بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

__________________

وأمّا ثالثا : فإن محل الاستدلال بالأخبار لا ينحصر فيما اشتمل على لفظ النقض لأنّ فيها فقرات أخر أيضا خالية منه يصحّ الاستدلال بها على المقام هكذا قيل. وفيه نظر لما سيشير إليه المصنف ; من ضعف دلالة ما يمكن أن يستدل به على ذلك.

وأمّا رابعا : فلمنع كون الضّرب حقيقة في الإيلام أو منصرفا إليه ولعل انسباقه منه إلى الذهن في المثال على تقدير تسليمه إنّما هو لانصراف لفظ أحد إلى الأحياء كانصرافه إليهم في مثل قولنا ما رأيت أحدا أو نحوه ، إذ لا يرتاب أحد في كون قوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) واردا على سبيل الحقيقة وليس فيه ارتكاب خلاف الظّاهر من جهة الانصراف كما هو واضح وسيجيء توضيح ما يتعلّق بالمقام عند شرح ما يتعلّق بمذهب الخونساري.

وأمّا خامسا : فإن المدار في مباحث الألفاظ على فهم العرف ولا ريب أنّهم إنّما يفهمون من لفظ النقض بعد تعذّر حقيقته المعنى المجازي الثاني دون الأوّل ولذا اخترنا القول باعتبار الاستصحاب مطلقا.

وبالجملة : إن الأوّل وإن كان أقرب اعتبارا الاّ أنّ الثاني أقرب عرفا ومرادهم بتعيّن حمل اللفظ على أقرب مجازاته هو الأقرب عرفا لا اعتبارا كما هو واضح » انتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : ما ذكره رحمه‌الله في هذا المقام لا يخلو عن مسامحة بل تشويش واضطراب فإنّ النّقض على ما يستفاد من مراجعة اللّغة إنما هو ضدّ الإبرام فمتعلّقه لا بدّ أن يكون له التئام واتّصال حقيقة أو ادّعاء ومعنى إضافة النّقض إليه رفع تلك الهيئة الإتّصاليّة بشرط بقاء المادة كما في نقضت الحبل وأمّا مطلق رفع الأمر الثّابت أو رفع اليد عن الشيء مطلقا فلا. ألا ترى استهجان قولك : ( نقضت الحجر ) إذا أردت رفعه عن مكانه؟ وأمّا إضافته إلى العهد واليقين فإنّما هي باعتبار أنّ لهما نحو إبرام عقلي ينتقض ذلك الإبرام بعد الإلتزام بأثر العهد

٣٠١

__________________

وبالتّرديد في ذلك الاعتقاد فبهذه الملاحظة يضاف النّقض إليها.

إذا عرفت ذلك فنقول في توضيح المقام :

قد يراد من نقض اليقين بالشّك رفع اليد عن آثار اليقين السّابق حقيقة في زمان الشكّ وهذا المعنى إنّما يتحقّق في القاعدة وأمّا في الاستصحاب فليس إضافة النّقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السّابق بل هو باعتبار تحقّقه في زمان الشّك بنحو من المسامحة والاعتبار إذ لا يرفع اليد عن اليقين السّابق في الاستصحاب أصلا وإنما يرفع اليد عن حكمه في زمان الشكّ وليس هذا نقضا لليقين كما أنّ الأخذ بالحالة السابقة ليس عملا باليقين بل هو أخذ بأخذ طرفي الاحتمال فلا بدّ في تصحيح إضافة النّقض إليه بالنسبة إلى زمان الشكّ من اعتبار وجود تقديري له بحيث يصدق بهذه الملاحظة أنّ الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين ورفع اليد عنه نقض له ومن المعلوم انّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفا بل لوجوده التّقديري حينئذ وجود تحقيقي يطلق عليه لفظ اليقين كثيرا في العرف ، ألا ترى أنّهم يقولون ما عملت بيقيني وأخذت بقول هذا الشخص الكاذب ورفعت اليد عن يقيني بقوله أو لا أرفع اليد عن يقيني بهذا؟

وأمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المقتضي فبعيد جدّا بل لا يساعد عليه استعمال العرف أصلا فتعميم اليقين في قوله عليه‌السلام : ( اليقين لا ينقضه الشكّ ) بحيث يعمّ مثل الفرض بعيد في الغاية.

وإذا أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك ما في عبارة المصنف رحمه‌الله في تفسير النّقض المجازي من المسامحة فإنّ مطلق رفع الأمر الثابت أو رفع اليد عن مطلق الشّيء ليس تفسيرا للنّقض المجازي إلاّ على وجه المسامحة مع أنّ إطلاق رفع اليد عن الشيء على عدم الإتيان بالفعل الّذي كان متشاغلا به في الزّمان السّابق ما لم يكن اقتضاء لثبوته أيضا لا يخلو عن بعد ، فالأولى تفسير النّقض على تقدير تنزيله على المعنى الثالث بعدم إبقاء الشّيء السّابق

٣٠٢

__________________

فليتأمّل » انتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٤٧.

* وقال المحقق الآخوند الخراساني قدس سره :

« تحقيق ما هو الحقّ في المقام وتوضيحه ببسط الكلام في صيغة « لا تنقض اليقين » بمادّتها وهيئتها فاعلم انّ النّقض بحسب اللّغة ضدّ الإبرام ، فلا بدّ أن يتعلّق بما له أجزاء مبرمة تأليفا وتوصيفا ، كما أنّ متعلّق الإبرام لا بدّ ان يكون ذا أجزاء متفاسخة ، وقد يستعار لمثل العهد واليقين ممّا يترقّب فيه الإتقان والاستحكام أو البقاء والدّوام ، حيث يشتبه بذلك ذا أجزاء ذات إبرام ، ولا يكاد أن يحسن استعماله في رفع مطلق الأمر الثابت ولو ـ كان فيه مقتضى البقاء ألا ترى ركاكة قولك : « نقضت الحجر من مكانه » أي رفعته مع ما فيه من الثّقل المقتضي للبقاء فيه ما لم يرفعه رافع.

ومنه قد انقدح انّه انّما يحسن لفظ النّقض في هذه الأخبار بملاحظة تعلّقه باليقين ، ولا يكاد أن يحسن تعلّقه بمتعلّقه بدون توسيطه ، لما عرفت من ركاكة مثال : « نقضت الحجر » فلا يجوز التّصرف في لفظ اليقين بإرادة المتعلّق منه ، فضلا عن لزومه وما تخيّله من انّه لازم على كلّ حال ، يأتي بيان بطلانه.

وما ربّما يقال في وجهه : انّه لولاه لدلّ على لزوم البناء على اليقين والعمل بآثاره مع ارتفاعه بالشكّ ، فيكون مفاده ضرب قاعدة بلحاظ آثار اليقين لا المتيقّن ، وهو غير مراد.

فيه : أنّه انّما يلزم ذلك لو كان اليقين ملحوظا بنفسه وباللّحاظ الاستقلالي ، لا إذا لوحظ على نحو الطّريقيّة واللّحاظ الآلي. وبعبارة أخرى على نحو الكناية والانتقال عن لزوم الأخذ به إلى لزوم الأخذ بالمتيقن بناء وعملا عند الشّك كما هو ظاهر الأخبار ، فانّ قضيّة لحاظه كذلك ليس إلاّ لزوم البناء على المتيقّن عملا والالتزام به لو كان من الأحكام ، وبآثاره وأحكامه لو كان من موضوعاتها ، هذا بعض الكلام من المادة.

٣٠٣

__________________

وأمّا الهيئة فلا بدّ من حملها على النّهي عن النّقض بناء وعملا كما هو قضيّة جمع القواعد المقرّرة للشّاكّ ، لا حقيقة كما هو قضيّة أصل وضعها ، وذلك لعدم كون النّقض الحقيقي اختياريا لمكلّف ، لا بالنسبة إلى اليقين كما هو ظاهر القضيّة ، ضرورة انّه لا يكون نقض في مورد الاستصحاب لاجتماعه مع الشّكّ ، وفي مورد قاعدة اليقين وإن كان إلاّ أنّه ليس بإختيار ، لا بالنسبة إلى أحكام اليقين بناء على التصرّف بالتقدير والإضمار ، ولا بالنسبة إلى المتيقّن بناء على التّصرف فيه بإرادته منه ، كما احتمل التّصرف بكلّ منهما بعد جزمه قدس‌سره بأصل التصرّف ، بداهة عدم التمكّن من بقاء الأحكام الشّرعيّة حقيقة ورفعها ، وكذا غالب الموضوعات الخارجيّة ، لإناطة أمر رفعها وبقائها إلى أسبابها الخارجة عن تحت الاختيار ، مع أنّ الكلام في مشكوك البقاء والارتفاع ، وواقعه يتغيّر عمّا هو عليه من البقاء والإرتفاع ، مع أنّ الإبقاء الحقيقي ليس بمراد وإن كان أمره وجودا وعدما بيد المكلّف.

وقد انقدح بذلك فساد ما أفاده قدس‌سره في وجه لزوم التّصرف في اليقين على كلّ حال بما هذا لفظه : فانّ النّقض الإختياري القابل لورود النّهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه أو أحكام اليقين ، لما عرفت : من أنّ النّقض بالنّسبة إلى ما كان منه على يقين كاليقين ليس باختياريّ أبدا ، وأنّه لا يجدي في إبقاء الصّيغة على حقيقتها كي يلزم ، مع أنّه لو كان يجدي أمكن منع اللّزوم ، إذ تقع الدّوران حينئذ بين التّصرف في الصّيغة والتّصرف في اليقين بأحد التّصرفين ، مع أنّه لا يكاد أن يكون علاقة بين اليقين ومتعلّقه ، مع ما عرفت من أنّ المناسب للنّقض نفس اليقين.

إن قلت : غاية ذلك أنّ النّقض بالنّسبة إلى ما كان على يقين منه ، وآثار اليقين لا يكون باختياريّ ، لكنّه يتطرّق إليه ولو بغير اختيار بخلاف نفس اليقين في مورد الاستصحاب ، فانّه لا يتطرّق إليه أصلا لاجتماعه على ما هو عليه مع الشّك في زمان واحد ، فلا بدّ من التصرّف فيه لأجل صحّة النّهي عن نقضه ، إذ لا يصحّ النّهي بهذا الوجه أي عملا وبناء عن نقض ما لا

٣٠٤

__________________

نقض له أصلا ، كما لا يخفى. نعم يصحّ تعلّقه به في مورد قاعدة اليقين بدون ذلك لانتقاضه به حقيقة ، فلا نحتاج في موردها إلاّ إلى التّصرّف في الهيئة ، بخلاف مورد الاستصحاب ، فانّه لا بدّ منهما ، كما لا يخفى.

قلت : صحّة النّهي عن نقضه إنّما هو بملاحظة اتّحاد متعلّقه مع متعلّق الشّك ذاتا وعدم ملاحظة تعدّدهما زمانا ، وبذلك يحسن أن يقال أنّه قد انتقض بالشّكّ في مورد الإستصحاب ، ويصحّ النّهي عن نقضه به عملا بلا ارتياب ، ولا حاجة إلى التّصرف فيه بذلك ، مع ما عرفت من عدم العلاقة بينه ومتعلّقه وعدم حسن استعمال النّقض ، مع إرادته وإرادة آثار اليقين.

هذا ، مع انّه صحّ إسناد الانتقاض إليه بالشّكّ في مورد الاستصحاب أيضا بمجرّد أنّه كان له شأن التعلّق ببقاء متعلّقه في اللاحق كما تعلّق بثبوته في السابق ، فيصحّ النّهي عنه عملا أيضا ، فافهم.

إذا عرفت ما تلونا عليك ، ظهر لك انّ لفظ النّقض لا يوجب اختصاص أخبار الباب بحجّيّة الإستصحاب في خصوص الشّك في الرّافع بسبب ما أفاده قدس‌سره ، لما عرفت : من انّ حسن لفظ النّقض في هذه الأخبار إنّما هو بلحاظ تعلّقه باليقين ، من غير لزوم التّصرف فيه بل ولا جوازه ، ولزوم التّصرف في الهيئة ، بما عرفت ، وإغناء التّصرّف فيها عن التّصرّف في اليقين بالمجاز أو الإضمار ، وعدم الغنى معه عنه ، مع انّ رفع ما فيه المقتضي للبقاء ليس أقرب إلى المعنى الحقيقي للنّقض إلاّ اعتبارا ، ولا اعتبار به أصلا ، والظّاهر أنّ العبرة بنظر العرف في إطلاق النّقض لا يكون إلاّ بمجرد كون الشّيء محتمل البقاء ، من غير نظر إلى أنّ الشّك فيه يكون للشّكّ في وجود المقتضي أو الرّافع ، كما لا يخفي ، ولذا يصحّ اسناده إلى ما كان انتقاضه بانتفاء مقتضيه ، وما كان لوجود رافعه بلحاظ واحد ، ويقال ينتقض التّيمم عند وجود الماء ، كما يقال ينتقض بالحدث ، بلا تفاوت بينهما في نظر العرف ، كما لا يخفي.

نعم ، يمكن تقريب دلالة الأخبار على الاختصاص بالشّكّ في الرّافع بوجه أدقّ وأمتن ، وهو

٣٠٥

__________________

أنّه قد عرفت : أنّ استعمال لفظ النقض فيها إنّما هو بلحاظ تعلّقه باليقين وقد عرفت أيضا أنّه لا يصحّ النّهي عنه بحسب ، إلاّ فيما انحلّ اليقين حقيقة ، واضمحلّ كما في مورد قاعدة اليقين ، أو مسامحة كما في الشّك في الرّافع في مورد الإستصحاب ، فإنّ اليقين فيه وإن كان على ما كان بلا اضمحلال ولا انحلال ، إلاّ أنّه لمّا كان متعلّق اليقين فيه من شأنه البقاء لوجود مقتضيه ، كان كأنّه متيقّن البقاء وقد ارتفع اليقين به وانحلّ إلى الشّكّ ، وصحّ بالمسامحة انّه اضمحل ويصحّ النّهي عنه بحسب البناء والعمل وهذا بخلاف الشّكّ في المقتضي حيث لا انحلال فيه لليقين لا حقيقة ولا مسامحة.

سلّمنا انحلاله فيه أيضا كذلك ، الاّ أنّه ليست المسامحة فيه بمثابة المسامحة في الشّكّ في الرّافع عرفا ، فيكون أقرب إلى ما يعتبر في صدق النّقض حقيقة ، فيتعيّن عند إطلاقه وتعذّر إنحلال الحمل على ما هو أقرب إلى ذلك ، ليقوى شباهته بما إذا انتقض اليقين وارتفع حقيقة ، كما في قاعدة اليقين.

لكنّك عرفت : انّ الظاهر ان وجه إطلاق النّقض واسناده إلى اليقين في مورد الإستصحاب إنّما هو بملاحظة اتّحاد متعلّقي اليقين والشّكّ ذاتا وعدم ملاحظة تعددهما زمانا ، وهي كافية في اضمحلال اليقين وانحلاله مسامحة وفي صحّة استعمال النّقض واستعارته له من غير تفاوت في ذلك أصلا في نظر العرف ، كما لا يخفي.

ومن المعلوم تداول هذه الملاحظة بين أهله لارتكاز الاتّحاد كذلك في أذهانهم ، بخلاف تلك الملاحظة ، فانّها في غاية الدّقة والبعد عن أذهان عامّة أهل العرف ، فكيف يكون هو الوجه في إسناد النّقض إلى اليقين في الاستعمالات المتعارفة ، بل الظّاهر أنّ وجهه هو ما ارتكز من الإتّحاد.

فظهر أنّ مفاد الأخبار هو حجّية الاستصحاب مطلقا ، كما عليه مشهور الأصحاب ، ويؤيّده أنّ مورد بعضها ممّا فيه لفظ النّقض يكون من قبيل الشّكّ في المقتضي ، كما اعترف به قدس‌سره وإن

٣٠٦

بيان حقيقة النّقض وانه بعد تعذّر ارادته

لا بد من العمل على الأقرب إليه

أقول : لا يخفى عليك ما وقع من الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) من التّسامح في المقام ؛ فإنّ النّقض على ما أطبقت عليه كلمة اللّغويّين هو ضدّ الإبرام ، كما في قولهم : « نقضت الغزل » (١). فاستعماله في رفع الأمر الموجود كما في نواقض

__________________

تكلّف بالإرجاع إلى الشّك في الرّافع بما لا يخلو عن التّعسّف وبعضها بهذا اللفظ ، فافهم وتأمّل في أطراف ما ذكرناه من الكلام في المقام.

وهم ودفع :

ربّما يتخيّل الغافل ويتوهّم الجاهل من أخبار الباب ، حجّية قاعدة أخرى غير الاستصحاب ، وهي قاعدة المقتضي والمانع ، ولا منشأ إلاّ كون المورد في بعضها ذلك ، وجعل غاية عدم إيجاب الوضوء في الصّحيحة الأولى ، الاستيقان بالنّوم الّذي يكون رافعا له ، وأنت خبير بأن كونهما المورد لا يقتضي أن يكون القاعدة المجعولة فيه قاعدتهما ، ونفي إيجاب الوضوء مع الشّكّ في النّوم ، انّما هو لتحقّق الشّكّ في الوضوء وارتفاعه الّذي يكون صغرى لقضيّة « لا تنقض اليقين ... إلى آخره ». الظّاهر ، بحيث لا يخفى على عاقل غير غافل في وحدة متعلّق اليقين والشّكّ ، وأنّ المعنى : لا تنقض اليقين بشيء بالشّكّ فيه ، لا بالشّكّ في رافعه.

ولعمري هذا أظهر من أن يخفى على أحد إلاّ على من ختم الله على قلبه ، أعاذنا الله وإيّاك عن ذلك بفضله وكرمه ، وإن لم نكن له أهلا فهو أهل لذلك » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣١٦ ـ ٣٢٠.

(١) انظر لسان العرب : ج ٧ / ٢٤٢ مادة « نقض » ـ ط نشر أدب الحوزة.

٣٠٧

الطّهارة لا بدّ من أن يكون مبنيّا على التّسامح.

والحاصل : أنّ النّقض بحسب الحقيقة عبارة عن قطع الشّيء المتّصل ورفع الهيئة الاتّصاليّة مع بقاء المادّة بحالها فلا يطلق حقيقة إلاّ على هذا.

نعم ، هنا كلام في أنّه هل هو حقيقة في خصوص رفع الاتّصال عن المتّصل الحسّي أو حقيقة في مطلق رفع الاتّصال سواء كان المتّصل حسيّا أو عقليّا كما في العقد وأشباهه؟ وبعبارة أخرى : هل يشترط كون المنقوض حسيّا أو لا يشترط ذلك ، بل يكفي فيه مجرّد الاتصال؟

وأيّا ما كان لا إشكال في أخذ الاتّصال فيه بحيث يكون المرفوع خصوص الجزء الصّوري مع بقاء المادّة كما كانت ، فاستعماله في رفع مطلق الأمر الثّابت لا يكون على حقيقة. وأمّا دعوى : أنّه بحسب اللّغة وإن لم يكن حقيقة في المعنى المذكور ، إلاّ أنّه حقيقة فيه بحسب العرف ، فيها : ما لا يخفى.

نعم ، هنا شيء يمكن أن يقال بمعونته يكون استعمال النّقض في رفع الموجود بحيث لولاه كان باقيا حقيقة ، وإن قلنا بكونه حقيقة في العرف واللّغة فيما ذكرنا وهو : أن ينزّل الأمر الغير المتّصل منزلة الأمر المتّصل ويجعل من أفراده ادّعاء ، ثمّ يستعمل لفظ النّقض الّذي من خواصّه فيه ؛ فإنّه لا يبعد أن يكون حينئذ حقيقة حسب ما عليه السّكاكي ، وجمع من المحقّقين ، منهم : الأستاذ العلاّمة : من عدم كون الاستعارة مجازا في الكلمة كليّة.

ثمّ بناء على القول باشتراط الحسّ في المنقوض ـ كما هو ظاهرهم ـ يحتاج استعماله في المقام إلى تنزيلين : أحدهما : تنزيل غير المحسوس منزلة المحسوس.

ثانيهما : تنزيل غير المتّصل منزلة الأمر المتّصل. كالبناء والغزل لا بمعنى كون

٣٠٨

المستعمل فيه متعدّدا كما قد يتوهّم حتّى يكون بناء على القول بالمجازيّة استعمال النّقض في المقام : من باب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، بل بمعنى : أنّ المستعمل فيه شيء واحد اعتبر فيه تنزيلان وتشبيهان بشيئين ، أو تنزيل واحد بشيء واحد من جهتين كما في تشبيه زيد بالأسد من جهات متعدّدة : من الشّجاعة ، والصّفرة ، ورائحة الفم ، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أنّ هذا لا يوجب تعدّد المستعمل فيه ، ولا بمعنى كون أحدهما مترتبا على الآخر ومأخوذا منه حتّى يكون استعماله فيها على القول بتعدّد المستعمل فيه وكونه مجازا من قبيل سبك المجاز عن المجاز ، بل هما تنزيلان في مرتبة واحدة.

وهذا مثل ما ذكرناه في تعريف الفقه : من أنّ استعمال ملكة الظّن في العلم على القول بتعدّد المجاز ليس فيه سبك المجاز عن المجاز ـ كما توهّمه الفاضل القميّ رحمه‌الله بل هنا مجازان كلّ واحد منهما في عرض الآخر ، فتدبّر. هذا ملخّص ما ذكره الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث.

وقال بعده : إنّه لو قلنا بكون النّقض حقيقة في المعنى المذكور ، أي : رفع الأمر الثّابت ، لكان استعمال النّقض في المقام ، أي : الشّك في الرّافع ، أيضا حقيقة لا مجازا ، وإن قلنا بكون الاستعارة مجازا في الكلمة ؛ حيث إنّ المكلّف بعد وجود المذي ، أو الشّكّ في حدوث البول مثلا لا يلتزم برفع الأمر الثّابت ، أي : الأحكام الثّابتة للطّهارة الّتي في حكم الطّهارة في عدم الارتفاع بعد الوجود إلاّ برافع هذا. وللنّظر فيما ذكره ( دام ظلّه ) مجال واسع.

ثمّ إنّه تلخّص ممّا ذكرنا : أنّ حقيقة النّقض هي رفع الاتّصال عن الأمر المتّصل مع بقاء المادّة ، والأقرب إليه عرفا واعتبارا هو عدم الالتزام في الزّمان

٣٠٩

اللاّحق بما كان موجودا سابقا ملتزما به مع القطع ببقاء مقتضيه في زمان الشّك. وأمّا مجرّد الالتزام بما التزم به سابقا وإن لم يكن هناك مقتض لثبوته في زمان الشّك فبعيد قطعا لا يصار إليه بعد دوران الأمر بينه وبين المعنى الثّاني من حيث عدم إمكان إرادة المعنى الأوّل في المقام قطعا.

والقول : بأقربيّة الثّالث عرفا وإن كان الثاني أقرب اعتبارا ـ كما قد يتوهّم ـ فاسد جدّا ، كما أنّه لا يمكن أن يجعل عموم اليقين للشّك في المقتضي قرينة لإرادته ، لا لأولويّة التّخصيص بالنّسبة إلى خلاف ظاهر آخر غير التّقييد عند الدّوران وإن كان هو في نفسه أيضا تامّا ، بل من جهة حكومة ظهور النّقض عند العرف على ظهور المتعلّق ؛ لأنّ بناءهم ـ كما لا يخفى ـ على جعل متعلّق الفعل ما يقتضيه ظاهر الفعل ، كما إذا سمعوا قولك : « ضرب زيد » ؛ فإنّه لا إشكال عندهم في الحكم بكون متعلّق الضّرب ـ بناء على ظهوره في المؤذي ـ هو من يقبل لتعلّق الألم والأذيّة به كالإحياء ، فلو ذكر متعلقه بوجه العموم كما في « ضرب زيد أحدا » لا يجعلون عمومه لغير الأحياء ـ بناء على القول بالعموم فيه ـ قرينة صارفة للضّرب عن معناه الظّاهر فيه.

لا يقال : المعنى الثّاني وإن كان أقرب المجازات فيتعيّن إرادته بعد تعذّر الحمل على الحقيقة ، لكن إرادته في المقام أيضا غير ممكن للقطع بارتفاع اليقين بالشّك.

لأنّا نقول : ارتفاع اليقين بالشّك قهريّ على كلّ تقدير سواء أريد المعنى الثّاني أو الثّالث ، فلا بدّ من التّصرّف في ظاهر الكلام على كلّ تقدير لأنّ التكليف لا يتعلّق بغير المقدور ، فيجب التّصرّف في ظاهر الرّواية على كلّ تقدير بمقتضى

٣١٠

دلالة الاقتضاء ، فهذه الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك نظير حديث الرّفع. فنقول :

إنّ المراد من نسبة النّقض إلى اليقين ليس باعتبار نفسه ، بل باعتبار متعلّقه وهو المتيقّن ، أو الأحكام المترتّبة على متعلّقه في الواقع الّتي حكم بها في السّابق : من حيث تعلّق اليقين به وطريقته إليه ، وليس التّصرّف في المقام بجعل اليقين بمعنى المتيقّن حتّى يصير مجازا في الكلمة ـ كما قد يتوهّم ـ أو بتقدير الأحكام ـ كما يتخيّل على التّقدير الثّاني ـ بل بإرادتهما من نسبة النّقض إلى اليقين ، فالتّصرف إنّما هو في النّسبة كما عرفته في حديث الرّفع أيضا ، وإن كان المختار من الوجهين إرادة المتعلّق من نسبة النّقض إلى اليقين لا الأحكام كما ستقف عليه.

فبعد هذا إذا دار الأمر بين أن يجعل المتعلّق أو أحكامه عامّا ، أو يجعل المراد خصوص ما من شأنه البقاء والاستمرار لو لا الرّافع ، فلا إشكال في كون الثّاني أقرب فتعيّن الحمل عليه.

ثمّ إنّ الفرق بين المانع والرّافع والدّافع هو : أنّ الأوّل أعمّ من الأخيرين ؛ لأنّ ما يمنع وجوده عن تأثير المقتضي ابتداء يسمّى دافعا. وما يمنع وجوده عن تأثير المقتضي في الزّمان الثّاني بعد تأثيره في الزّمان الأوّل يسمّى رافعا. فالرّافع والدّافع وإن تباينا بحسب الحقيقة ، إلاّ أن كلاّ منهما فرد من المانع ؛ لأنّ رفع الموجود حقيقة بعد وجوده محال ـ حسب ما تقرّر في محلّه ـ فعدم الرّافع أيضا جزء من العلّة التّامّة للوجود ، لكن بالنّسبة إلى الوجود الثّانوي لا الأوّلي ، فكلّما يطلق الرّافع فلا يراد منه بحسب الحقيقة إلاّ هذا المعنى ؛ إذ لا حقيقة له غير هذا ؛ إذ إعدام الموجود حقيقة محال.

٣١١

(٧٧) قوله : ( ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات إرادة المعنى الثّالث ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٨٠ )

__________________

(١) قال سيّد العروة أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

« يمكن أن يكون المراد منه : نقض الشك باليقين السابق فيكون محصّل معنى قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشك بل ينقض الشك باليقين » انه لا يرفع اليد عن الطهارة السابقة المتيقّنة بالشك اللاحق في تلك الطهارة ، بل يرفع اليد عن هذا الشك اللاحق باليقين السابق ويؤخذ بمقتضى اليقين السابق وعلى هذا تكون الفقرة الثانية كالتأكيد للفقرة الأولى.

ويمكن أن يراد منه : نقض الشك باليقين اللاحق بخلاف اليقين السابق ويكون محصّل معنى الفقرتين حينئذ : انه لا يرفع اليقين بالطهارة بالشك فيها ، بل يرفع اليد عن هذا الشك باليقين بالحدث ، فهو نظير قوله عليه‌السلام : ( بل تنقضه بيقين آخر ).

ويمكن أن يراد : نقض المشكوك فيه باليقين بالخلاف ، ويكون محصّل المعنى : لا ترفع اليد عن الطهارة المعلومة بالشك فيها ، بل ترفع اليد عن الطهارة المشكوكة باليقين بالحدث.

وكيف كان : لا شهادة في هذه الفقرة على إرادة المعنى الثالث من قوله عليه السلام : ( لا تنقض اليقين ) بناء على الإحتمال الثالث فيها ؛ لأن ما تعلق به النقض أعني : لفظ الشك قد أريد منه المشكوك وهو عين المتيقن السابق الذي فرضنا أنه أمر ثابت مقتض للإستمرار بقرينة تعلّق ( لا تنقض ) به ، فصار موافقا للفقرة الأولى في كون متعلق النقض هو الامر الثابت.

نعم ، على الإحتمالين الأولين يمكن أن يكون شاهدا على المعنى الثالث كما أراده المصنّف ، وتقريبه : ان الشك ليس كالطهارة والحدث مما يدوم بعد حصول سببه إلى أن يرفعه رافع.

وأجاب عنه في المتن : بمنع ذلك وأن الشك أيضا لا يرتفع إلاّ برافع.

وفيه نظر ؛ لأنّ الشك واليقين من قبيل المتضادّين لا المتمانعين حتى يؤثّر كلّ منهما في رفع الآخر ، وشأن المتضادّين مجرّد عدم إجتماعهما في محلّ واحد الاّ أنّ كلاّ منهما يوجد بوجود علّته ويعدم بانتفاء علّته ، وهذا بخلاف الطهارة والحدث المتمانعين ؛ فإن كلا منهما يؤثّر في إعدام الآخر ويرفعه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

٣١٢

بيان مفاد سائر الأخبار الواردة في الباب

أقول : ما سمعت من الكلام كلّه إنّما هو في بيان وجه اختصاص الأخبار المشتملة على النّهي عن نقض اليقين بالشّك ، بالشّك في الرّافع. والكلام في المقام في بيان اختصاص سائر الأخبار الواردة في الباب به ؛ حيث إنّها مختلفة فبعضها مشتمل على لفظ « المضي » ، وبعضها على لفظ « الدّخل » و « الاختلاط » ، وبعضها على لفظ « دفع الشّك باليقين » ، وبعضها على « نقض الشّك باليقين وعدم الاعتداد به في حال من الحالات » إلى غير ذلك.

فقد يقال : إنّ المقصود منها هو المعنى الثّالث ؛ حيث إنّ الظّاهر منها ـ كما لا يخفى لمن تأمّل فيها ـ هو أنّ نفس تقابل اليقين السّابق والشّك اللاّحق بقول مطلق موجب للالتزام بمقتضى اليقين السّابق من غير فرق بين الشّك في المقتضي والشّكّ في الرّافع ، بل مورد بعضها مختصّ بالشّك في المقتضي ، كما في المكاتبة ؛ فإنّ مورده استصحاب بقاء الشّعبان والرّمضان.

ومن المعلوم أنّ الشّك فيهما ليس من قبيل الشّك في الرّافع بعد إحراز المقتضي ؛ حيث إنّ المستصحب فيهما نفس الزّمان الّذي لا رافع له ، بل يتجدّد شيئا فشيئا ، بل ستقف على الإشكال في تحقّق الاستصحاب موضوعا في الزّمان والزّماني ، وكيف يكون الشّك فيهما من الشّك في الرّافع ، وكذلك قوله في صحيحة زرارة : ( بل تنقض الشّك باليقين ) (١) صريح في عدم إرادة المعنى الثّاني ؛ ضرورة

__________________

(١) مرّ تخريجها.

٣١٣

أنّ الشّك ليس له مقتضي البقاء حتّى يشكّ في رافعه ، بل لا معنى له في المقام للقطع بوجوده ، فالمراد منه مجرّد رفع اليد عنه باليقين السّابق ، فيكون المراد من قوله ـ في صدرها ـ : ( فإنّ الشّك لا ينقض اليقين ) بقرينة المقابلة هو هذا المعنى.

وبالجملة : على تقدير تسليم ظهور الأخبار النّاهية عن نقض اليقين في الشّك في الرّافع لا بدّ من رفع اليد عنه بقرينة سائر الأخبار الظّاهرة في التّعميم ، أو من إبقائها على ظاهرها والعمل بغيرها في الشّك في المقتضي أيضا ؛ لعدم التّنافي بينهما كما لا يخفى هذا.

ويمكن القول بعدم ظهورها في التّعميم وعدم صلاحيّتها لصرف الأخبار المذكورة عن ظاهرها حسب ما ذكره الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) في « الكتاب ».

أمّا ما اشتمل عليه لفظ « المضي على اليقين السّابق » كالمرويّ عن « الخصال » (١) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ فلأنّ الظّاهر من المضي على اليقين السّابق هو الجري على مقتضاه وعدم رفع اليد عنه ، إلاّ برافع ؛ لأنّ الظّاهر من لفظ المضيّ كلّما يطلق هو الجري على الدّاعي السّابق وعدم التوقّف إلاّ لصارف ، فيتّحد مع الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك مفهوما هذا. مضافا إلى ما ذكره في « الكتاب » : من عدم دلالة الرّواية على اعتبار الاستصحاب أصلا حتّى في الشّك في الرّافع ؛ لما قد تقدّم أنّ الظّاهر منها قاعدة أخرى غير الاستصحاب هذا.

ولكنك قد عرفت : منّا ومن الأستاذ العلاّمة : تماميّة دلالتها على اعتبار

__________________

(٣) الخصال للشيخ الصدوق قدس‌سره : ٦١٩ ، عنه الوسائل : ١ / ٢٤٧ ـ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ـ ح ٦.

٣١٤

الاستصحاب وظهورها فيه غاية الظّهور فراجع.

فالأولى ما ذكرنا وذكره الأستاذ العلاّمة أوّلا : من ظهور لفظ « المضي » في الشّك في الرّافع أيضا إمّا لما عرفت ، أو بملاحظة تعليله عليه‌السلام بقوله : ( فإنّ الشّك لا ينقض اليقين ) (١) أو ( اليقين لا يدفع بالشّك ) (٢) فإنّ ظاهرهما ـ كما لا يخفى ـ :

الاختصاص بالشّك في الرّافع. ومنه يظهر : عدم ظهور ما اشتمل على لفظ « الدّفع » في المعنى الثّالث.

وأمّا ما اشتمل على لفظ « الدّخل » و « الدّخول » كما في المكاتبة ؛ فلأنّ الظّاهر من دخل الشّيء في الشّيء هو تصرّفه فيه. ومن المعلوم أنّ هذا لا يطلق فيما لم يكن له مقتضي الثّبوت كما هو واضح ، وبه يرفع اليد عن ظهور مورده ويجعل صارفا عنه ، لو سلّم أنّ الظّاهر منه استصحاب الزّمان المختصّ بالشّك في المقتضي ، ولا يمكن العكس ؛ لأنّ ظهور العلّة مقدّم على ظهور المعلول.

فيقال : إنّ المتفرّع عليه هو استصحاب ما من شأنه البقاء لو لا الرّافع ، أمّا بالنّسبة إلى يوم الشّك قبل الرّمضان فيجعل المستصحب هو عدم وجوب الصّوم ، وأمّا بالنّسبة إلى يوم الشّك في آخره فيجعل المستصحب هو الاشتغال ، أو عدم انقضاء الرّمضان ، أو عدم دخول الشّوال. إلى غير ذلك من الاستصحاب العدميّة الرّاجعة إلى الاستصحاب في الشّك في الرّافع. هذا ملخّص ما ذكره الأستاذ في « الرّسالة » وفي مجلس البحث لتوجيه مورد الرّواية وتطبيقها على المدّعى.

ويمكن الخدشة فيه : أمّا فيما ذكره بالنّسبة إلى يوم الشّك قبل الرّمضان ؛

__________________

(١) المستدرك : ج ١ / ٢٢٨ ـ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ـ ح ٤.

(٢) المستدرك : ج ١ / ٢٢٨ ـ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ـ ح ٤.

٣١٥

فبأنّه لا محصّل لاستصحاب عدم التّكليف الراجع إلى استصحاب البراءة بعد استقلال العقل بها في صورة الشّك ، وإن أريد استصحاب عدم الوجوب الواقعي ، فلا يترتّب عليه أثر أصلا. مضافا إلى كون الأثر المترتّب عليه ـ على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا ـ هو نفي العقاب عقلا لا شرعا.

أمّا فيما ذكره بالنّسبة إلى يوم الشّك في آخر الرّمضان فلما أسمعناك مرارا كثيرة في طيّ أجزاء التّعليقة تبعا لشيخنا قدس‌سره : من أنّ استصحاب الشّغل ممّا لا مجرى له ولا يتصوّر له معنى صحيح.

توضيح ذلك على سبيل الاختصار بحيث لا يوجب الملال ، يحتاج إلى تقديم مقدّمة نافعة في غير المقام أيضا وهي : أنّه قد يترتّب الحكم على الأمر الواقعي من الوجود والعدم من غير مدخليّة الشّك والعلم فيه ، وقد يترتّب على الشّيء بوصف العلم به ، وقد يترتّب على عنوان موجود في صورة الشّك فيه والقطع به قطعا ، أو على نفس عدم العلم والشّك.

أمّا الأوّل : فلا يمكن الحكم به باستصحابه في صورة الشّك في هذا الأمر الواقعي الموضوع للحكم إلاّ بإجراء الاستصحاب في نفس الأمر الواقعي من الوجود أو العدم ؛ لأنّ إثبات الحكم مع الشّك في الموضوع ولو ظاهرا لا يعلم صدق الاستصحاب معه ، فلا بدّ في استصحاب المحمول في هذا القسم من إحراز الموضوع الواقعي والمعروض النّفس الأمري. وأمّا إجراء الاستصحاب في الموضوع ليترتّب استصحاب المحمول عليه فهو فاسد ؛ لأن معنى استصحاب الموضوع جعل آثاره في مرحلة الظّاهر هذا. مضافا إلى أنّ المترتّب على الموضوع نفس المحمول لا استصحابه كما ستقف على شرح القول فيه.

٣١٦

وأمّا الثّاني : فلا يمكن الحكم بثبوت الحكم فيه في حال الشّك للقطع بانتفاء الموضوع فيه ؛ ضرورة ارتفاع العلم بالشّك حسب ما هو قضيّة التّضاد الثّابت بينهما.

وأمّا الثّالث : فلا إشكال في الحكم بثبوت الحكم فيه في صورة الشّك على سبيل القطع والجزم لوجود ما هو العلّة فيه والمناط له في صورة الشّك بالفرض ، كما في صورة القطع فلا شكّ في الحكم حتّى يجري الاستصحاب وبعبارة أخرى أوضح : إذا ترتّب الحكم على عنوان موجود في صورة القطع بشيء والشّك فيه لم يكن معنى لاستصحاب هذا الشّيء ؛ لأنّ إبقاء نفس الموضوع محال ، والمفروض أنّه لم يترتّب عليه أثر حتّى يريد باستصحابه الالتزام به وإبقاءه بدلالة الاقتضاء ، وإنّما الأثر لموضوع يقطع بتحقّقه ، فلا شكّ في الحكم أصلا.

مقتضى التحقيق عدم جريان استصحاب الإشتغال

إذا عرفت ما مهّدنا لك من المقدّمة فنقول :

من الواضحات الّتي حقّقت في محلّه : أنّ الحاكم في مسألة الاشتغال إنّما هو العقل ، وأمّا ما ورد فيها من الأخبار فإنّما هو من باب الإرشاد إلى حكم العقل والإراءة إليه. ومن المعلوم أنّ حكم العقل بوجوب تحصيل القطع بالبراءة في مورد ثبوت التّكليف ليس إلاّ من جهة احتمال الضّرر وهو العقاب المحتمل وهذا المناط موجود قطعا في صورة الشّكّ ، فلا شكّ في الحكم. وحكمه بوجوب الإتيان ليس في موضوع عدم الإتيان في الواقع بالمأمور به وبقاء التّكليف به في نفس الأمر حتّى يجري الاستصحاب ، بل العلّة في حكمه عدم العلم بالإتيان ، وهذه موجودة

٣١٧

في صورة الشّك على سبيل القطع فلا معنى لإجراء الاستصحاب.

ونظير استصحاب الاشتغال في الفساد استصحاب البراءة أيضا ؛ لأنّ حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان متفرّع على عدم الإعلام ووصول البيان إلى المكلّف ولو كان التّكليف موجودا في الواقع ، وهذا المناط موجود في صورة الشّك قطعا وليس منوطا بعدم التّكليف الواقعي والبراءة النّفس الأمريّة حتّى يجري الاستصحاب هذا.

مضافا إلى ما في استصحاب الشّغل والتّكليف في المقام من وجوه الفساد من جهات أخر ، مثل : أنّه استصحاب للحكم مع عدم إحراز موضوعه ؛ فإنّ الواجب على المكلّف صوم شهر رمضان لا صوم مطلق الشّهر ، وإلاّ لما شكّ فيه بانقضاء الرّمضان ، فالزّمان الخاصّ إذن موضوع للحكم ، ومع الشّك فيه كيف يمكن استصحابه؟ وإلاّ لزم إثبات حكم في غير موضوعه وهو محال ؛ وهذا بخلاف قاعدة الاشتغال ؛ فإنّها مبنيّة على مجرّد احتمال بقاء الشّهر ، وهذا الموضوع موجود في صورة الشّك قطعا.

ومثل : أنّ المقصود من استصحاب الاشتغال على تقدير جريانه ليس إلاّ الحكم بوجوب الإتيان في زمان الشّك ، ومن المعلوم أنّ هذا من الآثار العقليّة للمستصحب لا الشّرعيّة إلى غير ذلك فالأصل الحكمي في المقام : من حيث رجوع الشّك فيه إلى الشّك في التّكليف النّفسي المستقلّ من جهة كون الدّوران بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين هو البراءة ، لا الاشتغال ولا استصحابه على تقدير كون الصّوم في أوّل الشّوّال حراما تشريعيّا ، والتّخيير على تقدير القول بكونه حراما ذاتيّا.

٣١٨

ولا يتوهّم كون القول بكفاية النّية الواحدة لصيام الشّهر راجعا إلى القول بكون صيام الشّهر تكليفا واحدا فيرجع الشّك في يوم الشّك إلى الدّوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لقيام الإجماع ، بل الضّرورة الفقهيّة على تعدّد التّكليف بتعدّد اليوم ، فيمكن أن يكون هذا الكلام من الأستاذ العلاّمة مبنيّا على مذاق القوم ؛ حيث إنّ بناءهم على إجراء استصحاب الاشتغال في أمثال المقام. وعليه يمكن أن يقال : إنّ الاشتغال ممّا إذا وجد لا يرتفع إلاّ برافع ، فينطبق على الشّكّ في الرّافع فتأمّل (١).

هذا كلّه بالنّسبة إلى استصحاب الاشتغال ، وأمّا ما ذكره من الاستصحابات العدميّة كاستصحاب عدم انقضاء الشّهر ، واستصحاب عدم دخول الشّوال ، أو الرّمضان. فيتوجه عليه : أنّ استصحاب عدم الانقضاء عبارة أخرى عن استصحاب بقاء الشهر ، واستصحاب دخول الشوال أو الرمضان لا يثبت كون اليوم المشكوك من الرّمضان أو الشّعبان ، إلاّ على القول باعتبار الأصول المثبتة وهو بمعزل عن التّحقيق عند الأستاذ العلاّمة ، اللهمّ إلاّ أن يكون الواسطة في الفرض من الوسائط الخفيّة وهو محلّ تأمّل بل منع هذا ، وسيجيء بعض الكلام في ذلك هذا.

__________________

(١) وجه التأمّل : ما عرفت الإشارة اليه : من اختصاص جريان استصحاب الشغل ـ عند من قال به ـ بما كان المورد من موارد جريان قاعدة الإشتغال ولا شبهة في عدم جريانها في المقام على ما عرفت هذا. مضافا إلى أن التوجيه المذكور ـ لإبتنائه على زعم القوم ـ إنّما ينفع في مقام الزامهم لا في توجيه الرواية وتطبيق مدلولها على المدّعى في نفس الأمر كما هو ظاهر. ( منه دام ظلّه العالي ).

٣١٩

الإشكال على الإستدلال بالرواية بوجهين آخرين

وقد يستشكل في الاستدلال بالرّواية بوجهين آخرين :

أحدهما : عدم صلاحيّة الرّواية للتّمسك بها لضعفها سندا. ويدفعه : انجبار الضّعف بتمسّك الأصحاب واشتهار الرّواية بينهم.

ثانيهما : عدم تماميّتها دلالة بناء على أن يكون المراد من « اليقين » و « الشّك » : اليقين بالبراءة ؛ والشّك فيها ، ويكون ذكر قوله : ( صم للرّؤية ) من باب التّفريع عليه. وقد تقدّم الكلام فيه فيما سبق في الاستدلال بالرّواية ويتوجّه عليه ما عرفته هناك فراجع إليه ، هذا مجمل القول بالنّسبة إلى ما كان مشتملا على لفظ « الدّخول ».

وأمّا ما اشتمل على « نقض الشّك باليقين وعدم الاعتداد به في حال من الحالات » كما في صحيحة زرارة ، ففيه :

أوّلا : أنّ ذكر قوله عليه‌السلام : ( بل تنقض الشّك باليقين ) بعد قوله : ( ولا تنقض اليقين بالشّك ) إنّما هو من باب مجرّد الجناس والتّبعيّة فلا يمكن أن يجعل قرينة صارفة لقوله : ( ولا تنقض اليقين بالشّك ) هكذا ذكره الأستاذ العلاّمة.

وثانيا : أنّه لا يمكن أن يجعل قرينة لإرادة المعنى الثّالث ؛ إذ كما أنّ معنى النّقض فيه لا يناسب المعنى الثّاني ، كذلك لا يناسب المعنى الثّالث أيضا ؛ حيث إنّ المعنى الثّالث كان عبارة عن عدم الالتزام بما كان الشّخص ملتزما به سابقا سواء

٣٢٠