بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

يظنّ بقاؤه لا حقا ، وأمّا ثبوت الحكم الفلاني الّذي يتوقّف عليه أخذ النتيجة وهو الظّن به لا حقا فلا تعلّق له بحكم العقل أصلا ، إلاّ إذا فرض كون المستصحب ممّا يحكم به العقل ، وقلنا بجريان الاستصحاب فيه كما زعمه غير واحد. هذا بالنّسبة إلى أصل الظّن بالبقاء ، وأمّا الحكم بحجيّته فهو أمر آخر لا تعلّق له بمحطّ البحث.

ومن هنا يظهر : فساد ما ذكره غير واحد من المتأخّرين : من كون الاستصحاب على العقل من العقليّات المستقلّة كالبراءة والاشتغال العقليّين ؛ فإنّك قد عرفت وضوح فساده كفساد الزّعم المذكور في البراءة والاشتغال أيضا.

* * *

٤١

* الأمر الثالث :

الإستصحاب مسألة أصوليّة أو فقهيّة؟

(٤) قوله قدس‌سره : إنّ مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقليّة مسألة أصوليّة ) (١). ( ج ٣ / ١٧ )

__________________

(١) قال المحقّق المؤسّس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ما عرفت من انّ الإستصحاب بناء على استقلال العقل به ليس أصلا واقعيّا يستقلّ العقل بإدراكه كأصالة البراءة والإحتياط وليس البحث عن حجّيّته بل إنّما هو بحث عن تحقّقه بل لا معنى للبحث عن حجّيّة الأصل مطلقا وإنّما يبحث في الاصول عن تحقّقها أو عن تحقّق مجاريها ؛ فإنّ وظيفة الجاهل إمّا عقليّة أو واقعيّة لا يتوقّف على جعل الشارع ، وإمّا شرعيّة جعليّة.

وعلى أيّ تقدير فليس هنا أمران : الشيء ووصف الحجّيّة ، فالنزاع في مسألة البراءة والإشتغال في تعيين الأصل الذي يعوّل عليه يعني وظيفة الشاك في التكليف أو في المكلّف به لا في حجّيّة الوظيفة ، فحجّيّة أصل البراءة لا معنى لها إلاّ تحقّقها بمعنى ان الجاهل معذور في الواقع مع قطع النظر عن الشرع ولا ينجّز عليه التكليف حال الجهل ولم ينجّزه الشارع بتصرّف منه ، وحقيقة حجّيّة الإستصحاب ليس إلاّ انّ وظيفة الجاهل بالبقاء العالم بالحدوث أن يعامل مع المشكوك فيه معاملة معلوم البقاء ، فليس البحث فيه عن أحوال الحكم العقلي وهذا ليس إلاّ كالبحث عن حجّيّة المفاهيم فإنه بحث عن تحقّقها وبعد التحقّق فالحجّيّة مسلّمة ، وكذا في المقام لا إشكال في الرّكون إلى الوظائف العقلائيّة ما لم يمنع منها الشارع حيث يكون له ذلك ، وإنّما الإشكال في كونه وظيفة عقلائيّة فلو كان البحث عن دليليّة الدليل

٤٢

__________________

من المسائل الأصوليّة لم ينفع في المقام حيث ان البحث فيه ليس إلاّ عن تحقّق ما لو كان متحقّقا لم يكن إشكال في الرّكون اليه والإعتماد عليه ، مع ان عدم كون البحث عن الدليليّة من مباحث الأصول بعد التسالم على انّ موضوع الأصول إنّما هو الدليل من حيث هو كذلك من الواضحات ، ولا وقع لإسناد هذا الإشكال إلى القوانين خاصّة بل هو أوضح من أن يختصّ أحد بالتنبيه له.

وقد عرفت : انه على هذا ليس من قبيل حجّيّة ظاهر الكتاب كما انّ حجّيّة الخبر ليس من قبيل واحد منهما ولا ما نحن فيه من المباديء التصديقيّة ، بل إنّما هو من المباديء التصوريّة ، ومن ذهب إلى أنّ موضوع علم الأصول هو ذوات الأدلة من حيث يبحث عن دليليّتها ، أو عمّا يعرض لها بعد الدليليّة فلا يعتدّ بمقالته فإنّها لا ترجع إلى محصّل ؛ فإنه جمع بين النقيضين ؛ فإنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيّات ».

إلى أن قال :

« وأمّا الموافقة لتعريف الفن فلا يرجع إلى محصّل ؛ لأنّ كلّ فنّ لا بد وأن يكون تميزه بتمايز الموضوع ومع عدم الإنطباق على الميزان لا يجدي شيئا فالتعريف لا يصحّ إلاّ أن يرجع إلى ذلك فالقواعد الممهّدة للإستنباط إنّما تكون قواعد أصوليّة حيث كان البحث فيها عن العوارض الذاتيّة للدليل وإلاّ فمجرّد التمهيد للإستنباط لا يجدي بناء على كون الأصل فنّا ، بل هذا التعريف لا ينطبق على ما اخترناه أيضا ؛ حيث انّ مباحث الإجتهاد والتقليد ليست ممهّدة للإستنباط بل إنّما هي نفس أحكام الإستنباط ، وبالجملة : فكون الغرض من التمهيد استنباط الإحكام ليس ممّا يصلح للتمييز.

وممّا حقّقنا يظهر ما في قوله قدس‌سره : ( والمسئلة الأصوليّة هي التي بمعونتها ... إلى آخره ).

فإنّ هذا إنما ينطبق على التعريف الذي ذكره وفيه ما فيه.

ويظهر ممّا حقّقنا : انه لا مناص من إرجاع المسألة إلى البحث عن العرض الذاتي للموضوع

٤٣

__________________

ومجرّد كون النفع للمجتهد وعدم انتفاع المقلّد ليس مناطا في ذلك من حيث هو هو.نعم ، لا ينفع العلم بأحوال الدليل إلاّ للمستدلّ ، فالذي لا يقدر على الإستدلال لا يحتاج إلى معرفة أحوال الدليل ، فالميزان كون المسألة أصوليّة إنّما هو كون البحث فيها عن العوارض الذاتيّة ولا ينفع كون العلم بها وظيفة المجتهد ؛ فإنّ المجتهد لا يحتاج في استنباطه إلى معرفة أمور ليس شيء منها من الأصول ، فليس إختصاص المجتهد بالإحتياج إلى العلم بشيء ميزانا لكون المسألة أصوليّة ، نعم بعد إحراز عدم كون المسألة من غير الأصول والفقه ودوران الأمر بين الفنّين فلهذا وجه ، مع ان كثيرا من القواعد الفقهيّة أيضا ممّا لا ينتفع به غير المجتهد كمسائل القضاء.

وظهر ممّا حقّقنا ما فيما أفاده الأستاذ قدس‌سره حيث قال بعد ما مرّ : ( نعم يشكل كون الإستصحاب في المسائل من المسائل الفرعيّة ... إلى قوله : ولا حظّ لغيره فيها ).

فإن إختصاص المجتهد بالإجراء لا ينافي كونه من الفقه كما هو الحال في كثير من القواعد الفقهيّة مع انّ إجراء الأصل بناء على هذا ليس إلاّ تطبيق الكلّي على الفرد وهو ليس إلاّ الأخذ بالوظيفة الشرعيّة ولا فرق فيه بين المجتهد والمقلّد ، غاية الأمر : انّ المقلّد لا يستقلّ بإحراز الموضوع وهذا لا ينافي إستقلاله باجراء الأصل مع انّ هذا ليس من الإستنباط في شيء فتعليل اختصاص المجتهد به بأنّ المسائل الأصوليّة مهّدت للإجتهاد والإستنباط فاختصّ به المجتهد لا معنى له ؛ حيث إنّ الإختصاص في المقام على تقدير تسليمه ليس من هذه الجهة ؛ فإنّ العمل بالأصل إنّما هو مع فقد الدليل فحيث لا إجتهاد ولا إستنباط يعمل بالأصل ، وبالجملة فالأصل ليس إلاّ وظيفة الجاهل والمجتهد إنما ينوب عن المقلّد في إحراز الجهل وعدم الدليل ويشتركان في الوظيفة ، وهذا ليس من حيث انّه ممهّد للإستنباط ، بل إنّما هو وظيفة لغير المستنبط الجاهل بالحكم ، ولمّا اختصّ المجتهد بالإستنباط فالعلم إختصّ بمعرفة عدم الدليل ، وأين هذا من كون الحكم ممهّدا للإستنباط؟! ) إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٧٨ ـ ٨٠.

٤٤

هل الإستصحاب من المسائل أم من المباديء

أقول : توضيح القول في هذا الأمر : أنّ الاستصحاب بحسب المورد لا يخلو أمره : إمّا أن يجري في الحكم الشّرعيّ الفرعي ، أو الحكم الشّرعي الأصليّ العمليّ ، أو الموضوع الخارجي.

أمّا على الأوّل : فإن كان التكلّم فيه من باب حكم العقل وكان النّزاع فيه كبرويّا ، أي : في حجّيّة حكم العقل المذكور مع كون الصّغرى مسلّمة عندهم ، فدخول المسألة في مسائل العلم ، أو في المباديء التّصديقيّة له مبني على كون الموضوع لعلم الأصول : ذوات الأدلّة الأربعة ، فيدخل البحث عن حجّيّتها ودليليّتها في البحث عن عوارضها فيدخل في مسائل العلم ، كما يظهر عن بعض أفاضل من قارب عصرنا أو عاصرناه (١). أو هي بعد الفراغ عن دليليّتها ، يعني : بعنوان كونها أدلّة ، فيكون الوصف العنواني مأخوذا في موضوعيّتها فيدخل البحث عن حجيّتها في البحث عن إثبات موضوعيّة الموضوع ، فيدخل في البحث عن المباديء التّصديقيّة كما حكاه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (٢) عن المحقّق القمّي قدس‌سره (٣) ، وهو الظّاهر من تعريف الأصول : بأنّه « العلم الباحث عن أحوال الأدلّة

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٧.

(٣) انظر حاشية القوانين : ج ١ / ٦ ، الحاشية المبدوّة بقوله : « موضوع العلم هو ما يبحث فيه ... إلى آخره ».

٤٥

وإن كان الظّاهر من تعريفه الآخر : بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها » هو الوجه الأوّل ، كما استظهره شيخنا قدس‌سره منه.

نظرا إلى كون الغرض الأصلي من عنوان مسائل حجيّة الأدلّة وإثبات حجيّتها وتمهيدها استنباط الأحكام الفرعيّة بمعونتها عن الأدلّة ، وإن كان الاستظهار لا يخلو عن نظر فإن ذكر « عن أدلّتها » بما يمنع الظّهور المذكور.

نعم ، قد أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة عند التكلّم في حجيّة أخبار الآحاد ونقل الإجماع : أنّ مرجع البحث في المسألتين إلى أنّ السّنة والإجماع بعد الفراغ عن حجيّتهما هل يثبتان بواسطة النّقل الواحد كما يثبتان بالنّقل المتواتر والنقل الواحد المحفوف أم لا؟

ضرورة أنّ البحث فيهما ليس بحثا عن حجيّة السّنة والإجماع المحقّق ، وهذا البحث كما ترى ، يرجع إلى البحث عن عوارض الأدلّة بعد الفراغ عن دليليّتها فيدخل في مسائل العلم على كلّ تقدير وقول.

وهذا بخلاف البحث عن حجيّة حكم العقل في المقام ؛ فإنّ دخوله في البحث عن مسائل العلم مبنيّ على الوجه الأوّل لا محالة. ومجرّد عنوانه في العلم لا يدلّ على كونه من مسائله بعد ما نشاهد كثيرا من عنوان المباديء التّصوريّة والتّصديقيّة في نفس العلم في علم الأصول وغيره من العلوم. ومن هنا عنون القدماء كثيرا ممّا دوّن في طيّ مسائل العلم في طيّ عنوان المباديء اللغويّة والأحكاميّة. هذا فيما لو كان التّكلّم في المسألة في الكبرى بعد مسلّميّة حكم العقل الظّني كما يظهر من بعضهم.

وأمّا لو كان البحث في المسألة عن الصّغرى بعد مفروغيّة حجيّة حكم العقل

٤٦

المذكور على تقدير ثبوته وإن كان ظنيّا ، كما يظهر من كلمات الأكثرين من الخاصّة والعامّة ، فالظّاهر عدم الإشكال في رجوع البحث عن المسألة إلى البحث عن المباديء التّصديقيّة على كلّ تقدير ؛ لأنّ المفروض كون البحث عن أصل وجود الدّليل ، فكيف يرجع إلى البحث عن عوارضه بعد الفراغ عن ثبوته؟

وإن كان البحث عن الكبرى والصّغرى معا : كانت المسألة ذات وجهين لا محالة كما هو ظاهر فتدبّر.

والقول : بأنّ مرجع البحث في المسألة إذا كان إلى البحث عن الصّغرى تدخل في مسائل العلم على كلّ تقدير من حيث رجوعه إلى البحث عن ثبوت ما فرغ عن دليليّته وحجيّته نظير البحث عن ثبوت السّنة بخبر الواحد.

فاسد جدّا ؛ نظرا إلى أنّ البحث عن الثّبوت في المقام يرجع إلى البحث عن أصل وجود حكم العقل ، فكيف يدخل في البحث عن العوارض؟

وهذا بخلاف البحث عن ثبوت السّنة بخبر الواحد ؛ لأنّ البحث فيه ليس بحثا عن أصل وجود السّنة ؛ ضرورة عدم توقّفه على الإخبار عنه فضلا عن حجيّته ، فلا دخل لأحدهما بالآخر ، بل نظير المقام : البحث عن الاستلزامات العقليّة ونحوها ؛ فإنّ مرجعه إلى البحث عن أصل وجود حكم العقل كما هو ظاهر.

والقول : بأنّ الدّليل هو الحكم العقلي على سبيل القضيّة الكلّية فالبحث عن خصوصيّاته وأشخاصه يرجع إلى البحث عن العوارض.

فاسد أيضا ؛ لأنّ الدّليل العقلي بحسب المفهوم وإن كان كلّيا كالدّليل الشّرعي ؛ إلاّ أنّ الدّليل على الحكم الشّرعي إنّما هو مصاديق هذا المفهوم الكلّي لا نفس هذا المفهوم الصّادق عليها كما هو ظاهر. هذا بعض الكلام في الاستصحاب

٤٧

الجاري في الحكم الفرعي إذا كان التكلّم فيه من حيث حكم العقل.

وأمّا إذا كان التكلّم فيه من حيث حكم الشّرع فهل البحث عنه بهذه الملاحظة يدخل في البحث عن مسائل علم الفقه ، أو مسائل علم الأصول؟ وجهان : أوجههما الأوّل ؛ نظرا إلى أنّ البحث في المسألة بهذه الملاحظة ليس بحثا عن أحوال الأدلّة وعوارضها وإنّما هو بحث عن عوارض فعل المكلّف ظاهرا على سبيل الكلّية والعموم ، فيدخل في مسائل علم الفقه ؛ من حيث إنّ المبحوث عنه محمول أوّلي لفعل المكلّف من دون توسيط شيء آخر ، غاية ما هناك : كون الفعل المعروض له ملحوظا بلحاظ الكلّية في مرحلة الظّاهر ، وهذا غير مانع عن اندراجه تحت مسائل علم الفقه قطعا ، وإن هو إلاّ نظير التّكلّم في قاعدة الحلّية للأشياء الّتي لا يعلم حرمتها في الشّبهة الحكميّة ، وقاعدة الطّهارة في الشّبهة الحكميّة ، بل نظير قاعدة نفي الحرج والضّرر ونحوهما من حيث الكلّية ، فلا يتوهّم منع كليّتها أو ظاهريّتها عن اندراجها تحت مسائل علم الفقه.

وبالجملة : مقتضى تعريف الفقه : بأنّه العلم بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، وكون البحث في المسألة عن عوارض فعل المكلّف أوّلا وبالذّات ، دخول المسألة على الأخبار في مسائل الفقه. أمّا الثّاني : فقد عرفت الكلام في اقتضائه ، وأمّا الأوّل : فلأنّ المستنبط من أخبار الباب والحاصل منها : العلم بالحكم الفرعي وهو حرمة نقض المتيقّن ووجوب إبقائه عند الشّك.

نعم ، لا بدّ في استنباط هذا الحكم من إعمال جملة من المسائل الأصوليّة كما هو الشّأن في استنباط كلّ حكم فرعيّ ، فإنّه معنى حصول العلم به من الدّليل كما هو ظاهر.

٤٨

نعم ، مقتضى تدوينهم للمسألة في الأصول كونها من مسائله لكنّه لا يعارض ما عرفت ؛ لكون التّدوين أمارة ظنيّة لا يقبل المعارضة للوجهين سيّما الثاني. ومن هنا ذكروا : أنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها ؛ فإنّه كثيرا ما يتسامح في التّعريف ، مضافا إلى كون تدوينهم لها في الأصول ـ عند القائل بها من جهة الأخبار ـ من جهة مجرّد التّبعيّة على ما عرفت الإشارة إليه. ومن هنا خالفهم بعض المحقّقين مثل المحقّق الخوانساري فعنون المسألة في الفقه (١).

ومن هنا يظهر : أنّ تصريح بعضهم بكونها من مسائل الأصول ـ مضافا إلى عدم الجدوى في شهادة بعض أهل الفنّ ـ لا يفيد شيئا بعد احتمال ابتنائه على كون التكلّم فيها من جهة العقل.

نعم ، عجز العامي عن إعماله في الشّبهة الحكميّة على ما هو محلّ الكلام ربّما يقتضي الوجه الثّاني ؛ حيث إنّها لو كانت من مسائل الفقه لزم تسوية المجتهد والعامي في العمل به بعد الاستنباط كما هو شأن جميع المسائل الفقهيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، وأمّا عجز العامي عن إعماله فلا شبهة فيه ؛ حيث إنّه مشروط بالفحص الّذي لا يتمكّن العامي منه ، وهذا من خواصّ المسألة الأصوليّة ؛ فإنّها لما مهّدت للاستنباط فلا حظّ لغير المستنبط فيها ، فكلّ حكم يستنبطه المجتهد من الأدلّة ـ بإعمال ما أثبته في الأصول ـ : إن كان بعد الاستنباط : يشترك فيه المجتهد والعامي فهو حكم فرعيّ فقهي ، وكلّ حكم يختصّ بالمجتهد بعد الاستنباط فهو حكم أصولي لا محالة ، والاستصحاب من القسم الثّاني.

__________________

(١) مشارق الشموس في شرح الدروس : ٧٦.

٤٩

والقول : بأنّ هذا الاختصاص عرضي لا ذاتي ، بمعنى : أنّ المخاطب بأخبار الاستصحاب ليس خصوص المجتهد كما في الخطاب بالحدّ ؛ حيث قيل : إنّ المخاطب به خصوص الحكّام ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ؛ حيث توهّم كون المخاطب بهما خصوص الإمام عليه‌السلام أو من أذن له في ذلك بالخصوص ، بل المكلّف الجامع لشروط تعلّق التّكليف به من غير فرق بين المجتهد والعامي. غاية ما هناك : كون المجتهد نائبا عن العامي في تحصيل شرط العمل بالاستصحاب : وهو الفحص في الشّبهة الحكميّة ، وإلاّ فأصل العمل بمقتضى المتيقّن السّابق يشترك فيه المجتهد والعامي.

فيه : أنّ اختصاص العمل بالأدلّة بالمجتهد بالنّسبة إلى جميعها عرضيّ لا ذاتي ، وإلاّ فأصل العمل بمقتضاها مشترك بين المجتهد والمقلّد ؛ فإنّ معاصري الأئمّة ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ممّن كان من أهل اللّسان ، بل مقاربي أعصارهم كانوا يعملون بالرّوايات الّتي يسمعونها عنهم عليهم‌السلام ، أو المرويّة عنهم عليهم‌السلام بتوسّط الثّقات ، كما يعملون بفتاوي من رخّص لهم الأئمّة عليهم‌السلام الأخذ بها وهذا أمر ظاهر لا ينكره أحد.

بل يمكن دعوى : كون غالب المخاطبين بالعمل بروايات الثّقات من العوام ، وإن هو إلاّ نظير أخذ الفتوى من المجتهد في زماننا ؛ فإنّه قد يكون بلا واسطة ، وقد يكون بتوسّط الوسائط المعتبرة ، وهذا بخلاف زماننا وأشباهه ؛ فإنّه لا يجوز للعامي العمل بالرّوايات ، وليس ذلك إلاّ من جهة قدرة أهل الزّمان السّابق على تحصيل شروط العمل بالرّوايات من الفحص عن الصّوارف والمعارضات ومرجّحاتها ، وعجز أهالي الأعصار المتأخّرة ، بل ربّما لا يحتاجون إلى الفحص

٥٠

أصلا : من حيث كون الخطاب الملقى إليهم في زمان الحاجة إلى العمل بالحكم في الواقعة نظير بيان المجتهد للعامي في مقام العمل.

والحاصل : أنّا لا ننكر وجود التّقليد في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فإنّه من الواضحات الّتي لا ينكرها إلاّ المعاند ، كيف؟ والأخبار التي وردت في باب التقليد وردت في حقّهم ، مضافا إلى قيام الإجماع ودلالة الكتاب العزيز عليه كآيتي « النّفر » (١) و « السّؤال » (٢) ونحوهما ، إلاّ أنّ مدار الأحكام في حقّ العوام في تلك الأزمان لم يكن منحصرا في التّقليد كزماننا ، بل لهم : أن يعملوا بالرّوايات كما يكشف عنه ما ورد في كتب بني فضال ، وأضرابهم ممّن كان على الحقّ فعدل عنه ، بل هذا أيضا واضح بل أوضح ، لا ينكره إلاّ معاند.

وهذا الوجه كما ترى ، وإن اقتضى دخول المسألة في علم الأصول ، إلاّ أنّه يتوجّه عليه ـ مضافا إلى النّقض بالقواعد الفقهيّة المسلّمة كقاعدة الحلّية ، والطّهارة ، وأمثالهما في الشّبهات الحكميّة ؛ حيث إنّ كونها من مسائل الفقه من المسلّمات ، مع أنّه لا يتمكّن العامي من الأخذ بها من حيث اشتراطها بالفحص المتعذر منه ـ : بأنّه لا يصلح للمعارضة ؛ لما ذكرنا من الوجه المقتضي لكونها من مسائل علم الفقه ؛ فإنّك قد عرفت : أنّ الرّجوع إلى موضوع العلوم في باب التّميز مقدّم على الموازين ، فلا بدّ من القول بكون ما ذكر من اللاّزم لازما غالبيّا لأغلب المسائل الفقهيّة ، لا لنفس المسألة الفقهيّة كيف ما كانت حتّى ما كان من القواعد الكليّة الظّاهرة المتوقّفة على الفحص ، فتدبّر.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) النحل : ٤٣.

٥١

مناقشة ما أفاده بحر العلوم (١)

__________________

(١) قال المحقّق المؤسّس الطهراني قدس‌سره :

« [ وأمّا ما أفاده بعض السادة الفحول قدس‌سره ف ] فيه :

ما عرفت : انه أصل لا دليل على اعتباره عقلا ولا معنى لجعل دليل الأصل ومدركه عامّا والأصل الجاري في كلّ مورد باعتبار خصوصيّة المورد خاصّا ، بل الأصل ليس إلاّ هو الضّابط الكلّي والموارد إنما هي مجاري لها لا أفراد ، وهذا بناء على استفادته من الأخبار في غاية الوضوح ولا مجال لتوهّم كونه دليلا إن قلنا بانه أمر تعبّدي متلقّى من الشارع وليس تقديمه على العمومات من جهة انه خاصّ ، بل إنّما هو للتحكيم حيث إنّ حلّيّة الأشياء إنّما هي حلّيّة إقتضائيّة بحيث لا ينافي طروّ الجهة المحرّمة وقد ثبت التحريم بالغليان وحيث حكم ببقاء الحرمة الطارية بالإستصحاب فلا مجال لما دلّ على الحلّ حيث لا محرّم.

ومنه يظهر : الحال في سائر ما ذكره وزعم انّ تقدّم الإستصحاب إنّما هو من باب تخصيص العام بالخاص مع انه يتقدّم على كثير من الأصول أيضا ولا فرق بينهما في ذلك فيمكن أن يقال : إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( الناس في سعة ممّا لا يعلمون ) يدلّ على اعتبار أصل البراءة والأصل الجاري في كل مورد دليل على الحكم الثابت فيه وهو خاصّ أيضا ، فما الوجه لتقدّم الإستصحاب عليه؟ بل مقتضى ذلك تقدّم سائر الأصول أيضا على العمومات.

وبالجملة : فالأصل ليس إلاّ الوظيفة وكثرة الموارد لا ينافي حدوثها ولا معنى لتعدّد أصالة البراءة بتعدّد الشبهات ، ولا فرق بينهما وبين الإستصحاب من هذه الجهة ، بل المناط في تقديم الأصل على الدليل وتقدّم بعض الأصول على البعض إنّما هو الحكومة.

وبالجملة : فليس حال الأصل في موارده إلاّ كحال الدليل في موارده في عدم التعدّد بتعدّد الموارد ولا فرق بين أن يكون المستفاد من الدليل حكما واقعيّا أو وظيفة في كونه حكما واحدا وإن تعدّد الموارد والمجاري ، ولا يؤثّر اختلاف المورد في اختلاف الحكم ، ولا

٥٢

__________________

يوجب كون المورد خاصّا صيرورة الحكم دليلا خاصّا ، وأين الحكم من الدليل مع انه صرّح بانّ الإستصحاب في كلّ شيء ليس إلاّ بقاء الحكم الثابت له ، ومن المعلوم ان البقاء حكم لا دليل ، وليس عنده بقاء عقلي يستدلّ به على البقاء الشرعي ولا مجال لتوهّم : ان البقاء الشرعي دليل.

ولقد أجاد في جعل الإستصحاب عبارة عن البقاء إلاّ انه صرّح قبل ذلك بانّه ثبوت الحكم لثبوته في الأوّل ، وقال في مقام إثبات حجّيّة الإستصحاب بالأخبار :

( فإن قلت : إن دليل ثبوت الحكم في الحالة الأولى وهي حالة اليقين إن عمّ الثانية أعني حالة الشك كان الحكم مستصحبا فيها مستمرّا إليها لبقاء الدليل وإستمراره ، وإن لم يعمّ الثانية كان الحكم مختصّا بالأولى غير متجاوز عنها إلى الثانية وإلاّ كان من غير دليل ).

ثم نقل كلام المحقّق قدس‌سره ثم قال :

( قلت : إن دليل الحكم لو عمّ الحالتين كان ثبوت الحكم في الثانية للنصّ لا للإستصحاب ؛ فإنّ الإستصحاب هو ثبوت الحكم لثبوته في الأولى لا لدليل ثبوته فيها ولا يلزم من انتفاء دليل الخاص وهو العموم في دليل الأولى أن يكون الحكم في الثانية من غير دليل ؛ لأنّ نفي الخاص لا يستلزم نفي العام ، والدليل في الثانية هو ثبوت الحكم في الأولى المستلزم لثبوته فيها بما مضى من الدليل على حجّيّة الإستصحاب.

وتوضيح المقال :

ان الدليل الدالّ على الحكم في الحالة الأولى لا يخلو إمّا أن يدلّ على ثبوته فيها وفيما بعدها أو يدلّ على ثبوته في الحالة الأولى خاصّة ولا يعلم منه حكم الثانية وجودا وعدما ، بل يكون مسكوتا عنه في ذلك الدليل ، ولا ريب انّ الحكم في الصورة الأولى يختصّ بالحالة الأولى ؛ إذ المفروض فيها دلالة النّص على انتفاءه في الثانية ، والإستصحاب ممتنع مع ذلك قطعا ، وفي الثانية يعمّ الحالتين ويكون الحكم في كلّ منهما ثابتا بنفس الدليل من غير أن

٥٣

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا كلّه : توجّه المناقشة إلى ما أفاده السيّد بحر العلوم قدس‌سره من جعل الاستصحاب دليلا على الحكم في موارده ومجاريه ، وجعل الأخبار

__________________

يكون نسبته إلى إحداهما أولى من نسبته إلى الأخرى وهذا الإستدلال بعموم الأدّلة وليس من الإستصحاب في شيء. وأمّا الصورة الثالثة فهي مسألة الإستصحاب المتنازع فيه ، فالخلاف فيها يرجع في الحقيقة إلى الخلاف في دلالة الثبوت على البقاء والدوام.

فالنّافون للحجّيّة منعوا ذلك ؛ نظرا إلى أنّ الشيء قد يثبت ولا يدوم فلا بد لدوامه من دليل غير دليل الثبوت كزواله ، فإذا فقد من الجانبين وجب الرّجوع إلى الأصول الشرعيّة وكان الحكم في الحالة الثانية تابعا لما يقتضيه حكم الأصل في البقاء والزوال.

وأمّا المثبتون : فإنهم قالوا : الأصل فيما يثبت أن يدوم شرعا وإن جاز زواله عقلا واحتجّوا على ذلك بوجوه وقد أشرنا إلى ما هو المختار منها وبيّنّا وجه الدلالة فيه.

فعندهم دليل الحالة الثانية هو الثبوت في الأولى ودليل ثبوت الحكم فيها ثبوته في الأولى [ كذا في نسخة الأصل ] هو دليل حجّيّة الإستصحاب كقوله عليه‌السلام : ( لا تنقض اليقين بالشك ) مثلا فلا يلزم الحكم في الثانية من غير دليل ولا الحكم فيها بدليل حكم الأولى كما لا يخفى ) إنتهى.

فهو كما ترى قدس‌سره صرّح في مواضع من هذا الكلام : بأنّ الدليل على البقاء إنّما هو الحدوث وأن المستفاد من الأخبار وغيرها إنّما هو اعتبار دلالة هذا الدليل ودليليّته ، فالبقاء ليس استصحابا وإنّما الإستصحاب على هذا هو الحدوث أو الثبوت المعلول له.

ولا يخفى ما بين الكلامين من التهافت ، ولا يخفى مع ذلك ما فيه من الخلط بين الأصل العقلي والشرعي ؛ فإنّ الأخبار لا تدلّ على حجّيّة الحدوث وإنّما المستفاد منها هو المضيّ على اليقين.

وكيف كان : فلا إشعار فيها على اعتبار الحدوث وإنّما هو موضوع للأصل العقلي عند القائل به لا دليل ، ولعلّ بالتأمّل فيما ذكرنا يندفع التهافت بالتكلّف كما اندفع الإشكال من غيره فلاحظ وتدبّر » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٨١ ـ ٨٣.

٥٤

الواردة في الباب دليلا على الدليل (١) ، نظير خبر الواحد ؛ حيث إنّه دليل على الحكم في مورده وآية النّبأ أو غيرها : من أدلّة اعتباره دليل على الدّليل ، كما حكاه شيخنا قدس‌سره عنه في « الكتاب » ؛ حيث إنّه بظاهره محلّ مناقشة جزما.

فإنّك قد عرفت : أنّ حقيقة الاستصحاب على الأخبار هو عين مفاد الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، فليس هنا استصحاب مع قطع النّظر عن الأخبار حتّى تجعل دليلا عليه ، كخبر الواحد بالنّسبة إلى آية النّبأ مثلا ؛ فإنّ هناك أمورا : المسألة الفقهيّة الّتي ورد فيها الخبر ، ونفس الخبر ، وآية النّبأ. وأمّا في المقام فليس فيه إلاّ المسألة الفقهيّة التي تتكفّل لبيان حكمها ـ في مرحلة الظّاهر ـ الأخبار الواردة فيه ، فطهارة من خرج عنه المذي مثلا حكم شرعيّ هو مدلول قوله : ( لا تنقض اليقين بالشّك ) وليس هنا استصحاب غير هذا المدلول.

فما أفاده بظاهره غير مستقيم جدّا ، اللهم إلاّ أن يوجّه : بتنزيل الأخبار على إرادة بيان اعتبار الظّن الاستصحابي وهو في غاية البعد من كلامه هذا. وسيجيء تتمّة الكلام فيما أفاده في تنبيهات الاستصحاب عند تعرّض شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره له.

هذا بعض الكلام في القسم الأوّل وهو : الاستصحاب الجاري في الحكم الفرعي.

وأمّا القسم الثاني : وهو الاستصحاب الجاري في الحكم الأصولي كما ينفي

__________________

(١) فوائد السيّد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧.

٥٥

وجود المعارض بعد الفحص ، أو يحكم بحجيّة العام المخصّص بالاستصحاب ونحوهما ، فلمّا كان مدلول الأخبار فيه مسألة أصوليّة ، فلا محالة يحكم بكون التكلّم فيه بالنّسبة إليه داخلا في المسألة الأصوليّة نظير إثبات المسألة الأصوليّة بأدلّة نفي الحرج ، كما ينفي وجوب تحصيل العلم بعدم الدّليل ، أو المعارض في العمل بالأصل ، والدّليل بلزوم الحرج منه.

وأمّا القسم الثّالث : وهو الاستصحاب الجاري في الشّبهة الموضوعيّة فلا إشكال في كون التّكلّم فيه من التّكلم في المسألة الفرعيّة ، وإن قيل باعتباره من باب العقل ؛ حيث إنّ الحكم المستنبط منه حكم فرعيّ ظاهريّ ؛ فإنّ معنى حجيّة الأمارة في الموضوعات ليس جعل نفس الموضوع بل جعل أحكامه ، ولا يتوصّل بها إلى الأحكام الفرعيّة الكلّية حتّى يدخل البحث فيه من باب الظّن في البحث عن الأدلّة لكي يدخل في المسألة الأصوليّة.

والحاصل : أنّ المجعول في الموضوعات المردّدة سواء كان مبنى الاستصحاب على الظّن ، أو التّعبّد هو الحكم الشّرعي الظاهري على كلّ تقدير ، سواء كان جعله ابتداءا أو بالذّات فيسمّى أصلا ، أو بواسطة قيام الأمارة على الموضوع فيكون التّكلّم في الاستصحاب : من باب الظّن في الموضوعات الخارجيّة ، كالتكلّم في اعتبار سائر الأمارات كأصالة الصّحة ، واليد ، والغلبة ، والبيّنة ، ونحوها ، فلا فرق في التّكلم في لزوم البناء على الطّهارة مثلا في الموضوعات : بين أن يكون الكلام فيه من حيث اقتضاء الشّك ذلك من جهة أصالة الطّهارة ، أو من حيث اقتضاء الاستصحاب لها فيما كان مسبوقا بالطّهارة على

٥٦

القول به : من باب الظّن ، أو قيام البيّنة عليها ولو كان مسبوقا بالنجاسة في كون البحث على الجميع عن الحكم الفرعيّ الظّاهري ، وإن اختلف مفادها من جهة أخرى كما لا يخفى.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّه كما يختلف حال المسألة من حيث الدّخول في مسائل علم الأصول ، أو الفروع بالنّظر إلى جهة اعتباره في الجملة كذلك يختلف حالها بالنّظر إلى موارد الاستصحاب ومجاريه من حيث الحكم الفرعي والأصلي والموضوع الخارجي الّذي تعلّق به الحكم الجزئي لا ما كان في طريق الحكم الكلّي كاستصحاب عدالة الرّاوي فيما شكّ في صدور الفسق منه قبل الرّواية مثلا ، أو الموضوع المستنبط بناء على كون الأصل الجاري فيه من الاستصحاب.

* * *

٥٧

* الأمر الرابع :

مناط الإستصحاب على المباني المختلفة

(٥) قوله قدس‌سره : ( إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب على القول بكونه من باب التعبّد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢١ )

في ان مبنى الاستصحاب على الظّنّ النوعي أو الشخصي

أو المقيّد بعدم قيام الظنّ على الخلاف

أقول : لا إشكال فيما أفاده قدس‌سره : من إناطة الاستصحاب على الأخبار على مجرّد عدم العلم في مورده من غير فرق بين حصول الظّن بأحد الطّرفين وعدمه ، ولا كلام في ذلك عند أكثر القائلين به : من باب الأخبار ؛ لحصر ناقض اليقين في الأخبار في « اليقين » ، والنّهي عن النّقض بالشّك في بعضها لا يعارضه ، مضافا إلى كون الظّاهر منه خلاف اليقين. فتوهّم تنزيلها على الظّنّ كما صدر عن بعض فاسد جدّا.

نعم ، لو كان هناك ظنّ معتبر تعيّن العمل به من باب تحكيمه على الأخبار ، لا من باب خروج المورد عنها ، هذا كلّه على القول به من باب التعبّد. وأمّا على القول به من باب الظّن ، فهل يناط اعتباره بالظّن النّوعي المطلق ، أو المقيّد بعدم قيام الظّن على الخلاف ، أو الظّن الشّخصي الفعلي في خصوصيّات الموارد؟ وجوه ، بل

٥٨

أقوال. والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

ظاهر كلمات الأكثر كما استظهره شيخنا قدس‌سره هو الوجه الأوّل فمرادهم من قولهم : ( ما ثبت دام ) (١) هو الدّوام الظّني بحسب نوع الثّابت لو خلّي ونفسه ، مع قطع النّظر عن العوارض والمزاحمات. ويدلّ عليه كما في « الكتاب » حكمهم بمقتضيات الأصول المثبتة والنّافية من أوّل الفقه إلى آخره من دون الاشتراط بشيء من إفادتها الظّن في أشخاص الموارد ، وعدم قيام الظّن على الخلاف. ولا ينافي ذلك عنوانهم تقديم الأصل على الظّاهر ، واختلافهم في موارده ؛ فإنّ مبنى ذلك ليس على ما ينافي ما استظهرناه من كلماتهم ، بل على اعتبار الظّاهر وحجيّته.

وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فراجع كتاب « التّمهيد » لشيخنا الشّهيد الثّاني قدس‌سره : فإنّه ذكر : أنّه قد يقدّم الظّاهر على الأصل بلا إشكال ، وقد يقدّم الأصل على الظّاهر بلا إشكال ، وقد يشكل الأمر. ومثّل لكلّ من الأقسام الثّلاثة بأمثلة والجامع بين أمثلة القسم الأوّل : ما كان الظّاهر فيها معتبرا وحجّة من دون تأمّل. والجامع بين أمثلة القسم الثّاني ما كان الظّاهر فيها غير معتبر كذلك. والجامع بين أمثلة القسم الثّالث الّذي فيه الإشكال والخلاف : ما اختلف فيه في اعتبار الظّاهر واستشكل الأمر فيه ، فالإشكال في التّقديم إنّما هو من جهة الإشكال في اعتباره لا من جهة الإشكال في اعتبار الأصل مع الظّن على الخلاف ولو لم يكن معتبرا ،

__________________

(١) انظر مدارك الأحكام : ج ١ / ٤٦ ، وفرائد الأصول : ج ٣ / ١٥٣ وفيه : « الأصل ان ما ثبت دام إلى وجود القاطع ».

٥٩

كما أنّ عدم الإشكال في تقديم الظّاهر في القسم الأوّل : إنّما هو من جهة عدم الإشكال في اعتباره.

بل التّحقيق : كون العنوان المذكور شاهدا على ما استظهرنا ، وإلاّ لم يكن معنى للتّفصيل المذكور كما هو ظاهر ؛ ضرورة كون الظّن الاستصحابي على القول به من باب الظّن النّوعي المطلق تعليقيّا في قبال الظّنون المعتبرة التّنجيزيّة ذاتا أو وصفا واعتبارا نظير أصالة الحقيقة بالنّسبة إلى الصّوارف.

وظاهر كلام العضدي هو الوجه الثّاني ، وإن كان المستظهر منه : كون أصل إفادته للظّن مشروطا بعدم قيام الظّن على الخلاف فهو أمارة حيث لا أمارة نظير الغلبة ، لكنّه لا ينافي الوجه الثّاني ؛ فإنّه إذا كان أصل إفادته للظّن مشروطا كان اعتباره أيضا مشروطا فتدبّر. وهذا هو الظّاهر ممّن جعل الوجه في إفادته للظّن الغلبة فتأمّل.

وصريح شيخنا البهائي قدس‌سره في « حبل المتين » (١)(٢) على ما حكاه عنه

__________________

(١) الحبل المتين : ٣٧.

(٢) قال المحقّق المؤسّس الطهراني قدس‌سره :

« المراد من حجّيّة الإستصحاب من باب الظن ليس إلاّ أنّه إنكشاف أصلي فإنه ظهور ليست حجّيّته بالذات على ما بيّناه ولم يتوهّم أحد دوران اعتباره مدار الظن الشخصي بل الأدلّة الإجتهادية لم يتوهّم أحد دوران اعتبارها مداره كما لا يخفى على المطلّع على أبواب الفقه وقد صدر عن شيخنا البهائي قدس‌سره في حبل المتين ما يقضي منه العجب حيث قال : ( لا يخفى ان الظن الحاصل بالإستصحاب فيمن تيقّن بالطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ؛ بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرّجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربّما

٦٠