بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

(٨٠) قوله : ( إنّ الثّابت في الزّمان الأوّل ممكن الثّبوت ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٨٦ )

الوجه الثالث للقول الأوّل

أقول : حاصل هذا الدّليل كما لا يخفى على من راجع إليه يرجع : إلى أنّ تجويز البقاء واحتمال وجود الشّيء في ثاني الزّمان يلازم إمكان وجوده فيه بضرورة العقل ؛ حيث إنّ الممتنع الذّاتي ما لم يحتمل عند العقل وجوده فإذا كان وجوده ممكنا في الزّمان الثّاني بالنّظر إلى ذاته ، فكلّ من وجوده وعدمه يحتاج إلى مؤثّر لا محالة ؛ لاستحالة اقتضاء الممكن بالنّظر إلى ذاته أحدهما ، وإلاّ يخرج عن كونه ممكنا وهو محال. فحينئذ إن وجد هناك ما يقتضي الوجود فيه فهو ، وإن وجد ما يقتضي العدم وهو عدم وجود مقتضي الوجود مسامحة في الإطلاق فكذلك. وإن لم يعلم بوجود أحدهما فيحكم بالبقاء ظنّا.

فالمقصود من قوله : ( فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ... إلى آخره ) (١) : هو أنّه إذا لم يتجدّد مؤثّر العدم قطعا بأن وجد مؤثّر الوجود كذلك يحكم بالوجود ؛ لأنّ المفروض أنّ الممكن بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي العدم ، وإلاّ لزم المحذور المزبور. والمفروض أنّه لم يوجد مؤثر العدم فلا بدّ من الحكم بالوجود ؛ لأنّ عدم وجود مؤثّر العدم لا ينفكّ عن وجود مؤثّر الوجود ؛ حيث إنّ مؤثّر العدم هو عدم علّة الوجود فإذا فرض عدم مؤثّره فلا بدّ من وجود مؤثّر الوجود ، وإلاّ لزم ارتفاع النّقيضين. هذا محصّل توجيه هذا الدّليل.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٨٦.

٣٤١

المناقشة في الدليل المزبور

ويرد عليه :

أمّا أوّلا : فبأنّ مجرّد عدم العلم بمؤثّر العدم لا يقتضي رجحان الوجود في الزّمان الثّاني وإن لوحظ معه الوجود في الزّمان الأوّل أيضا ؛ إذ لا ملازمة بين الوجودين أصلا ، وإلاّ استحال انفكاكهما ، بل الظّن بالبقاء مع فرض عدم العلم بمؤثّر العدم لا يمكن إلاّ إذا فرض الظّن بعدم مؤثّر العدم الرّاجع إلى الظّن بوجود مؤثّر الوجود ، كما أشار إليه في « الكتاب » هذا. مع انّه لا يستقيم بظاهره في الاستصحاب العدمي.

وبالجملة : أخذ المقدّمة المذكورة لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ لأنّ ثبوت التّلازم بين البقاء الواقعي الملازم لوجود العلّة في الزّمان الثّاني وعدم تجدّد مؤثّر العدم في نفس الأمر الرّاجع إلى علّة الوجود في الواقع لا يفيد في حصول الظّن بالبقاء مع عدم العلم بمؤثّر العدم أصلا كما لا يخفى.

والتشبّث بذيل الغلبة والحكم بوجود الملازمة الغالبيّة بينهما ـ مع أنّه يخرج الفرض عن محلّ البحث ؛ لأنّ الكلام في الحكم برجحان البقاء من جهة نفس الوجود السّابق لا من جهة شيء آخر ـ فيه : ما سيجيء من عدم استقامته.

وأمّا ثانيا : فبأنّه إن أريد من اعتبار الاستصحاب من باب الظّن الّذي هو معنى رجحان البقاء الظّن النّوعي.

ففيه : أنّه على فرض تسليم حصوله لا دليل على اعتباره حتّى على القول

٣٤٢

بحجيّة مطلق الظّن من جهة برهان الانسداد ؛ لما عرفت في الجزء الأوّل من التّعليقة : من أنّ نتيجة مقدّمات البرهان هي حجية الظّن الشّخصي لا الظّن النّوعي ؛ لأنّ الظّن الشّخصي في حكم العقل في زمان الانسداد كالعلم بالنّسبة إلى الظّن النّوعي ؛ حيث إنّه أقرب إلى الواقع منه ، فيتعيّن في نظر العقل.

وإن أريد منه الظّن الشّخصي.

ففيه : أنّه على فرض تسليم حصوله من الاستصحاب مع أنّه ممنوع إلاّ في بعض الموارد وإن كان مستقيما على ما استقرّ عليه بناء جماعة ممّن تأخّر : من حجيّة مطلق الظّن في الاستصحاب الجاري في الشّبهة الحكميّة ، إلاّ أنّ الظّاهر أنّ مقصود المستدلّ لا يكون ذلك ؛ لأنّ البناء على اعتباره من باب الظّن الشّخصي ـ حتّى إنّه يكون حجّة في حق شخص دون شخص ، وفي زمان دون زمان ، وفي حال دون حال ـ ممّا لم يعهد من أحد عدا شيخنا البهائي (١) ، وهو كما ترى ، يوجب اختلال أمر الاستصحاب.

نعم لازم من ذهب إلى حجيّة مطلق الظّن ذلك ، وردّه بمخالفة الإجماع غير مستقيم كما لا يخفى.

والقول : بأنّ المقصود هو الظّن النّوعي والدّليل على اعتباره بناء العقلاء على الأخذ به ، سيجيء ما فيه من عدم استقامته.

(٨١) قوله : ( ثمّ إنّ ظاهر كلام العضدي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٨٨ )

أقول : يمكن أن يقال : إنّ مراده هو تقيّد حصول الظّن الشّخصي بعدم قيام

__________________

(١) الحبل المتين : ٣٧.

٣٤٣

الظّن على الخلاف لا الظّن النّوعي حتّى يكون أصل أماريّة الاستصحاب مقيّدا بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، فغرضه ممّا ذكره : بيان كون الاستصحاب ـ على القول به من باب الظّن ـ أمارة تعليقيّة بالنّسبة إلى غيره من الأمارات ، وإلاّ لم يكن معنى لما ذكره أصلا ؛ لأنّ حصول الظّن من كلّ أمارة مشروط بعدم قيام الظّن على خلافها فتأمّل.

(٨٢) قوله : ( نعم ، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٨٨ )

أقول : الوجه في عدم استبعاد كون الغلبة مثل الاستصحاب : أنّها يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب ويوجب الظّن بكونه موافقا له في الحكم وقيام الأمارة على الخلاف يخرج المشكوك عن كونه مشكوكا.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ المقصود هو حصول الظّن الشّخصي من الغلبة لا أصل كونها أمارة ولو نوعا ، ولهذا ذكر الأستاذ العلاّمة : أنّه لا يبعد أن يكون الغلبة مثل الاستصحاب ـ على ما استظهره من عبارة العضدي ـ ولم يجزم به.

(٨٣) قوله : ( وفيه : أنّ المراد بغلبة البقاء ليست غلبة البقاء ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٨٩ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« أقول : توضيح المقام يحتاج إلى بيان مقدّمة : وهي بيان الفرق بين الغلبة والإستقراء والقياس ، إذ ربّ مورد يشتبه بعضها ببعض فيشتبه القياس بأحد الأولين فيظن العامل بهما أنّه ليس بقياس مع كونه منه في الحقيقة فلا بدّ من تعميق النّظر وإعمال الفكر في جزئيّات الموارد لئلاّ يختلط ما يجوز العمل به بما لا يجوز.

٣٤٤

__________________

فنقول : أمّا الغلبة فهي في اصطلاح القوم عبارة عن مشاركة أغلب أفراد كلي في صفة أو حكم بحيث يظنّ بكون الكلّي الجامع بينها هي العلّة لثبوت تلك الصفة أو الحكم فالحاكم بالغلبة لا بد له من تحقيق المساواة والمشاركة بين أغلب الأفراد على الوجه المذكور.

وثمرتها : أنّه إذا شكّ في وجود هذا الحكم أو الصّفة في فرد من أفراد هذا الكلّي المتتبّع في أغلب أفراده يحكم على هذا الفرد المشكوك فيه بما وجد في أغلب أفراده من الحكم أو الصّفة لأجل الظنّ بعلية الجامع بينها مثالها من غير الشّرعيّات أنا اذا رأينا أكثر أفراد الزنجي أسود على وجه ظنّنا أنّ الزنجيّة لها دخل في ثبوت السّواد لها وأنّها العلّة لذلك.

فإذا شككنا في زنجي أنّه أسود أو أبيض نحكم بكونه أسود إلحاقا له بالاعمّ الأغلب وتسوية بينه وبين الأفراد المستقرأ فيها في تلك الصفة الّتي فرض الظنّ بكون علّة ثبوتها عند العقل هو القدر الجامع الموجود بينها فيحكم لأجل وجود القدر الجامع فيه بوجود الصّفة فيه أيضا لدوران المعلول مع علّته التّامّة وجودا وعدما.

ومثلها من الشّرعيّات قول من استدل على أن الوتر ليس بواجب بأنّه يؤدى على الرّاحلة ولا شيء من الواجب يؤدى على الرّاحلة والمقدّمة الأولى إجماعية والثّانية ثابتة بالغلبة لأنا إذا رأينا أنّ القضاء والأداء وسائر أصناف الواجبات لا تؤدى على الرّاحلة حكمنا على كلّ واجب بأنه لا يؤدى على الرّاحلة بعلية الجامع المظنون العلية وخرجت بقولنا مشاركة أغلب أفراد ... إلى آخره. مشاركة أقلّها لعدم إفادتها الظنّ بثبوت الحكم للكلّي ليتعدى منه إلى الفرد المشكوك فيه ومع تسليمه لا يسمّى ذلك غلبة في الاصطلاح.

وخرج بقولنا : أفراد كلي ... إلى آخره التي لم يلاحظ بينها كلي جامع وإن كانت أغلب في النظر فلا يصحّ الحكم من اشتراك أفراد كثيرة من أنواع مختلفة من الشجر بكون هذا الشجر المشكوك فيه أيضا مثمرا لعدم الجامع بينها وبينه ؛ إذ المراد بالجامع ليس مجرّد اشتراكها في وصف وإلاّ فجميع الأشياء مشتركة في وصف من الأوصاف ولا أقلّ من الشيئية بل المراد به

٣٤٥

__________________

ما يعد كونه جامعا بين الفرد المشكوك فيه والأفراد المستقرأ فيها في نظر العقل والعرف وخرج بقولنا بحيث يظنّ الأفراد الّتي بينها جامع كلي ولكن لا يظن منه كونه علّة لثبوت ذلك الحكم أو الوصف فيها كالإنسانيّة في أفراد الزنجي فإنّها لا يظن منها كونها علّة لثبوت السّواد وكذا الضحك والحساسية والحيوانية وغيرها من الكلّيات البعيدة أو القريبة لأن المراد بالكلي كلّي الأفراد المستقرأ فيها دون ما يشمل غيرها أيضا لعدم حصول الظنّ في غيره.

ثمّ إنّه لا بدّ في اعتبار مشاركة الأفراد المذكورة في صفة أو حكم كونها ثابتة فيها حين الشكّ في حكم ذلك الفرد المشكوك فيه بأن كان تحقق المشاركة الثابتة بحكم تتبع تلك الأفراد مقارنا لحين الشك في حكم هذا الفرد ليلحق هذا بها في الحكم الثابت لها حين الشكّ فيه إذ لو كان زمان التتبع وتحقيق المشاركة في وقت والحاق المشكوك فيه بها في وقت آخر بحيث احتمل عدم بقائها على تلك الصّفة لم يصحّ الحكم بالغلبة.

مثلا لو علمنا بأن أغلب أفراد الحبشي كانت قبل ألف سنة أسود واحتملنا تغيّرها بسبب تغير مزاج الأمكنة لم يمكن إلحاق المشكوك فيه بالفعل بالأفراد الغالبة المذكورة وبالجملة إنّه يعتبر في الغلبة أمران : أحدهما : اشتراك أغلب الأفراد المستقرأ فيها في حكم أو صفة في زمان الشكّ وثانيهما : وجود جامع بينها يظنّ كونه هي العلّة في الحكم أو الصّفة الّتي إشترك فيها أغلب الأفراد فعلا فالمراد بالغلبة أن يكون الأفراد المتتبع فيها المعلوم إتّصافها بالصّفة المعلومة أفرادا غالبة لذلك الكلّي الجامع على وجه لو وجد فرد منه على خلاف الصّفة المفروضة لكان ذلك على وجه النّدرة والشّذوذ كما ظهر من أمثال غلبة السّواد على أفراد الحبشي فإنّه لو فرض وجود فرد ابيض منها لكان على خلاف مقتضى الطّبيعة الحبشيّة التي هي العلّة لثبوت تلك الصّفة ولا يكون ذلك إلا لمانع على خلاف العادة المتعارفة ولكنّ الحكم مع ذلك في الغلبة ظنّي لعدم اشتراط التتبع التّام في جميع الأفراد فحينئذ يحتمل عند العقل ولو على خلاف العادة المتعارفة وجود فرد أبيض فلا يمكن له الحكم بكون هذا الفرد

٣٤٦

__________________

المشكوك فيه أسود إلاّ على سبيل الظنّ.

وأمّا الإستقراء فهو على ما قيل عبارة عن تصفح الجزئيّات لإثبات حكم على كلي وهو على قسمين تامّ وناقص.

والتّامّ عبارة عن تصفّح جميع الجزئيّات مثلا لو أردنا الحكم بانّ الحيوان جسم استقرأنا جميع افراده المفروض انحصارها في الإنسان والبقر والغنم والفرس مثلا وحققنا أنّ كلّ واحد منها جسم ، فنقول : إنّ الحيوان جسم بالإستقراء التّام وهو مفيد للقطع.

والناقص عبارة عن تصفح بعض الجزئيّات المندرجة تحت ذلك الكلّي وتحقيق كونها على صفة مخصوصة بحيث يظنّ كون تلك الصفة من لوازم ذلك الكلّي فيحكم على جميع جزئيّاته بذلك حكما ظنّيا حتّى الجزئي المشكوك في إتّصافه بتلك الصفة ثم إن كانت الأفراد المستقرأ فيها هي الأغلب كما في مثال الحبشي يصدق عليه تعريف الغلبة أيضا فيتصادق الاستقراء والغلبة في هذا القسم وإن كانت هي أفراد معدودة ويستكشف بها عن حال الكلّي كما إذا دخلنا في بلد ورأينا واحدا من أهله يتكلم بلسان مخصوص على لباس مخصوص وهيئة مخصوصة ثمّ رأينا الآخر كذلك وكذلك الثالث والرابع إلى خمسين مثلا فإنّه يظنّ من ملاحظته هذه الأفراد بكون الانتساب إلى هذا البلد مقتضيا لهذه الصفة فنحكم بكون من لم نره منهم على هذه الصّفة حكما ظنّيا.

وهذا ليس من باب الغلبة لما عرفت من كونها عبارة عن الحكم للجامع الكلي بحكم أن عتقه بواسطة كون أغلب أفراد الكلي مشتركا في هذا الحكم أو الصّفة بل هو داخل في الإستقراء لكونه أعمّ من الغلبة.

نعم يمكن إدخاله تحت الغلبة بدعوى حصول الظنّ من ملاحظة بعض الأفراد بكون أغلب الأفراد أيضا متّصفا بالصّفة الّتي وجد عليها البعض ومن حصول الظنّ بكون الأغلب كذلك يحصل الظنّ بثبوت هذا الحكم أو الوصف الكلي الجامع لكنّه تعسف مستغنى عنه لحصول

٣٤٧

__________________

الظنّ بمجرّد ملاحظة بعض الأفراد بثبوت الحكم أو الوصف للكلي الجامع من دون حاجة إلى توسيط الظنّ بكون أغلب الأفراد مثل البعض الذي وجدنا على الصفّة المذكورة فالإستقراء أعمّ من الغلبة مطلقا وكلاهما مشتركان في الحكم على الكلّي بالجزئي.

وأمّا القياس فهو عبارة عن إثبات حكم جزئي لجزئي آخر بسبب مشاركته إيّاه في علّة حكمه وقد يقال له التشبيه والتمثيل والمناسبة لمشابهة الفرع بالأصل ومماثلته إيّاه ومناسبة ثبوت هذا الحكم له في نظر القائس وذلك كالنبيذ يقاس على الخمر فيقال : إنّه خمر في كونه مسكر فهو حرام لوجود علّة حرمة الخمر الّتي هي الإسكار فيه ومشاركته لها في تلك العلّة وكالذّرة فيقال : إنّها ربوية لكونها كالبرّ في كونها مكيلة وقوتا.

وبالجملة : القياس هو الحكم من جزئي على جزئي من دون توسّط الجامع الكلّي وإثبات الحكم له أوّلا ثمّ إثباته للفرد المشكوك فيه بواسطته فلا يقال : البرّ طعام وكلّ طعام ربوي فالذّرة أيضا طعام فلا بدّ أن تكون ربويّة وليس إثبات الرّبويّة في كلّ الطعام لينتقل منه إلى حكم الذّرة بل المراد إثبات الرّبوبيّة فيها لوجود علّة ربويّة البرّ فيها وهي كونه مكيلا مثلا في نظر القائس وإن ثبت عدم الرّبويّة في جملة من أفراد المكيل بدليل آخر ولا يلزم على هذا ملاحظة أكثر الأفراد فيه ، فالفرق بينه وبين الغلبة والإستقراء هو كون الإنتقال فيهما إلى حكم الكلّي من ملاحظة جزئيّاته أوّلا ثمّ الحكم للفرد المشكوك فيه بخلاف القياس لأن الحكم فيه إنّما هو لجزئي بملاحظة جزئي آخر معلوم الحكم بمجرّد كونهما متحدين في العلة مع أنّ العلّة الجامعة بينهما يجوز أن تكون أمرا اعتباريّا جعليّا بخلاف الغلبة والاستقراء ؛ لأنّ الجامع المظنون العلية فيهما لا بد أن يكون واقعيّا إذ لا بد فيهما من حصول التتبع والاستقراء في جزئيّات الكلي الواقعي كأفراد الحبشي على ما تقدم.

فمن هنا يظهر : أنه لو لم يكن في الأفراد المستقرأ فيها جامع حقيقي يظنّ كونه علة للحكم بأن كان الجامع أمرا اعتباريا جعليّا وإن حصل الظنّ منه بكونه علّة لثبوت الحكم كان ذلك

٣٤٨

__________________

قياسا محضا لا حكما بالغلبة والاستقراء.

وقد وقع الاشتباه في ذلك لجماعة في جملة من المقامات كما استدلّ بعض على فورية الأمر بأن أغلب الألفاظ الواقعة في مقام الإنشاء أو الإخبار كبعت واشتريت وغيرهما من ألفاظ العقود والإيقاعات وكجملة ( زيد ضارب وعمرو مضروب ويضرب زيد ) ونحوها من الجمل الخبرية مفيدة للحال فتلحق صيغة افعل بها أيضا إلحاقا بالأعمّ الأغلب.

وأجاب عنه صاحب المعالم : بكون ذلك قياسا في اللّغة لأنّك قست الأمر في إفادته الفور على غيره من الخبر والإنشاء وبطلانه بخصوصه ظاهر. انتهى.

وأنت خبير بأن المستدلّ قد تمسك بالغلبة وصاحب المعالم قد أجابه بكونه قياسا والوجه فيه : ما ذكرناه من كون الجامع في الغلبة واقعيّا لا اعتباريا وإلاّ فهو قياس محض والجامع بين الأمر وغيره من الجملات الإخباريّة والإنشائيّة ليس بواقعي تستند إليه إفادتها للحال في ظن المتتبع حتّى يستند إليه في إثبات إفادة الأمر للفور إذ ما يصلح أن يكون جامعا بينهما إمّا كونها جملة أو ملفوظة وكلّ منهما لا يصلح أن يكون مستندا لكونها للحال في ظن المتتبع وهو واضح فمع اشتباه الحال في ذلك لا بد لمن يعمل بالإستقراء والغلبة أن يعمّق النظر ويدقق الفكر في تمييز مواردهما عن موارد القياس لئلاّ يختلط بعضها ببعض لكون العمل به محظورا في الشّرع بالضّرورة حتّى عند القائلين بالظنون المطلقة بل هذه الفرقة هم المحتاجون إلى تمييز مواردهما عن موارد القياس لكون العمل بالغلبة والاستقراء محظورا عند القائلين بالظنون الخاصّة كغيرهما من الظنون غير المعتبرة فلا فرق عندهم بين هذه الأمارات والقياس في عدم جواز العمل بكلّ منهما.

ثم إن للغلبة مراتب مختلفة لأنّها قد تلاحظ في أفراد جنس قريب أو بعيد وقد تلاحظ في أفراد نوع من جنس وقد تلاحظ في افراد صنف من نوع وقد تتفق أحكام هذه المراتب بأن يستقرأ أفراد الحيوان فيحكم على كلي هذه الأفراد بحكم أو صفة من جهة استقراء أغلب

٣٤٩

__________________

أفراده ثم يستقرأ أغلب أفراد الإنسان فيحكم على كلّيّها بالحكم الذي قد حكم به على كلّي الحيوان ثم يستقرأ صنف خاص من الإنسان فيحكم على كلّيّة بالحكم المذكور ايضا وقد تختلف أحكامها بأن اقتضى استقراء أغلب أفراد الجنس حكما مخالفا لحكم استقراء أغلب أفراد نوعه أو صنفه ومع اختلافها يقدم حكم غلبة الصنف على حكم نوعه والنوع على جنسه.

وإذا تمهد هذه المقدّمة نقول :

إنك قد عرفت : أنّ المعتبر في الغلبة أمران :

أحدهما : وجود حكم أو وصف مشترك فيهما أغلب الأفراد.

وثانيهما : الحكم على وجه الظنّ على الحكم الجامع بين الأفراد بهذا الحكم أو الوصف بأن يحكم بتحقق هذا الحكم أو الوصف عند تحقق هذا الكلي الجامع حتّى يلحق الفرد المشكوك فيه من هذا الكلي بالأفراد الغالبة.

وقد تقدّم أنّ الشك في بقاء المستصحب إمّا من جهة المقتضي أو الرّافع أو الأمر مردّد بينهما وأنّ الأوّل منقسم إلى ثلاثة أقسام والثاني إلى ستة فلا بدّ في إثبات اعتبار الإستصحاب من باب غلبة استمرار الموجودات الممكنة القارة من تقريرها على وجه يجري في جميع الأقسام المذكورة بان يدعى أن الغالب في الموجودات كما ادعاه السيّد الصّدر أو فيها وفي خصوص أنواعها كما ادعاه المحقق القمي هو البقاء فيلحق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب فيثبت اعتبار الاستصحاب حينئذ بجميع أقسامه بالغلبة المفيدة للظنّ إلاّ أن المحقق المذكور قد لاحظها تارة في مطلق الموجودات الممكنة القارة كالسّيّد الصّدر وأخرى في خصوص أنواعها واستند في إثبات الاستمرار في الجملة إلى الأولى وفي مقداره إلى الثانية.

وإذا حققت ذلك نقول : إن الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : ما ادعاه شارح الوافية من الغلبة في مطلق الممكنات القارة.

٣٥٠

__________________

والآخر ما ادعاه المحقق القمي رحمه‌الله من الغلبة في افراد كلّ نوع.

أمّا الأوّل : فلا يخلو إمّا يريد بالجامع المظنون العلية بين الأفراد الممكنة مطلق وجودها أو وجود استعداد خاص لكلّ واحد منها ، وعلى الأوّل إمّا أن يريد بالصّفة التي يدعي وجودها في أغلب الأفراد بقاء أغلب الأفراد أبد الآباد أو بقاءها في الجملة أو بقاءها على حسب استعدادها.

ويرد على الأوّل ـ مع أنّه لم يدعه المستدل ـ خلاف الوجدان ، وعلى الثاني : أنّه متيقن الوجود في مورد الشكّ كما أشار إليه المصنف رحمه‌الله ، وعلى الثالث ما سنشير اليه في الشق الثّاني مضافا إلى منع كون مطلق الوجود علة البقاء الموجود على حسب استعداده.

وعلى الثّاني إمّا أن يريد بالصّفة بقاء الأغلب على حسب استعداداتها الخاصّة أو بقاءها إلى زمان الشك.

ويرد على الأوّل :

أولا : أنا لا نعلم مقدار استعداد أغلب الممكنات لأن العلم به إمّا بإخبار من يحصل العلم بخبره وإمّا بملاحظة بقاء أغلب أفراد الممكنات بوجودها الخارجي على حسب استعداداتها المختلفة والأوّل مفروض العدم والثاني غير حاصل لعدم العلم غالبا بكون زوال الأفراد الغالبة الموجودة من جهة انقضاء استعداداتها أو من جهة عروض المانع بل ربّما يدعى أن الغالب هو الثّاني.

وثانيا : أنّه لا يخلو إمّا أن يكون الشكّ في الفرد المشكوك فيه في مقدار استعداده أو في وجود المانع عن بقائه بحسب استعداده.

ويرد على الأوّل : أنّ استعداد الممكنات مختلفة لا ضابط فيها ولا رابط بينها حتّى يظن بسبب ذلك بقاء استعداد الفرد المشكوك فيه سيّما في الأحكام الشّرعيّة بل مطلقا كما أشار إليه المصنف رحمه‌الله فيما أورده على المحقق القمي رحمه‌الله فيما كان الشكّ فيه في المقتضي.

٣٥١

__________________

وعلى الثاني : ما أورده المصنف رحمه‌الله على المحقق المذكور أيضا فيما كان الشكّ في الرّافع.

وثالثا : أن مرجع الغلبة المذكورة إلى دعوى بقاء أغلب الأفراد الممكنة القارة على حسب استعدادها من دون عروض مانع من بقائها على حسب استعدادها ليحصل الظنّ ببقاء مشكوك البقاء.

ويرد عليه أوّلا : أنّه لا بدّ حينئذ أن يكون الشكّ في بقاء الفرد المشكوك فيه من حيث الرّافع دون المقتضي إذ الشّك في البقاء إن كان ناشئا من الشك في المقتضي لم تكن الغلبة المذكورة مفيدة للظن ببقائه فتكون الغلبة المذكورة حينئذ دليلا على اعتبار الاستصحاب عند الشك في الرّافع دون المقتضي فلا يكون دليلا عليه مطلقا كما هو المدّعى والشك في بقاء الأحكام الكليّة غالبا إنّما هو من جهة الشكّ. في المقتضي لكون الشك فيها غالبا في بعض قيود موضوعه كالشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغير من قبل نفسه في مثال المتغير بالنجس والشك في بقاء التيمّم في مثال وجدان الماء في أثناء الصلاة بناء على حصول الشكّ في كون عدم وجدانه مأخوذا في بقاء التيمّم وهكذا.

نعم الشكّ في بقاء الملكية والزّوجيّة والطّهارة ونحوها من قبيل الشكّ في الرّافع غالبا وعلى ما ذكرناه من الغلبة يبتني ما أطلقه الأمين الأستر آبادي تبعا للمرتضى قدس‌سرهما في مقام نفي إفادة الاستصحاب للظن بالبقاء قال : ( إنّ موضوع المسألة الثانية مقيّد بالحالة الطارية وموضوع المسألة الأولى مقيد بنقيض تلك الحالة فكيف يظن بقاء الأوّل ).

وثانيا : منع بقاء أغلب أفراد الممكنات القارة إلى منتهى استعداداتها إذ الغالب عروض المانع من بقائها إليه إذ الإنسان مثلا نوع من الممكنات الموجودة وقد ذكروا أنّ منتهى استعداد أفرادها مائة وعشرون سنة مع أنا نرى أنّه يشذّ من يتجاوز الثمانين أو التّسعين فضلا عن أن يبلغ مائة وعشرين وكذا سائر الأنواع الممكنات الموجودة.

ويرد على الثّاني ما اشار إليه المصنّف رحمه‌الله من الوجهين مضافا إلى ما سنشير إليه.

٣٥٢

__________________

وأمّا الثاني فواضح ممّا ذكره المصنف رحمه‌الله ولا يحتاج إلى زيادة توضيح.

ثمّ إنّه قد تقرّر الغلبة بوجهين آخرين :

أحدهما : أنا بعد أن فتشنا عن المشكوكات وجدناها باقية بوجودها الاوّل فاذا شكّ في وجود شيء في الزمان الثاني يظن بقاؤه فيه إلحاقا بالأعم الأغلب وهذا الوجه يستفاد من كلام المصنف رحمه‌الله في بيان مراد شارح الوافية.

ويرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده عليه المصنف رحمه‌الله من الوجهين ـ : أنّه مع تسليم غلبة البقاء لا ريب أنّ ما وجدناه منقلبا عن حالته الأولى ممّا استظهرناه من المستصحبات المشكوكة حيث البقاء والانتفاء ليس بنادر أيضا بل هو كثير في نفسه فيدور الأمر حينئذ بين الغالب والأغلب ولا ريب في عدم اعتبار مثل هذه الغلبة إذ المعتبر فيها ندرة المفرد المخالف للأفراد الغالبة إن وجد بحيث يضمحل في جنبها ولذا مثّلوا لها بالزنجي الّذي إن وجد له فرد أبيض كان في غاية النّدرة.

وثانيهما : أنّ الإجماع قائم على اعتبار الإستصحاب في أغلب موارده كما في باب الطهارة والنجاسة والأنكحة والأملاك وغيرها عند الشكّ في عروض ما يزيلها وكذا بناء الشّاهد على ما شهد به متى ما لم يعلم رافعها وكذلك تقديم قول المنكر على المدّعي إلى غير ذلك ممّا لا يحصى والظنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب.

ويرد عليه أوّلا : أنّه يعتبر في الغلبة إلحاق المشكوك فيه بالأفراد المستقرأ فيها بحسب جنسها أو نوعها أو صنفها بمعنى أن الاستقراء إذا فرض في أفراد جنس أو نوع أو صنف فلا بد من إلحاق المشكوك فيه ما وقع عليه الإستقراء فإذا استقرأنا أفراد صنف لا يصحّ إلحاق المشكوك فيه بأفراد صنف آخر وما نحن فيه من هذا القبيل لكون الأفراد المستقرأ فيها هنا من قبيل الشبهات الموضوعيّة دون الأحكام الكلّية بل لم نجد موردا من الأحكام الكلّية وقع الإجماع على اعتبار الإستصحاب فيه سوى أصالة عدم النّسخ الّذي لا يتعين كونه

٣٥٣

فساد إعتبار الإستصحاب من باب الظن الحاصل من الغلبة

أقول : توضيح المرام في المقام وتنقيح وجه فساد الاستناد إلى الغلبة في إفادة الاستصحاب للظّن يقتضي بسطا في الكلام فنقول ـ بعون الملك العلاّم

__________________

لأجل استصحاب العدم كما تقدّم عند شرح ما يتعلّق ببيان محلّ النّزاع من حيث دخول الإستصحابات العدميّة فيه وعدمه.

وثانيا : منع تحقق الغلبة حتّى في الشبهات الموضوعيّة إذ الموارد الّتي لم يعتبر الشّارع الاستصحاب فيها ليست بأقل من الموارد الّتي اعتبره فيها وإن شئت فلاحظ حكمه بالبناء على الأكثر في شكوك الصّلاة والبناء على الصّحّة عند الشكّ في وقوع الفعل على وجه الصحّة أو الفساد والبناء على وقوع العمل المشكوك فيه عند الشك بعد الفراغ منه وكذا قد اعتبر يد المسلم وسوقه والبيّنة بل جميع الأمارات الشّرعيّة لكون جميعها في مقابل الأصول وحينئذ لا بدّ من الاقتصار على الموارد الّتي ثبت اعتبار الاستصحاب فيها بالإجماع من دون تعدّ عنها الى موارد الخلاف.

فإن قلت : إنّ اعتبار الأمارات في مقابل الاستصحاب يدل على كونه مرجعا عند عدمها لأنّها وإن كانت حاكمة عليه عند وجودها إلاّ أنّ اعتباره عند عدمها كاف في إثبات المدّعى.

قلت : لا ينحصر الأصل في الإستصحاب ليكون هو المرجع عند فقد الأمارات لاحتمال كون المرجع هي أصالة البراءة أو الإحتياط.

وثالثا : أنّ الموارد المستقرأ فيها من قبيل الشك في المانع فلا يثبت به تمام المدعى.

ورابعا : أنه لا يتعين أن يكون اعتبار الشارع للاستصحاب في الموارد المستقرأ فيها من باب الظنّ ولو نوعا كما هو ظاهر المشهور لاحتمال كون اعتباره فيها من باب التعبّد » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٤٦٤ ـ ٤٦٧.

٣٥٤

ودلالة أهل الذّكر عليهم ألف الصّلاة والسّلام ـ :

إنّ الغلبة قد تكون جنسيّة ، وقد تكون نوعيّة ، وقد تكون صنفيّة. وهذه إن توافقت فلا إشكال ، وكذلك إن علم بإحداها ولم يعلم بمخالفة غيرها لها ؛ فإنّه لا إشكال حينئذ في الحكم بمقتضاها. وأمّا إن تخالفت كلاّ أو بعضا ، فلا ريب في ترجيح الغلبة الصّنفيّة على النّوعيّة ، والجنسيّة والنّوعيّة على الجنسيّة.

والوجه فيه : ممّا لا يحتاج إلى البيان ، فالمدار دائما عند الاختلاف على الأخصّ. فلو فرض اختلاف أصناف الجنس في حكم من حيث الزّيادة والنّقيصة فالّذي يحصل منها هو الظّن بثبوت الحكم للجنس في المقدار المشترك بين الجميع فيتبع الأخصّ ، وهذا يجري في مراتب الغلبة الجنسيّة أيضا ؛ حيث إنّ الأجناس متعدّدة فالجنس السّافل مقدّم على الجنس العالي في كلّ مرتبة.

ثمّ إنّ الشّرط في إفادة الغلبة للظّن باللّحوق في المشكوك عدم العلم ، بل ولا الظّن بكون السّبب في اتّصاف كلّ فرد من الأفراد المتشاركة غير السّبب في اتّصاف الآخر ، وإلاّ لم يحصل الظّن من الغلبة في الفرد المشكوك ؛ ضرورة أنّ الوجه في إفادة الغلبة للظّن هو حصول الظّن من اتّفاق الأفراد الغالبة بكون السّبب فيه هو القدر الجامع بين الجميع ، فيظنّ منه كون الفرد المشكوك أيضا كالأفراد الغالبة لاستحالة الانتقال من جزئي إلى جزئي آخر من دون توسيط القدر الجامع.

وهذا الشّرط مطّرد في أشباه الغلبة مثل الاستقراء ، والقياس ، والأولويّة ، وأمثالها ممّا يحكم فيه بلحوق موضوع بغيره.

نعم ، لا إشكال في عدم اشتراط إثبات كون المناط هو القدر الجامع من الخارج ؛ لأنّ نفس الاتّفاق من حيث هو كاشف ظنّي عن ذلك فيظنّ من

٣٥٥

جهته باللّحوق.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه لا يخلو : إمّا أن يريد الموجّه من غلبة البقاء في الأشياء القارّة هي الجنسيّة ، أي : في جنس الممكن القارّ كما هو ظاهر كلامه ، أو النّوعيّة. أي : المستصحبات. أو الصّنفيّة أي : الصّنف الخاص الّذي يريد استصحابه من الأحكام الشّرعيّة وغيرها.

وعلى كلّ تقدير لا يخلو أيضا : إمّا أن يريد من البقاء : هو البقاء دائما وفي جميع الأوقات ، أو البقاء على مقدار من الزّمان غير معيّن. أي : المهملة ، أو البقاء على مقدار معيّن من الزّمان لا سبيل إلى إرادة البقاء أبد الآباد لكذبه ، ولا إلى إرادة المهملة لعدم الجدوى فيها ، فيتعيّن أن يكون المراد : هو البقاء على مقدار خاصّ من الزّمان فحينئذ نقول :

إن كان المراد من الغلبة هي الجنسيّة الملحوظة في جنس الممكنات فيرد عليه :

أمّا أوّلا : فبأنّه إن أراد من غلبة البقاء فيها هي غلبة البقاء إلى زمان الشّك. ففيه : أنّه لا معنى لذلك ؛ لأنّ أزمنة الشّك متخالفة وكلّ صنف من الموجودات على مقدار من البقاء غير المقدار الّذي عليه الصّنف الآخر ، فلا معنى لملاحظة الغلبة الجنسيّة بعد القطع باختلاف الأصناف وعدم انضباطها.

وإن أراد منها : هي غلبة البقاء على مقدار من الزّمان القدر المشترك فيه جميع الأشياء القارّة.

ففيه : أنّه لا جدوى في هذه الغلبة في المقام ؛ لأنّ البقاء على هذا المقدار معلوم في أكثر موارد الاستصحاب فلا يحتاج إلى الغلبة ، وإنّما الشّك في الزّائد فلا

٣٥٦

ينفع فيه الغلبة المزبورة.

نعم ، لو شكّ في كون وجود شيء آنيّ ، أو له قرار؟ أمكن القول بحصول الظّن من الغلبة المذكورة بكونه من القسم الثّاني ، مع قطع النّظر عمّا سيتلى عليك.

وأمّا ثانيا : فبأنّ غلبة البقاء لا ينفع في الحكم بالبقاء ظنّا في الفرد المشكوك وإن فرض انضباط للموجودات ؛ لأنّ البقاء في كلّ واحد منها مستند إلى ما هو مفقود في الآخر غاية الأمر : مشاركتها من باب الإتّفاق في البقاء على مقدار من الزّمان ومجرّد هذا غير كاف في الغلبة حسب ما عرفت سابقا.

وبالجملة : من الواضح الّذي لا يعتريه شكّ : أنّ بقاء الموجودات المشاركة مع نجاسة الماء المتغيّر في الوجود من الجواهر والأعراض في زمان الشّك في النّجاسة : من جهة ارتفاع التّغيّر مع احتمال مدخليّة في بقاء النّجاسة لا يوجب الظّن ببقاء النّجاسة في الماء الّذي زال عنه تغيّره قطعا لعدم ارتباط بينهما.

وإن كان المراد هي الغلبة النّوعيّة. أي : غلبة البقاء في نوع المستصحبات فيرد عليه : ما عرفته في الغلبة الجنسيّة حرفا بحرف.

وإن كان المراد هي الغلبة الصّنفيّة. أي : غلبة البقاء في صنف المستصحب. ففيه : أنّ هذا في الشّبهات الموضوعيّة يستقيم في الجملة سواء كان من جهة الشّك في المقتضي أو الرّافع وجودا أو صفة ، وإن كانت قضيّة كلام شيخنا قدس‌سره التّخصيص بالثّاني ، بأن يقال : إنّ صنف الإنسان يقتضي نوعا من البقاء ، وكذلك صنف الحمار والبغال يقتضي مقدارا من البقاء ، وكذلك الرّطوبة في الصّيف والشّتاء يقتضي مقدارا من البقاء وهكذا حال سائر الموضوعات بحسب تفاوت أصنافها وتغايرها في مقدار البقاء.

٣٥٧

إلاّ أنّ البناء عليه ـ مع فرض تسليم حجيّة الظّن الحاصل من الغلبة ولو في الشّبهة الموضوعيّة ـ ممّا يخلّ أمر الاستصحاب ؛ فإنّ المتطهّر إذا أراد استصحاب طهارته في زمان الشّك فلا بدّ من أن يلاحظ الزّمان المنقضي عن طهارته مع ملاحظة حاله بحسب الاعتياد على حفظ الطّهارة وعدمه على ما ذكره شيخنا البهائي.

وأمّا في الشّبهات الحكميّة فلا يستقيم أصلا سواء كان الشّك من حيث المقتضي أو من حيث الرّافع ، إلاّ في الشّك في النّسخ ؛ حيث إنّه يحصل فيه الظّن بالبقاء من ملاحظة غلبة بقاء الأحكام الشّرعيّة وعدم نسخها ، إلاّ أنّ في عدّ أصالة عدم النّسخ في عداد أقسام الاستصحاب وأفراده محل تأمّل ونظر ؛ من حيث إنّ النّسخ قسم من التخصيص ، فيدخل أصالة عدمه في الأصول اللّفظيّة.

لكنّهم تسامحوا في المقام وجعلوها من أقسام الاستصحاب ومع البناء على هذه المسامحة لا جدوى فيه لنا ؛ حيث إنّ الشّك في النّسخ لا يقع إلاّ في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمّة عليهم‌السلام على جهة النّقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا ذكره الأستاذ العلاّمة.

ولكن يمكن الخدشة فيه : بمنع تحقّق القدر المشترك في الشّك في النّسخ أيضا ؛ لأنّ بقاء كلّ حكم إنّما هو من جهة اقتضاء خصوص مصلحته البقاء ومجرّد الموافقة الاتّفاقيّة غير مجد بالفرض هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه يحصل الظّن من ملاحظة غلبة بقاء الأحكام وعدم نسخها : بأنّ الزّمان لا مدخل له في مصلحة الحكم ، وأنّ بقاء الأحكام إنّما هو من جهة اقتضاء نوع المصلحة الدّوام هذا في الشّك في النّسخ. وأمّا في غيره ، فلا معنى فيه للحكم بتحقّق الغلبة.

أمّا لو كان الشّك من حيث الاستعداد والمقتضي فظاهر ؛ لعدم انضباط

٣٥٨

لمقدار الاستعداد في الأحكام الشّرعية يجدي للحكم في المورد المشكوك. والقدر المتيقّن غير مجد كما عرفت سابقا. مع أنّه على تقدير الانضباط لا ينفع في تحقّق الغلبة المعتبرة الكاشفة عن الاستناد إلى القدر المشترك ؛ لأنّ كلّ حكم شرعيّ بل وغيره تابع لخصوص ما في نفس الحاكم من الأغراض والمصالح. ومجرّد الموافقة الاتّفاقيّة في مقدار الاستعداد لا يجدي شيئا كما لا يخفى.

وأمّا لو كان الشّك من حيث الرّافع فيعرف الكلام فيه ممّا عرفته في الشّك من حيث المقتضي هذا.

وإن شئت قلت : إنّ الشّكّ في الحكم الشّرعي سواء كان من جهة الشّك في المقتضي ، أو الرّافع لا يلاحظ فيه ـ في غير النّسخ ـ الزّمان ، إلاّ بالفرض ، من غير فرق بين الزّمان المفروض للشّك في البقاء بين قلّته وكثرته وطوله وقصره كما هو ظاهر ، فكيف يتمسّك للحكم بالبقاء فيه بالغلبة؟ فتدبّر.

هذا بعض الكلام من حيث الصّغرى. وأمّا إثبات حجيّة الغلبة سيّما في الشّبهات الموضوعيّة فدونه خرط القتاد. وعليك بإمعان النّظر فيما ذكره الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه العالي ) في المقام ؛ فإنّه في غاية المتانة بحسب المطلب ، وإن كان فيه نوع اضطراب بحسب العبارة ؛ فإنّ قوله : ( فإن أريد أغلب الموجودات السّابقة بقول مطلق ) (١) يحتاج إلى ذكر شرطيّة أخرى كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّ ما ذكره سندا لمنع بقاء أغلب الموجودات إلى زمان الشّك لا يخلو عن تأمّل ؛ لأنّ عدم الرّابط والجامع لا يمنع عن أصل الاشتراك في البقاء ، غاية الأمر : عدم تحقّق الغلبة المعتبرة بمجرّد ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٨٩.

٣٥٩

(٨٤) قوله : ( وممّا يشهد بعدم حصول الظّن بالبقاء : اعتبار ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٩٤ )

في تتميم ما يتعلّق بالغلبة

أقول : قد يتوهّم : متوهّم عدم شهادة ما استشهد به لما ذكره ؛ إذ الممتنع في الفرض هو حصول الظّن الشّخصي من الاستصحابين ، وأمّا الظّن النّوعي فلا والاستصحاب عند الأكثر مبنيّ على الظّن النّوعي لا الشّخصي.

ولكن لا يخفى عليك : أنّ التّوهم المذكور في غاية الفساد ؛ لأنّ ظاهر من يجعل الوجه في اعتبار الاستصحاب : الغلبة ، هو إرادة الظّن الشّخصي لا النّوعي هذا.

مضافا إلى إمكان أن يقال : إنّه بناء على القول باعتبار الاستصحاب : من باب الظّن النّوعي أيضا مقيّد بعدم مخالفته للعلم سواء كان إجماليّا أو تفصيليّا ، لا

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« إنّما يتم الشهادة في المثالين بناء على اعتبار الإستصحاب من باب الظن الشخصي كما يظهر من البهائي رحمه‌الله.

وأمّا بناء عى اعتباره من باب النوعي فلا منافاة بين الظن ببقاء الحدث والظن بطهارة البدن في المثال الأوّل ، وكذا الظنّ بكرّيّة مقدار معيّن من الماء وعدم كرّيّته في المثال الثاني.

نعم ، يقع الكلام في إمكان حجّيّة كلا الظنّين المذكورين معا مع العلم بمخلافة أحدهما للواقع إجمالا وهو كلام آخر ، غاية الأمر : صيرورته لذلك من قبيل المتعارضين » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ١١٧.

٣٦٠