـ كما هو ظاهر كلام المانع ـ يوجد هنا واسطة بين المذكّى والميتة ، فبأصالة عدم الموت لا يمكن إثبات التّذكية ؛ ضرورة أنّ نفي أحد الضّدين إنّما يستلزم ثبوت ضدّ الآخر فيما لم يكن لهما ثالث.

فمدفوع : بأنّ للمانع أن يتمسّك حينئذ بنفي جميع الأضداد بالأصل فيثبت التّذكية ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه غير مطلب المانع ؛ فإنّ الظّاهر من كلامه المعارضة بين أصالة عدم الموت والتّذكية لا بين أصالة جميع الأضداد وأصالة عدم التّذكية.

ولكن يدفعه : أنّ ما ذكرنا من جانب المانع لم يكن مستفادا من كلامه ، بل ظاهر كلامه خلافه ؛ حيث إنّه ظاهر في كون الحرمة والنّجاسة من أحكام الميتة ، وإنّما هو كلام ذكرناه من قبله على تقدير غير مسلّم عنده ، فلا مانع من أن يلتزم على هذا التّقدير بما ذكرنا من إجراء الأصل في جميع الأضداد فتدبّر ، مع احتمال كون مراده من الموت حتف الأنف كلّ خروج روح لم يكن بعنوان التّذكية ، فتأمّل.

قال الفاضل التّوني رحمه‌الله في ذيل كلامه المحكي :

« واستدلّ بعض آخر على النّجاسة : بأنّ للذّبح أسبابا حادثة ، والأصل عدم الحادث ، فيكون نجسا ، وقد عرفت أيضا : أنّ أصالة العدم مشروطة بشروط ، منها :

٦١٧

أن لا يكون مثبتا لحكم شرعيّ ، مع أنّه معارض بعدم أسباب الموت أيضا » (١). إنتهى كلامه.

ولكنّك خبير بأنّ هذه المعارضة على تقدير ترتّب الأحكام في الشّريعة على المذكّى وغيره على ما عليه الأستاذ العلاّمة وجماعة وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه : من عدم اعتبار الأصول المثبتة ، فاسدة جدّا. فالأولى نقل الكلام إلى إثبات هذا التّقدير.

المستفاد من الآيات والأخبار

ترتيب الأحكام على المذكّى وغيره

فنقول : إنّ من المعلوم الّذي لا يرتاب فيه ظهور جملة من الآيات وكثير من الأخبار بل صراحتها في أنّ الحرمة والنّجاسة رتّبتا على غير المذكّى الواقعي ، وضدّهما رتّب على المذكّى الواقعي.

نعم ، قد يقوم على إثباتهما طرق شرعيّة من التّعبّدية وغيرها كما هو الشّأن في سائر الموضوعات الواقعيّة الّتي رتّبت عليها أحكام في الشّريعة.

ومنه يظهر : أنّ ما ذكره الأستاذ العلاّمة لا يخلو عن تسامح إلاّ أن يكون مراده ـ كما هو الظّاهر ـ ما هو المحصّل بعد ملاحظة ما دلّ على اعتبار الأمارة أو الأصل فتأمّل.

بل أقول : إنّ الأخبار الدّالّة على ترتّب الأحكام على المذكّى وغيره قد

__________________

(١) الوافية : ٢٠٩.

٦١٨

بلغت حدّ التّواتر كما يعلم من الرّجوع إلى ما ورد في باب الصّيد والذّباحة ، وما ورد في جواز ترتّب أحكام المذكّى على المأخوذ من سوق المسلمين ، والصّلاة في جلده ؛ فإنّه وإن استدلّ به بعض الأصحاب على أنّ الحكم في المشكوك مطلقا هو الإلحاق بالمذكّى.

لكنّك خبير بفساد هذا الاستدلال ودلالتها على خلاف المدّعى.

وما ورد في جواز الصّلاة في جلد الحيوان الّذي ذكّي وعدم جوازها في جلد الحيوان الّذي لم يعلم تذكيته ، كموثّقة ابن بكير : قال : سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصّلاة في الثّعالب والفنك والسّنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنّ الصّلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصّلاة في وبره ، وشعره ، وجلده ، وبوله ، وروثه ، وكلّ شيء منه فاسد لا تقبل تلك الصّلاة حتّى يصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله ، وإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصّلاة في وبره ، وبوله ، وشعره ، وروثه ، وكلّ شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكّي قد ذكّاه الذّابح (١) ». الحديث.

ومثل ما روي في « الكافي » بسنده إلى عليّ بن أبي حمزة قال سألت أبا عبد

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٩٧ باب « اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره » ـ ح ١ ، عنه الاستبصار : ج ١ / ٣٨٣ باب « الصلاة في الفنك والسمور والسنجاب » ـ ح ١ ، عنه أيضا التهذيب : ج ٢ / ٢٠٩ باب « ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه من ذلك » ـ ح ٢٦ ، عنه أيضا الوسائل : ج ٤ / ٣٤٥ باب « جواز الصلاة في الفراء والجلود والصوف والشعر والوبر ونحوهما » ـ ح ١.

٦١٩

الله عليه‌السلام وأبا الحسن عليه‌السلام عن لباس الفراء والصّلاة فيها ، فقال : لا تصلّ فيها إلاّ فيما كان منه ذكيّا (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب.

ولا يتوهّم : أنّ الظّاهر من جملة من الأخبار كون العلم بالتّذكية شرطا في ترتّب الأحكام على المذكّى ومأخوذا في الموضوع ، وكون الحرمة والنّجاسة مترتّبين في الواقع على المشكوك كما في جملة من الأحكام الّتي تكون كذلك ، كحرمة العمل بما وراء العلم وغيرها ، فيكون ثبوتهما في مورد الشّك واقعيّا فلا معنى لإجراء الأصل ؛ لأنّ من الواضح المعلوم لكلّ من تتبّع تلك الأخبار كون الحكم المترتّب على صورة الشّك وعدم العلم حكما ظاهريّا وإن لم يعلم كونه من جهة الاستصحاب ؛ لاحتمال كونه حكما ظاهريّا في عرضه كقاعدة الطّهارة واستصحابها.

والقياس بمسألة حرمة العمل بما وراء العلم فاسد جدّا ؛ لأنّ الحكم لم يترتب فيه على نفس الشّك بل على عنوان موجود في صورة الشّك أيضا ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ الحكم فيه مترتّب على نفس الشّك وعدم العلم ، ولا نعني بالحكم الظّاهري إلاّ هذا المعنى ، مع أنّه لو سلّم كون الحرمة والنّجاسة في صورة الشّك واقعيّا لم ينفع الخصم أيضا في الحكم بالطّهارة والحليّة في اللّحم المشكوك ،

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٩٧ باب « اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره » ـ ح ٣ ، والتهذيب : ج ٢ / ٢٠٣ باب « ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه من ذلك » ـ ح ٥ ، عنهما الوسائل : ٤ / ٣٤٦ باب « جواز الصّلاة في الفراء والجلود والصّوف والشعر والوبر ونحوها » ـ ح ٢.

٦٢٠