بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

وهذا معنى ما ذكره الأستاذ العلاّمة بقوله : ( ولو كان « اللاّم » للاستغراق ... إلى آخره ) (١) والمقصود من قوله : ( بقرينة المقام ) (٢) هو ما ذكرناه في الجواب الثّالث :من كون المقام مقام التّفهيم والاحتياج ، وسلب العموم لا يناسبه هذا.

ويمكن الإيراد على هذا الوجه : بأنّ التّعليل لا يقتضي إلاّ العموم في أفراد يقين الوضوء ، وليجعل هذا قرينة على أنّ المراد من هذه الجزئية خصوص يقين الوضوء فتأمل.

وأمّا لفظ « التّأبيد » فهو وإن كان من ألفاظ العموم ، إلاّ أنّ من المعلوم أنّ عمومه إنّما هو بالنّسبة إلى الزّمان ، فلا ينافي أن يكون المراد عدم نقض بعض أنواع اليقين بالشّك ؛ لأنّ الدّوام إنّما يلاحظ بالنّسبة إلى ما علّق الحكم عليه.

فإن كان المراد مطلق اليقين دلّ على عدم جواز نقضه بقول مطلق بالشّك في جميع الأزمان. وإن كان خصوص يقين الوضوء دلّ على تأبيد الحكم بالنّسبة إليه ، فهو لا يصلح لأن يجعل قرينة لأحدهما ، فليجعل المراد من الجزئية بقرينة الاحتياج والسّبق : خصوص يقين الوضوء ويلاحظ التّأبيد بالنّسبة إليه.

ومن هنا يظهر : ضعف التّمسّك بقوله : « أبدا » لكون « اللاّم » للجنس لا للعهد ، كما صدر عن بعض مشايخنا هذا.

وذكر الأستاذ العلاّمة للتفصّي عمّا ذكرنا أخيرا : أنّ لفظ « التّأبيد » وإن كان صالحا للأمرين في نفسه ؛ من حيث كونه للعموم الزّماني لا الأفرادي ، إلاّ أنّه كثيرا ما يستعمل في المحاورات في العموم الأفرادي باعتبار وجودها في أجزاء

__________________

(١ و ٢) نفس المصدر بالذات.

(١ و ٢) نفس المصدر بالذات.

٢٠١

الزّمان ، أو في تأكيد العموم الأفرادي.

مع أنّ قوله : « أبدا » من حيث ظهوره في الاهتمام بشأن المطلب ظاهر في إرادة تأكيد الكلّيّة ، وأنّ تقابل نفس اليقين مع الشّك من غير مدخليّة لخصوص المورد يقتضي عدم جعل الثّاني ناقضا للأوّل فتدبّر.

ثمّ إنّ بعض أفاضل المتأخّرين ذكر : أنّ جعل « اللاّم » للجنس إنّما يتمّ لو كان قوله : « ولا ينقض ... إلى آخره » مبنيّا للمفعول ، وأمّا لو كان مبنيّا للفاعل ليكون فاعله الضّمير الرّاجع إلى المتيقّن بالوضوء ، أو كان مردّدا بين الأمرين لم يكن معنى للقول بظهورها في الجنس كما لا يخفى.

وأنت خبير بأنّ جعل قوله : ( لا ينقض ) مبنيّا للفاعل وإن أوهن ظهور « اللاّم » في الجنس في الجملة ، إلاّ أنّه ليس بمثابته (١) يجعله مجملا ، وكيف بأن يجعله ظاهرا في العهد؟ هذا.

وقد أفرط بعض السّادة حيث ذكر : « أنّ الاستدلال بالرّواية على اعتبار الاستصحاب مطلقا لا يتوقّف على كون « اللاّم » للجنس حتّى يصير قوله : « ولا ينقض » بمنزلة الكبرى الكلّية ، بل يتمّ على تقدير كونها للعهد أيضا ؛ فإنّ مقتضى التّعليل التّعدي عن مورد الحكم بمقتضى التّنصيص بالعلّة ، كما في قوله : « لا تأكل الرّمان فإنّه حامض ».

فإنّه لا إشكال في أنّ المستفاد من هذا الكلام عرفا : مطلوبيّة عدم أكل جميع الحموضات للمتكلّم ، فمقتضى قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » التّعدي إلى غير

__________________

(١) كذا والصحيح : ليس بمثابة.

٢٠٢

اليقين بالوضوء ؛ فإنّ العلّة نفس اليقين السّابق لا بوصف تعلّقها بالوضوء ، وإلاّ لجرى هذا الاحتمال في جميع ما نصّ فيه بالعلّة ، فيسدّ باب الاستدلال بالمنصوص العلّة كما ذهب إليه سيّدنا المرتضى ، أو يقال : إنّه ثبت اعتبار الاستصحاب في مورد الرّواية بها ، وفي غيره بالإجماع المركّب ، وعدم القول بالفصل » هذا ملخّص ما ذكره.

وأنت خبير بما فيه ، للفرق الواضح بين التّعليل في المقام وما تنظّر به ؛ فإنّ المستفاد من قوله : ( فإنّه على يقين من وضوئه ) : كون العلّة المقيّد لا المطلق ، بخلاف قوله : ( لا تأكل الرّمان فإنّه حامض ) ، وجعل العلّة نفس اليقين يحتاج إلى تنقيح المناط ، وإلاّ فاللّفظ لا يدلّ عليه قطعا كما لا يخفى.

وأمّا التّمسّك بعدم القول بالفصل.

ففيه ما لا يخفى ؛ لأنّ اعتبار الاستصحاب في مورد الرّواية ممّا أجمعوا عليه بخلاف غيره كما اعترف به ، فلا معنى لدعوى عدم القول بالفصل.

٢٠٣

(٤٣) قوله : ( وقد أورد على الاستدلال بالصّحيحة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٥٨ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« قد أنهاها صاحب الضوابط إلى ثمانية وغيره إلى أزيد من ذلك على ما حكي ، اغلبها سخيفة لا تليق أن تذكر.

نعم ، قد يورد على الإستدلال بما يصعب الجواب عنه وهو أن يقال : انه يشترط في مجرى الاستصحاب أن يكون متعلّق اليقين والشك متحدا بمعنى كون المشكوك نفس ما هو المتيقّن في السابق ، ومعنى الإستصحاب الغاء الشك في الشيء وأخذ حكم اليقين في ذلك الشيء ، ولا يدلّ قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » في هذه الرواية على هذا المعنى ، بل ينطبق مدلولها على قاعدة الإقتضاء ؛ لأن متعلّق اليقين والشك فيها مختلف ؛ لأنّ موردها السؤال عن اليقين بالوضوء والشك في النوم من قبل الخفقة أو عدم شعوره بتحريك ما إجنبه ، فأجاب عليه‌السلام : بأن الناقض اليقين بالنوم لا الشك فيه ، فيكون قوله : « ولا تنقض اليقين بالشك » الذي هو بمنزلة الكبرى لمورد السؤال من هذا القبيل ومعناه : أن اليقين بشيء لا ينقض بالشك في وجود ما ينافيه ويمنعه من موانع الحدوث أو موانع البقاء بعد إحراز المقتضي فيشمل ما إذا كان الشخص شاكّا حال الوضوء في وجود مانع عن حصول الطهارة ، فيقال : إن اليقين بعلّة الطهارة لا ينقض بسبب الشك في المانع ، أي ، لا يعتنى بالشك في المانع ويترتّب أثر المقتضي.

وهذا المعنى وإن كان يفيد فائدة الإستصحاب ، إلاّ انه منطبق على قاعدة الإقتضاء اللهمّ إلاّ أن يقال : إن المورد قرينة على إرادة الإستصحاب ، وأن العموم المستفاد من كلّيّة الكبرى قضيّة عموم الإستصحاب ويؤيّده مفاد الأخبار الأخر المتقاربة بحسب اللفظ مع هذه الصحيحة.

وممّا أورد على الإستدلال بهذه الصحيحة : أنّ مفادها أخصّ من المدّعي للشك في شمولها للشبهة الحكميّة ، بيان ذلك :

٢٠٤

أقول : قد أورد على الاستدلال بالصّحيحة بإيرادات واهيّة واضحة الدّفع ، ككونها خبرا واحدا في المسألة الأصوليّة ، وأنّها لو دلّت على اعتبار الاستصحاب لمنعت من اعتبار نفسها ؛ لأنّ صدورها مشكوك عن المعصوم عليه‌السلام ، ومقتضى الاستصحاب عدم الصّدور ، وما يستلزم من وجوده عدمه فهو محال ، وأنّ اليقين والشّك لا يجتمعان حتّى ينقض أحدهما بالآخر ، إلى غير ذلك من الإيرادات الواهية (١).

__________________

ان الإجماع واقع على عدم جواز العمل بالأصل قبل الفحص في الشبهات الحكميّة ، فيدور الأمر بين أحد التخصيصين ، إمّا إخراج الشبهات الحكميّة وتخصيص عموم الخبر بالشبهات الموضوعيّة ، وإمّا إخراج ما قبل الفحص منها بالنسبة إلى الشبهات الحكميّة ، وأحدهما ليس بأولى من الآخر فيكون مجملا ويسقط الإستدلال بها في الشبهات الحكميّة.

وفيه : أن المورد من قبيل دوران الأمر بين التقييد والتخصيص ؛ فإن اختصاص إجراء الإستصحاب بما بعد الفحص إنّما يستلزم تقييد إطلاق الشك به والتقييد أولى.

ولو سلّم دوران الأمر بين التخصيصين فلا ريب أن الثاني منهما أعني : إخراج موارد ما قبل الفحص في الشبهة الحكميّة أولى ؛ لأنه أقلّ أفرادا من التخصيص الأوّل.

ثم لا يخفى انه لو بني على إخراج الشبهات الحكميّة عن عموم الخبر بالنسبة إلى ما قبل الفحص لا يمكن أن يشملها العموم بالنسبة إلى ما بعد الفحص عند المصنّف على ما حقّقه في التنبيه العاشر من تنبيهات الإستصحاب وفي ذيل التكلّم في خيار الغبن من كتاب المتاجر ... » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٧٤ ـ ٧٦.

(١) لاحظ الإيرادات مع الإجوبة في خزائن الاصول للدربندى فن الإستصحاب الورقة ١١.

٢٠٥

(٤٤) قوله : ( والتّقريب : كما في الصّحيحة الأولى ، وإرادة الجنس (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٥٩ )

أقول : مورد الاستدلال بالرّواية فقرتان منها :

الأولى : قوله : ( لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي ... إلى آخره ).

الثّانية : قوله في ذيل الرّواية : ( فليس ينبغي لك ... إلى آخره ).

وتقريب الاستدلال بكلّ من الفقرتين : أن يجعل « اللاّم » في اليقين للجنس ليصير بمنزلة الكبرى الكليّة ، فيدلّ على اعتبار الاستصحاب في جميع ما توجد فيه هذا المعنى. ووجه الأظهريّة إرادة الجنس هنا حسب ما ذكره.

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : وجه أظهريّته صراحة القضيّة في كونها علّة في هذه الصحيحة دون سابقتها وقد عرفت ان احتمال إرادة الجنس في مقام التعليل أقوى من العهد فهو أظهر » إنتهى.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« لعلّ وجه الأظهريّة : ان الصحيحة الأولى قد احتمل فيها أن يكون قوله : « فانه على يقين من وضوءه » توطئة لجواب الشرط ولا يكون علّة ، وهذا الإحتمال منتف في هذه الصحيحة ؛ لعدم تضمّنها للشرط ، وحكي عن شارح الوافية : دعوى الأظهريّة في الصحيحة الأولى ولعلّه بملاحظة لفظ الفاء في قوله : « فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك » الظاهر في اختصاص الحكم بالمورد لكونه متفرعّا بالفاء على مورد السؤال ، والموجود في المتن وإن كان « وليس ينبغي ... إلى آخره » بالواو إلاّ انه في كتاب الوسائل بالفاء على النسخة التي عندنا وكذا في نسخة من التهذيب عليها آثار الصحّة » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الاصول :ج ٣ / ٧٨.

٢٠٦

أمّا بالنّسبة إلى الفقرة الأولى ؛ فلعدم تطرّق احتمال كون القضيّة جزاء فيها من حيث عدم ذكر شرط فيها حتّى يتطرّق فيها هذا الاحتمال.

وأمّا بالنّسبة إلى الفقرة الثّانية ؛ فلعدم ذكر لفظ « اليقين » قبلها حتّى يجعل « اللاّم » فيها إشارة إليه هذا.

ولكن سيجيء تضعيف الأستاذ العلاّمة لكون المراد من « اللاّم » في الفقرة الثّانية الجنس من حيث ابتنائها على التّفريع.

(٤٥) قوله : ( وأمّا فقه الحديث ، فبيانه : أنّ مورد الاستدلال ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٥٩ )

__________________

(١) قال المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لا يخفى عليك أن بيان مورد الصحيحة وكون الإعادة نقضا لأثر الطهارة اليقينيّة السابقة وعدمه لا دخل له في الإستدلال بها على اعتبار الإستصحاب ؛ لأن الإستدلال بها إنّما هو باعتبار عموم الكبرى المستفاد منها.

[ ثم ان ] في الاستدلال بالصحيحة إشكال :

وهو أن الإستدلال بها كما ستعرفه إنّما هو بفقرتين منها وعلى التقديرين فالاستدلال بهما إنّما هو باعتبار النّهي عن نقض اليقين بالشّكّ ولكن يوهنه التعبير بلا ينبغي لظهوره في الكراهة فلا تدلان على حرمة النقض ووجوب العمل بمقتضى الاستصحاب.

وربّما يجاب عنه :

تارة : بحمله على إرادة الحرمة منه بقرينة قوله : ( ولا تعيد الصّلاة ) لظهوره في حرمة الإعادة واستعمال هذه الكلمة في الحرمة شائع في الاخبار.

وفيه : أنّ لفظ ( لا ينبغي ) أظهر في الكراهة من ظهور لفظ لا تعيد في الحرمة فلا يصلح قرينة

٢٠٧

__________________

لصرفه عن ظاهره.

وأخرى : بالإجماع المركب إذ كلّ من قال بالجواز قال بالوجوب.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ المقصود من الاستدلال بالصّحيحة إثبات جواز العمل بالاستصحاب في مقابل من يدعي حرمة العمل به فإثبات الجواز كاف في المقام كيف لا! وسائر الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك غير ناهض لإثبات الحرمة أيضا لوروده في مقام توهّم الحظر لكون حرمة العمل بغير العلم إمّا لأجل التشريع أو مخالفة الأصول الّتي اعتبرها الشّارع مركوزة في الأذهان فهذه الأخبار أيضا لا تفيد سوى جواز العمل بمؤدّاها لا وجوبه ، مضافا إلى قوّة احتمال ورودها في مقام الإرشاد إلى ما تقرّر عند العقلاء من البناء على الحالة السّابقة عند الشّك في ارتفاعها فلا تفيد حينئذ سوى إمضاء طريقتهم. وبالجملة :إنّه لا وجه لدعوى وجوب العمل بمقتضى الاستصحاب في كلّ مقام ولذا يجوز تجديد الوضوء للصّلاة عند الشكّ في انتقاضه أو نقضه إجماعا.

والحاصل : أنّه لا إشكال في جواز الاحتياط في مورد الاستصحاب المخالف له نظير سائر الأمارات الشّرعيّة من خبر الواحد وغيره.

والوجه فيه : واضح لأنّها ليست مجعولة في عرض الواقع ليجب الأخذ بها مطلقا بل المقصود منها كونها طرقا موصلة إلى الواقع ولو على سبيل الاحتمال كما في موارد الأصول على ما قرّرناه في محلّه فإذا توصل المكلّف إلى الواقع بالاحتياط سقط مناط وجوب العمل بها.

ثمّ إنّ مورد الاستدلال بالصّحيحة فقرتان : إحداهما : قوله عليه‌السلام : ( فإن ظننت أنّه أصابه ... إلى قوله : وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ) والأخرى : قوله عليه‌السلام : ( وإن لم تشك ثم رأيته ... إلى قوله : فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ ).

والوجه في تخصيص مورد الاستدلال بالأولى ـ مضافا إلى مخالفة الثانية بظاهرها للإجماع ـ هو إباء التفريع عن حمل اللاّم على الجنس كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه.

٢٠٨

في بيان فقه الحديث وكيفيّة الإستدلال به

أقول : ذكر الأستاذ العلاّمة : أنّ التكلّم في فقه الرّواية وأنّها وردت لبيان أيّ مسألة ، لا دخل له بدلالتها على اعتبار الاستصحاب ؛ فإنّه إنّما استفيد من كلّيّة الكبرى المسوق لبيانها قوله : ( وليس ... إلى آخره ) سواء حكم بأنّ المقصود ببيانه في المورد جواز الدّخول ، أو عدم الإعادة.

ومن هنا يظهر : أنّ ما ذكره الأستاذ العلاّمة بقوله : ( لكن عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشّك ... إلى آخره ) (١) ، ليس المقصود منه القدح في دلالة الرّواية على اعتبار الاستصحاب.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ فقه الرّواية حسب ما ذكره الأستاذ العلاّمة يحتمل وجهين ؛ فإن كان هناك معيّن لأحدهما فيحمل عليه ، وإلاّ فيحمل عليهما إن أمكن الجمع بينهما من جهة ترك التّفصيل في الجواب ، أو على الإجمال فلا يحمل على شيء منهما على ما تقرّر في محلّه : من أنّه إذا كان السّؤال مجملا مردّدا بين معنيين

__________________

ويظهر من المحقّق القمّي ; كون موضع الدّلالة منها فقرات ، قال : ( فيها مواضع من الدّلالة ) ولعلّه أراد بالفقرة الثالثة العلّة المنصوصة فيها وقد تقدّم الكلام فيها تصحيحا وتزييفا في الصّحيحة الأولى ، وكيف كان فالفقرة الأولى كما أوضحه المصنف ; محتملة لوجهين والثانية لوجه واحد وقد أشرنا إلى عدم مدخليّة ذلك في الإستدلال » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٤٥٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٦٠.

٢٠٩

وكان الجواب مطلقا لا تعرّض فيه للتّفصيل ، فهل هو كما إذا كان السّؤال مطلقا وترك التّفصيل في الجواب في الحكم بإرادة العموم أو لا؟ وجهان ، بل قولان.

لا يبعد أن يكون الأوّل أقرب ، وتفصيل القول فيه يطلب من محلّه ، فلنصرف العنان إلى بيان ما يعيّن إرادة أحد الاحتمالين.

فنقول : الظّاهر أن لا يكون المقصود الوجه الأوّل ، وهو : أن يرى بعد الصّلاة نجاسة يعلم أنّها هي الّتي خفيت عليه قبل الصّلاة ، لا لمجرّد أنّه على هذا التّقدير لا بدّ من أن تحمل الرّواية حينئذ على كون المقصود منها : بيان حكم الصّلاة الّتي صلاّها ، وأنّه كان الدّخول فيها جائز ـ لأنّ نقض اليقين بالشّك إنّما يتصوّر بالنّسبة إلى قبل الدّخول ، وهذا المعنى لا يمكن أن يكون مرادا ؛ من حيث إنّ المفروض دخوله في الصّلاة باعتقاد الصّحة والمشروعيّة ، وإلاّ تعيّن الحكم بفساد صلاته وإن كان حكمه الظّاهري في الواقع جواز الدّخول على تقدير الالتفات من حيث عدم تمكنّه حينئذ عن قصد القربة المعتبرة في العبادة اتّفاقا ، فلا بدّ من أن يحمل على الوجه الثّاني ؛ حتّى يقال في دفعه (١) : إنّ المقصود من الرّواية بيان حكم جواز الدّخول في الصّلاة عموما سواء كانت بالنّسبة إلى ما صلاّها أو غيرها من الصّلاة المستقبلة حيثما كان الشّخص شاكّا في الطّهارة مع القطع بها سابقا ، وإن كانت فائدته منحصرة بالنّسبة إلى الصّلاة الآتية وسائر الأعمال المشروطة بالطّهارة ، مع أنّ ما ذكر في الجواب ممّا لا معنى له عند التّأمّل على التّقدير المذكور ، ـ بل من

__________________

(١) القائل هو السيّد ابراهيم القزويني في الضوابط.

٢١٠

جهة أنّ الظّاهر من الرّواية كون المعلول لقوله : ( لأنّك كنت ... إلى آخره ) (١) هو عدم الإعادة لا جواز الدّخول ؛ حيث إنّ الظّاهر ـ كما لا يخفى ـ من قوله : ( لم ذلك؟ ) (٢) ليس السّؤال من وجه جواز الدّخول مطلقا ، بل من وجه عدم الإعادة ، فالعلّة علّة لعدم الإعادة لا لجواز الدّخول.

والحاصل : أنّ كلّ من تأمّل في الرّواية هنيئة يقطع بأنّ المقصود : بيان حكم الفعل الّذي لو فعله الفاعل فعلا لكان نقضا ، وهو ليس في الرّواية إلاّ الإعادة ، فلا بدّ من أن يجعل العلّة علّة له فيها. ومن المعلوم أنّ الإعادة ليست نقضا لليقين بالشّكّ ، بل هو نقض باليقين ببقاء الأمر المقتضي للإتيان بالمأمور به فلا معنى لحمل الرّواية على الوجه الأوّل ، بل لا بدّ أن يكون المقصود منها : الوجه الثّاني السّالم عمّا ذكرنا كما ستعرف الكلام فيه إن شاء الله.

فإن قلت : ما المانع من أن يجعل العلّة علّة لعدم الإعادة مع كون المقصود من الرّواية الوجه الأوّل؟ ويكون السّؤال عن حكم الصّلاة الّتي علم المصلّي بعدها بوقوعها في النّجاسة بأن يقال : إنّ الأمر الظّاهري الناشئ من عدم جواز نقض اليقين بالشّك بالدّخول لما كان مقتضيا لإجزاء العمل الواقع على طبقه وإن كان في الواقع ونفس الأمر مخالفا للواقع ومسقطا للأمر الواقعي وإن لم يمتثله المكلّف فيصير عدم الإعادة من مقتضياته ومعلولاته ، فالإعادة بعد الإتيان بمقتضاه

__________________

(١) التهذيب : ١ / ٤٢١ ـ الباب ٢٢ الحديث ١٣٣٥ عنه الوسائل في عدّة مواضع منها : ج ٣ / ٤٦٦ ـ الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

(٢) نفس المصدر.

٢١١

نقض له حقيقة.

لأنّ نقض المعلول نقض لعلّته ونقض اللاّزم نقض لملزومه وعدم الالتزام باللاّزم عين عدم الالتزام بملزومه ، فلمّا كان الأمر الظّاهري في المقام معلولا لعدم جواز نقض اليقين بالشّك وحاصلا منه ، فنقضه الحاصل بالإعادة بالواسطة بالبيان الّذي عرفته نقض لليقين بالشّك ، فعدم الإعادة وإن لم يكن قابلا لأن يصير معلولا لعدم جواز نقض اليقين بالشّك من دون توسّط شيء ، إلاّ أنّه قابل لأن يصير معلولا له بالواسطة.

واقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء وإن لم يكن مفروغا عنه ؛ لوضوح الخلاف فيه من جماعة من الأصحاب منهم : العلاّمة في جملة من كتبه ، إلاّ أنّ حكم الإمام عليه‌السلام بعدم الإعادة معلّلا بكونها نقضا لليقين بالشّك ـ مع أنّها مع قطع النّظر عن قاعدة الإجزاء ليست نقضا لليقين بالشّك ـ كاشف عن صحّة القاعدة ، فالرّواية تصحيحا للكلام دليل على القول باقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء.

قلت : ما ذكر تخيّل تخيّله بعض مشايخ (١) شيخنا الأستاذ العلاّمة وتبعه جملة من تلامذته وهو كما ترى.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظّاهر من الرّواية كون الإعادة بنفسها نقضا من دون أن يلاحظ توسّط شيء آخر ، ومعلوم أنّ الإعادة مع قطع النّظر عن أن يقال : إنّ المكلّف لمّا لم ينقض اليقين بالشّك قبل الصّلاة فدخل فيها بمقتضى الأمر الظّاهري

__________________

(١) هو المولى شريف العلماء ( أستاذ المصنّف ) ، أنظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول : ٣٥٤.

٢١٢

فلو أعاد العمل بعد امتثال الأمر الظّاهري فكأنّه نقض اليقين السّابق الموجب للأمر الظّاهري قبل القطع بالخلاف المستلزم لعدم الإعادة بقاعدة الإجزاء ليست نقضا ؛ إذ من المعلوم لكلّ من له أدنى ذوق بالخطابات : أنّ ما ذكر في غاية الرّكاكة ، فلا معنى لحمل الرّواية عليه.

وأمّا ثانيا : فبأنّ مجرّد احتمال الرّواية لما ذكر ـ مع ابتنائه على اقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء المخالف للقاعدة حسب ما تقرّر في محلّه بل وإن كان موافقا للقاعدة أيضا ـ لا يوجب حمل الرّواية عليه ؛ لأنّ هناك معنى آخر ، إرادته من الكلام في غاية الاستقامة.

ومنه يظهر : أنّه لو كان موافقا للقاعدة أيضا لا يتعيّن الحمل عليه ، فما ذكره أخيرا : من كشف الرّواية عن اقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء ممّا لا معنى له ؛ لأنّ تصحيح الكلام إن كان وجهه منحصرا في التّمحّل الّذي ذكره تعيّن حمل الكلام عليه سواء كان الاقتضاء للإجزاء مخالفا للقاعدة أو موافقا لها ، فيقال حينئذ : إنّ المراد من النّقض هو النّقض مع الواسطة وإن لم يكن منحصرا فيه ، بل هناك أيضا معنى آخر أحسن وأظهر ممّا ذكره ، فلا معنى لحمل الكلام عليه.

وأمّا ثالثا : فبأنّه بعد جعل العلّة لعدم الإعادة ليس هناك أمر ظاهريّ يجعل عدم الإعادة معلولا له ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس هنا ما يستفاد الأمر الظّاهري منه ، إلاّ العلّة المذكورة. فإن قيل بكونها مسوقة لبيان الأمر الظّاهري فكيف يمكن تعليل عدم الإعادة به؟ وإن قيل بكونها مسوقة لبيان عدم الإعادة فليس هناك أمر ظاهريّ يجعل عدم الإعادة معلولا لها حتّى يكون الالتزام بالإعادة نقضا له فتأمّل.

٢١٣

فإن قلت : لنا أن نجعل العلّة علّة لعدم الإعادة مع قطع النّظر عن البيان المذكور ، بل مع فرض فساده ، بأن نقول : إنّه لا شكّ ولا ريب أنّ الصّلاة مع الطّهارة الواقعيّة أو اليقينيّة بمعنى كون اليقين طريقا لا موضوعا حتّى يتوهّم : أنّ أحكام وصف اليقين دائرة مدار وجوده ، وبعد ارتفاعه بالشّك لا معنى لترتّب أحكامه يقتضي سقوطها عن المكلّف وعدم إيجاب الإعادة عليه ، فكذلك الصّلاة مع الطّهارة المشكوكة بعد القطع بوجودها في السّابق يقتضي سقوطها عن المكلّف بمقتضى حرمة نقض اليقين بالشّكّ ووجوب ترتّب الآثار الثّابتة باليقين في صورة الشّك.

وبعبارة أخرى أوضح : لا ريب أنّ من أحكام الطّهارة اليقينيّة سقوط المشروط بها عن ذمّة المكلّف على تقدير الإتيان به معها ، وبمقتضى أخبار الاستصحاب يجب الالتزام بهذا الحكم باستصحاب الطّهارة ، فالصّلاة الواقعة مع الطّهارة المستصحبة كالصّلاة الواقعة مع الطّهارة اليقينيّة في كونها مسقطة للإعادة والإتيان بالفعل ثانيا سواء كان في الوقت أو في خارجه حسب ما هو المعنى اللّغوي للإعادة ، وهذا لا دخل له بالبيان الأوّل ؛ لأنّه كان مبنيّا على جعل الإجزاء وعدم الإعادة من أحكام الأمر الظّاهري الثّابت بأخبار الاستصحاب ، وهذا البيان مبنيّ على كون الإجزاء وعدم الإعادة من أحكام نفس المستصحب وهو الطّهارة ، فلا دخل له باقتضاء الأمر الظّاهري ولا بمسألة الواسطة حتّى يقال : إنّ إرادة النّقض بالواسطة خلاف للظّاهر وركيك في الغاية.

قلت : ما ذكر دعوى فاسدة ادّعاها بعض الأجلّة في طيّ بعض كلمات له

٢١٤

وأشار إليها الأستاذ العلاّمة « دام ظلّه العالي » في « الرّسالة » وأجاب عنها (١).

وجه الفساد : أنّه لا يخلو : إمّا أن يجعل النّجاسة من الموانع العلميّة كما هو مذهب جماعة ، أو الواقعيّة.

فإن جعلت من الأولى ، فلا إشكال في الحكم بصحّة الصّلاة وعدم وجوب الإعادة حينئذ ، بل وحرمتها من غير أن يكون للاستصحاب مدخل فيه أصلا كما لا يخفى ، بل لم يعقل جريانه حينئذ للحكم بصحّة الصّلاة للقطع بصحّتها في صورة الشّك لاجتماعها لجميع الشّرائط المعتبرة فيها وعدم الموانع المانعة عنها ، فهذا الفرض لا بدّ من أن يكون خارجا عن محلّ كلام من يريد التمسّك بالاستصحاب كما لا يخفى.

وإن جعلت من الثّانية ويريد باستصحاب الطّهارة قبل العلم بها : كون وجودها الواقعي غير مؤثّر في الفساد ؛ من حيث إنّ مقتضى اعتبار الاستصحاب ترتيب جميع أحكام الطّهارة الواقعيّة على الطّهارة المشكوكة حسب ما هو لا بدّ أن يكون مراد المتمسّك بالاستصحاب في المقام.

ففيه : أوّلا : أنّ الحكم بترتيب جميع أحكام المتيقّن في حال الشّك بمقتضى الاستصحاب إنّما هو في موضوع الشّك ، والمفروض أنّ المصلّي بعد الصّلاة قاطع بوقوع صلاته في حال النّجاسة وأنّ لباسه كان نجسا في حال الصّلاة ، فليس هناك شكّ في بقاء الطّهارة حتّى يستصحب فيحكم بترتيب أحكامها ، فإعادة الصّلاة بعد العلم بوقوعها في حال النّجاسة ليست نقضا لليقين بالشّكّ وإن فرض كون الإجزاء

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٦١.

٢١٥

وعدم الإعادة من أحكام الطهارة الواقعية ، بل هي نقض لليقين باليقين. فجعل الإجزاء وعدم الإعادة من أحكام نفس الطّهارة الواقعيّة لا المعلول للأمر الظّاهري لا ينفع بعد العلم بالنّجاسة ؛ لعدم إمكان إجراء الاستصحاب حينئذ حتّى يترتّب أحكام المتيقّن.

فإن قلت : لم نرد باستصحاب الطّهارة استصحابها بعد الصّلاة والقطع بوقوعها في النّجاسة حتّى يتوجّه عليه ما ذكر ، بل المقصود منه : هو استصحابها قبل تماميّة الصّلاة والعلم بوقوعها في النّجاسة ، فإذا حكمنا بمقتضى كون السّقوط من أحكام نفس المستصحب كون الصّلاة في حال الشّك كالصّلاة في حال العلم فلا معنى للحكم بوجوب الإعادة بعد الصّلاة.

قلت : زمان الحكم بالإعادة وعدمها إنّما هو بعد الفراغ عن الصّلاة ؛ لأنّ السّقوط وعدم الإعادة لا يتصوّر ، إلاّ بعد وجود العمل في الخارج. وإن فرض هناك استصحاب للطّهارة ليحكم بمقتضاه كون العمل مسقطا فلا بدّ من أن يكون تعليقيّا بمعنى : أنّه لو لم يحصل العلم بالخلاف بعد العمل فلا بدّ من الحكم بكونه مسقطا ، والمفروض أنّه بعد العمل قاطع بخلاف الحالة السّابقة.

فإن قلت : إنّا نفرض الكلام فيما إذا كان المكلّف شاكّا في النّجاسة بعد مضيّ زمان معتدّ به من زمان فراغ العمل ثمّ حصل العلم له بوقوع صلاته مع النّجاسة ، فإن قلت : إنّ استصحاب الطّهارة قبل العلم والحكم بوقوع الصّلاة في الطّهارة الواقعيّة لا يقتضي الحكم بالإجزاء وعدم الإعادة أصلا ، فقد تكلّمت على خلاف الفرض فإنّ المفروض كون الإجزاء وعدم الإعادة من أحكام نفس الطّهارة. وإن قلت : إنّ استصحاب الطّهارة يقتضي الحكم بالإجزاء وعدم الإعادة

٢١٦

لكن معلّقا على عدم حصول العلم للمكلّف بوقوع الصّلاة في النّجاسة فبعد انكشاف الخلاف لا بدّ من إعادة العمل ، فهذا ليس من أحكام الطّهارة الواقعيّة ؛ ضرورة عدم اقتضائها الإجزاء التّعليقي.

وإن قلت : إنّ استصحاب الطّهارة في الفرض المزبور يقتضي الإجزاء النّفس الأمري التّنجيزي ؛ حيث إنّه من أحكام المستصحب فبعد الالتزام به لا يعقل الحكم بالإعادة بعد العلم ؛ لأنّ الشّيء لا يتغيّر عمّا هو عليه في الواقع على ما تقرّر في محلّه.

قلت : فرضك المكلّف شاكّا في النّجاسة بعد مضي زمان من العمل لا ينفعك في الحكم بكون الإعادة في زمان العلم نقضا لليقين بالشّك كما هو صريح الرّواية ، بل هو عمل بمقتضى اليقين باجتماع الصّلاة الواقعي مع المانع الواقعي فتأمّل.

وثانيا : أنّ الإجزاء والسّقوط ليس من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الصّلاة مع الطّهارة اليقينيّة حتّى يريد باستصحاب الطّهارة الالتزام به في صورة الشّك ، بل هو من الأحكام العقليّة المترتّبة عليه. وسيأتي : أنّ الاستصحاب بناء على القول به من باب الأخبار لا يثبت إلاّ الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب ، لا غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة ولا ما يترتّب عليهما من الآثار الشّرعيّة.

أمّا كون الإجزاء من الآثار العقليّة للصّلاة مع الطّهارة اليقينيّة لا الشّرعيّة فلما حقّقناه في محلّه وفاقا للمحقّقين : من أنّ اقتضاء امتثال كلّ أمر على وجهه سقوطه عن المكلّف ـ الّذي يعبّر عنه بالإجزاء ـ عقليّ ؛ من حيث ارتفاع متعلّقه بالفرض ، فلا يعقل بقاؤه مع ارتفاعه سواء كان ظاهريّا أو واقعيّا كما أنّ عدم

٢١٧

الإجزاء وبقاء الأمر في عهدة المكلّف في صورة عدم الإتيان بالمأمور به أيضا عقليّ.

نعم ، ذكرنا في محلّه : أنّه لو كان هناك أمر ظاهريّ شرعيّ امتثله المكلّف مع عدم امتثاله للأمر الواقعي يمكن الحكم بالإجزاء فيه من الشّارع بمعنى إسقاط امتثال الأمر الظّاهري للأمر الواقعي بشرط أن يكون فيه مصلحة جابرة لما يفوت عن المكلّف من مصلحة الواقع ، إلاّ أنّ مقتضى القاعدة عدم الحكم بالإجزاء فيؤخذ بها ما لم يقم الدّليل على الخروج عنها.

بخلاف ما لو لم يكن هناك أمر أصلا ، بل إنّما اعتقد المكلّف ثبوت الأمر مع عدم وجوده في الواقع كما في الجاهل المركّب ؛ فإنّه لا معنى للحكم بالإجزاء فيه ، وإن اختاره بعض من حيث امتثاله للأمر ، وإن أمكن الحكم بكون عمله مع عدم تعلّق أمر به أصلا مسقطا عن الواقع من حيث اشتماله على المصلحة كما عرفت بعض الكلام فيه فيما قدّمنا لك في الجزء الثّاني من التّعليقة.

كما أنّا فصّلنا القول فيه فيما عملناه في « مسألة الإجزاء » فإذا تحقّق أنّ الإجزاء من الأحكام العقليّة للمستصحب فلا معنى لإثباته بالاستصحاب.

فإن قلت : نجعل المستصحب نفس الإجزاء فيترتّب عليه جميع أحكامه لا الطّهارة ، فيحكم من جهة استصحابها بالإجزاء وعدم الإعادة حتّى يقال : بأنّه من الآثار العقليّة. وهذا التّقرير سالم عمّا يرد على الأوّل ؛ لأنّ الأمر الغير الشّرعي لا يمكن إثباته بإجراء الاستصحاب في أمر غير شرعيّ آخر.

وأمّا جعله موردا للاستصحاب والتّنزيل الشّرعي حتّى يترتّب عليه أحكامه الشّرعيّة فلا مانع عنه أصلا ، وإلاّ لاختلّ أمر الاستصحاب في غير الأحكام

٢١٨

الشّرعيّة ، مع أنّه ذهب جماعة إلى اختصاصه به فضلا عن كونه مشمولا للأخبار.

ولا يرد عليه أيضا : الإيراد المذكور أوّلا : من كون الإعادة نقضا لليقين باليقين لا بالشّك وإن جعل عدمها من الآثار الشّرعيّة للمستصحب ؛ لأنّه إنّما يرد لو بني على استصحاب الطّهارة بعد القطع بالنّجاسة حيث إنّها معلومة الارتفاع فلا يمكن استصحابها.

وأمّا لو كان المقصود استصحاب نفس الإجزاء الثّابت للصّلاة مع الطّهارة الواقعيّة فلا ؛ لأنّه لم يكن قاطعا بفساد الصّلاة وبعدم إجزائها وإلاّ لم يسأل عن الإمام فعدم الحكم بالإجزاء نقض لليقين بالشّك لا باليقين كما لا يخفى.

قلت : هذا التّقرير أفسد من سابقه.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقصود في المقام إثبات نفس الإجزاء الواقعي لا أحكامه ، ومن المعلوم أنّ استصحابه لا يكون قابلا لإثبات نفسه وإن لم يكن مانع من الحكم به باستصحاب الطّهارة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإجزاء كما هو المفروض من أحكام الصّلاة مع الطّهارة اليقينيّة.

فإن أريد باستصحاب الإجزاء إجزاء الصّلاة مع الطّهارة اليقينيّة فهو ليس محلاّ للشّك وخارج عن محلّ الكلام.

وإن أريد إجزاؤها مع الطّهارة المشكوكة فهو أوّل الكلام وعين المتنازع فيه.

وإن أريد الإجزاء التّقديري بمعنى : أنّ الصّلاة الواقعة في حال الشّك إن

٢١٩

كانت واقعة في حال القطع بالطّهارة لكانت مجزية قطعا فتكون مجزية في حال الشّك في الطّهارة أيضا فهذا غير معقول إلاّ بملاحظة استصحاب الطّهارة وإلاّ فلا ملازمة.

وبالجملة : استصحاب حكم الشّيء مع القطع بعدمه ممّا لا يعقل ، بل سيمرّ بك إن شاء الله : أن الاستصحاب الحكمي مع الشّك في الموضوع ممّا لا يتصوّر له معنى أصلا.

نعم ، هنا شيء يمكن أن يقال بملاحظته بإمكان إثبات الإجزاء باستصحاب الطّهارة بناء على القول بكونه من الأحكام العقليّة.

وهو أن يقال : إنّ الطّهارة من الأحكام المجعولة الشّرعيّة حسب ما هو مذهب جماعة في مطلق الأحكام الوضعيّة ، فبعد استصحابها لا بدّ من أن يترتّب عليها جميع أحكامها من العقليّة والعاديّة والشّرعية بناء على ما سنحقّقه : من أنّ المستصحب إذا كان أمرا شرعيّا لا يفرّق في أحكامه بين الشّرعيّة وغيرها هذا.

ولكن القول بكون الطّهارة من الأحكام الوضعيّة المجعولة للشّارع في غاية الضّعف على ما سيأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله ، مع أنّه يمكن منع ذلك على القول المذكور أيضا ؛ حيث إنّ التّعميم في استصحاب الحكم الشّرعي بالنّسبة إلى لوازمه وآثاره العقليّة والشّرعيّة ليس معناه تعلّق الجعل الشّرعي باللاّزم العقلي ؛ ضرورة عدم إمكانه.

بل معناه : تعلّق الجعل بالملزوم الشّرعي في مرحلة الظّاهر ، فيترتّب عليه اللاّزم العقلي ويحكم به العقل قطعا فيما كان موضوعه أعمّ من الحكم الواقعي والظّاهري كوجوب إطاعة أمر الشارع في حكم العقل المحمول على الأمر

٢٢٠