بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

عدم جريان الاستصحاب فيه على القول المذكور.

وإن كان من جهة أنّ المضايقة المذكورة لا تعلّق لها بما ذهب إليه من التّفصيل بالنّسبة إلى مورد الأحكام الوضعيّة وإنّما تمنع من التّفصيل في الحكم الوضعي بالمعنى المعروف ، لم يتوجّه عليه ما أفاده فتدبّر.

الكلام في الأحكام الوضعيّة

(١١٩) قوله : ( وحيث انجرّ الكلام إلى هنا (١) ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ١٢٥ )

__________________

(١) كذا في نسخة المحقق الآشتياني قدس‌سره وهي ساقطة من النسخ التي قوبلت عليها طبعة مؤتمر تكريم الشيخ الأعظم قدس‌سره وينبغي ان تكون هكذا :

( وحيث انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الحكم الوضعي حكم مستقلّ مجعول ... إلى آخره ).

(٢) قال المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« اعلم ان المراد بالحكم الوضعي ما اخترعه الشارع ولم يكن من قبيل الإقتضاء والتخيير واختلفوا على القول بكونه مجعولا في عدده على أقوال قد نقل أكثرها الفاضل الكلباسي في « إشاراته ».

فقيل : إنّه ثلاثة : الشّرط والسّبب والمانع ، وهو محكي عن العلاّمة والسّيوري وغيرهما ، وذكر الشّيخ صلاح الدّين العلائي من العامة : أنّ كونها من خطاب الوضع مشهور ، بل منهم من ادعى الاتفاق عليه ، وزاد آخر الرّخصة عليها كما عن الحاجبي والعضدي.

وفي « الإشارات » : ويؤذن كلامهما بكون الصّحة والبطلان في المعاملات منها يعني من أحكام الوضع.

٤٢١

__________________

أقول : قد حكى بعض الشافعيّة عن بعض شرّاح « شرح المختصر » : التصريح به بمعنى التصريح بكونهما عقليين في العبادات وشرعيّين في المعاملات. وقيل بالتفرقة بين تفسيريهما في العبادات.

والمحصّل : أنّ في الصحّة والبطلان أقوالا أربعة ثالثها ورابعها : التفصيلان المذكوران ، وزاد ثالث : العلامة والعلّة ، وحكي عن الشّهيد الثّاني ، إلاّ أنّه احتمل ردّ العلّة إلى السّبب والعلامة إليه وإلى الشّرط. وزاد رابع : العزيمة كما عن الآمدي ، فأحكام الوضع عنده سبعة : الشّرط والسّبب والمانع والصّحة والفساد والرّخصة والعزيمة ، وزاد خامس : التقديرات والحجاج ، حكاها صلاح الدّين عن القرّافي.

قال في محكي كلامه :

« فالأوّل : إعطاء الموجود حكم المعدوم كالماء يخاف المريض من استعماله فوات عضو ونحوه فيتيمم مع وجوده جنبا وإعطاء المعدوم حكم الموجود كالمقتول تورث عنه الدّية وإنّما تجب بموته ولا تورث عنه إلاّ إذا دخلت في ملكه فيقدّر دخولها قبل موتها.

والثاني : وهو الحجاج : ما يستند إليه القضاة في الأحكام من بيّنة وإقرار ونحو ذلك من الحجج ، قال : وهي في الحقيقة راجعة إلى السّبب فليست أقساما أخرى ». انتهى.

وبدّل بعض منّا الحجّة بالأجزاء ، وعدّ العلاّمة الطباطبائي في « فوائده » من أحكام الوضع :

الحكم بكونه جزءا أو خارجا والحكم بأنّ اللّفظ موضوع لمعناه المعيّن شرعا.

وآخر : كون الإجماع حجّة ولكن بعضها ممّا لا يختلف حقيقة فلا ينبغي ذكره على حدة كالحجّة كما بيّنه في « الإشارات ».

وقال العلاّمة الطباطبائي في « فوائده » ـ بعد ما تقدّم ـ : « ولا يختص بالخمسة المذكورة أولا وإن أوهمه بعض عبارات القوم ، بل كلما استند إلى الشّرع وكان غير الإقتضاء والتخيير فهو حكم وضعي ». انتهى.

٤٢٢

__________________

وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه على القول بكون أحكام الوضع مجعولة.

ثمّ إنّ الشّهيد الثّاني قد ذكر في « تمهيده » أقسام خطاب التكليف والوضع من حيث تضمن الخطاب لأحدهما أو كليهما.

ولا يهمنا إيرادها في المقام إذ المهمّ بيان الثمرة في كون أحكام الوضع مجعولة أو منتزعة من التّكليفية فنقول :

إنّه يتفرّع على الأوّل : عدم اشتراط ثبوتها بما يشترط ثبوت التكليفيّة به من البلوغ والعلم والقدرة والعقل فيثبت الضمان على الصّبي والمجنون فعلا بالإتلاف وإن كان المكلّف بالأداء فعلا هو الولي بل الصّبي أيضا معلّقا على حصول شرائط التكليف إن كان مميّزا يصحّ توجيه الخطاب إليه ، وإلاّ فالخطاب المعلق الواقعي في حقّه كالمجنون والنّائم يكون شأنيّا محضا ونحوه الكلام في حصول الجنابة بالدّخول والإدخال ، وكذا ينتقل إليه مال مورثه بالموت وإن لم يشعر بموته وينعتق بالملك إن كان في تركته من هو كذلك وهكذا.

وممّا يتفرّع على عدم اشتراطها بالشّروط المذكورة : عدم صحّة التمسّك بلزوم التكليف بما لا يطاق في نفيها كما يصحّ التمسّك به في نفي الأحكام التّكليفيّة.

وممّا يتفرّع على القولين أيضا : جريان الأصول فيها على الأوّل وعدمه على الثّاني ؛ لأنّا إن قلنا بالأوّل أمكن إثباتها ونفيها بالاستصحاب وإن قلنا بالثاني يكون مجراه الأحكام الطلبيّة الّتي انتزعت الوضعيّة منها دونها لفرض كونها حينئذ أمورا اعتباريّة ، والأصل فيها على الاوّل يكون حاكمة على قاعدة الاشتغال والبراءة في موارد اجتماعه مع إحداها وهي كثيرة.

منها : ما لو شكّ في جزئيّة شيء وشرطيّته في العبادات وقلنا بوجوب الاحتياط عند الشكّ فيهما كما هو مذهب جماعة فإذا شكّ في جزئيّة السّورة كانت أصالة عدم الجزئيّة حاكمة على قاعدة الاشتغال ؛ لأن تردّد المكلّف به بين ذات الأجزاء العشرة والتسعة مسبّب عن

٤٢٣

__________________

الشك في جزئيّة السورة وعدمها لكنّه إنّما يتمّ على القول بالأصول المثبتة ؛ لأنّ أصالة عدم جزئيّة السّورة لا تعيّن ماهية الصّلاة فيما عداها من الأجزاء. ومن هنا قد احتاط صاحب « الفصول » في مثل المقام.

ويمكن دفعه : بأنّ إثبات عدم وجوب الاحتياط لا يحصر في إثبات حصر الماهية في المأتي به لأنّ المحرّك لحكم العقل بوجوب الاحتياط هو عدم الائتمان من العقاب من جهة ترك المشكوك فيه فإذا ثبت بالأصل عدم جزئيّة المشكوك فيه حصل الائتمان المذكور للقطع بعدم العقاب من جهة أخرى نظير ما ذكرناه في نفي الجزئيّة على المختار من كون الشكّ في الأجزاء والشّرائط موردا لأصالة البراءة إذ لا ريب في عدم دلالتها أيضا على حصر الماهية فيما عدا المشكوك فيه إلاّ على القول بالأصول المثبتة.

هذا بخلاف ما لو قلنا بكون أحكام الوضع منتزعة من الأحكام الطلبيّة لكون الشكّ في جزئيّة السّورة حينئذ راجعا إلى الشك في وجوبها الغيري لكون الجزئيّة منتزعة منه وحينئذ ينعكس الأمر فتكون قاعدة الاشتغال حاكمة على أصالة عدم وجوبها الغيري ؛ لأنّ الشكّ في وجوبها الغيري ناش من الشكّ في تركّب الماهية من عشرة أجزاء أو تسعة فإذا ثبت وجوب الإتيان بتمام العشرة بقاعدة الاشتغال ثبت وجوبها الغيري وارتفع الشكّ عنه.

ومنها : أنّ المحقّق الخوانساري قد نقل عن القائل بعدم كفاية الحجر ذي الشّعب الثلاث في الاستنجاء التمسك باستصحاب بقاء النّجاسة إلى أن يعلم بطروّ مطهّر شرعي وبدون الأحجار الثلاثة والماء لا يعلم ذلك وحينئذ إن قلنا بكون النجاسة أمرا شرعيّا مجعولا من قبل الشارع فاستصحابها يكون حاكما على أصالة البراءة عن وجوب الاستنجاء بأكثر من حجر ذي شعب ثلاث بناء على كون المقام من مواردها ؛ نظرا إلى دوران الأمر بين الأكثر والأقلّ الاستقلاليّين لكون الشكّ في وجوب الزّائد مسبّبا عن الشكّ في زوال النجاسة بذي الشعب الثلاث ، وأمّا إذا قلنا بكون النّجاسة أمرا اعتباريا منتزعا من حكم طلبي أعني وجوب الهجر

٤٢٤

__________________

عن أمور مخصوصة في الصّلاة والأكل والشرب مثلا فتبقى أصالة البراءة حينئذ سليمة من المعارض ؛ فإنّ القدر المتيقن من التكليف على ما حققه المحقق المذكور هو وجوب الاستنجاء بالحجر ذي الشّعب الثلاث أو بثلاثة أحجار وترتّب العقاب على تركهما معا ، وأمّا تعيّن الثّلاث بالخصوص ، فمدفوع بالأصل السّالم من المعارض ، وكذا لو تردّد زوال النّجاسة في غير البول بالغسل مرّة أو مرّتين وفي ولوغ الكلب بثلاث غسلات أو سبع ؛ إذ لو قلنا بكون النجاسة أمرا شرعيّا فاستصحابها يقتضي المرّتين والسّبع وإن قلنا بكونها أمرا اعتباريا تبقى أصالة البراءة عن الزائد سليمة من المعارض إلى غير ذلك من الموارد غير الخفيّة على المتتبّع في الفقه » انتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

* وقال المحقق السيّد محمّد كاظم اليزدي قدس‌سره :

« المراد من الحكم الوضعي ما عدا الأحكام الخمسة التكليفيّة ممّا ينسب إلى الشارع من الأمور الاعتبارية التي لا حقيقة لها مع قطع النظر عن اعتبارها وتقريرها وتثبيتها ، وإنّما يتحقّق حقيقتها بنفس ذلك الاعتبار والتقرير ، ولا ينحصر في اثنين أو ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو عشرة كما قيل بذلك كلّه ، بل بغير ذلك ممّا لا طائل في نقله ، بل هي كثيرة جدّا ولا داعي إلى تكلّف إرجاع بعضها إلى بعض كما فعله بعضهم ، منها : الخمسة المعروفة وهي السببية والشرطيّة والمانعية والصحة والفساد ، ومنها : الجزئيّة ، ومنها الملكية والزوجية والرقية والحرية والضمان وحق الخيار والشفعة بل سائر الحقوق الثابتة في الشرع حتى حقوق الزوج والزوجة من القسم وغيره ، ومنها : حجية جميع الأدلّة والأمارات والأصول في الأحكام والموضوعات ، ومنها : الطهارة والنجاسة والحدث الأصغر والأكبر والطهارة عن كلّ منهما ، ودعوى أنّها أمور واقعيّة كشف عنها الشارع كما سيأتي عن المصنف خلاف الإنصاف.

ومنها : أنواع الولايات كولاية الأب والجد والحاكم وعدول المؤمنين وولي الميت والوكالة والوصاية فإنّها أمور متحقّقة مغايرة للأحكام المترتبة عليها أو المنتزعة هي منها وليست

٤٢٥

__________________

أمورا واقعية.

ومنها : التنزيلات الشرعية ككون الطواف بالبيت صلاة وكون التراب طهور المؤمن وكون الرضاع لحمة كلحمة النسب.

ومنها : أنواع الحجر فإنّها في طرف العكس من الولايات ، فكما أنّ الولاية نوع سلطنة وقاهرية يقتضي بسط اليد ويكون منشأ لجواز التصرفات المخصوصة ، كذلك الحجر نوع ذل ومنقصة يقتضي قبض اليد ويكون منشأ لعدم جواز التصرفات ، وبالجملة جميع الأمور الاعتبارية الشرعية التي ليست بتكليف أو الإعتبارات العرفية التي أمضاها الشارع معدود في الأحكام الوضعيّة ، ولعلّ المتتبّع يظفر بأزيد ممّا ذكرنا بكثير.

وكيف كان ، فلنقدّم الكلام في تحرير محل النزاع فنقول : لا ريب في أنّ الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة مفهومان متغايران متباينان ، فإنّ إيجاب الصلاة عند الدلوك معنى وسببية الدلوك لوجوب الصلاة معنى آخر كما سيصرّح المصنف في المتن بأنّ تباينهما مفهوما أظهر من أن يخفى كيف! وهما محمولان مختلفا الموضوع.

ثم إنّه لا إشكال كما أنّه لا خلاف على القول بكون الطلب غير الإرادة كما هو التحقيق في أنّ الأحكام التكليفية مستقلّة بالجعل والتقرير ، ومعنى مجعوليتها ثبوتها وتقرّرها بفعل من الجاعل وبانشاء من الشارع عن مصلحة على مذاق العدليّة ، أو لا عن مصلحة على مذاق الأشاعرة بعد أن لم يكن ثابتا قبل هذا الجعل والانشاء ، وحقيقتها أمور اعتبارية متأصلة موجودة في الخارج بعد الجعل لا كوجود الجواهر والأعراض المحسوسة بل كوجود المعاني غير المحسوسة كالتأديب والتعظيم والتوهين والأخوّة والأبوّة والبنوّة وشبهها ، فإذا أنشأ الوجوب بقوله : افعل كذا مثلا ؛ فإنّه قرّر أمرا لم يكن قبل ذلك مقرّرا وثابتا ، ويترتّب على هذا المجعول بعد هذا التقرّر والثبوت آثار وغايات ولوازم كالاطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب ونفس الثواب والعقاب إلى غير ذلك ، ولا إشكال أيضا في انّه

٤٢٦

__________________

يتبع جعل هذه التكاليف أحكام وضعيّة انتزاعية غير متأصّلة بمعنى صحة انتزاع العقل من تلك التكاليف معاني أخر غير مستقلّة بالجعل ، ويصح أن تنسب تلك المعاني إلى جعل الشارع بالعرض والمجاز وإلاّ فمجعوله في الواقع وفي الحقيقة ليس سوى التكليف المحض ، إنما الإشكال والخلاف في أنه هل يمكن للشارع جعل الأحكام الوضعيّة مستقلا بجعل على حدة مغاير لجعل التكليف بحيث يحصّل في الخارج أمرا مجعولا متأصّلا منشأ لمثل آثار الاحكام التكليفية واللوازم والغايات ولم يكن تابعا لجعل شيء آخر ، كأن ينشأ سببية الدلوك لوجوب الصلاة ويقول جعلت الدلوك سببا للوجوب بعد أن لم يكن لمصلحة أو لا لها على القولين ، ويتبعه وجوب الصلاة عند الدلوك لا محالة ، فالمثبت للحكم الوضعي يدّعي إمكان هذا المعنى فيحمل عليه الخطابات الواردة في الشرع بلسان الوضع ، والمنكر يدّعي استحالته فيحمل تلك الخطابات على أنّ المقصود منها جعل التكاليف التي يصح انتزاع هذا الوضع منها ، ويكون التعبير بذلك الأمر الانتزاعي لنكتة لا نعرفها أو نعرفها أحيانا.

ثم لا يخفى أنّ التكليف الذي يتبع الوضع يكون متأصلا مستقلا بالجعل ليس كالوضع التابع للتكليف وليس محض الانتزاع العقلي الذي لا حقيقة له ، أمّا على قول منكري الحكم الوضعي فواضح ، لأنّ المقصود منه جعل التكليف ليس وراءه مجعول أصلا ، وأمّا على قول المثبتين فلأنّ جعل الشارع شيئا سببا للوجوب من قبله لا يعقل من دون جعل إيجاب من عنده بعد وجود السبب فيكشف الخطاب الدال على الجعل الأوّل أعني الوضع عن جعل التكليف الذي يتبعه ، فيتحصّل مجعولان متأصّلان أحدهما مصرّح به في لسان الدليل أي الوضع والآخر غير مصرح به مفهوم منه بالملازمة العقلية ، نظير وجوب الشيء ووجوب مقدمته على القول به فإنّ الأمر يدلّ صريحا على وجوب نفس الواجب ويدلّ على وجوب مقدّمته أيضا بحكم العقل بالملازمة بينهما.

ولا يخفى أنّه لا يلزم عقلا أن يكون الوضع مستعقبا للتكليف وإن كان كذلك في الأغلب ، فلو

٤٢٧

__________________

قال مثلا جعلت العمل الفلاني سببا لطول العمر فليس يلزم أن يكون ذاك العمل مطلوبا مأمورا به ، بل يمكن أن يكون بلا حكم بالمرّة ، كما لا يلزم أن يكون التكليف مستعقبا للوضع كأغلب المحرّمات فإنّها لا ينتزع منها وضع أصلا.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ المسألة ذات قولين واستدل المثبتون بوجوه :

الأوّل : الأصل.

فنقول : الأصل موافق لقول المثبتين لا بمعنى أنّ الأصل فيما لو دار الأمر بين إمتناع شيء وإمكانه هو الامكان كما قد يسند إلى الشيخ الرئيس ابن سينا لقوله : كلّ ما قرع سمعك من الأكوان ولم يذده قاطع البرهان فذره في بقعة الامكان ، لأنه كلام فاسد ، فإنّ الحكم بإمكان الشيء كالحكم بوجوبه أو امتناعه يحتاج إلى دليل ، فما دام عدم الدليل يكون مجهولا فكيف يمكن الحكم بامكانه؟ وقد مرّ فيما يتعلّق بامكان التعبّد بالظن في أوّل رسالة الظن ما يوضّح هذا المطلب وأنّ مراد ابن سينا من قوله : فذره في بقعة الامكان هو الاحتمال وعدم ردّ المطلب بمجرد عدم الدليل عليه ، ولا يحمل كلام مثل هذا الحكيم الفيلسوف على ما هو بديهي الفساد ، بل بمعنى أنّ العمل على طبق قول المثبت ، فلو ورد خطاب من الشرع بلسان الوضع بحسب ظاهر الدليل نحمله على ظاهره ولا نرفع اليد عن هذا الظاهر بمجرد عدم العلم بكونه ممكنا أو ممتنعا غير معقول ، بل نكتفي باحتمال كونه ممكنا ومعقولا ونعمل على ما يقتضي ذلك الظاهر حتى يثبت إمتناعه ، فإن قام البرهان على امتناعه فحينئذ نرفع اليد عن الظاهر ونأوّله إلى ما يكون ممكنا معقولا ، وهذا يكون بناء مذاهب المسلمين في المسائل الكلامية فإنّ جملة من المطالب الواردة في شرعنا في ظواهر الكتاب والسنّة من كيفيات الحشر والنشر والميزان والحساب والصراط والمعراج والمعاد الجسمانيين إلى غير ذلك محل الشك والتأمّل في إمكانه أو امتناعه ، إلاّ أنّ بناء المسلمين على الإعتقاد بما يفهم من ظواهر الآيات والأخبار إلاّ فيما عليم عدم إمكانه فيتكلّفون حينئذ التأويلات ولو كانت

٤٢٨

__________________

بعيدة غاية البعد.

الثاني : ما أشار إليه في المتن حكاية عنهم من :

قوله : ( من أنه قد يتحقق الحكم الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي كالصبي والنائم وشبههما ). ( الفرائد : ٣ / ١٢٦ )

يعني أنه لو كان الحكم الوضعي منتزعا من التكليف لزم عدم ثبوته عند عدم كون المورد قابلا للتكليف كالصبي والمجنون والنائم ونحوها مع أنّ الحكم بضمانهم لما أتلفوا في هذه الحالات وكذا جنابتهم وحدثهم عند عروض أحد أسبابهما في تلك الأحوال ممّا لا ينكر.

وقد أجاب عنه المصنف في المتن : بأنّها أيضا راجعة إلى التكليف بوجوب أداء البدل من المثل أو القيمة في مسألة الضمان ، ووجوب الغسل أو الوضوء في مسالة الجنابة والحدث عند اجتماع شرائط التكليف من البلوغ والعقل وغيرهما ، ولا ندّعي إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز حتى ينافي ثبوته للصبي والمجنون ، هذا محصّل كلامه.

وكان يمكن للمصنف أن يجيب عنه أيضا بنظير ما أجاب عن سببية العقد للملكية والزوجية من أنّها أمور واقعية قد كشف عنها الشارع ، فيدّعي هنا ايضا أنّ الضمان والجنابة والحدث أوصاف واقعية مسبّبة عن الاتلاف والإمناء والبول ونحوها من الأسباب الواقعيّة واقعا وقد كشف عنها الشارع ، فإنّ هذه الدعوى ليست بأبعد ممّا ادّعاها فيما ادّعي من الأمثلة ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره من انتزاع السببيّة في المواد المذكورة من التكليف غير المنجّز بوجوب دفع البدل أو ووجوب الغسل والوضوء إن أراد منه الوجوب المعلّق ، فمن المعلوم عدم تعلق التكليف بالصبي والمجنون لا منجّزا ولا معلقا ، وإن أراد منه الوجوب المشروط كما هو الظاهر ثبت المدّعى ؛ لأنه لا تحقّق للتكليف المشروط قبل تحقق شرطه أي البلوغ والعقل ، مع أنّ الحكم الوضعي متحقق حال الجنون والصبا.

وثانيا : أنّ ما ذكره من انّ ضمان الصبي منتزع من خطاب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله :

٤٢٩

__________________

( اغرم ما أتلفته في حال صغرك ) مدخول بأنّه قد يموت قبل البلوغ فما معنى الضمان حينئذ مع عدم تصور تكليف له بالمرّة ، ولو بدّل المصنّف هذا : بأنّ ضمانه منتزع من خطاب الشارع وليّه من أب أو جد أو حاكم أو عدول المؤمنين بدفع الغرامة من مال الصبي ، اندفع عنه هذا الإشكال.

نعم يبقى الاشكال فيما إذا لم يكن له مال فلا معنى للضمان حينئذ ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لمّا جاز الاحتساب عليه من زكاة أو خمس أو مظالم كما يجوز ذلك في البالغ أيضا سيما إذا لم يكن له مال صح أن ينتزع من هذا التكليف أعني جواز الاحتساب عليه الضمان وسببية الاتلاف له.

لكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه تكلفات باردة يشهد بذلك أنّ الاحتساب على الصبي مع عدم كونه مشغول الذمة بالفرض ليس إلاّ اعتبار أداء الزكاة بمجرد القصد إلى ذلك ولو كان هذا الاعتبار اعتبارا صحيحا شرعيّا يفيد البراءة من الزكاة الواجبة المنجّزة ، فيكون اعتبار اشتغال ذمة الصبي بمثل ما أتلفه أو قيمته أولى بالاعتبار والجعل والتقرير فليتأمّل.

وثالثا : أنّ إرجاع الحكم الوضعي المذكور إلى الحكم التكليفي بالكيفية المذكورة منحرف عن السداد ، إذ لو فرضنا أنّ الشارع صرّح بأنّ البالغ يجب عليه دفع مثل ما أتلفه حال الصبا ، أو صرّح بأنّه يجوز لمن عليه الزكاة أن يحتسبها على صبي قد أتلف ماله بمقدار ما يجب عليه لم يحكم بالضمان المصطلح أي لا ننتزع من هذا الخطاب الضمان المصطلح أي المعنى الذي يفهم من قوله : ( من أتلف مال الغير فهو له ضامن ).

الثالث : الوجدان فإنّ من راجع وجدانه يجد أنه كما يعقل للآمر الجاعل أن يعتبر الوجوب والتحريم وغيرهما من الأحكام التكليفية وينشئها على وجه يحصل هناك حقائق اعتبارية وكانت منشأ للآثار المترتبة عليها على ما هو التحقيق من أنّ الطلب غير الإرادة النفس الامرية ، كذلك يعقل أن يعتبر غيرها من الوضعيات من الأمور المرضية عند العقل والعقلاء

٤٣٠

__________________

من مثل الملكية والزوجية والشرطية والمانعية إلى غير ذلك ، وتصير هذه الأمور باعتباره حقائق متأصّلة موجودة على حذو الأحكام التكليفية ، غاية ما في الباب أنّها حقائق اعتبارية ، لا من قبيل الجواهر والأعراض الخارجية ، ومن هذا الباب القوانين التي يجعلها السلاطين لاقامة نظام المملكة من جعل الأوزان الخاصّة والمكيال والميزان المخصوص والنقود الخاصة والسياسات المخصوصة والولايات إلى غير ذلك ، وكذا ما يجعله أرباب الصناعات لأهل صنعتهم من الاصطلاحات والآداب ، وكذا ما يجعله الواضعون للألفاظ في كل لغة لدلالة الألفاظ الخاصة على المعاني المخصوصة إلى غير ذلك ، فلا ريب أنّ ذلك كله أمور متحقّقة متأصّلة بعد الوضع والجعل حقيقتها على اعتبارها ، ويترتب عليها آثارها بالضرورة.

ويشهد بذلك ما ذكره المحققون من الأصوليين : من أنّ الأوامر التي يستفاد منها الجزئية والشرطية أوامر إرشادية ترشدنا إلى عدم حصول المأمور به بدونه جزءا أو قيدا ، وإلاّ فالأوامر المولويّة لا يترتّب على مخالفتها سوى العصيان واستحقاق العقاب لا الحكم ببطلان المركب والمشروط ، وكذا النواهي التي يستفاد منها الفساد نواه ارشادية كاشفة عن مانعية متعلقها لحصول المطلوب ، وإلاّ فالنواهي المولوية لا تدل على الفساد لعدم الملازمة بين التحريم والافساد ولذا يقول من يجوّز اجتماع الأمر والنهى بصحة صلاة من صلّى في الدار المغصوبة مع أنّه منهيّ عنها ، والقائل بالمنع أيضا لا يقول بالفساد من جهة دلالة النهي على مانعية الغصب للصلاة بل من جهة عدم امكان تعلق الأمر بما هو منهي عنه فعلا منجّزا ، وحيث لا أمر فلا موافقة فلا صحّة ، وربما التزم بعضهم بصحّتها على هذا القول أيضا.

والحاصل : أنّه لو لم يكن هناك وضع وكان مرجع الشرطية والجزئية والمانعية إلى الأمر المولوي والنهي المولوي كانت هذه الكلمات من قبيل الخرافات ، إذ يكون حينئذ كل أمر مولوي يصح أن ينتزع منه الجزئية والشرطية وكل نهي مولوي يصح أن ينتزع منه المانعية

٤٣١

__________________

للمركب وبطل تفصيلهم بين المولوي والارشادي على ما عرفت وهو كما ترى ، بل نقول في خصوص الشرطية والجزئيّة والمانعية لا بدّ أن تكون مجعولة متأصّلة ، ولا يعقل كونها انتزاعية من الأحكام التكليفية ، وذلك لأنه لو لم يكن من الآمر سوى التكليف باتيان كل جزء وشرط وترك كل مانع لم يمكن الحكم بفساد ما أتى به من المركب بسبب عصيان المأمور في شيء آخر لا ربط له به ، وكان أجزاء المركب وشرائطه واجبات متعددة مستقلّة وموانعه محرّمات مستقلة فمن أين يجيء الانتفاء عند الانتفاء الذي يلزم من الشرطية والجزئية والانتفاء عند الوجود الذي يلزم من المانعية ، وكيف ينتزع العقل معنى غير حاصل ، بل هو يشبه الكذب وهذا إلزام لا مفر منه ، اللهمّ إلاّ أن يلتزم بما التزم في بعض نظائرها من أنّ الشرطية والجزئية والمانعية أمو واقعية قد كشف عنها الشارع وهذا ممّا لا يرضي به اللبيب العاقل.

فإن قلت : إنما يجيء الفساد عند مخالفة بعض التكاليف المذكورة من قبل تكليف نفسي آخر ، وهو أنّ الآمر كما أنه أمر باتيان كل جزء وشرط ، ونهى عن إتيان كل مانع على حدة ، كذلك أمر بكون امتثال هذه التكاليف مجتمعا لا متفرقا ومن هنا جاء الفساد عند تفريقها وموافقة بعض دون بعض.

قلت : إنه لو اعتبر وصف الإجتماع والارتباط بجعل مستقل ثم أمر باتيانها بهذا الوصف فهذا عين الحكم الوضعي لا نعني به غير ذلك ، وإلاّ لزم صحة الجزء الذي أتي به وتحقق عصيان ما خالفه من الأوامر والنواهي ، ومنها الأمر بكون الواجبات والمحرّمات المعدودة المعينة مجتمعا فإن عصيان هذا التكليف أيضا لا يوجب سوى الاثم لا بطلان الجزء المأتي به.

وبالجملة : إنّا نجد الفرق بين ما اوجب المولى المطاع إكرام كل عالم ولو بأمر واحد بسيط من دون اعتبار ربط بين إكرام آحاد كل عالم مع الباقي فإنّها واجبات مستقة ومطلوبات متعددة إنشاؤها بانشاء واحد ، وبين ما أوجب إكرامهم بحيث يكون المجموع واجبا واحدا

٤٣٢

__________________

ومطلوبا متحدا ويكون إكرام كل واحد داخلا في المطلوب نظير المركبات الخارجية ، وحيث إنّ إكرام زيد وإكرام عمرو وبكر إلى آخر الأفراد أفعال متعددة لا ربط بينها بحسب نفس الامر لا جرم يكون هذا الإرتباط باعتبار الآمر.

فإن قلت : مجرد هذا الأعتبار كيف يؤثر في الربط؟ بل هو مجرد فرض من الفارض.

قلت : لو كان هذا الاعتبار من المولى المطاع يؤثّر في حصول الربط عند العقلاء كما انّ إيجابه يؤثّر عندهم في حصول الوجوب وإلاّ فايجاب العبد أيضا لا يؤثّر في حصول الوجوب على مولاه عند العقلاء ، وبما ذكرنا يحصل الفرق بين المركبات الارتباطية كالصلاة والحجّ والمركبات غير الارتباطية كأداء الدين والزكاة ولو لم يكن هناك ربط جعلي كانتا بمثابة واحدة ، هذا.

وقد يوجّه مراد المصنف وغيره من المنكرين بوجه دقيق : وهو أنّ المطلوب في المركبات الارتباطية وجود خاص للأجزاء لا يحصل إلاّ بوجود الكل نظير ما لو قال جئني بزيد فانه لم يأمر إلاّ باحضار زيد الخاص لا باحضار الحيوان والناطق مربوطا كل منهما بالآخر ولا باحضار رأس زيد ويده ورجله وسائر أعضائه مرتبطا بعضها ببعض ، وإن صح للعقل انتزاع هذا المعنى إلاّ أنه ليس بمراد ، مع أنّ المطلوب لا يحصل إلاّ باحضار المركب المذكور ، وكذا لو قال : اعتق رقبة مؤمنة فإنه أمر بعتق رقبة خاصة وهي المؤمنة لا رقبة ومؤمنة مع ملاحظة ربط بينهما واتّصاف الرقبة بالايمان ، فيقال في مثل الصلاة أيضا : إنّه أمر بأفعال خاصّة من دون ملاحظة ربط بينها ، لكن الخصوصيّة صارت منشأ لعدم مطلوبية بعض الاجزاء منفردا عن الباقي كأن يقال : إنّ المطلوب من تكبيرة الاحرام وجود خاص منها وهو وجودها الملحوق بالقراءة والركوع والسجود والتشهّد والتسليم المقترن بالطهارة والستر والقبلة إلى آخر الأجزاء والشرائط وهكذا في جميع الأجزاء ، فلو لم يأت المكلّف بسائر الأجزاء والشرائط لم يأت ما هو المطلوب من التكبيرة أي الوجود الخاص بل أتى بخاص غيره ، ومن

٤٣٣

__________________

هنا يجيء الفساد لا أنه اعتبر بين الأجزاء وكذا بينها وبين الشرائط ربطا باعتباره يحكم بالفساد.

وفيه أولا : أنّ ما ذكر صحيح في المركبات الخارجية التي تكون مركبات حقيقية كالمثالين المذكورين ، وليس كذلك ما نحن فيه فإن أفعال الصلاة أفعال مستقلّة ذهنا وخارجا فلو لم يعتبر هناك ربط بينها فمن أين تأتي الخصوصيّة المذكورة؟

وثانيا : أنّ لازم البيان المذكور أن تكون الصلاة واجبات كثيرة بعدد أجزائها غاية الأمر أن المطلوب من كلّ واحد منها وجوده الخاص الذي مع وجود الباقي ، فعند الاتيان بجميع الاجزاء يحصل امتثال جميع تلك الواجبات وعند ترك أحد الأجزاء يحصل مخالفة جميع تلك الواجبات ويستحق عقابات متعدّدة بعدد الأجزاء الواجبة وهذا ممّا لا يلتزمه أحد في المركبات الارتباطية.

تنبيه : ما ذكرنا في تصوير جعل الجزئية والشرطية قد اعترف به المصنف صريحا في أوائل مسألة الأقل والأكثر من رسالة البراءة ، إلاّ أنّه أنكر أن يكون مراد القائلين بمجعولية الأحكام الوضعية ذلك ، وقد أشرنا هناك أنّ هذا مرادهم لا يريدون غيره ، وممّا يؤيّد إمكان جعل الوضع بل يدل عليه : جعل العلامات كوضع الألفاظ لمعانيها وكذا الخطوط والعقود وسائر العملامات الجعلية ، إذ لا شك ولا ريب أنّ اللفظ المخصوص قبل وضعه نسبته إلى جميع المعاني بالسوية إلاّ على مذهب سليمان بن عباد الصيمري القائل بالمناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى ، ولا شك ايضا انّه بالوضع يحصل ربط بين اللفظ وما وضع له يسمى بالدلالة ويكون ذلك سببا لانفهام المعنى من اللفظ ، ولم تكن هذه السببية قبل الوضع وإنما حدثت بوضع الواضع.

وما قيل : إن الإنفهام المذكور مسبب عن العلم بالوضع لا من نفس الوضع.

مدفوع : بأن العلم بالوضع شرط في حصول الدلالة ، وذلك نظير التلازم العقلي بين شيئين

٤٣٤

__________________

فإنّ وجود اللازم دال على وجود الملزوم وكاشف عنه بنفسه ولا ينافيه توقّفه على العلم بالملازمة فإن لم يعلم الملازمة بين النار والحرارة أو الدخان فعلمه بالحرارة أو الدخان ليس سببا لعلمه بوجود النار ، وهذا لا ينافي كونهما من العلامات في حدّ أنفسهما غاية الأمر أنّ الدلالة مشروطة بالعلم بالملازمة ، وكيف كان : من تدبّر هذه الأمور المذكورة حق التدبّر يجد أنّ مجعوليّة الأحكام الوضعيّة من الواضحات » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ١٣٦ ـ ١٥٠.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا بأس ببسط المقام وتفصيل الكلام في شرح محلّ النقض والإبرام :

فاعلم انّه لا إشكال في استقلال كلّ واحد من الوضع والتّكليف مفهوما وتفاوتهما بحسبه جزما ، وأنّه يمكن أن يعبّر عن كلّ بما يخصّه من الخطاب إخبارا وإنشاء ، إذ الإنشاء بمجّرده قليل المؤونة ، وليس هو إلاّ قصد حصول المعنى باللّفظ وشبهه ، كما كان الإخبار به هو حكايته وبيان تحقّقه في موطنه بهما ، ولذا كان نسبته خارج دونه فكلّ ما يصحّ الإخبار عنه يمكن إنشاؤه ، غاية الأمر ربّما يكون لغوا لا يترتّب عليه أثر كالإخبار به ، كما لا يخفي.

وبالجملة : عدم ترتّب فائدة على إنشاء مفهوم ومعنى لا بمنع عن إنشائه وقصد حصوله بنفس اللّفظ وشبهه ، ولا إشكال أيضا في صحّة التّعبير عن كلّ منهما ، أي الوضع والتّكليف بخطاب الآخر كذلك ، أي إخبارا وإنشاء فيجعل مثلا خطاب إنشاء سببيّة الدّلوك لوجوب الصّلاة كناية عن إنشاء وجوبها وكذا العكس ، كما في الأخبار.

ومنه قد انقدح انّه ليس فائدة إنشاء معنى تنحصر بالتّوسّل به إلى تحقّقه ، والتّسبّب إلى وجوده في الخارج ، بل قد يكون التّوسّل به إلى تحقّق ما هو ملزوم ذلك المعنى أو لازمه من فوائده ، فربّما يكون إنشاء أحدهما جعلا للآخر لا له ، ولا إشكال ايضا في تطرق جعل التكليف وسرايته إلى الوضع في الجملة ، حسب ما تعرف تفصيله فيجعل بتبع جعله.

٤٣٥

__________________

وإنّما الإشكال والنّزاع في استقلال الوضع بالجعل بمعنى صلاحيته كالتّكليف في التّسبب بإنشائه إلى جعله وتحقّقه ، بحيث يصدق مفهومه عليه بحمل الشّائع ، فالشّيء الّذي لا يكون سببا أو شرطا أو جزءا في نفسه صار كذلك بمجرّد إنشاء السّببيّة أو الشرطيّة أو الجزئيّة له ، بحيث يصدق عليه بذاك الحمل انّه كذلك كما كان الشّيء بمجرّد إنشاء إيجابه يصير واجبا حقيقة بذاك الحمل.

والتّحقيق حسبما يؤدّي إليه النّظر الدّقيق : أنّ الوضع على أنحاء :

منها : ما لا يقبل الجعل أصلا ، لا أصالة ولا تبعا مثل سببيّة شيء مطلقا أو شرطيّته للتّكليف ، أو مانعيّته عنه.

ومنها : ما لا يقبله إلاّ تبعا كالشّرطيّة والجزئيّة والمانعيّة للمكلّف به.

ومنها : ما يقبله أصالة وتبعا كالملكيّة والولاية والوكالة ونحوها.

أمّا عدم قبول النّحو الأوّل له فلأنّ ملاك سببيّة شيء لشيء إنّما هو خصوصيّة فيه موجبة لربط خاص بينهما يوجب تخصيصه بتأثيره فيه لا يكاد أن يؤثّر فيه بدونه ، وإلاّ فلا بدّ أن يؤثّر في كلّ شيء ، بل كلّ شيء في كلّ شيء وإلاّ يلزم الاختصاص بلا مخصّص كما لا يخفى ، فما ليس فيه تلك الخصوصيّة الموجبة لذلك « لا يكون سببا بمجرّد إنشاء السّببيّة له ، بداهة أنّ مجرّد إنشائها لا يؤثر إحداث تلك الخصوصيّة فيه ، ضرورة عدم خصوصيّة فيه موجبة لربط خاص بينه وبينها كي يكون محدثة لها كما لا يخفي.

ومن هنا ظهر أنّه لا يتفاوت في ذلك بين كون الجاعل هو القادر تعالى أو غيره ، إذ ليس الكلام في الإيجاد والتّكوين ، بل في الجعل والتّشريع ، وانّ مجرّد قول المولى هذا سبب إنشاء وقصد حصول معناه به يؤثّر في حصوله ، وتحقّقه من دون أن يوجد فيه خصوصيّة مقتضية لذلك ، بل كان باقيا على ما كان بلا زيادة ونقصان. ومن الواضح أنّ القادر تعالى وغيره فيه سيّان.

٤٣٦

__________________

والحاصل : أنّ الكلام في أنّ السّبب الجعلي يؤثّر كالحقيقي بمجرّد جعل كونه سببا من دون أن يتغيّر عمّا هو عليه من الذّاتيات والصّفات ، فالدّلوك يؤثّر في الإيجاب بمجرّد إنشاء السّببيّة له من دون إنشائه بخطاب آخر يخصّه ولا أوّل هذا الخطاب اليه ، بل كان مجرّد الإلتفات إليه بعد الجعل موجبا للإيجاب وداعيا إليه ، مع انه لم يكن كذلك قبله وهو على ما كان بلا تفاوت فيه بسببه وهو ممّا لا يكاد أن يتفاوت بين القادر وغيره.

وقد انقدح بما ذكرنا حال إنشاء الشّرطيّة والمانعيّة ، حيث أنّه لا يكاد أن يكون لشيء دخل في التأثير ما لم يكن له ربط خاص ، وإلاّ كان كلّ شيء شرطا أو مانعا ، وبذاك الرّبط لا محالة يكون له دخل وجودا وعدما وبدونه لا يكون له ذلك ولو جعل لذلك له تشريعا ، وقد عرفت انّه لا يوجبه لعدم ذلك الرّبط بينه وبين إحداث الرّبط.

إن قلت : نعم لكنّه انّما لا يتفاوت بحسب ذاتياته وصفاته المحمولة عليه بالضّميمة لا بحسب صفاته مطلقا ، بداهة انّه بملاحظة جعل السّببيّة له أو الشّرطيّة صار منشأ لصحّة انتزاع صفة كونه مجعولا سببيّة أو شرطيّة ، ومثل هذه الصّفة إنّما لم يوجب فيه تفاوتا يؤثّر بوجوده الخارجي تكوينا لعدم التّفاوت بحسبه لا بحسب وجوده الذّهني تشريعا بأن يصير داعيا إلى التّكليف لحصول التّفاوت بحسبه ، فانّ الدّلوك مثلا وإن لم يكن داعيا إلى التّكليف بدون لحاظها إلاّ أنّه بلحاظها يصلح أن يصير داعيا إليه كما لا يخفى ، إذ الجري على وفق الجعل يكون من قبيل إنجاز الوعد والعمل على العهد.

قلت : لو سلّم انّ جعل السببيّة للدّلوك مثلا ليس في الحقيقة جعلا للتّكليف عنده ، بل يكون ملاحظة الجعل موجبة لإنشائه وجعله في هذا الحال إلاّ أنّه لا يكون حينئذ بداعي الدّلوك وبواسطة الجعل ، بل يداعي الوفاء بالجعل والإقامة عليه كما في الوعد والعهد ، وملاحظة الدّلوك إنّما هو لكونه متعلّق ذاك الجعل الخاصّ ولا يكاد أن يلحظ الوفاء بدونه.

وبالجملة فرق واضح بين أن يكون إنشاء السّببيّة لشيء موجبا لصيرورة الشّيء سببا في

٤٣٧

__________________

الخارج على النّحو الّذي عرفت ، كما هو محلّ النّزاع وبين أن يكون الإنشاء بنفسه سببا وداعيا ، وهو لا يكاد أن ينكر في الجملة كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا يتفاوت في ذلك أن يكون الجعل أصالة أو تبعا ، مع أنّه لا يصحّ ان ينتزع السّببيّة حقيقة للدّلوك مثلا عن خطاب إيجاب الصّلاة عنده ، كما يصحّ انتزاع الجزئيّة أو الشّرطيّة حقيقة لما أخذ فيها شطرا أو شرطا ، ضرورة عدم اتّصاف الدّلوك بها حقيقة ، كيف! وإلاّ يلزم تأخّر السّبب عن المسبّب. نعم يصحّ أن يقال انّه سبب مجازا استعارة أو مرسلا ، فتفطّن.

وأمّا عدم قبول شرطيّة شيء للمأمور به أو جزئيّته أو مانعيّته للجعل أصالة ، فلأنّ الشّيء ما لم يؤخذ على نحو خاصّ في متعلّق الأمر الخاص لا يتّصف بواحد منها ولو إنشاء له ، ويتّصف بواحد منها لو أخذ فيه بوجوده أو عدمه جزءا ولو إنشاء نفي جزئيّته أو شرطيّته. وبالجملة لا محالة يتّصف بها على تقدير الأخذ ولو إنشاء عدم الجزئيّة أو الشرطيّة له ، ولا يتّصف على الآخر ولو أنشأ له ألف مرّة.

ومن هنا انقدح وجه تطرّق الجعل إليهما تبعا ، وانّ ايجاب شيء مركّب خاصّ يوجب قهرا اتّصاف كلّ واحد من أجزائه بالجزئيّة للواجب وما به خصوصيّة من القيود بالشّرطيّة والمانعيّة ، ويكون إنشاء إيجابه إنشاء لها تبعا كما كان له أصالة.

وقد انقدح بما ذكرنا فساد إستدلال بعض الأعاظم على ما ذهب إليه من استقلال الوضع بالجعل بالدّلالة الحاصلة بالوضع ، وانّ السّببيّة ونحوها ليست إلاّ كالدّلالة الوضعيّة ، وتأثير الوضع والجعل بمجرّده فيها كما لا يخفى.

وأنت خبير بأنّ اللّفظ الموضوع ونحوه انّما يدلّ على معناه الموضوع له بمعنى حصول العلم بإرادته منه أو الظّنّ بمقدّمات : ( منها ) : العلم بوضعه له. ( ومنها ) : العلم بمتابعة المستعمل له في استعماله هذا أو الظّنّ. ( ومنها ) : العلم أو الظّنّ بأنّه قد استعمل فيه ليفهمه جدّا ، لا ليتقل عنه

٤٣٨

__________________

إلى غيره كما في الكنايات ، أو ليكون حجّة في البين ما لم يقم قرينة على خلافه كما في العمومات على أقوى الوجهين ، إذا الظّاهر انّ المستعمل فيها في ضرب القاعدة هو العموم ، ولذا كان العامّ حجّة في تمام الباقي بعد التّخصيص مع أنّه ليس غالبا بمراد عن جدّ.

ومن المعلوم أنّه مع العلم بها أو الظّنّ يعلم أو يظنّ بإرادة المعنى وإلاّ فلا علم ولا ظنّ كما لا يخفى ، وأين هذا من حصول الدّلالة له بمجرّد الوضع ، كما هو المدّعي. نعم لنفس الوضع دخل عقلا في ذلك لتوقّف العلم بهذه المقدّمات أو الظّنّ ببعضها عليه ، وإلاّ لم يكن علم ولا ظنّ بها كما لا يخفى ، ودخله في حصول المقدّمات الّتي يستحيل تخلّفه عقلا عن الدّلالة والعلم بالإرادة ، غير حصول الدّلالة بمجرّده ، مع انّ هذا في الدّلالة على ما وضع له بما هو كذلك وإلاّ فلا دخل له في الدّلالة على المعنى بما هو معنى اصلا لوضوح تحقّقها في الغلط والمجاز كما لا يخفي. وأمّا الدّلالة بمعنى مجرّد إخطار المعنى وتصوّره من إحساس الدّال بالسّمع أو البصر أو غيرهما ، فهي أيضا ناشئة عقلا من العلم بالوضع والالتفات إليه ، وقد عرفت انّ دخل الوضع في تحقّق ما هو سبب عقلا غير كونها بسببه ، مع أنّ دخله فيه إنّما هو في الدّلالة عليه بما هو موضوع له ، وأمّا بما هو معنى ، فالدّلالة عليه غير متوقّفة عليه ، بل يكون مع الجزم بعد الوضع له أو الشّكّ ، بل يحصل بمجرّد إحساسه مع الإلتفات إليه مطلقا ، لأنّه أمر نسبيّ لا بدّ في الإلتفات إليه من الالتفات إلى طرفيه من غير تفاوت بين إثباته ونفيه ، والتّردّد بينهما كما لا يخفى.

وبالجملة : قد ظهر أنّ دخل الإنشاء والجعل وضعا وتشريعا بحكم العقل في وجود سبب التّكليف وداعيه ، أو في تحقّق الدّلالة بكلا معنييها غير حصول المنشأ من السّببيّة أو الدّلالة أو نحوهما بمجرّد ذلك الإنشاء والجعل كما هو المدّعي ، وبذلك يمكن التّصالح بين الأعلام بأن يكون المنكر في المقام ينكر هذا والمثبت يثبت ذاك ، فلا نزاع في الحقيقة بينهم ولا كلام ، وعليك بالتأمّل التّام فانّه من مزالّ الأقدام.

٤٣٩

__________________

وأمّا قبول مثل الملكيّة والزّوجيّة والولاية إلى غير ذلك من الاعتبارات ذوات الآثار شرعا وعرفا للجعل أصالة وتبعا ، فلانّها وإن كانت من الأمور النّفس الأمريّة إلاّ أنّها لمّا كانت أمورا اختراعيّة ومعاني انتزاعيّة لا واقعيّة لها في الخارج إلاّ بواقعيّة منشأ انتزاعها ولا تحقّق لها فيه إلاّ بوجود ما يصحّ منه اختراعها ، كان كلّ واحد من انشائها عقدا أو إبقاعا أو عهدا على اختلافها ومن إنشاء آثار يستلزمها كافيا في منشأ الإنتزاع ووافية بصحّة الاختراع ، ضرورة صحّة انتزاع الملكيّة الواقعيّة من مجرّد جعل الله تعالى ملكيّة شيء لأحد ، وكذا صحّة انتزاع الولاية من جعلها لواحد ، كما يصحّ انتزاعهما من جعل آثار يستلزمها كإيجاب الوفاء بالعقد وإجازة التّصرّف وإباحته بانحائه في ملك الغير مثلا ، كما يظهر ذلك من مراجعة السّلطان [ ولاة ] ولاية مملكته وحكومته تارة : بإنشائها بخطاب يخصّها ، وأخرى : بإنشاء آثارها بخطابها مثل أن يقول افعل كذا وكذا ، إلى غير ذلك ممّا يتعلّق بأمر السّياسة في نظم المملكة.

إن قلت : لا ريب في عدم صحّة انتزاع الملزوم من لوازمه وأحكامه وإن صحّ استكشافه بها ، فكيف يصحّ انتزاع هذا النّحو من الوضع عمّا له من الآثار التّكليفيّة ، مع أنّها من لوازمه وأحكامه؟

قلت : معنى ما ذكر أنّه يصحّ انتزاعه من الآثار التّكليفيّة للمورد بما فيه من الخصوصيّات المقتضية لها لا عمّا اعتبر آثارا له منها كي يستلزم انتزاع الملزوم عن لازمه المساوق لتقدّم المعلول على علّته ، كما لا يخفى.

إن قلت : قد حقّق في محلّه : أنّ المعنى الواحد والمفهوم الفارد لا ينتزع عن المتعدّد بما هو متعدّد ، فكيف يصحّ انتزاع هذه الاعتبارات من المتعدّد ويصحّ اختراعها تارة بجعلها بالأصالة بإنشائها بمفاهيمها ، وأخرى بتبع جعل آثارها؟

قلت : إنّما لا يصحّ انتزاع الواحد من المتعدّد بما هو متعدّد كما أشرت إليه ، لا بما هو واحد وبجهة واحدة اشترك فيها كما في المقام ، ولا يبعد أن يكون تلك الجهة في مثال الحكومة هو

٤٤٠