بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

بل يدلّ على خلاف مدّعاه كما لا يخفى هذا.

ولكن من المعلوم أيضا دلالة جملة من الآيات والأخبار على ترتّب الحرمة والنّجاسة على الميتة كما في آية : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً )(١) الآية وقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ )(٢) الآية إلى غير ذلك.

والرّوايات الدّالّة عليه كثيرة مثل : ما ورد في عدم جواز الصّلاة في شيء من الميتة وفي جلده وإن دبّغ سبعين مرّة (٣) ، وفي بعض الأخبار : تعليل الحكم بحرمة الطّعام الّذي مات فيه فأرة : بأنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء (٤).

فنقول : إنّ هذه لا تنافي ما ذكرنا ؛ لأنّ الميتة عبارة عند الشارع عن كلّ ما خرج روحه بغير التّذكية ، وليس عند الشارع واسطة بين المذكّى والميتة بأن يكون الميتة خصوص ما خرج روحه بحتف الأنف ، وإلاّ لكانت النّجاسات زائدة على ما عدّوها.

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) الفقيه : ج ١ / ٢٤٧ ـ ح ٧٤٩ ، والتهذيب : ج ٢ / ٢٠٣ باب « ما يجوز الصلاة فيه من الباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه من ذلك » ـ ح ٢ ، والوسائل : ج ٣ / ٥٠١ باب « عدم طهارة جلد الميتة بالدباغ وعدم جواز الصلاة فيه » ـ ح ١.

(٤) التهذيب : ج ١ / ٤٢٠ باب « تطهير البدن والثياب من النجاسات » ـ ح ٤٦ ، والإستبصار : ج ١ / ٢٤ باب « حكم الفأرة والوزغة والحية والعقرب اذا وقع في الماء وخرج منه حيا » ـ ح ٣ ، عنهما الوسائل : ج ١ / ٢٠٦ باب « نجاسة المضاف بملاقاة النجاسة وان كان كثيرا » ـ ح ٢.

٦٢١

ويدلّ على ما ذكرنا كثير من الأخبار النّاطقة : بأنّ القطعة المبانة من الحيّ ميتة (١) ، وغير ذلك ممّا ورد في غيره. ومن أقوى ما يشهد لما ذكرناه وقوع التّعبير في جملة من الآيات والأخبار عن معروض الحرمة بغير المذكّى وفي جملة بالميتة.

لا يقال : إنّ عدم الواسطة بين المذكّى والميتة لا يثبت كون الميتة غير المذكّى حتّى يكون على وفق الأصل لم لا يكونا من الضّدّين لا ثالث لهما.

لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به اللّبيب ؛ لأنّ العنوان الجامع لجميع أقسام خروج الرّوح بغير التّذكية ليس إلاّ نفس هذا القيد وليس هنا شيء آخر يجعل ميزانا للفرق بين المذكّى والميتة فتدبّر.

وممّا ذكرنا كلّه : ظهر فساد ما ذكره ( دام ظلّه ) في الجزء الثّاني من « الكتاب » (٢) وما ربّما يظهر من هذا الجزء أيضا : من الجواب عن المعارضة المذكورة تارة : بأنّ الحكم لم يترتّب على الميتة في الشّريعة بل على غير المذكّى ، وأخرى : بتسليم ترتّب الحكم عليها.

ودعوى : كونها عبارة عن غير المذكّى ؛ ضرورة أنّ الجواب الآخر لا يتمّ إلاّ بضميمة الجواب الأوّل كما عرفت منّا ؛ إذ إنكار ترتّب الحكم في الشّريعة على الميتة مكابرة محضة.

ودعوى : أنّ الجواب الأوّل مبنيّ على ما يراه الخصم من كون الميتة أمرا

__________________

(١) انظر الكافي الشريف : ج ٦ / ٢١٤ باب الصّيد بالحبالة وكذا ص ٢٥٥ باب ما يقطع من أليات الضأن.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١٠.

٦٢٢

وجوديّا لم يؤخذ فيه عدم التّذكية أصلا بل هي خصوص الموت حتف الأنف ، ممّا لا يجدي في نفي ما هو المشاهد بالعيان من تعليق الأحكام على الميتة أيضا.

ثانيهما (١) : أن يقال : إنّ الميتة عبارة عن كلّ ما زهق روحه فيشمل المذكّى وغيره ، إلاّ أنّه خرج المذكّى عنه وحكم بحليّته وطهارته ، فالمذكّى وإن كان ميتة واقعا إلاّ أنّه خارج عنها حكما ، وحينئذ إذا شكّ في تحقّق عنوان المخصّص فيرجع إلى العام ويحكم بترتّب أحكام الميتة ، وإن كان مرجع الشّك إلى الشّك في المصداق.

إذ قد عرفت غير مرّة : أنّه إنّما يحكم بالإجمال ولا يرجع إلى حكم العموم في الشّك في المصداق فيما لم يكن هناك أصل موضوعي يثبت عدم وجود المخصّص ، ولا إشكال في وجوده في المقام ؛ لأنّ عدم تحقّق التّذكية موافق للأصل فتدبّر.

ولا يتوهّم : أنّ هذا يرجع إلى التّمسك بالعموم فلا دخل له بالاستصحاب ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ التّمسك بالعموم فيه إنّما هو بمعونة الاستصحاب ، بل قد يقال : بأنّ المستند حقيقة هو الاستصحاب ليس إلاّ ، لأنّ الشّك في الحكم بمقتضى الفرض إنّما هو من جهة الشّك في المصداق فحكم الشارع بعدم الاعتناء بالشّك فيه والبناء على عدم وجود المخصّص هو الالتزام بحكم العموم بمقتضى الاستصحاب ، بل التّحقيق : عدم إمكان جعل الاستصحاب ضميمة للتّمسك بالعموم كما هو ظاهر. ولكنّك خبير بأنّ الوجه الأوّل أوجه من الثّاني.

__________________

(١) مرّ أوّل الوجهين في بداية هذه التعليقة.

٦٢٣

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : فساد قياس الاستصحاب في مشكوك التّذكية على استصحاب الضّاحك الموجود في ضمن زيد لإثبات وجود عمرو في الدّار بعد خروج زيد عن الدّار.

هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه ) في بيان الفرق ، ولكن مع ذلك لا بدّ من التّكلّم في بعض فقرات كلامه لعدم تبيّن وضوح المراد منه.

(٢٢٣) قوله ( دام ظلّه ) : ( ثمّ إنّ الموضوع للحلّ والطّهارة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٩٩ )

أقول : أراد بذلك : دفع ما ربّما يتوهّمه المتعسّف الخالي عن التّأمّل : من استلزام الرّجوع إلى أصالة عدم التّذكية التّعويل على الأصل المثبت ؛ لأنّ المقصود إثبات الحرمة والنّجاسة في اللّحم ، فإثباتهما لا يمكن إلاّ بإثبات كونه غير مذكّى

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« يحتمل انه أراد بهذا الكلام دفع ما تشبّث به الفاضل التوني في منع جريان استصحاب عدم المذبوحيّة من عدم بقاء الموضوع الذي هو شرط الإستصحاب فقال : ان الموضوع هو اللحم أو المأكول وهو باق جزما.

لكن لا يخفى أن مراد الفاضل التوني من الموضوع الذي حكم بعدم بقائه هو نفس المستصحب لا معروضه الذي هو مصطلح عندنا فليتأمّل.

ويحتمل انه أراد به دفع ما ربّما يتوهّم : من ان موضوع الحرمة والنجاسة هو اللحم المتّصف بكونه غير مذكي ، وأصالة عدم التذكية لا يثبت العنوان الموصوف.

فأجاب بمنع ذلك وأن الموضوع هو اللحم وقد علّق حكم الحلّ والطهارة على التذكية ولذا قال : ( فمجرّد تحقق عدم التذكية في اللحم ـ يعني بالأصل ـ يكفي في الحرمة والنجاسة ) [ فرائد : ٣ / ١٩٩ ] » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢١٥.

٦٢٤

باستصحاب عدم التّذكية وهو معنى الأصل المثبت.

وحاصل ما ذكره في دفعه ما عرفته في طيّ كلماتنا السّابقة : من أنّ أصالة عدم التّذكية إنّما يجري في نفس اللّحم المشكوك ، ومعنى عدم تذكيته هو كونه غير مذكّى ، فليس هنا واسطة تثبت باستصحاب عدم التّذكية حتّى يلزم التّعويل على الأصل المثبت كما لا يخفى.

(٢٢٤) قوله ( دام ظلّه ) : ( أشكل إثبات الموضوع بمجرّد أصالة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٩٩ )

أقول : لا يخفى أنّ المتعيّن أن يقول ( دام ظلّه ) بدل قوله : « أشكل » « لم يجز » ؛ لأنّ عدم اعتبار أصل المثبت عنده ممّا لا شكّ فيه.

(٢٢٥) قوله ( دام ظلّه ) : ( فبقي (١) أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللّحم ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ١٩٩ )

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : « فيبقى ».

(٢) قال المحقق الأصولي المؤسس الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

وفيه : ان كون الموت حتف الأنف موضوعا للحرمة والنجاسة من البديهيّات ولا معنى لجعله مذهبا لبعض ؛ ضرورة توقّف النجاسة على الموت المقارن لعدم التذكية ولا معنى للموت حتف الأنف إلاّ ذلك ، ولا يمكن أن يذهب أحد إلى أن الموضوع هو عدم التذكية وإن كان مجامعا للحياة ؛ فإنه غير الموت حتف الأنف ، ولكنّه من حيث مغايرته له لا حكم بالضرورة كما انه لا يمكن أن يقال : ان الموت وإن كان مقارنا للتذكية يترتّب عليه الحكمان.

وبالجملة : فلا سبيل إلى الإلتزام بان الميتة عبارة عن غير المذكّي وإن كان حيّا ، أو أنّ الميّت وإن كان مذكّى نجس وحرام ، فتعيّن الإلتزام بانّ الحكم إنّما ثبت للموت حتف الأنف ، فلا

٦٢٥

أقول : لا يخفى عليك عدم بقاء الأصل المذكور سليما عن المعارض ؛ لأنّه بعد العلم الإجمالي بعدم كون الحكم في اللّحم خارجا عن الحليّة والطّهارة والحرمة والنّجاسة يعارض الأصل المذكور بأصالة عدم التّذكية المقتضية لنفي الحليّة والطّهارة ، فيصير حال الأصلين كالأصلين الجاريين في المشتبهين في الشبهة المحصورة.

نعم ، لو ترتّب حكم غير ما ذكر على الموت فلا إشكال في نفيه بأصالة عدم الموت ، كما أنّه لو ترتّب حكم على خصوص المذكّى غير الطّهارة والحليّة لم يكن ريب في نفيه بأصالة عدم التّذكية وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، فيرجع بعد تعارض الأصلين حينئذ إلى أصالة الحليّة والطّهارة. فلو قال ـ بدل ما قال ـ :« فيبقى أصالة الحلّ والطّهارة سليمتين عن الرّافع الشّرعي » ؛ لكان في غاية الجودة.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ أصالة عدم الموت حتف الأنف وإن لم يثبت بها التّذكية من جهة استلزامه التّعويل على الأصل المثبت ؛ لكنّها لا يكون سليمة عن المعارض بعد ملاحظة العلم الإجمالي.

(٢٢٦) قوله ( دام ظلّه ) : ( إنّ استصحاب عدم التّذكية حاكم على استصحابهما ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٠٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ حكومة استصحاب عدم التّذكية على الأصلين مع

__________________

مناص عن الإشكال إلاّ على ما حقّقناه : من أنّ الإستصحاب عبارة عن القاعدة الشريفة لا الأخذ بالحالة السابقة ». إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥١.

٦٢٦

كون الحرمة والنّجاسة من أحكام الميتة إنّما هي مبنيّة على فرض السّيد ـ كما هو مفروض الكلام ـ : من إثبات أصالة عدم التّذكية للموت ، وإلاّ فقد عرفت : عدم حكومته عليهما على القول بعدم اعتبار الأصل المثبت.

(٢٢٧) قوله ( دام ظلّه ) : ( فلو لا ثبوت التّذكية بأصالة عدم الموت ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٠٠ )

فيما يتعلّق أيضا بأصالة عدم التذكية وشرح القول فيها

أقول : لا يخفى عليك أنّه لا حاجة إلى إحراز التّذكية بأصالة عدم الموت في الرّجوع إلى الأصلين ؛ لأنّ مجرّد إثبات عدم الموت المقتضي لعدم الحرمة والنّجاسة بالأصل المعارض ؛ لأصالة عدم التّذكية يكفي في الرّجوع إليهما ؛ ضرورة أنّ مجرّد عدم قيام الدّليل الشّرعي السّليم على الحرمة والنّجاسة يكفي في الرّجوع إلى أصالة الحليّة والطّهارة لتحقّق موضوعهما بذلك ، وهو الشّك في الحليّة والطّهارة مع عدم قيام ما يقتضي بحكم الشارع خلافهما وهذا أمر واضح لا يعتريه ريب إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ما وقع في طيّ كلماته ( دام ظلّه ) : من ذكر استصحاب الحليّة والطّهارة وقاعدتهما معا لا يخلو عن مناقشة ؛ للمنع من جريان استصحاب الحليّة في المقام ؛ لعدم وجود الحالة السّابقة له كما لا يخفى على من له أدنى دراية. وأمّا استصحاب الطّهارة فلا إشكال في جريانه بناء على المسامحة في موضوع الاستصحاب ، وأمّا بناء على الدّقة فلا ؛ لأنّ الطّهارة المعلومة سابقا إنّما كانت من عوارض الحيوان ، والمقصود إثباته في اللاّحق هي الطّهارة في الجسم هذا.

٦٢٧

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ذكر الأستاذ العلاّمة لاستصحاب الحليّة إنّما هو من قبل السيّد ، والظّاهر وجود هذا الاستصحاب وأمثاله في كلماته وكلمات غيره وإن كان مقتضى التّحقيق خلاف ما ذكروه فتأمّل.

(٢٢٨) قوله ( دام ظلّه ) : ( من حيث إنّ العدم الأزليّ مستمرّ مع حياة الحيوان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٠١ )

أقول : أراد بذلك الفرق بين المستصحب الوجودي إذا كان كليّا وبين المستصحب العدمي إذا كان كذلك ؛ حيث إنّ وجود الكلّي في ضمن فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر ، وهذا بخلاف العدم ؛ فإنّ العدم المقارن لموجود ليس غيره إذا كان مقارنا لموجود آخر ، والوجه فيه : أنّ العدم ليس مستندا إلى وجود ما هو مقارن له وليس له علّة حتّى يقال : إنّ انتفاء أحد الوجودين يستلزم انتفاء العدم المقارن له ؛ إذ كلّ عدم مقارن لجميع الوجودات ولا يتغيّر بتغايرها.

نعم ، قد يكون انتفاء بعض الوجودات مقتضيا لوجود المعدوم كما في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما ، لكنّه لا دخل له بما نحن في صدده : من عدم تغاير العدم بتبادل الموجودات المقارنة له كما لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى عليك : أنّه يمكن المناقشة فيما ذكره : بأنّ عدم التّذكية الأزلي من غير إضافة إلى الموضوع المشكوك ممّا لا يعقل عروض الحكم له ولا صيرورته قيدا لموضوع عرض له الحكم ، والّذي يصحّ قيدا إنّما هو العدم المضاف إلى الموضوع الخاص ، وهذا المعنى لا يجري فيه ما ذكره ( دام ظلّه ) كما لا يخفى ، بل لا بدّ من المشي فيه على المسلك الّذي قدّمناه لك.

٦٢٨

(٢٢٩) قوله ( دام ظلّه ) : ( بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٠١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه لا بدّ أن يكون المراد من القسمين : هو القسمين الأوّلين من القسم الأخير ؛ فإنّه لا أولويّة لإجراء الاستصحاب في العدمي بالنّسبة إلى القسم الأوّل من الأقسام الثّلاثة لأصل استصحاب الكلّي ، وهذا الّذي ذكرنا وإن كان خلاف ظاهر العبارة ، إلاّ أنّه لا بدّ أن يكون هو المراد ، اللهمّ إلاّ أن يتشبّث في إبقاء العبارة على ظاهرها بذيل ما قدّمناه لك : من الإشكال في الجمع بين

__________________

(١) قال المحقق الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« وذلك لأنّ العدم الأزلي المضاف إلى شخص ليس بكلّي وإن كان مستمرا مع مقارناته الوجوديّة ، وذلك لا يوجب كلّيّة كما في استمرار الوجود ، كي يبتني جريان الإستصحاب فيه على جريانه فيه ، بل أمر واحد غير صادق على كثيرين وإن كان مقارنا لها كما لا يخفى ، فيترتّب عليه باستصحابه عند الشّكّ في بقائه كلّما يترتّب عليه من الآثار الشّرعيّة ، دون ما يترتّب على أحد مقارناته الوجودية ، أو على أحد الأمور المقيّدة به إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فلا يترتّب آثار موت حتف الأنف مثلا باستصحاب عدم التّذكية ، ولا أحكام الاستحاضة على الدّم المشكوك بأصالة عدم الحيض ، وإن كان لا ينفكّ عدم الحيض عن كون الدّم الموجود استحاضة بناء على أنّها عبارة عن كلّ دم ليس بحيض ، بداهة أنّ هذا الإستلزام وعدم الانفكاك ليس بشرعيّ بل عقليّ.

وبالجملة : من الواضح أنّ إثبات عنوان أو نفيه بالثّبوت أو النّفي المحمولتين الّذين يكونان مفاد كان وليس التّامّتين بالاستصحاب لا يوجب إثباته أو نفيه ، لما شكّ اتّصافه به إلاّ على القول بالأصل المثبت ، لأنّهما مفاد كان وليس النّاقصتين ، فلا يترتّب على استصحاب بثبوته أو نفيه أو النّفي ما يترتّب عليه بهذا الثّبوت أو النّفي ، فافهم » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٤١.

٦٢٩

استصحاب الكلّي والفرد في القسم الأوّل ؛ ضرورة سلامة مفروض البحث عن الإشكال المذكور ؛ نظرا إلى عدم كون الاستصحاب المبحوث عنه من استصحاب الكلّي على ما عرفت الإشارة إليه فافهم وتدبّر.

(٢٣٠) قوله ( دام ظلّه ) : ( إذا لم يرد إثبات الموجودات المتأخّرة (١) ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٢٠١ )

أقول : حاصل ما ذكره : هو أنّه قد يقصد بالاستصحاب في الأمر العدمي ترتّب الأحكام المترتّبة على نفسه في الشّرع ، أو على أمر وجودي هو قيده فيه ، كما في الحرمة العارضة على اللّحم الّذي لم يذكّ وهذا ممّا لا إشكال في صحّته.

وقد يقصد به ترتيب الأحكام المترتّبة على أمر وجودي مقارن له ، أو ملازم لما أخذ قيدا له ، كالموت بالنّسبة إلى اللّحم الّذي لم يذك بناء على كونها أمرا وجوديّا وهذا لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ لاستلزامه التّعويل على الأصل المثبت مع كونه معارضا بعدم هذا الأمر الوجودي دائما.

وقد يقصد باستصحاب العدم في موضوع إثبات اتّصاف الموضوع الآخر به ، كما في استصحاب عدم حيض المرأة المقصود به إثبات كون الدّم الخارج منها غير حيض ، فيترتّب عليه أحكام دم الاستحاضة : من جهة ما دلّ على أنّ كلّ دم لا يكون حيضا فهو استحاضة ، وهذا أيضا لا إشكال في عدم صحّته لوجود

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : إثبات الموجود المتأخّر.

(٢) قال في قلائد الفرائد : ٢ / ٢٧٤ :

« أقول : إنّما قيّد بهذا لأنّه حينئذ ـ مضافا إلى انه أصل مثبت ـ معارض بأصالة عدم هذا الأمر الوجودي » إنتهى.

٦٣٠

المحذور الّذي عرفته في سابقه فيه أيضا.

ثمّ إنّه لا يخفى الفرق بين هذا وبين أصالة عدم تحقّق التّذكية في المشكوك ؛ فإنّ موضوعها نفس اللّحم المردّد فلا يحتاج إلى إثبات واسطة ، وهذا بخلاف استصحاب عدم الحيض ؛ فإنّ الموضوع فيه المرأة غاية الأمر ثبوت الملازمة بين عدم حيضها وكون الدّم الخارج منها غير حيض.

فهذا الاستصحاب نظير استصحاب الكريّة من غير إضافة إلى الماء المشكوك لإثبات اتّصافه بها ، واستصحاب عدم التّذكية في اللّحم نظير استصحاب الكريّة باعتبار إضافتها إلى الماء. فيقال : إنّ الأصل بقاء الماء المشكوك على كريّته المعلومة في السّابق ، وهذا الاستصحاب وإن لم يجر بناء على المداقّة في إحراز الموضوع ، إلاّ أنّه بناء على المسامحة يكون كاستصحاب عدم التّذكية في المقام.

ومثل هذين الاستصحابين استصحاب القلّة بالاعتبارين فيما كان الماء المشكوك مسبوقا بالقلّة.

نعم ، أصالة عدم كون الدّم الخارج حيضا مع الإغماض عمّا يتوجّه عليه : من عدم الحالة السّابقة للدّم المردّد يكون من قبيل أصالة عدم التّذكية بالمعنى الّذي عرفت ، إلاّ أنّها معارضة بأصالة عدم كونه استحاضة ، فلا يجوز التّعويل عليها إلاّ بالنّسبة إلى نفي الأحكام المترتّبة على هذين العنوانين من حيث الخصوص ، فيحكم بوجوب الصّلاة عليها ، وجواز لبثها في المساجد ، وقراءة سور العزائم. إلى غير ذلك من الأحكام الّتي ثبتت مانعيّة الحيض لها. وأيضا يحكم بعدم وجوب خصوص أعمال المستحاضة عليها من جهة أصالة عدم الاستحاضة هذا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بعد العلم الإجمالي بعدم خروج الدّم الخارج عن

٦٣١

أحدهما يقطع بارتفاع الطّهارة السّابقة ، ولزوم إجراء حكم أحد الدّمين عليها ، فالحكم برجوعها إلى الأصل بالنّسبة إلى كلّ من الحكمين لا يخلو عن تأمّل ، بل مقتضى ما ذكره ( دام ظلّه ) في القسم الثّاني : من استصحاب الكلّي هو الرّجوع إلى استصحاب الحدث بعد إتيانها بمقتضى أحد الدّمين ، فبمقتضى القاعدة الأوّليّة حينئذ هو الجمع بين أعمالهما بحكم العقل من جهة قاعدة الشّغل فتأمّل.

(٢٣١) قوله ( دام ظلّه ) : ( والمعيار عدم الخلط بين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٠٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره معيار متين حسن يجب البناء عليه في الوجوديّات والعدميات معا ، فكلّ ما كان الشّيء متّصفا بوصف عنواني ثمّ شكّ في زوال هذا الوصف عنه في اللاّحق فيرجع إلى استصحاب بقاء هذا الموصوف على وصفه. وكلّما كان الشّيء محلاّ لوصف واقعا ثمّ شك بعد العلم بثبوت هذا الوصف في المحلّ في زواله فلا يرجع إلى استصحاب بقاء هذا الوصف لإثبات كون المحلّ مشغولا به ؛ لأنّه يلزم التّعويل على الأصل المثبت بخلاف الأوّل فهذه قاعدة كليّة لا ريب ولا إشكال فيها أصلا.

نعم ، قد يقع الإشكال في المصاديق الخارجة من أنّها من أيّ القسمين؟فلا بدّ من التّأمّل حتّى لا يقع في خلاف الواقع.

__________________

(١) قال في قلائد الفرائد [ ٢ / ٢٧٤ ] :

« أقول : وحينئذ فكلّما كان الشيء متّصفا بوصف عنواني ثم شك في زوال هذا الوصف فيه في اللاّحق فيرجع إلى إستصحاب بقاء هذا الموصوف على وصفه ، وكلّما كان الشيء محلاّ لوصف واقعا ثم شك بعد العلم بثبوت هذا الوصف في المحلّ وزواله فلا يرجع إلى استصحاب بقاء هذا الوصف لإثبات كون المحلّ مشغولا به لأنّه أصل مثبت » إنتهى.

٦٣٢

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما هو مبنيّ على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن ، فلا فرق بين القسمين كما لا يخفى ، بناء على ما عرفت الإشارة إليه مرارا وستعرفه تفصيلا : من كون اللاّزم على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن عدم الفرق بين ما يترتّب شرعا على المستصحب بلا واسطة أمر عقليّ أو عاديّ ، وما يترتّب عليه بتوسّط أحدهما ، وإن لم يلتزم القائل به بهذا اللاّزم في جميع الموارد على ما سيمرّ عليك.

* * *

إنتهى الجزء السادس بحسب تجزئتنا للكتاب ويليه الجزء السابع ، أوّله : التنبيه الثاني ـ من تنبيهات الإستصحاب ـ إستصحاب الزّمان والزمانيّات.

والحمد لله ربّ العالمين

٦٣٣
٦٣٤

الفهرس التفصيلي

المقام الثاني.................................................................... ٥

في الإستصحاب............................................................... ٥

* الإستصحاب لغة وإصطلاحا................................................. ٧

* تقديم أمور ستة............................................................. ٧

* الأوّل : الإستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنّيّة؟................................ ٧

* الثاني : وجه عدّ الإستصحاب من الأدلّة العقليّة.................................. ٧

* الثالث : الإستصحاب مسألة أصوليّة أو فقهيّة؟.................................. ٧

* الرابع : مناط الإستصحاب على المباني المختلفة.................................. ٧

* الخامس : تقسيم الإستصحاب :............................................... ٧

ـ باعتبار المستصحب......................................................... ٧

ـ باعتبار دليل المستصحب.................................................... ٧

ـ باعتبار الشك المأخوذ فيه................................................... ٧

* الأقوال في حجّيّة الإستصحاب................................................ ٧

* أدلة المختار :................................................................. ٧

٦٣٥

ـ الدليل الأوّل : الإتفاق...................................................... ٧

الدليل الثاني : الإستقراء....................................................... ٧

الدليل الثالث : السنّة.......................................................... ٧

* حجّة القول الأوّل ( المثبتون لحجّيّة الإستصحاب )............................... ٩

* حجّة القول الثاني ( النافون لحجّيّة الإستصحاب )................................ ٩

* حجّة القول الثالث ( المفصّلون بين العدمي والوجودي )......................... ٩

* حجّة القول الرابع ( المفصّلون بين الأمور الخارجيّة والحكم الشرعي مطلقا )....... ٩

* حجّة القول الخامس ( المفصّلون بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره )............... ٩

* حجّة القول السابع : ( تفصيل الفاضل التوني بين الحكم التكليفي والوضعي )..... ٩

* حجّة القول الثامن : ( التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره )..................... ٩

* حجّة القول التاسع : ( التفصيل بين ما شك في المقتضي والشك في الرّافع )........ ٩

* حجّة العاشر : ( التفصيل بين ما شك في وجوب الغاية وعدمه ).................. ٩

* حجّة القول الحادي عشر : ( التفصيل المتقدم مع زيادة الشك في مصداق الغاية)... ٩

* تنبيهات الإستصحاب.......................................................... ٩

* التنبيه الأوّل : أقسام الإستصحاب الكلّي...................................... ٩

الإستصحاب................................................................ ١١

تعريف الاستصحاب اصطلاحا وأن مرجع التعاريف إلى أمر واحد................ ١١

في بيان ما يعتبر في حقيقة الإستصحاب........................................ ١٥

في إمكان إرجاع تعريف العضدي إلى المشهور.................................. ١٦

٦٣٦

تعريف المحقّق القمّي والوجوه التي وجّه بها والمناقشة فيها.......................... ٢١

تعريف الفاضل النّراقي وغيره للإستصحاب.................................... ٢٧

* تقديم أمور ستّة............................................................ ٣١

* الأوّل : الإستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنّيّة؟.............................. ٣١

* الثاني : وجه عدّ الإستصحاب من الأدلّة العقليّة................................ ٣١

* الثالث : الإستصحاب مسألة أصوليّة أو فقهيّة؟................................ ٣١

* الرّابع : مناط الإستصحاب على المباني المختلفة................................. ٣١

* الخامس : مقوّمات الإستصحاب.............................................. ٣١

* السادس : تقسيم الإستصحاب :............................................. ٣١

الف : باعتبار المستصحب.................................................... ٣١

ب : باعتبار دليل المستصحب................................................ ٣١

ج : باعتبار الشك في البقاء................................................... ٣١

* الأمر الأوّل :............................................................... ٣٣

الإستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنيّة........................................ ٣٣

دفع توهم : أن للحكم الظاهري معنيين وإطلاقين............................... ٣٣

* الأمر الثاني :................................................................ ٣٨

الوجه في عدّ الإستصحاب من الأدلّة العقليّة.................................... ٣٨

بيان المراد من العقل المستقل وغير المستقل...................................... ٣٩

* الأمر الثالث :.............................................................. ٤٢

الإستصحاب مسألة أصوليّة أو فقهيّة؟......................................... ٤٢

٦٣٧

هل الإستصحاب من المسائل أم من المباديء.................................... ٤٥

مناقشة ما أفاده بحر العلوم.................................................... ٥٢

* الأمر الرابع :............................................................... ٥٨

مناط الإستصحاب على المباني المختلفة......................................... ٥٨

في ان مبنى الاستصحاب على الظّنّ النوعي أو الشخصي......................... ٥٨

أو المقيّد بعدم قيام الظّن على الخلاف.......................................... ٥٨

* الأمر الخامس :............................................................. ٦٦

مقوّمات الاستصحاب........................................................ ٦٦

* الأمر السادس :............................................................. ٧٨

تقسيم الإستصحاب......................................................... ٧٨

بيان المراد من الحكم الشرعي الكلّي........................................... ٨٦

والفرق بينه وبين الحكم الجزئي............................................... ٨٦

تقسيم الإستصحاب باعتبار دليل المستصحب................................... ٩٠

عدم معقوليّة استصحاب الأحكام العقليّة..................................... ١٠٣

عدم جريان الإستصحاب في الحكم العقلي.................................... ١٠٥

من حيث عدم تصوّر الشك فيه............................................. ١٠٥

حاصل ما أفاده في دفع الإشكال المذكور..................................... ١٢٠

في انّ العدم المستند ، حكمه حكم الوجود المستند............................. ١٢٦

في بيان تصوير القسمين في العدم دون الوجود................................ ١٣٠

المناقشة على الفرق بين الوجود والعدم....................................... ١٣٢

٦٣٨

اعتراض صاحب الفصول والجواب عنه....................................... ١٤١

تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك المأخوذ فيه................................ ١٤٧

صور الشك في المقتضي والشك في الرافع..................................... ١٤٧

عدم خروج الشك في الرّافع عن حريم النزاع.................................. ١٤٩

* الأقوال في حجّيّة الإستصحاب............................................ ١٥٣

* أدلّة المختار :.............................................................. ١٥٣

ـ الدليل الأوّل : الإتّفاق.................................................. ١٥٣

ـ الدليل الثاني : الإستقراء................................................. ١٥٣

ـ الدليل الثالث : السنّة................................................... ١٥٣

* حجّة القول الأوّل ( المثبتون لحجّية الإستصحاب )........................... ١٥٣

* حجّة القول الثاني ( النافون لحجّيّة الإستصحاب )............................ ١٥٣

* حجّة القول الثالث ( المفصّلون بين العدمي والوجودي )...................... ١٥٣

* حجّة القول الرابع ( المفصّلون بين الأمور الخارجيّة........................... ١٥٣

والحكم الشرعي مطلقا )..................................................... ١٥٣

* حجّة القول الخامس ( المفصّلون بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره )........... ١٥٣

* حجّة القول السابع ( تفصيل الفاضل التوني بين الحكم التكليفي والوضعي).... ١٥٣

* حجّة القول الثامن ( التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره ).................... ١٥٥

* حجّة القول التاسع ( التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع )....... ١٥٥

* حجّة القول العاشر ( التفصيل بين الشك في وجوب الغاية وعدمه )........... ١٥٥

٦٣٩

* حجّة القول الحادي عشر ( التفصيل المتقدم مع زيادة الشك في مصداق الغاية ) ١٥٥

الأقوال في حجّيّة الإستصحاب.............................................. ١٥٧

مراد المحقّق قدس‌سره من كلامه المحكي............................................ ١٦٥

* الاستدلال على القول المختار............................................... ١٦٨

الدليل الأوّل : الإتّفاق..................................................... ١٦٨

في صحة دعوى الإجماع على اعتبار الإستصحاب............................. ١٧١

في الشك في الرّافع......................................................... ١٧١

الدليل الثاني : الإستقراء.................................................... ١٧٤

الدليل الثالث : السنّة...................................................... ١٧٨

في أنّه لا يضرّ الإضمار بصحيحة زرارة...................................... ١٨٤

تقريب الاستدلال بالصحة وأنّ « اللام » فيها ليس للعهد...................... ١٩٦

في بيان فقه الحديث وكيفيّة الإستدلال به..................................... ٢٠٩

الصحيحة الثالثة لزرارة..................................................... ٢٣٢

تقريب الإستدلال بالرواية وبيان محتملاتها.................................... ٢٣٧

في توضيح ما أفاده في الفصول............................................... ٢٤٨

وبيان عدم استقامته من وجوه............................................... ٢٤٨

في انه لا يمكن إرادة الاستصحاب والقاعدة معا من الرواية...................... ٢٥٥

ليس في الرواية ما يدل على سوقها لإفادة القاعدة.............................. ٢٦٣

في تقرير الإشكال الذي أورده المصنف على الرّواية............................ ٢٦٨

٦٤٠