بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

(٧١) قوله : ( ثمّ إنّه لا فرق في مفاد الرّواية ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٧٤ )

في دلالة الرواية على أصالة الطهارة

في الشبهتين ردّا على الفاضل القمّي

أقول : قد خالف في ذلك بعض المحقّقين من المتأخّرين (٢) فذهب إلى عدم تماميّة القاعدة بالنّسبة إلى الشّبهات الحكميّة والموضوعات الكليّة الّتي يشكّ في حكمها من حيث الطّهارة والنّجاسة ، وأنّه ليس لنا ما يدلّ على ذلك لا الرّواية ولا

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« توضيحه : أن الشك في الطهارة إمّا أن يتعلّق بالحكم الكلي أو موضوعه الخارجي وعلى التقديرين إمّا أن تتحقّق هنا حالة سابقة أو لا فهذه أقسام أربعة وفي اختصاص مورد الرّواية ببعضها أو عمومه لجميعها وجوه بل أقوال :

أحدها : أن يكون موردها أعمّ من الشّبهة الحكميّة والموضوعيّة مع عدم الحالة السّابقة وهذا محكي عن ظاهر الأكثر.

وثانيها : أن يكون مختصّا بالشّبهة الموضوعيّة مع عدم الحالة السابقة واختاره المحقق القمي رحمه‌الله.

وثالثها : أن يكون مختصّا بالشبهة الموضوعيّة مع تحقق الحالة السّابقة وهو محكي عن جماعة.

ورابعها : أن يكون أعمّ من الجميع واختاره المصنف رحمه‌الله.

وهنا وجوه أخر أيضا إلاّ أنّه لا يكاد يوجد قول بها والنّافع للمستدل أحد الوجهين الأخيرين » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٥٩.

(٢) وهو المحقق الجليل الشيخ محمّد باقر السبزواري في الذخيرة.

٢٨١

غيرها. والمحقّق القميّ وإن استشكل في دلالة الرّواية ، إلاّ أنه معتقد لثبوت أصل القاعدة في الشّبهات الحكميّة أيضا.

وكيف كان : لا إشكال عندنا في دلالة الرّواية على أصالة الطّهارة في الشّبهات الموضوعيّة وفي الشّبهات الحكميّة ؛ لأنّ المراد من الشّيء : هو الأعمّ من الكلّي والجزئي ؛ ضرورة صدقه عليهما بطريق الاشتراك المعنوي ؛ حيث إنّ الشيء موضوع لما هو الأعمّ من الكلّي والجزئي ، وليس ما يمنع من إرادة هذا المعنى العام في المقام أصلا ؛ لأنّه ليس إلاّ توهّم لزوم استعمال الغاية ، وهو قوله : ( حتّى تعلم أنّه قذر ) في أكثر من معنى واحد ، وهو العلم من الأدلّة الشّرعيّة بالنّسبة إلى الشّبهة الحكميّة ، ومن الأمارات الخارجيّة بالنّسبة إلى الشّبهة الموضوعيّة ، وهو كما ترى.

ضرورة عدم تعدّد العلم معنى بتعدّد الأسباب الموجبة له ، فالمقصود منه في المقام : هو معناه الحقيقي الوحداني بحيث لا يشوبه احتمال التعدّد أصلا ، ولزوم الفحص في الشّبهة الحكميّة مع إطلاق الرّواية ـ مع أنّه لا يقتضي إلاّ تقييدها بالنّسبة إليها خاصّة ونحو ذلك ـ ممّا يظهر دفعه بأدنى تأمّل.

ومن التّأمّل فيما ذكرنا كلّه تعرف : توجّه المناقشة إلى ما أفاده المحقّق القميّ قدس‌سره وجها للحكم بعدم إمكان الجمع بين الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة في الإرادة من الخبر ، فلا بدّ من الحكم باختصاصه بالشّبهات الموضوعيّة لظهوره فيه ؛ حيث قال ـ بعد جملة كلام له في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة الطّهارة في الشّبهات الحكميّة ، وقاعدة الطّهارة في الشّبهات الموضوعيّة ـ ما هذا لفظه :

« إذا عرفت هذا وظهر لك الفرق بين المعاني عرفت : أنّ المعاني متغايرة

٢٨٢

متباينة لا يجوز إرادتها جميعا في إطلاق واحد ـ كما حقّقنا في أوائل الكتاب ـ والقول : بأنّ كلّ شيء عامّ قابل لإرادة الكلّي والجزئي ويشمل العلم بالجزئي والكلّي ، فيصحّ إرادة معنى عام يندرج فيه الكلّ. فيه : أنّه لا يصحّ مع تفاوت إضافة الطّهارة والقذارة إلى الأشياء ، وكذلك سبب العلم ».

إلى أن قال :

« مع أنّ المعنى الثّالث يساوق أصل البراءة ، وقد عرفت : اشتراط العمل به بالفحص والبحث عن الدّليل ، بخلاف المعنيين الأوّليين. والرّواية ظاهرة في النّبأ على الطّهارة من دون الفحص ».

إلى أن قال ـ بعد جملة كلام له ـ :

« فالاستدلال به للمعنى الثّالث غير واضح سيّما مع ملاحظة أنّ المتبادر من العلم هو اليقين الواقعي ، والغالب : أنّه يحصل في الموضوع لا الحكم ؛ فإنّ العلم بالحكم الشّرعي غالبا إنّما هو من الأدلّة الظّنية ، غاية الأمر : كونها واجب العمل ، وهو لا يوجب العلميّة الحقيقيّة ».

إلى أن قال :

« مع أنّ حمله على المعنى الثّالث مع ورود قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) (١).

وكذلك على المعنى الأوّل ، مع ما ورد من الأخبار الدّالة على عدم جواز

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٣١٧ باب « القنوت واستحبابه وادعيته » ـ ح ٩٣٧ ، عنه الوسائل : ج ٦ / ٢٨٩ باب « جواز القنوت بغير العربية مع الضرورة وان يدعوا الإنسان بما شاء » ـ ح ٣.

٢٨٣

نقض اليقين بالشّك يشبه التّأكيد ، بخلاف إرادة المعنى الثّاني » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

وفيه أنظار لا يخفى وجهها على المتأمّل فيما ذكرنا. وقد أورد بعض المحقّقين من معاصريه (٢) عليه بإيرادات كثيرة بعضها غير واردة : كحكمه بعدم المانع من الجمع بين القاعدة والاستصحاب على ما ستعرف من كلامه ، وكحكمه :بأنّ المراد من اليقين هو الأعمّ من اليقين الشّرعي إلى غير ذلك.

أمّا عدم ورود الأوّل فستعرفه ـ مضافا إلى ما عرفته في طيّ كلماتنا السّابقة ـ وأمّا عدم ورود الثّاني ؛ فلأنّ الحكم بأنّ المراد من اليقين هو الأعمّ ممّا لا يخفى فساده ؛ لأنّ نفس الظّن من حيث هو لا يكون داخلا في موضوع العلم ولو بعد قيام الدّليل على اعتباره.

وأمّا الدّليل على اعتباره وإن كان علميّا ، إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ العلم بالاعتبار ، فالظّن القائم بالنّجاسة بعد فرض اعتباره لا يكون علما قطعا ، وإرادته ممّا يشتمل على لفظ العلم على المعنى الحقيقي موجب لاستعمال اللّفظ في معناه الحقيقي والمجازي. مع أنّه قد يمنع من صحّة إطلاق لفظ العلم على الظّن لعدم وجود العلاقة المصحّحة ، والعلم باعتباره ليس علما بالنّجاسة.

وبالجملة : لا يعقل معنى لما ذكره وإن صدر عن غيره أيضا. والحقّ أنّ المراد من العلم في جميع أدلّة الأصول والقواعد : هو معناه الحقيقي ، وأمّا الظّن

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ٦٤.

(٢) وهو صاحب الفصول في فصوله : ٣٧٣.

٢٨٤

المعتبر فليس منه حقيقة ، وإنّما هو قائم مقامه بأدلّة اعتباره حكومة ، فهو داخل في موضوع العلم تنزيلا لا حقيقة.

(٧٢) قوله : ( نعم ، إرادة قاعدة الطّهارة والاستصحاب معا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٧٤ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« إرادتهما إنّما يوجب ذلك لو كان كما أفاده قدس‌سره بأن يراد من المحمول فيها تارة أصل ثبوته ، وأخرى استمراره بحيث كان أصل ثبوته مفروغا عنه ، وكذلك الحال في الغاية ، فجعلت غاية للحكم بثبوته مرة ، وللحكم باستمراره أخرى. وأمّا إذا أريد أحدهما من المغيا والآخر من الغاية ، فلا.

توضيح ذلك : انّ قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء طاهر ) مع قطع النّظر عن الغاية بعمومه يدلّ على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعيّة كالماء والتراب وغيرهما. فيكون دليلا اجتهاديا على طهارة الأشياء وبإطلاقه بحسب حالات الشّيء الّتي منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشّبهة الحكميّة أو الموضوعيّة تدلّ على قاعدة الطّهارة فيما اشتبه طهارته كذلك وإن أبيت إلاّ عن عدم شمول إطلاقه لمثل هذه الحالة الّتي في الحقيقة ليست من حالاته ، بل من حالات المكلّف وإن كانت لها إضافة إليه ، فهو بعمومه لما اشتبهت طهارته لشبهة لازمة له لا ينفك عنه أبدا ، كما في بعض الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة يدلّ بضميمة عدم الفصل بينه وبين سائر المشتبهات على طهارتها كلّها ، وإلاّ يلزم تخصيصه بلا مخصّص ؛ ضرورة صدق عنوان الشيء على هذا المشتبه كسائر الأشياء بلا تفاوت أصلا كما لا يخفى ، وليس التمسّك به فيما اشتبه طهارته موضوعا تمسّكا بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة ، لأنّ التمسّك به إنّما هو لأجل دلالته على القاعدة وحكم المشكوك على ما عرفت ، لا لأجل دلالته على حكم الشّيء بعنوانه الواقعي ، كي يلزم تخصيصه من هذه الحيثيّة بنجاسة بعض العناوين أو بعض

٢٨٥

__________________

الحالات.

ولا منافاة بين جواز التمسّك به للحكم بطهارة المشتبه من جهة ، وعدم جوازه من جهة أخرى ، كما لا يخفى ، ولا ضير في اختلاف الحكم بالنسبة إلى أفراد العامّ وصيرورته ظاهريّا بالنّسبة إلى بعضها ، وواقعيّا بالإضافة إلى بعضها الآخر ، لأنّ الاختلاف بذلك انّما هو من اختلاف أفراد الموضوع ، لا من جهة الاختلاف في معنى المحكوم به ، بل هو بالمعنى الواحد والمفهوم الفارد يحمل على ما هو واحد يعمّ تلك الأفراد على اختلافها ، كما هو أوضح من أن يخفى.

فلا مجال لتوهّم لزوم استعمال اللّفظ في المعنيين من ذلك أصلا ، فعلى ذلك يكون دليلا بعمومه على طهارة الأشياء بما هي بعناوينها وبما هي مشتبه حكمها مطلقا بضميمة عدم الفصل في المشتبهات بين ما يلزمه الإشتباه وبين ما لا يلزمه الاشتباه ، فلا حاجة في دلالته على قاعدة الطّهارة ، إلى ملاحظة غايته.

نعم بملاحظتها يدلّ على الإستصحاب ، بيانه : أنّ قضيّة جعل العلم بالقذارة الّتي ينافي الطّهارة غاية لها في الرّواية هو بقاؤها واستمرارها ما لم يعلم بالقذارة ، كما هو الشأن في كلّ غاية ، غاية الأمر انّ قضيّتها لو كانت من الأمور الواقعيّة هو استمرار المغيا وبقاؤه واقعا إلى زمان تحقّقها ، ويكون الدّليل عليها دليلا اجتهاديّا على البقاء ولو كانت هي العلم بانتفاء المغيا هو بقاؤه واستمراره تعبّدا إلى زمان حصولها ، كما هو الحال في الغاية ها هنا ، فيكون بملاحظتها دليلا على استمرار الطّهارة تعبّدا ما لم يعلم بانتفائها ، ولا نعني بالإستصحاب إلاّ ذلك ، كما لا يخفي.

فدلّ بما فيه من الغاية والمغيا على ثبوت الطّهارة واقعا وظاهرا على ما عرفت على اختلاف أفراد العامّ ، وعلى بقائها تعبّدا عند الشّك في البقاء من دون لزوم محذور استعمال اللّفظ في المعنيين ، إذ منشأ توهّم لزومه ليس إلاّ توهّم أنّ إرادة ذلك من قوله : ( كلّ شيء طاهر ) لا يكاد

٢٨٦

__________________

أن يكون إلاّ بإرادة الحكم على كلّ شيء بثبوت أصل الطّهارة ما لم يعلم قذارته والحكم باستمرار طهارته المفروغة عنها ايضا ما لم يعلم قذارته باستعمال لفظ طاهر ، وإرادة كلا الحكمين منه.

وقد عرفت : أنّ استفادة مفاد القاعدة من إطلاقه أو عمومه بضميمة عدم الفصل ، من غير حاجة إلى ملاحظة الغاية ، واستفادة مفاد الإستصحاب من الغاية من جهة دلالتها على استمرار المغيا كما هو شأن كلّ غاية ، إلاّ أنّها لمّا كانت هي العلم بانتفاء المغيا ، كان مفاده استمرار تعبّدا ، كما هو الشأن في كلّ مقام جعل ذلك غاية للحكم من غير حاجة في استفادته إلى إرادته من اللفظ الدّال على المغيا ، وإلاّ يلزم ذلك في كلّ غاية ومغيا كما لا يخفى ، مثلا الماء طاهر حتّى يلاقي النّجس لا بدّ أن يراد منه على هذا طاهر بمعنى ثبوت الطّهارة وبمعنى استمرارها كليهما ، مع انّه ليس بلازم لاستفادة الإستمرار من نفس الغاية ، كما لا يخفى ، فلم لا يكون الحال في هذه الغاية على هذا المنوال.

إن قلت : إن التفاوت بين مثلها وسائر الغايات الّتي يكون من الأمور الواقعيّة يوجب لزوم ذلك فيها دونها ، وذلك لأنّ الغاية إذا كانت أمرا واقعيّا يدلّ على امتداد نفس المغيا جدّا واستمراره واقعا كما لا يخفى ، بخلاف ما إذا كانت هو العلم بانتفائه ، فانّه لا دلالة لها على استمرار المغيّا وامتداده بنفسه وبمعناه الحقيقي ، وإلاّ لم يكن باستمرار تعبّدي فلا بدّ أن يراد من اللّفظ الدّالّ على المغيّا ما يناسب ذلك من المعنى بأن يراد من لفظ ( طاهر ) في الخبر مثلا ، مستمر طهارته الظّاهرية ، ويكون فائدة الغاية بيان الغاية بالإستمرار ونهاية الامتداد ، فإذا أريد منه مع ذلك ، الحكم بثبوت أصل الطّهارة ، يلزم استعمال اللّفظ في المعنيين لا محالة.

قلت : الاستمرار التّعبّدي إنّما يستفاد من نفس جعل الغاية هو العلم بارتفاع المغيّا مع بقاء لفظه على معناه الحقيقي الواقعي ، إذ لا منافاة بين كونه حقيقيّا واقعيّا وكون استمراره تعبّديّا

٢٨٧

__________________

محضا ، فالإستمرار بحدّه وبغايته يستفاد من مجرّد الغاية ، كما يستفاد من ساير الغايات بلا تفاوت في البين يوجب استعمال اللّفظ في المعنيين فيها ، وإن كانت خصوصيّتها موجبة لكون الإستمرار المستفاد عنها ظاهريّا لا واقعيّا ، بخلافها.

فقد تلخّص بما حقّقناه : أنّ إرادة المعاني الثلاثة ، أي مفاد الدّليل الاجتهادي والقاعدة والاستصحاب من مثل الخبر ممكن من دون لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، فتأمّل في المقام ، فانّه من مزالّ الأقدام للأعلام.

هذا كلّه في إمكانه ، ولا يبعد دعوى ظهوره فيه أيضا ، لما أشرنا إليه في بيان إمكانه من أنّ المفهوم من الغاية والعموم ظاهرا هو إرادة ثبوت الطّهارة واستمرارها تعبّدا ولا صارف عن ذلك ، إلاّ أن يدّعى انّ مثل هذه العبارة عرفا ظاهر في إثبات الحكم لما اشتبه حكمه ، ويكون الغاية في الحقيقة لمجرّد بيان ذلك وإن كانت بحسب الصّناعة من توابع المحمول ، لكنّه لا شاهد عليه ، بل حال الغاية فيها حال سائر الغايات في ظهورها في أنّها لبيان استمرار المحكوم به إلى زمان تحقّقها ولا خصوصيّة لها إلاّ ما يوجب لأجله كون الإستمرار فيها تعبّديّا دونها ، وذلك لا يقتضي أن يكون المغيّا كذلك ، والظّاهر أنّه ليس منشأ توهّم ذلك إلاّ استدلال الاصحاب بمثلها على قاعدة الطّهارة ومثلها وهو أعمّ من ذلك ، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك أنّ صاحب الفصول قدس‌سره إن أراد استفادة الأصلين من الرّواية بالتّقريب الّذي بيّناه ، لا يرد عليه ما أورده قدس‌سره ، وإن أراد استفادته بنحو يتراءى من ظاهر كلامه ، وقد أشرنا إليه وهو استفادة كلّ اصل من الأصلين من مجموع الكلام ، فما وجّه عليه وارد لا محالة ، إلاّ أنّه بعيد أن يخفى على مثله مع وضوح وروده ، فالظّاهر أنّه أراد دلالة الرّواية على أحد الأصلين بعمومها أو إطلاقها وعلى الآخر بغايتها ، فأراد بقوله : ( أحدهما ان الحكم الأولى ... إلى آخره ) انّ الاشياء الّتي لا يعلم نجاستها داخلة في عموم ( كلّ شيء ) أو إطلاقه ، وبقوله الثاني : ( أن هذا الحكم ... إلى آخره ) أنّ هذه الطهارة المحكوم بها مستمرّة أي :

٢٨٨

نقل كلام الفصول والرّدّ عليه في امكان الجمع

بين الاستصحاب والقاعدة في الرّواية

أقول : قد عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة : عدم إمكان الجمع بين القاعدة والاستصحاب ؛ حيث إنّ المناط في القاعدة نفس الشّك في الطّهارة وهو العلّة للحكم بها ، والحكم المنشأ فيها هو الحكم بأصل الطّهارة. وفي الاستصحاب هو اليقين السّابق ، والحكم المنشأ فيه هو الحكم باستمرار الطّهارة ، وشتّان بينهما.

ومن هنا يظهر فساد ما زعمه بعض المحقّقين (١) : من دلالة الرّواية على

__________________

محكومة تعبّدا بالإستمرار عند الشك في بقاءها في إزالة الطّاري أو طروّ المزيل ، فلا يتوجّه عليه ما أورد بقوله : ( ليت شعري ... إلى آخره ).

هذا ، مع انّه لا وجه لتشقيقه والإيراد على كلّ شقّ بغير ما وجّهه على الآخر ، بل يرد على كلّ شقّ ما وجّهه على الآخر ، بداهة انّ الحكم الواقعي أيضا يستمرّ إلى زمن نسخه وأنّ الطّهارة الظّاهريّة ولو بقاعدتها كذلك ، فهي أيضا مستمرّة في الظّاهر إلى زمن العلم بالنّجاسة ، فيكون الكلام مسوقا ... إلى آخر ما أفاده قدس‌سره ، مع انّه لا يدّعى انّ الكلام على هذا كان بيانا للقاعدة ، بل يدّعى انّه لبيانها أيضا فلا يتوجّه عليه إشكال استعمال اللّفظ في المعنيين ، فافهم.

فالوجيه التّوجيه عليه : بأنّه إن أريد من هذه الحكم حكم الشّارع ، بالطّهارة واقعا أو ظاهرا ، فهو لا محالة مستمرّ إلى زمن نسخه ، وإن أريد منه الطّهارة المحكوم بها كذلك ، فهو مستمرّ ظاهرا عند الشّكّ في طروّ المزيل وإزالة الطّاري ، فتأمّل جيّدا » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣١٢ ـ ٣١٦.

(١) صاحب الفصول رحمه‌الله.

٢٨٩

أصلين : أحدهما : الاستصحاب ، والثّاني : القاعدة خلافا لما ذكره الفاضل القمي :من عدم إمكان الجمع بينهما لعدم الجامع بينهما. حيث قال :

« ثمّ اعلم أنّ الرّوايتين الأوليّين تدلاّن على أصلين :

الأوّل : أنّ الحكم الأوّلي للمياه أو الأشياء هو الطّهارة ـ ولو بحسب الظّاهر ـ عند عدم العلم بالنّجاسة وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب ، وإن تعلّق به جملة من أحكامه.

الثّاني : أنّ هذا الحكم مستمرّ إلى زمان العلم بالنّجاسة وهذا من موارد الاستصحاب وجزئيّاته » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

والعجب أنّه كيف اشتبه عليه الأمر وتخيّل إمكان الجمع بينهما مع أنّه لا جامع بينهما حسب ما عرفت؟ وأعجب منه ما ذكره أخيرا من قوله : « الثّاني : أنّ هذا الحكم مستمر ... إلى آخره » ؛ لأنّ المشار إليه بهذا إن كان هو الحكم المستفاد من الأصل الّذي ذكره أوّلا ، أي : الطّهارة الظّاهريّة المستفادة من قاعدة الطّهارة.

فيرد عليه :

أوّلا : أنّ هذا الحكم لا رافع له إلاّ النّسخ وأمّا العلم بالنّجاسة فلا يعقل أن يكون رافعا له إذ به ينعدم موضوع الحكم حيث إنّ عدمه مأخوذ فيه قيدا وبعبارة أخرى أوضح : الحكم لا يكون حكما ظاهريّا ولا يتحقّق له هذا العنوان إلاّ بعد ملاحظة تقيّده بعدم العلم سواء كان حكما بالطّهارة ، أو غيرها. ومن المعلوم ضرورة أنّ الحكم بالطّهارة في موضوع الشّك وعدم العلم لا يكون الرّافع له عن

__________________

(١) انظر الفصول : ٣٧٣.

٢٩٠

موضوعه إلاّ النّسخ في الشّريعة ، ولا ينافي هذا ما ذكرنا وذكره الأستاذ العلاّمة سابقا : من كون العلم غاية للحكم بالطّهارة ورافعا له في القاعدة ؛ حيث إنّ المقصود من الحكم ـ فيما سبق ـ نفس إنشاء الطّهارة مع قطع النّظر عن اتّصافه بكونه ظاهريّا فتدبّر.

وثانيا : أنّه إذا جعل قوله : ( حتّى تعلم ) من قيود الحكم الأوّل وتوابعه من حيث توقّف تحقّقه ـ حسب ما عرفت ـ على تقييده به ، فلا يمكن جعله قيدا للحكم الثّاني الّذي هو في قوّة المحمول للحكم الأوّل ، وهو في قوّة الموضوع له ؛ للزوم تقدّم الشّيء على نفسه ؛ حيث إنّ كونه قيدا للموضوع ، أي : الحكم الأوّل يقتضي تقدّمه على الحكم الثّاني بالطّبع ؛ لأنّ قيود الموضوع في مرتبة الموضوع ، فلا بدّ من أن تكون مقدّمة على المحمول. كما أنّ الموضوع مقدّم عليه ـ حسب ما هو قضيّة العروض والحمل ـ وكونه قيدا للمحمول ، أي : الحكم الثّاني يقتضي تأخّره عن المحمول ، أو كونه في عرضه ، فيلزم ما ذكرنا كما لا يخفى.

فلا يمكن أن يجعل المستصحب هو الحكم الظّاهري المدلول للأصل الأوّلي وإن كان المشار إليه هو الحكم الواقعي المعلوم تحقّقه ، أي : الطّهارة المتيقّنة في السّابق ، ليكون القضيّة مسوقة لبيان وجوب الحكم باستمرار الطّهارة المعلومة في الزّمان السّابق ظاهرا ، فلا شيء يدلّ على الأصل الأوّلي ، أي : قاعدة الطّهارة فيما شكّ في طهارته من حيث الشّك.

ولعمري إنّ منشأ ما وقع من الخلط والاشتباه في المقام : هو شمول القاعدة لمورد الاستصحاب ، من دون تأمّل في : أنّ مجرّد الاجتماع الموردي في بعض الأعيان لا يصلح أن يجعل أحد المجتمعين مصداقا للآخر مع تباين المناط فيهما

٢٩١

حسب ما عرفت. ولهذا استظهرنا سابقا جريان القاعدة في مستصحب النّجاسة أيضا.

بل التّحقيق : عدم إمكان جعل أحد العامين من وجه ولا دليله دليلا على الآخر مع اجتماعهما مصداقا في الجملة ، فكيف بمحلّ البحث الّذي لا يتصوّر فيه الاجتماع المصداقي؟ كما هو ظاهر ، ويتلو الاستدلال بالرّواية للاستصحاب في الضّعف الاستدلال له بسائر ما له اجتماع موردي مع الاستصحاب كقاعدة الحلّ ، فالتّمسك بروايات الحلّ ، في باب الاستصحاب وذكرها فيه كما صنعه صاحب « الوافية » فاسد جدّا.

(٧٣) قوله : ( ثمّ على هذا كان ينبغي ذكر أدلّة البراءة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٧٦ )

في الاشارة إلى فساد استصحاب البراءة

أقول : ما ذكره ( دام ظلّه ) مبنيّ على ما عليه المشهور : من اجتماع أصالة البراءة مع الاستصحاب بحسب المورد ؛ حيث إنّك تراهم يتمسّكون كثيرا باستصحاب البراءة ، وإلاّ فالّذي يقتضيه التحقيق المحقّق عند الأستاذ العلاّمة أيضا : عدم جريان استصحاب البراءة أصلا ؛ من حيث إنّ نفس الشّك في التّكليف علّة تامّة في حكم العقل بالبراءة ، فلا يبقى هنا مورد للاستصحاب.

والمفروض أنّه ليس هناك أثر للبراءة الواقعيّة وعدم التّكليف الواقعي حتّى يستصحب ، وهذا بخلاف الطّهارة والحلّ ؛ فإنّه يجري الاستصحاب فيهما فيما لو كان لهما حالة سابقة ؛ فإنّ الطّهارة والحلّ الثّابتين بالقاعدة غير ما يجري

٢٩٢

الاستصحاب فيه ؛ فإنّه الطّهارة الواقعيّة والحلّ الواقعي وإن كان ثبوتهما بالاستصحاب أيضا ظاهريّا ، لكنّ المستصحب نفس الطّهارة الواقعيّة. وقد تقدّم جملة من الكلام في ذلك في الجزء الأوّل من التّعليقة عند تكلّم الأستاذ العلاّمة في « تأسيس الأصل في الظّن » فراجع ، ولعلّنا نشرح لك القول في هذا فيما سيجيء إن شاء الله تعالى هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد من التّصاديق الموردي ليس هو جريان كلّ من البراءة والاستصحاب فيه ، بل المراد هو جريان البراءة في محلّ الاستصحاب وإن لم نقل بجريانه بالملاحظة المذكورة.

فالغرض ممّا أفاده : عدم الفرق بين القواعد الثّلاث في شمول دليلها لصورة وجود الحالة السّابقة ، فلو كان مجرّد ذلك موجبا للحكم بإرادة الاستصحاب من دليل قاعدة الطّهارة ، فليحكم بإرادته من دليل القاعدتين. وهذا لا تعلّق له بما اخترناه : من اختصاص جريان الاستصحاب بما كان هناك حكم مترتّب على نفس وجود المستصحب واقعا فتأمّل.

(٧٤) قوله : ( نعم ، قوله : حتّى تعلم يدلّ على استمرار المغيّا ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٧٦ )

أقول : أراد بذلك دفع ما ربّما يتوهّمه الغير المتأمّل : من جعل قوله : ( حتّى تعلم ) دليلا على إرادة الاستصحاب ؛ لأنّه يدلّ على استمرار الطّهارة ، وهذا هو معنى الاستصحاب.

وحاصل الدّفع : أنّه ليس كلّ استمرار عبارة عن الاستصحاب ، بل المأخوذ في الاستصحاب هو الاستمرار الخاصّ. أي : استمرار ما فرض الفراغ عن ثبوته واقعا. وأمّا استمرار نفس الحكم المنشأ في القضيّة ظاهرا إلى زمان العلم فليس هو

٢٩٣

الاستصحاب قطعا ، بل هو معنى قاعدة الطّهارة.

ثمّ إنّك قد عرفت ممّا قدّمنا لك : أنّ تسمية الحكم الظّاهريّ به إنّما هو بملاحظة تقييده موضوعا بعدم العلم فنسبته إليه من دون ملاحظته تكون من باب التّسامح.

(٧٥) قوله : ( فالأولى حمله على إرادة الاستصحاب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٧٧ )

أقول : لا يخفى عليك ما يمكن أن يرد على ما ذكره ( دام ظلّه ) : من أنّ مجرّد عدم عروض الاشتباه في المياه من غير جهة العارض غالبا لا يصلح لصرف ظهور القضيّة في إثبات أصل المحمول للموضوع لإثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوته ؛ لأنّ الغلبة الخارجيّة لا تزاحم لظهور المستفاد من الألفاظ ، فضلا عن أن تصير قرينة له وصارفة عن ظهوره ، فالحكم بظهور الرّواية في القاعدة أولى هذا.

مضافا إلى ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : من أنّ مجرّد الحكم

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : لا يخفى ان ما ذكره قدس‌سره في هذا المقام بعد أن بيّن فيما سبق ان القاعدة أعم موردا من الإستصحاب لا يخلو عن تأمّل ، بل الأولى حمل الرواية على إرادة القاعدة حتى يعمّ جميع الموارد حتى الموارد النادرة.

ثمّ إنّك قد عرفت انه على تقدير حملها على إرادة الإستمرار لا يخلو ـ دلالتها على الإستصحاب ـ عن نظر ، وقد نقل عنه رحمه‌الله انه نبّه على ذلّك في بحثه وقال ما حاصله :

( إن مفاد الرواية هو الحكم باستمرار الطهارة إلى زمان العلم بالقذارة لا الحكم بالإستمرار إتكالا على وجودها في السابق كما هو مناط الإستصحاب ).

وعلى المعنى الأوّل فهي من جزئيّات القاعدة ، فتدبر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٤٧.

٢٩٤

بالاستمرار أيضا لا يثبت إرادة الاستصحاب وتعيّن حمل الرّواية عليها ؛ لأنّ الاستصحاب كما عرفته سابقا ليس هو مجرّد الحكم باستمرار الشيء الثّابت ، بل يفتقر زيادة على هذا إلى كون الاستمرار مستندا إلى نفس الثّبوت في الزّمان السّابق ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يستفاد من مجرّد الحكم بالاستمرار.

نعم ، مورد الرّواية على هذا التّقدير يصير من موارد المستقرأ فيها من حيث حكم الشارع فيها على استمرار الحالة السّابقة.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرت لسرت الشّبهة إلى الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك أيضا ؛ فإنّها أيضا لا تدلّ إلاّ على وجوب الالتزام في زمان الشّك بالأحكام الثّابتة للمتيقّن الملتزم بها في زمان اليقين ، وهذا هو معنى الاستمرار وليس فيها شيء زائد عليه.

لأنّا نقول : أمّا الأخبار المذكورة فقد عرفت : أنّ أكثرها مشتملة على التعليل باليقين السّابق ، وأنّ الحكم في الزّمان اللاّحق إنّما هو من جهته. وأمّا الأخبار الخالية عن التّعليل المذكور فهي أيضا ظاهرة في كون العلّة نفس اليقين السّابق ، كما في قوله عليه‌السلام في المكاتبة : ( اليقين لا يدخله الشّك صم للرّؤية وأفطر للرؤية ) (١) ؛ فإنّ الظّاهر منه ـ كما لا يخفى على من له تأمّل ـ كون قوله : ( اليقين لا يدخله الشّك ) في قوّة الكبرى الكليّة حسب ما تقدّم بعض القول فيه.

__________________

(١) التهذيب : ٤ / ١٥٩ باب « علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله » ح ١٧ ، والإستبصار : ٢ / ٦٤ باب « علامة أوّل يوم من شهر رمضان » ح ١٢ ، عنهما الوسائل : ١٠ / ٢٥٥ باب « ان علامة شهر رمضان وغيره رؤية الهلال » ح ١٣.

٢٩٥

إنقسام الأخبار الخاصّة

فتبيّن لك ممّا ذكرنا : أنّ الأخبار الخاصّة على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما هو صريح في كون مستند الحكم فيه اليقين ، فينطبق على الاستصحاب لا محالة. مثل : رواية عبد الله بن سنان (١) ، بل قد عرفت سابقا : أنّه توهّم بعض من جهة التّقليل المذكور فيها : أنّها تدلّ على اعتبار الاستصحاب في جميع الموارد : من جهة ما وقع فيها من التّنصيص بالعلّة.

ثانيها : ما لا يمكن أن يكون الحكم المذكور فيه من جهة اليقين السّابق فلا يدلّ على اعتبار الاستصحاب ولو في مورد خاصّ ، ولا يمكن أن يجعل أيضا من الموارد المستقرة فيها. مثل : موثّقة عمّار (٢) وأشباهها.

ثالثها : ما حكم فيه على طبق الحالة السّابقة بحيث يمكن أن يكون العلّة فيه نفس اليقين السّابق فينطبق على الاستصحاب ، وأن يكون غيره فلا ينطبق. مثل :

__________________

(١) التهذيب : ج ٢ / ٣٦١ باب « ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز » ح ٢٧ ، والإستبصار : ج ١ / ٣٩٢ باب « الصلاة في الثوب الذي يعار لمن يشرب الخمر » ح ١ ، عنهما الوسائل : ج ٣ / ٥٢١ باب « طهارة الثوب الذي يستعيره الذمي الى ان يعلم تنجسه له » ح ١.

(٢) بل موثقه إسحاق بن عمّار عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام أنظر الفقيه : ١ / ٣٥١ ـ باب « أحكام السهو في الصلاة » الحديث ١٠٢٥ ، عنه الوسائل : ٨ / ٢١٢ ـ الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث ٢.

٢٩٦

قوله عليه‌السلام : ( الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس ) (١) وهذا وإن لم يكن الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب ولو في مورد خاصّ ، إلاّ أنّه يكون من الموارد المستقرأ فيها قطعا.

ثمّ إنّ هنا شيء لا بدّ أن ينبّه عليه : وهو أنّ الظّاهر من جملة الأخبار العامّة والخاصّة ـ كما لا يخفى على كلّ من نظر إليها ـ هو حرمة العمل على خلاف الحالة السّابقة.

وقد يتوهّم من لا بصيرة له : أنّ هذه النّواهي واردة في مورد الوجوب ظاهرا أو مظانّه ، فلا تدلّ على الحرمة ، بل هي منسلخة عنها فيكون المقصود منها مجرّد الإذن. كيف؟ وإنّ جواز العمل على خلاف الحالة السّابقة في الجملة إجماعيّ.

لكنّه توهّم فاسد ؛ لأنّها ظاهرة بل بعضها صريح في الحرمة ولا داعي لرفع اليد عنها ، بل قضيّة الفتاوى من الكلّ أيضا على تقدير اعتباره : هو وجوب البناء على الحالة السّابقة.

ومجرّد جواز العمل على خلاف الحالة السّابقة في بعض الموارد من جهة الاحتياط فيما يجري فيه كالوضوء احتياطا فيما كان الشّخص مسبوقا بالطّهارة

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ١ باب « طهور الماء » ـ ح ١ وح ٣ لكن فيه « حتى يعلم انه قذر » ، والتهذيب : ج ١ / ٢١٥ « المياه وأحكامها وما يجوز التطهير به وما لا يجوز » ح ٢ ، عنهما الوسائل : ج ١ / ١٣٤ ـ الباب الأوّل « من أبواب الماء المطلق » ح ٥ والباب الرابع « من أبواب الماء المطلق » ح ٢.

٢٩٧

شاكّا في بقائها لا ينافي الحكم بالوجوب كما لا يخفى. وإلاّ لسرت الشّبهة إلى جميع الأمارات الظّنّية المعتبرة شرعا ؛ فإنّه لا إشكال في جواز العمل بالاحتياط في مواردها.

مع أنّه لا إشكال في وجوب الأخذ بها ؛ لأنّه معنى حجيّتها ، وإنّما المنافي جواز العمل مع جواز البناء على خلاف الحالة السّابقة. وهذا ممّا لم يقبل به أحد على تقدير القول باعتبار الاستصحاب ؛ ضرورة أنّه ينافي قضيّة اعتباره. وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك في طيّ أجزاء التّعليقة ، وإنّ تعيّن العمل بالأمارات والأصول إنّما هو في مقابل ترك العمل عند التحيّر ، لا في قبال إحراز الواقع بالعلم التّفصيلي أو الإجمالي ، مضافا إلى أنّه ممّا لا سترة فيه عند ذوي الأفهام المستقيمة.

* * *

٢٩٨

إختصاص الأخبار بالشك في الرّافع

(٧٦) قوله : ( توضيحه : أنّ حقيقة النّقض هو رفع الأمر الثّابت والأقرب إليه ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٧٨ )

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« حاصله : ان لفظ النقض بحسب اللّغة حقيقة في رفع الهيئة الاتّصاليّة الحسّية الحاصلة في الأشياء وإبانة أجزائها كما في قوله تعالى : ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ) الآية وهذا المعنى غير مراد في الأخبار جزما فيتعين حمله على ارادة معنى مجازي منه وهو إما رفع اليد عن الشيء الثابت مع وجود المقتضي لبقائه لو لا المانع منه كالطهارة وعلاقة الزّوجيّة الباقيتين لو لا المزيل وإمّا مطلق رفع اليد عن الشيء الثابت ولو لعدم المقتضي له كرفع اليد عن الواجب الموقت بعد خروج وقته ، والأوّل أقرب إلى المعنى الحقيقي اعتبارا وعرفا فيتعين حمل اللفظ عليه بعد تعذّر إرادة حقيقته.

نعم يرد عليه : أنّه يلزم حينئذ ارتكاب مجازين ـ : أحدهما : في لفظ النقض بحمله على ما عرفت. وثانيهما : في المنقوض بتخصيصه بما من شأنه البقاء لو لا المانع ـ بخلاف ما لو حمل على المعنى الثّاني لبقاء المنقوض على إطلاقه.

والجواب عنه : أنّ ظهور الفعل في معنى حاكم عرفا على إطلاق متعلّقه عند دوران الأمر بين ارتكاب خلاف الظاهر في أحدهما كما في مثال : ( لا تضرب أحدا ) لأن ظهور الضرب في الإيلام حقيقة أو انصرافا حاكم على إطلاق لفظ أحد بل عمومه بالنسبة إلى الأحياء والأموات.

ومنه يظهر : ضعف ما يتوهم من منع اختصاص الضرب بالوقوع على الأحياء مضافا إلى شيوع التخصيص وأرجحيّته بالنسبة إلى سائر أنواع المجاز فعموم المتعلّق لا يصلح قرينة

٢٩٩

__________________

لصرف الفعل عن ظاهره.

هذا غاية توضيح ما ذكره المصنف رحمه‌الله وهو لا يخلو من نظر.

أمّا أولا : فإنه إن أراد باليقين في قوله عليه‌السلام ( لا ينقض اليقين بالشك ) ظاهر معناه وكان المراد بنقضه رفع اليد عن الآثار المرتبة على المستصحب في حال اليقين ومرجعه إلى التزام كون المجازية في النسبة.

ففيه ـ مع مخالفته لظاهر كلامه بل صريحه ـ : انّ الأولى حينئذ نسبة النقض إليه باعتبار وجود ما يقتضيه من الدّليل لو لا ما يشك في مانعيته كما فهمه المحقّق الخونساري على ما سيجيء من كلامه : بأن كان المراد عدم جواز رفع اليد عن مقتضى موجب اليقين لو لا الشكّ لا باعتبار وجود المقتضي لبقاء المتيقّن.

وإن أراد به معنى المفعول كما هو صريحه لتكون المجازية في الكلمة وكان المراد بنقضه رفع اليد عن آثار المتيقن.

ففيه ـ مع ما فيه من المخالفة لظاهر اللّفظ ـ : أنّه مخالف لما قبل الفقرة المذكورة في الصحيحة الأولى الّتي اعتمد عليها المصنف رحمه‌الله أعني قوله عليه السلام : ( فإنّه على يقين من وضوئه ) إذ لا ريب في كون المراد باليقين فيه ما هو الظّاهر منه وكذا ما بعده أعني قوله عليه السلام : ( ولكنّه ينقضه بيقين آخر ).

لا يقال : إنّ هذا المحذور لازم على كل تقدير كما صرّح به المصنّف رحمه الله ، لأنا نمنع اللّزوم لجواز إرادة المعنى الظّاهر من لفظ اليقين بأن كانت المجازية في النّسبة كما عرفته في الشقّ الأوّل من التّرديد.

وأمّا ثانيا : فإنا نمنع كون ظهور الفعل قرينة لارتكاب التجويز في متعلقه كما يشهد به العرف وفهم العلماء كما في قوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) حيث حملوا الأكل فيه على مطلق التّصرف لا تخصيص الأموال بالمأكولات.

٣٠٠