بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

ثمرة الاختلاف في تعلّق الجعل بالحكم الوضعي وعدمه (١)

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« اعلم انه احتمل أو قيل : انه لا ثمرة لهذا النّزاع فيلغو متعبة تحقيق المسألة على القولين ، وربّما يستشعر هذا من الماتن حيث إنّ ممشاه في الفقه ممشى غيره ممّن يقول بالأحكام الوضعيّة ويعبّر بالشرطيّة والجزئية والمانعية والسببية والصحة والفساد والطهارة والنجاسة إلى غير ذلك ويسوق كلامه على هذا المجرى كما يعبّر غيره ويسوق كلامه ، وإن كان هناك فرق عنده وثمرة فكان عليه تغيير العنوان أو التنبيه على جهات الاختلاف ووجوه الثمر.

لكن التحقيق أنه يترتّب عليه ثمرات كثيرة :

منها : أنه لو قلنا بمجعولية الأحكام الوضعيّة أمكن ثبوتها في موارد العلم بعدم التكليف الذي يتبعها بل في مورد لا يحتمل تكليف أصلا لعدم قابلية المحل أو لعدم اجتماع شرائط التكليف كما في الصبي والمجنون والعاجز والمضطر والجاهل في الجملة ، فإن قلنا بقول المثبت نحكم بضمان هؤلاء الأشخاص في إتلافاتهم مثلا بل نقول بضمانهم باليد أيضا ، ويترتّب عليه آثار اشتغال ذممهم بالبدل ، وأمّا على قول النافي فلا بدّ من أن يترقّب زمان التكليف ، فإن اجتمع شرائطه تعلق وإلاّ لم يكن حكم أصلا.

وما يتكلّف في دفع هذه الثمرة : من أنّ معنى ضمان الصبي والمجنون مثلا على قول النافي وجوب دفع البدل بعد البلوغ والافاقة أو ووجوب دفع الولي من مال الصبي أو المجنون وبدل التاليف وليس هناك أثر يترتّب على قول المثبت عند عدم حدوث التكليف المزبور ولا يترتّب على قول النافي.

مدفوع : بأنّا نفرض عدم تحقّق زمان تعلق التكليف بأن مات الصبي أو المجنون قبل البلوغ أو الافاقة ولم يكن لهما مال يتعلّق تكليف الولي بالأداء منه ، بل ولو فرض بلوغه أو إفاقته ولم يكن له مال حتى يصح تكليفه بأداء البدل ، فعلى قول المثبت يكون الضامن المذكور

٤٦١

__________________

مشغول الذمة يصح إبراؤه والاحتساب عليه من خمس أو زكاة أو مظالم ، ويحصل التهاتر لو اشتغل ذمة مالك التالف بمثل ما اشتغل به ذمة المتلف ، إلى غير ذلك من الآثار ، وعلى قول النافي لا يمكن ترتيب هذه الآثار أصلا.

ومنها : اختلاف مقتضيات الأصول على القولين ، مثلا لو شك في أنّ نجاسة ولوغ الخنزير هل ترتفع بالغسلات الثلاث أم يحتاج إلى السبع ، وكذا مطلق النجاسة يرتفع بالغسل مرة أم يحتاج إلى الغسل مرتين ، وكذا محل النجو يطهر بالحجر ذي الجهات الثلاث أم يحتاج إلى تعدّد الأحجار الثلاث ، فعلى قول المثبت يجري استصحاب النجاسة إلى أن يعلم الرافع بالغسلات السبع في الأوّل والغسل مرتين في الثاني وتعدّد الأحجار في الثالث ، وأمّا على قول النافي فيقال : إنّ الإشتغال بالأقل معلوم والأصل عدم التكليف بالأكثر ، فيكتفي بالأقل ويحكم بالبراءة عن الزائد ، فاختلف مقتضى الأصل بالنسبة إلى القولين ، لكن هذا المثال إنّما يتم بناء على كون الطهارة والنجاسة من الأمور الاعتبارية المجعولة أو المنتزعة لا من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع على خلاف التحقيق كما احتمله في المتن.

وقد يمثّل لهذا العنوان أعني اختلاف مقتضى الأصول بما لو شك في جزئية شيء للمركّب الارتباطي المأمور به ، فعلى قول المثبتين تجري أصالة عدم جزئية المشكوك فيه ويكون حاكما على أصالة الاشتغال بالمركب ، وليس من قبيل الأصل المثبت كما توهم وقد مرّ وجهه فيما يتعلّق بالجزئية والشرطية في أواخر اصل البراءة ، وأمّا على قول النافين فأصالة الاشتغال محكمة تقتضي إتيان الجزء المشكوك ، ولا يتقدّم عليها أصالة عدم وجوب الجزء بل هي غير جارية ، لأنّ أصالة عدم وجوب الأكثر معارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ، ولكن التحقيق الذي بينا عليه الأمر في رسالة البراءة يقتضي عدم الفرق بين القولين في هذا المثال فإنّه لا مانع من جريان أصالة عدم الوجوب الغيري بالنسبة إلى الجزء المشكوك وهي كأصالة عدم الجزئية حاكمة على أصالة الاشتغال ، لأنّ الشك فيه مسبّب عن الشك في

٤٦٢

__________________

جزئيّة المشكوك أو وجوبه الغيري.

فإن قلت : لا وجه لجريان اصالة عدم الوجوب الغيري كي يكون حاكما على أصالة الاشتغال ، لأنّها إنّما تجري إذا كان الوجوب مشكوكا من أصله بان يفرض أنّ باقي الأجزاء تعلق بها أمر وشك في تعلق أمر آخر بالمشكوك فيقال : الأصل عدمه. وبعبارة أخرى : أنه يتم لو كان وجوب أجزاء المركب بأوامر متعدّدة وإيجابات فيؤخذ بالمتيقن وينفى المشكوك بالأصل ، وأمّا إذا علم بتحقّق أمر وإيجاب من الآمر ولم يعلم كونه متعلّقا بالأقلّ أو بالأكثر المشتمل على الجزء المشكوك كما هو كذلك فيما نحن فيه ، فليس تعلّقه بواحد منهما مطابقا للأصل ، وأصالة عدم تعلقه بكل منها معارض بالآخر لأنّه من قبيل المتباينين.

قلت : ليس كذلك بل المتعلق بالأخرة من قبيل الأقل والأكثر ، ونعلم أنّ الأقل قد صار متعلّقا للأمر المفروض المعلوم لا محالة ، إمّا لكونه تمام المطلوب او لكونه داخلا في المطلوب ، وإنما الشك في تعلقه بالأكثر بمعنى تعلقه بهذا الجزء المشكوك أيضا أم لا والأصل عدمه ، وكيف كان هذه الثمرة أعني اختلاف مقتضيات الأصول على القولين باب عظيم جار في الفقه من أوّله إلى آخره.

ومنها : أنه لو عقد بغير العربي أو مع تقديم القبول على الايجاب مثلا في بيع أو نكاح بفتوى من يجوّزهما ثم تبدّل رأي المجتهد ، أو عدل المقلّد إلى غيره ممّن يرى بطلان العقد الكذائي ، فعلى تقدير القول بثبوت الأحكام الوضعية وأنّ العقد سبب شرعي لحصول الملكية والزوجية الدائمة يحكم ببقاء المسبّب بعد العدول أيضا ، لأنّ السبب قد أثّر حين كونه سببا شرعا بفتوى الفقيه الملكية الدائمة ، وأمّا على القول بالعدم فلا يحكم ببقائه لرجوعه إلى جواز تصرف المشتري في المبيع وعدم جواز تصرف البائع فيه وجواز استمتاع الزوج من الزوجة ، وهذه الأحكام التكليفية الظاهرية لا يجوز العمل بها بعد تبدّل رأي المجتهد بل لا بدّ أن يعمل على طبق الرأي الجديد ، فيكون نظير ما إذا أفتي المفتي بوجوب

٤٦٣

وأمّا الكلام في ثمرة الاختلاف فقد يذكر له وجوه من الثّمرات :

أحدها : أنّه على القول بالجعل يجوز إجراء الاستصحاب في نفس الحكم الوضعي بخلاف القول بعدم الجعل ؛ فإنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب فيه هذا.

وفيه : أنّه لا فائدة في هذه الثمرة أصلا ؛ فإنّه على القول بعدم الجعل لو كان هناك حكم شرعي يترتّب على القول بالجعل يحكم بترتيبه على القول بعدم الجعل من جهة استصحاب منشأ انتزاعه وإن لم يجر الاستصحاب فيه ؛ لكنّه ينتزع من منشأ انتزاعه من حيث الحكم بوجوده في مرحلة الظّاهر من جهة الاستصحاب.

ثانيها : أنّه على القول بالجعل يصحّ نسبة الرّفع إليها في قوله : ( رفع عن أمّتي تسعة ... ) وغيره بخلاف القول بعدم الجعل ؛ فإنّه لا معنى لنسبة الرّفع إليه حينئذ كما هو واضح.

والجواب عنه : ما عرفته في الثّمرة السّابقة ؛ فإنّه وإن لم يمكن نسبة الرّفع إلى الحكم الوضعي على القول بعدم الجعل ، إلاّ أنّه يسند الرّفع أوّلا وبالذّات إلى منشأ انتزاعه القابل للجعل ويستلزمه رفعه أيضا هذا. وقد مضى تفصيل القول في

__________________

الجمعة وعملنا عليه برهة من الزمان ثم تبدّل رأيه إلى وجوب الظهر فلا بدّ من فعل الظهر بعد ذلك ولا يجزي الجمعة ، هذا كلّه بناء على كون سببية العقد للملكيّة والزوجية وكذا نفس الملكية والزوجية أمورا اعتبارية كما هو الموافق للتحقيق ، وأمّا على ما يظهر من المصنف من أنّها أمور واقعيّة فلا ربط لها بمسألة الوضع ولا يتم الثمرة.

ومنها : ما مرّ سابقا من موروثية الخيار فإنّما تتم بناء على كون الخيار حقا جعليا ، وإلاّ فالحكم بجواز الفسخ كسائر الأحكام التكليفية لا يورث » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ١٣٩ ـ ١٤٢.

٤٦٤

ذلك في الجزء الثّاني من التّعليقة فإن أردت الوقوف عليه فراجع إليه.

ثالثها : أنّه على القول بالجعل يحكم بوجودها وتحقّقها في حقّ غير الكامل الجامع لشروط التّكليف كالصّبي ، والنّائم ، والغافل ، [ والمجنون ](١) ، والجاهل في الجملة ، بخلاف القول بعدم الجعل ؛ فإنّ وجودها تابع للتّكليف المنفيّ بالفرض.

ويتوجّه عليه ما أشرنا إليه سابقا : من أنّه على القول بعدم الجعل يحكم بها في حقّ غير الكامل أيضا من جهة الخطاب المتوجّه إلى الكامل أو المتحقّق في حالة الكمال ، فهذه الثّمرة أيضا منتفية.

رابعها : أنّه على القول بعدم الجعل يجوز الرّجوع إلى أصالة البراءة عند الشّك في ثبوتها كالشّك في الجزئية والشّرطية والمانعيّة وغير ذلك بإجراء الأصل المذكور في منشأ انتزاعها ، وعلى القول بالجعل لا يمكن الرّجوع إلى أصالة البراءة بالنّسبة إلى أنفسها ، والرّجوع إلى أصالة البراءة بالنّسبة إلى الحكم التّكليفي لا يجدي على هذا القول ؛ لأنّ عدم الوضع ليس من أحكام عدم التّكليف شرعا حتّى يحكم من جهة نفيه ولو في مرحلة الظّاهر بعدمه.

نعم ، عدمه في مرحلة الواقع يلازم لعدم الوضع بناء على عدم الانفكاك بينهما ، وأين هذا من كونه من أحكامه الشّرعيّة؟ ويتفرّع على هذا : أنّه لو كان مبنى عدم وجوب الاحتياط في مسألة الأقلّ والأكثر على إمكان نفي الجزئية وعدمه تعيّن المصير إلى وجوب الاحتياط في تلك المسألة هذا.

وفيه : أنّ ما ذكر : من عدم الحكم بنفي الوضع من جهة نفي التّكليف وإن كان

__________________

(١) نسخة.

٤٦٥

صحيحا وإن فرض كونه من أحكامه ؛ حيث إنّ مفاد البراءة ليس نفي التّكليف حتّى يترتّب عليه حكمه ، بل مجرّد المعذوريّة والتّرخيص في مرحلة الظّاهر ، وليس الأمر كذلك على القول بعدم الجعل ؛ فإنّه ينتزع من التّرخيص في مرحلة الظّاهر كما ينتزع من التّرخيص في مرحلة الواقع.

ولا يتوهّم كشف عدم الوضع عن البراءة أيضا ؛ حيث إنّها ليست إخبارا عن عدم الجعل حتّى يكون كاشفا عن عدم جعل الوضع بناء على عدم التّفكيك بينهما ، إلاّ أنّه لا يتفرّع عليه شيء لما عرفت في الجزء الثّاني : من فساد التّفريع المذكور ، مع أنّه على القول بالجعل يرجع إلى أصالة العدم فيحكم بعدم وجوب الاحتياط من هذه الجهة فتأمّل.

(١٢٠) قوله قدس‌سره : ( هذا كلّه مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السّببيّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٢٩ )

أقول : ما ذكره ( دام ظلّه ) إشارة إلى ما عرفت منّا في والمقام الثّاني : من استحالة تعلّق الجعل بالحكم الوضعي ، وأنّ كلّ قضيّة ظاهرها ذلك لا بدّ من صرفها عنه إلى ما يوافق ما ذكرنا.

وأمّا خصوصيّة مذهب الأشاعرة بالنّسبة إلى مذهب العدليّة من الإماميّة والمعتزلة ـ مع أنّ برهان الاستحالة لا يفرّق فيه بين المذهبين كما لا يخفى على من له أدنى دراية ـ : هي أنّه على مذهب الأشاعرة لمّا لم يكن الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الكامنة فليس على مذهبهم هناك غير التّصور والطّلب.

وأمّا على مذهب العدليّة فلمّا كان هناك شيء آخر فربّما يقع من جهته بعض من لا خبرة له في توهّم : أنّ الحكم الوضعيّ لا يمكن أن يكون انتزاعيّا تخيّلا منه :

٤٦٦

أنّ الحكم الوضعي هو نفس المصلحة والمفسدة ، مع أنّك قد عرفت فساده ، وأنّه على تقدير التّسليم لا يمكن أن يكون مجعولا أيضا ، فالأمر في انتزاعيّة الحكم الوضعي على مذهب الأشاعرة أظهر منه بناء على مذهب العدليّة.

(١٢١) قوله : ( وإلاّ فالسّببيّة القائمة بالدّلوك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٢٩ )

السببيّة من الأمور الاعتباريّة

أقول : أراد بذلك إثبات كون السّببيّة اعتباريّة ليست إلاّ ، وإن كانت على تقدير عدم اعتباريّتها غير قابلة للجعل أيضا ، فما ذكره بيان للواقع لكون تماميّة المطلب وهو استحالة تعلّق الجعل بالحكم الوضعيّ موقوفة عليه.

ثمّ إنّ الفرق بين ما ذكره أوّلا : من كون السّببيّة من الذّاتيات للدّلوك ، وما ذكره أخيرا : من كونها من الأوصاف الّتي أوجدها الشّارع لا من حيث كونه شارعا ، بل من حيث كونه خالقا وموجدا في الدّلوك باعتبار الفصل والخصوصيّة

__________________

(١) قال المؤسس المجدّد الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : إنه إن أراد من إنشاء الوجوب عند الدلوك مجرّد المقارنة من غير أن يكون بينهما علقة العلّيّة فليس هذا معنى السببيّة ، ولا يصحّ إطلاق السبب على المقارن وإن كانت القضيّة دائمة ، وحصر السببيّة في هذا المعنى لا وجه له.

وإن أراد الإرتباط والعلقة فهو عين المدّعى ولا نعني بالسببيّة الاّ ذلك.

ولا وجه لمنع كونها صفة اوجدها الشارع في السبب ، وكيف لا يتعقّل ما لا يحصى من الشرعيّات كأسباب الحدث له واسباب الطهارة وهكذا إلى ما لا يحصى » إنتهى.

محجة العلماء : ج ٢ / ٢٠٣.

٤٦٧

ممّا لا يكاد يخفى على أحد.

فإنّ الأوّل : من مقتضيات الذّات ولوازم الماهيّة من غير أن يكون بإيجاد الشّارع أو يكون بإيجاده بالنّظر إلى أصل الماهيّة على ما هو رأي جماعة من الحكماء : من تعلّق الجعل بلوازم الماهيّة أيضا فتدبّر.

والثّاني : من الموجودات بإيجاد الشّارع بالنّظر إلى ضميمة الفصل والخصوصيّة.

ثمّ إنّ الدّليل على ما ذكره هو ما تقرّر في محلّه : من أنّ الأسباب الشّرعيّة ليست كالأسباب العقليّة مؤثّرة في المسبّب وموجدة له ، بل إنّما هي معرّفات وكواشف عن وجود المسبّب عندها باعتبار وجود المصلحة المقتضية لإيجاب الشّارع ـ من باب اللّطف ـ الفعل عندها من حيث اقتضاء المصلحة ، لا من حيث تأثير السّبب ، وإن كان له دخل في مصلحة الفعل أيضا في الجملة ؛ لأنّ المنفيّ إنّما هي السّببيّة التّامة.

ثمّ إنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) من قوله : ( هذا كلّه في السّبب ... إلى آخره ) (١) لا يخفى ما فيه من المسامحة ، وبالحريّ أن يذكر مكانه في السّببيّة والشّرطيّة والجزئيّة.

(١٢٢) قوله : ( وأمّا الصّحة والفساد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٢٩ )

أقول : ما ذكره راجع إلى تفسير المتكلّمين ، فالصّحة والفساد على مذهبهم من الأوصاف الّتي لا دخل لها بالجعل الشّرعي ، بل ربّما قيل : بعدم كونها من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٢٩.

٤٦٨

الأمور الاعتباريّة أيضا ، وإليه نظر من قال : إنّ الصّحة والفساد من العقليّات فتأمّل.

وأمّا على تفسير الفقهاء فلا إشكال في كونهما من الأمور الاعتباريّة.

(١٢٣) قوله : ( نعم ، الحكم بثبوتها شرعيّ ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ليس منافيا لما سبقه ولحقه ؛ لأنّ المراد من الحكم في المقام هو الإخبار والتّصديق لا الجعل الشّرعي المقابل له.

نعم ، هو مناف لما لحقه ؛ من حيث إنّ اعتباريّة حقائق تلك الأمور حسب ما هي قضيّة أحد الشّقّين تمنع حكم الشارع بثبوتها ولو بمعنى الإخبار.

نعم ، لا إشكال في استقامته على تقدير كونها من الأمور الواقعيّة حسب ما هو قضيّة الشّق الآخر.

نعم ، قد يورد على ما ذكره على هذا التّقدير أيضا : بالمنع من كون اختصاص الكاشف عنها بإخبار الشّارع وحكمه ؛ حيث إنّها من الأمورات الواقعيّة الّتي يعرفها النّاس حتّى قبل الاطّلاع على الشّرع ، اللهمّ إلاّ أن لا يكون المقصود الاختصاص ، أو يكون بالنّسبة إلى بعضها فتأمّل.

(١٢٤) قوله : ( فيقصر (١) سببيّة تلك الأسباب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٣٠ )

أقول : مراده من المسبّبات ليست هي التّكاليف الّتي حكم بكونها مسبّبات حقيقيّة ، بل هي الملكيّة والزّوجيّة والحريّة ونحوها الّتي هي المسبّبات بحسب لفظه الظّاهر ، فلا يرد عليه : أنّ الأحكام التّكليفيّة كيف تكون اعتباريّة وقد سبق منه الحكم باستحالته؟ فافهم.

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : ( فتصير ).

٤٦٩

(١٢٥) قوله : ( وعلى الثّاني ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٣٠ )

__________________

(١) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الصحّة والفساد فهما في العبادات ... إلى قوله : وغير ذلك فافهم ).

[ فرائد الأصول : ج ٣ / ١٢٩ ـ ١٣٠ ].

* قال المؤسس المجدّد الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انه لا إشكال ولا نزاع في انّ كلّ وضعي يحتاج إلى جعل مستقلّ وإنّما المدّعى إستقلال كثير من الوضعيّات بالجعل ، وفالصحّة الفساد في العبادات عبارتان عن استجماع الشرائط والأجزاء مع السّلامة عن المانع فبعد جعل الجزء والشرط والمانع لا مجال لجعل مستقلّ للصحّة والفساد.

وتوهّم : أن الصحّة موافقة المأتي به للمأمور به ، فاسد ؛ فإن صحّة المأمور به عبارة عن الإشتغال على جميع ما يعتبر فيه ، وهذه حقيقة صحّة العبادة.

وأمّا موافقة المأتيّ به له فهو عن إندراج الجزئي تحت الكلّي وانطباقه عليه ، والصحّة جهة متحقّقة في الكلّي وتحقّقه في المأتي به إنّما هو الإنطباق وليس اندراج الفرد تحت الكلّي الصحيح فإن الصحّة وصف متحقّق في الكلّي أوّلا وفي الفرد من حيث انّه هو.

وبالجملة : فالفرد هو الكلّي الموجود والصحّة والفساد جهتان في الكلّي لا ان انطباق الكلّي على الفرد هو الصحّة ، والحاصل ان المأمور به مع قطع النظر عن إتيان المكلّف به متّصف بالصحّة والفساد بالضّرورة ، فلا وجه لتفسيرهما بموافقة المأتي به للمأمور به ومخالفته له ، وقد عرفت :

فساد تفسير الصحّة بموافقة الأمر ، وأن تعلّق الأمر بالشيء علّة لاتّصافه بالصحّة فلا وجه لكونها منتزعة من التكليف ، فكما انهما ليسا مجعولين بجعل مستقلّ فكذا ليسا منتزعين من الأحكام التكليفيّة كما انّ الجزئيّة ليست مجعولة بجعل مغاير لاختراع الماهيّة ، ومع ذلك ليست منتزعة عن الأحكام التكليفيّة.

والتحقيق : ان حقيقة الصحّة والفساد في جميع الموارد حقيقة واحدة وإنّما الإختلاف في

٤٧٠

__________________

الآثار ، فأثر الصحّة في المعاملات التي هي من قبيل الأسباب ترتّب آثارها عليها كما هو الحال في جميع العلل ، فإن لوحظ كونها أسبابا للأحكام التكليفيّة ، فلا إشكال في انّ علّيّتها لها مباينة لمعلولاتها فهل يخفى على أحد مباينة العلّة للمعلول؟ وليس توهّم : كون علّيّة البيع لجواز الإنتفاع بالمبيع منتزعة من الإباحة إلاّ كتوهّم انتزاع علّيّة النّار للإحراق وانتزاع علّيّة الواجب للمكن من الممكن في وضوح الفساد.

كيف! والعلّيّة جهة في العلّة قائمة بها والمعلول أمر مباين لها مؤخّر عنها ، وأمّا إذا لوحظ كونها سببا للموضوعات فالأمر أظهر كسببيّة البيع للملكيّة والنّكاح للزوجيّة والتعتق للحرّيّة والغسل للطهارة ؛ فإنذ الملكيّة والرقّيّة ليستا إلاّ كسائر الأعراض السببيّة مثل الأبوّة والبنوّة والأخوّة ومحاذاة شيء لآخر أمرا مباينا للتكليف بالضرورة وكما أنّ بعض الأمور سبب في نفسها كالحيازة ؛ فإنّها في العرف منشأ للإختصاص والإستحقاق فيما لم يسبقها حقّ وكان المال بالنسبة إلى جميع الناس على السواء ، فكذا يمكن أن يعتبر الشارع تحقّقها بتشريع جهة خاصّة ولا معنى لكونها منتزعة من التكليف ؛ لترتّبه عليها وتأخّره عنها ، وإستنادها للشارع لا يغيّر حقيقتها ، ودعوى : انّها جهة ثابتة كشف عنها الشارع ، جزاف لا مستند لها ، وعدم كون الأمور الوضعيّة بأسرها كذلك من البديهيّات.

نعم ، كثير منها ليس للشارع بالنّسبة إليها إلاّ التقرير كسببيّة العقود والإيقاعات لآثارها ، والتقرير ليس كشفا عن أمر ثابت وإنّما هو اختيار ثبوت شيء لو لم يكن ثابتا لأثبته ، فهو تصرّف غير التكليف وليس إخبارا ، بل إنشاء تحكيم.

والحاصل : ان كون الملكيّة مباينة للتكليف غير منتزعة منها من البديهيّات كما ان صلوحها للجعل كذلك ، ألا ترى أن الماليّة في الأثمان مجعولة للسلطان؟

وهل الشارع في هذه الجهة إلاّ كغيره؟ أو انّ الملكيّة ليست كالماليّة وغيرها مما لا يخفى على أحد صلوحه للجعل ، وكذا الحال في سببيّة البيع لها فإنّها من قبيل سببيّة خروج البول

٤٧١

أقول : لا يخفى عليك ما في هذا الكلام ؛ لأنّ الأسباب على كلّ تقدير يكون من الأمور الواقعيّة الّتي لا دخل لها بجعل الشّارع ، بل ولا ببيانه وكشفه كما هو واضح عند ذوي الأفهام المستقيمة ، وكأنه جرى من القلم سهوا وإلاّ فلا بدّ أن يقال : مكان ( الأسباب ) ( سببيّتها ) ويمكن أن يجعل المراد منها تلك أيضا : بأن يجعل المقصود من الأسباب الوصف القائم بها لا ذواتها فتأمّل ، وعلى كلّ تقدير لا إشكال في كون المراد ما ذكرنا.

ثمّ إنّه لا إشكال فيما ذكره من أنّه إذا كانت المسبّبات أمورا واقعيّة ، فلا بدّ أن يكون سببيّة الأسباب لها أيضا من الأمور الواقعيّة ، كما أنّها إذا كانت من الأمور الاعتباريّة ، لا بدّ أن يكون سببيّة أسبابها أيضا من الأمور الاعتباريّة ؛ ضرورة استحالة تأثير الأمر الجعلي الشّرعي في الأمر الواقعي لقضيّة التّباين بين الوجودين.

__________________

والغائط للحدث الأصغر ، والوطي وخروج دم الحيض ومسّ الميّت للأكبر وكونها فيها بجعل الشارع ممّا لا ينكره إلاّ المكابر ، وأمّا الزوجيّة فهي علقة من قبيل سائر العلائق ، ودعوى : أنّها منتزعة من التكليف ليس إلاّ كدعوى كون الأبوّة والأخوّة كذلك في وضوح الفساد ، وسببيّة عقد النّكاح لها راجعة إلى الشارع جعلا وتقريرا ، وكذا الحال في الرقّيّة والحرّيّة ؛ فإن كون شخص رقّا للآخر ليس من التكليف ، كما ان كون شخص سلطانا والآخر رعيّة ، او كون شخص إماما أو نبيّا أو وليّا ليس تكليفا ، وليس العتق إلاّ كالطلاق مزيلا للعلقة ، وسببيّة الإنشاء له بجعل الشارع وتقريره.

فهل يتوهّم : ان اعتبار الوقوع عند العدلين في الطلاق وغيره من الشرائط الشرعيّة من قبيل التكاليف وانه إخبار عمّا لا يرجع إلى الشارع؟! وتبيّن ممّا حقّقناه مواقع النظر في هذا الكلام » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٥.

٤٧٢

نعم ، الأمر الشّرعي يكون مؤثّرا في الحكم الشّرعي وكذا الأمر الاعتباري لا يمكن أن يكون مؤثّرا في الأمر الواقعي حسب ما هو من القضايا الأوليّة هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ ما ذكره مبنيّ على كون المراد من السّببيّة هو الأمر الموجود في السّبب المقتضي للتّأثير في المسبّب ، وإلاّ فالسّببيّة بالمعنى المعروف وهي كون الشّيء بحيث يوجد شيء آخر بوجوده لا يكون إلاّ اعتباريّا سواء فرض المسبّب من المجعولات الشّرعيّة ، أو الموجودات الخارجيّة الواقعيّة ، أو من الأمور الاعتباريّة ؛ ضرورة أنّ المعنى المذكور اعتبار يعتبره العقل عند التّلازم بين وجود الشّيئين : إمّا على سبيل التّأثير ، أو الكشف كما هو واضح عند ذوي البصيرة والدّراية هذا.

مع أنّ تأثير السّبب لا يلازم أن يكون دائما مستندا إلى معنى فيه ؛ إذ ربّما يكون السّبب مناطا أوّليّا للمسبّب حيث لا واسطة بينهما.

نعم ، ما ذكره مستقيم في الأسباب المجرّدة عن التّأثير بنفسها ، بل تأثيرها مستند إلى أمر موجود فيها الّتي يعبّر عنها بالواسطة في الإثبات تارة ، وبالدّليل الإنّي أخرى.

(١٢٦) قوله : ( أقول فيه : أنّ الموقّت قد يتردّد وقته ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٣١ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

وفيه : ان مقتضى القاعدة في مثل المقام الأخذ بالقدر المتيقّن والرجوع في المشكوك فيه إلى الأصل ، فإذا دار أمر غاية الصّيام وهو الليل بين أن يكون باستتار القرص وبين أن يكون بذهاب الحمرة فيرجع فيه إلى البراءة أو الإشتغال.

٤٧٣

__________________

والفاضل لا ينكر الرّجوع إلى الأصلين في مواردهما وإنّما غرضه الإستغناء عن التعويل على الوجود السابق في المقام.

وما حكم به الأستاذ قدس‌سره من الرّجوع إلى الإستصحاب لا معنى له ؛ فإن الإستصحاب بمعنى مجرّد التعويل على الوجود السابق من حيث هو كذلك لا حاجة اليه في المقام ؛ فإنه من قبيل استصحاب وجوب الصيام إذا احتمل فيما بعد المغرب إستنادا إلى وجوبه في النّهار مع انّ كلّ ما يذكره في أوّل كلامه من الإنكار للمتنازع فيه إنّما هو مع قطع النظر عن الأخبار وإلاّ فهو إلتزم في آخر كلامه بالإستصحاب المتنازع فيه ؛ نظرا إلى الأخبار ، مع أن استصحاب النّهار ليس من قبيل المتنازع فيه ، بل إنّما هو من موارد القاعدة الشريفة على ما سيتّضح إن شاء الله تعالى في التنبيهات.

واستصحاب نفس الحكم مع الشك في الموضوع وعدم إحرازه بديهيّ الفساد ، وبما حقّقناه يندفع الإعتراض عليه بالنّقض بالشك في النّسخ ؛ فإن الشك في الرّافع لا حاجة فيه إلى التعويل على الحالة السابقة ، بل إنّما هو مجرى القاعدة الشريفة.

نعم ، صعب على جماعة تعقّل كون النسخ رفعا في الأحكام الشرعيّة ؛ حيث انّه يستلزم الجهل فهو إنتهاء الأمد ، فالنّسخ إظهار للغاية المجهولة ، ولكنّه توهّم فاسد ؛ فإنّه لا يصحّ إطلاق الرفع والنّسخ على الإخبار بالغاية الثابتة من أوّل الأمر لعدم العلاقة المصحّحة ولا داعي إلى هذا التكليف الشنيع ؛ فإن الحكم الشرعي ممّا إذا ثبت دام ولا يزول إلاّ بمزيل ، فالحكيم عالم بانّه سيرفعه لما يراه من المصالح ، كما انّ البائع قد يعلم بانّه سيفسخ البيع ولا ينافي هذا عدم كون البيع من أوّل الأمر موقّتا ؛ فإنّ البيع الموقّت غير معقول ، مع انه قد يشترط لنفسه الخيار للمتمكّن من الفسخ الذي يريده جزما ، وهل يخفى على أحد ان النّكاح مع الجزم بالطلاق ليس تمتعا وانّه فرق بين البناء على الطلاق والعلم بتحقّقه منه وبين التمتّع ، فأي منافاة بين إيجاب الشيء من غير أن يقيّده بوقت وبين العلم برفعه بعد حين؟

٤٧٤

أقول : لا يخفى عليك أنّ إجراء الاستصحاب فيما فرضه ( دام ظلّه ) إنّما يستقيم على ما عليه المشهور من المسامحة في موضوع الاستصحاب ، وإلاّ فعند التّحقيق لا يجري الاستصحاب فيما فرضه ( دام ظلّه ) ؛ لأنّه إن أريد به استصحاب الحكم ـ كما هو ظاهر العبارة إن لم يكن صريحها ـ فهو ممّا لا معنى له مع الشّك في موضوعه ، وإن أريد به استصحاب الموضوع فهو أسوأ حالا في المقام من استصحاب الحكم كما هو واضح ، مع أنّه على فرض جريانه لا يرد نقضا على الفاضل ؛ لأنّ مرجعه إلى الاستصحاب في الحكم الوضعي ، بناء على ما أراده في المقام.

نعم ، لا إشكال في ورود ما ذكره عليه لو كان مقصوده ممّا ذكره من التّفصيل نفي مورد يشكّ فيه لا يمكن التّمسك بالدّليل فيه إلاّ الأحكام الوضعيّة بالمعنى الّذي يستفاد من ذيل كلامه ، لا منع إجراء الاستصحاب على تقدير فرض الشّك وعدم إمكان التّمسّك بالدّليل حسب ما عرفت : أنّه الظّاهر من كلامه ؛ ضرورة أنّه لا يمكن التّمسّك بالدّليل مع الشّك في ثبوت موضوعه.

__________________

وهكذا العلم بالعزل عن المناصب ليس توقيتا ، وفرق بين العلم بالعزل والبناء عليه من أوّل الأمر وبين التوقيت.

وأجاب عنه شيخنا قدس‌سره : ( بانه خارج عمّا نحن فيه لأن كلامه في المؤقّت ... الى آخره ).

[ ويأتي الإشكال في الإجابة ، لاحظ التعليقة الآتية ] إنتهى.

أنظر المحجّة : ٢ / ٢٠٨.

٤٧٥

(١٢٧) قوله : ( لأنّ كلامه في الموقّت من حيث ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٣١ )

__________________

(١) قال الأصولي المؤسّس والفقيه النبيه المقدّس الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : إن مبنى الإعتراض على ما زعمه المورد : من انّ هذا المفصّل حكم بعدم الحاجة في الأحكام الشرعيّة إلى الإستصحاب ، بل عدم مورد له ، فالحكم بانه خارج عما نحن فيه ـ لما ذكره ـ لا معنى له.

وأمّا النسخ الإصطلاحي فلا معنى له ؛ فإنّه لا إصطلاح في النّسخ وإنّما أوّل من زعم : أنّ النسخ من الحكيم غير معقول ما دلّ على وقوعه في الشرائع إلى انتهاء الأمد لا ان هذا معنى للنّسخ بإصطلاح الأصوليّين ، وكيف يمكن حمل كلام الشارع على اصطلاحهم لو فرض ثبوته؟ وتوهّم : انه اصطلاح شرعي أظهر فسادا ، وتوهّم : انّ استصحاب عدم النّسخ تعويل على العموم من الغرائب ؛ فإنّه إن كان الغرض انه رجوع إلى الدليل الإجتهادي وهو اللفظ الكاشف عن العموم فهو لا يتم فيما ليس هنا لفظ دالّ على العموم في الأزمان وهو الغالب ، بل المطّرد في جميع الأحكام ؛ ضرورة ان أدلّة الأحكام ليست متعرّضة لعدم النّسخ وانّه ليس لزمان من الأزمنة اختصاص به.

وإن كان المراد أعمّ منه ومن الظنّ الحاصل من الإستقراء ـ كما صرّح به ـ ففساده أظهر ؛ لعدم دليل على جواز التعويل على هذا الظنّ ، مع انّ احتمال النّسخ لا يعتنى به ، وإن كان في أوّل الشريعة ولم يعلم حالها ، بل لو غلب النّسخ أيضا فلا يعتدّ بهذا الإحتمال ، ألا ترى أنّ الغالب في الشرائع هو النّسخ؟ ولم يكن أهل الأديان يتوقّفون على أديانهم بمجرّد احتمال النّسخ وإن علموا الغلبة ، بل ومع العلم بانه يقع لا محالة ؛ فإنّ العلم بان هذا الدين سينسخ لا محالة لا يوجب التوقّف وبمجرّد احتمال وقوعه ، بل ومع الظنّ به ، فليس عدم الإعتداد باحتمال النّسخ مستندا إلى ما زعمه بالضرورة.

وأمّا ما حكم به : من أنّ استصحاب عدم النّسخ كاستصحاب عدم التّخصيص فهو في غاية المتانة ونهاية الجودة ؛ حيث انّ التعويل على العموم لا معنى له إلاّ التعويل على الإقتضاء

٤٧٦

الفرق بين النسخ والتخصيص

أقول : أراد بما ذكره ( دام ظلّه ) بيان أنّ مراد الفاضل التّوني قدس‌سره من نفي الشّك في جزء من أجزاء الموقّت بحيث لا يمكن التّمسّك معه بالدّليل ، هو الشّك في كون جزء من أجزاء الوقت مرادا ممّا دلّ على توقيت الحكم من أوّل الأمر بحيث يرجع الشّكّ فيه إلى الشّك في التّخصيص ، ومن المعلوم امتناع فرض شكّ كذلك لا يمكن التّمسك معه بالدّليل كما لا يخفى.

وأمّا الشّكّ في النّسخ فلا دخل له بالشّك المفروض أصلا ؛ لأنّه شكّ في أصل رفع حكم الموقّت بالنّسبة إلى الأزمنة المتأخّرة كلّية ، ولا دخل له بما فرضه أصلا

__________________

وعدم الإعتداد باحتمال المانع على ما حقّقناه سابقا ، وليست الأصول اللفظيّة إلاّ من أفراد القاعدة الشريفة وإلاّ فليس لنا ما يدلّ على عدم التخصيص بالوضع ، فالمخصّص لكونه مانعا يتقدّم بالطبع على العموم ؛ لعدم المنافاة ولا تعارض بينهما عندنا ، وليس الترجيح بالنصوصيّة ، بل العام به [ كذا ] في حدّ نفسه دلالته على العموم دلالة إقتضائية وإن كان الكاشف عنه مثل ( كل ) الصريحة في العموم فإنّها إنّما يؤكّد ما دلّ عليه ما أضيف إليه من العموم الإفرادي والاجزائي ، ومن المعلوم أنّ العموم كيفيّة للحكم تستفاد من اقتضاء تعلّقه بالطبيعة من حيث هي في العموم الإفرادي ، وبالكل من حيث هو في الاجزائي ، وهذا في الحقيقة ليس إلاّ لتعويلهم على المقتضي.

نعم ، الحكم بان النّسخ تخصيص في الأزمان قد عرفت ما فيه فتفطّن.

وبالجملة : فأصالة العموم والإطلاق وعدم النسخ ليس التعويل فيها على الوجود السابق كما اعترف به ، ولكنّه لا يتمّ إلاّ على ما حقّقناه » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٠٩.

٤٧٧

كما لا يخفى ، هذا كلّه فيما كان الشّك في النّسخ في نسخ أصل الحكم الموقّت رأسا.

وأمّا لو كان الشّك فيه من حيث الشّك في نسخ بعض الموقّت ، كما لو فرض الشّك في نسخ وقت الظّهر بعد مدّة كان العمل عليه من حيث صيرورته إلى نصف الدّلوك إلى الغروب فكذلك أيضا ؛ لأنّ مرجع الشّك فيه أيضا إلى الشّك في رفع أصل الحكم من الزّمان المشكوك بعد ما كان مرادا. وهذا ليس من التّخصيص المقابل للنّسخ في شيء ؛ إذ لا دخل له بالشّك في أصل إرادته من أوّل الأمر.

نعم ، هو شكّ في إرادته بالنّسبة إلى الأزمنة الآتية فقط فتأمّل جدّا حتّى لا يشتبه عليك الأمر في الفرق بين النّسخ والتّخصيص في خصوص المقام ؛ فإنّه بمكان من الغموض والخفاء ؛ حيث إنّ العموم في كلّ منهما مفروض بالنّسبة إلى أجزاء الزّمان هذا.

ثمّ لو فرضنا شمول كلامه للشّك في النّسخ أيضا لم يرد عليه نقض به أصلا ؛ لأنّ الشّك في النّسخ الاصطلاحي لا يكون إلاّ فيما كان هناك عموم يقتضي الحكم بالنّسبة إلى الزّمان المشكوك كما لا يخفى ، فالتّمسك فيه أيضا بالدّليل لا بالاستصحاب حسب ما عرفت تفصيل القول فيه مرارا.

نعم ، بناء على ما حقّقه الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) : من أن الشّرط في النّسخ هو فهم الاستمرار للحكم المنسوخ سواء كان من الدّليل الدّال على ثبوت الحكم أوّلا ، أو من استقرار عادة صاحب الحكم لم يجز التّمسك بالدّليل الأوّل دائما وفي جميع المقامات كما هو واضح على ذلك التّقدير بل لا يكون هناك على التّقدير ، المفروض ما يمكن التّمسّك به في مورد الشّك دائما ؛ لأنّ العادة الكليّة لم يقم

٤٧٨

برهان على جواز التّعويل عليها ، فلا بدّ أن يتمسّك بذيل الاستصحاب بالآخرة.

ولكن لا يرد مع ذلك نقض عليه أصلا ، بل ومع تسليم الاحتياج إلى الاستصحاب في جميع موارد الشّك في النّسخ ؛ لأنّ كلامه حسب ما يفصح عنه مقالته المحكيّة مختصّ بالاستصحاب المختلف فيه وهو الّذي ينفي جريانه في الأحكام الشّرعيّة ؛ من حيث عدم وجود موضوعه وهو الشّك الّذي لا يكون هناك دليل على بقاء الحكم فيه.

وقد عرفت : دعوى جماعة حتّى من الأخباريّة الإجماع على اعتبار الاستصحاب في الشّك في النّسخ ، بل قد عرفت عن بعضهم : دعوى الضّرورة عليه ، فالنّقض عليه بالشّك في النّسخ ساقط على كلّ تقدير. هذا ملخّص ما يستفاد من كلام الأستاذ العلاّمة مع توضيح منّي حسب الإدراك القاصر.

ولكن يمكن النّظر فيما ذكر أخيرا بملاحظة ما ذكره الأستاذ العلاّمة في تحرير محلّ النّزاع : من أنّ الحقّ أنّ الاستصحاب من حيث إنّه استصحاب مختلف فيه بين المنكرين والمثبتين بجميع أقسامه ، بمعنى : أنّه ليس هناك قسم منه اتّفقوا على اعتبار الاستصحاب فيه حتّى الشّك في النّسخ فراجع إلى ما ذكره وما ذكرنا ثمّة وتدبّر فيه ؛ فإنّ ملاحظة الحيثيّة وإن كانت مجدية في ذلك المقام إلاّ أنّها لا يمنع من دفع الاعتراض على ما ذكره الفاضل قدس‌سره كما لا يخفى.

(١٢٨) قوله : ( وبقاؤه على هذا الوجه من التقييد لا يوجب تحقّق القيد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٣٥ )

أقول : الوجه فيما ذكره واضح ؛ ضرورة أنّ صدق الشّرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ، فبقاء الشّرطيّة فيما كان الشرط موجودا في السّابق لا يستلزم بقاء

٤٧٩

الشّرط ، كما أنّ ارتفاع الشّرط لا يستلزم ارتفاع الشّرطيّة ، ففي صورة الشّك في ارتفاعه لا معنى لاستصحابها ، فالشّرطيّة دائما صادقة سواء صدق الشّرط أو كذب ، وسواء ارتفع على التّقدير الأوّل ، أو لم يرتفع ، فلا رافع للشّرطيّة في الأحكام الشّرعيّة إلاّ رفعها في الشّريعة.

نعم ، فعليّة الشّرطيّة بمعنى الاستنتاج منها فعلا يتوقّف على صدق الشّرط ، فالشّك فيها مسبّب دائما عن الشّك فيه ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب في الشّرطيّة ؛ لأنّ المفروض أنّ الشّك المسبّب عن الشّكّ في شيء آخر لا يجامع معه في الدّخول تحت عموم ( لا تنقض ) ـ حسب ما عرفت وستعرف ـ فلا مناص حينئذ عن التّمسك باستصحاب نفس الشّرط والوقت ، وهو الّذي اعترف بجريان الاستصحاب فيه ، فلا يرد نقضا عليه.

نعم ، يرد عليه أيضا : أنّ الحكم بجريان الاستصحاب في الحكم التّكليفي تبعا لجريانه في الحكم الوضعي حسب ما هو قضيّة صريح كلامه ممّا لا معنى له ؛ لما قد عرفت في كلام الأستاذ العلاّمة : من أنّ الشّك السّببي لا يجامع دخوله مع دخول الشّكّ المسبّبي في عموم أخبار الباب ، بل الدّاخل هو الأوّل ليس إلاّ ، من غير فرق في ذلك بين أن يكونا معاضدين أو معارضين ، اللهمّ إلاّ أن يكون مراده من الحكم بالجريان تبعا : هو كون الحكم ببقاء الحكم التّكليفي من جهة الاستصحاب والحكم الظّاهري بالبقاء وإن كان لجريانه في الوضع ، فتأمّل.

* * *

٤٨٠