بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

فالمراد من اليقين والشّك هو سببهما باعتبار اقتدار المكلّف فعلا عليهما. فالمقصود من قوله : « لا تنقض اليقين بالشّك » (١). هو الأمر بتحصيل اليقين بالبراءة بعد هذا بإتيان ما يوجبه ، والنّهي عن الإتيان بما يوجب الشّك فيها وهذا لا دخل له بمعنى الاستصحاب الّذي هو عبارة عن انسحاب اليقين السّابق والالتزام بأحكامه في اللاّحق كما لا يخفى.

وأمّا كيفيّة تطبيق الوجه الثّاني على هذا المعنى وبيان : أنّ الرّكعة المنفصلة كيف يكون بمقتضى الاحتياط ، وأخذا بما يوجب اليقين بالبراءة وطرحا لما يوجب الشّك فيها ـ مع أنّ هذا العمل في باديء النّظر مخالف للاحتياط ؛ من حيث استلزامه زيادة التّكبير والتّشهّد والتّسليم ، ولهذا قيل : إنّ مقتضى قاعدة الاحتياط على تقدير عدم اعتبار الاستصحاب في المقام : هو رفع اليد عن العمل والإتيان به ثانيا بعد إيجاد المبطل ، ولا يعارض (٢) : بأنّ مقتضى ما دلّ على حرمة قطع العمل ووجوب المضي عليه : هو عدم جواز رفع اليد ، فكيف يقال : إنّ مقتضى القاعدة هو قطع العمل والإتيان به ثانيا؟ لأنّ المفروض بعد حصول الشّك احتمال بطلان الصّلاة بنفسها كما هو الشّأن في الشّكوك المبطلة فتدبّر. فلا يعلم بعده بصدق

__________________

(١) الموجود في الرواية : ولا ينقض اليقين ... إلى آخره.

أنظر الكافي الشريف : ٣ / ٣٥١ باب « السهو في الثلاث والأربع » ـ ح ٣ ، والتهذيب : ٢ / ١٨٦ باب « أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة » ـ ح ٤١ ، والإستبصار : ١ / ٣٧٣ باب : « من شك في إثنتين وأربعة » ـ ح ٣ ، عنهما الوسائل : ٨ / ٢٢٠ باب ١١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ ح ٣.

(٢) المعارض هو الأستاذ العلاّمة بعد ما ذكرت وعرفته : « منه دام ظلّه ».

٢٤١

الإبطال على رفع اليد عن العمل ، فيرجع إلى أصالة البراءة ؛ إذ لا معنى لإبطال الباطل وقطع المنقطع. مضافا إلى عدم إمكان إحراز الواقع ودوران الأمر بين المحذورين ـ فهي أن يقال :

إنّ الحكم بكون الرّكعة المنفصلة مبرئة للذّمة ـ على وجه اليقين ـ وكونها موافقة لقاعدة الاحتياط اللاّزم إنّما هو بعد الفراغ عن عدم قدح الزّيادات اللاّزمة على تقدير اختيارها.

فإنّه لا إشكال في أنّ الرّكعة المنفصلة على هذا التّقدير موافقة للاحتياط ؛ لأنّها على تقدير الاحتياط بها تنفعنا وعلى تقدير الاستغناء لا تضرّنا.

فإن قلت : ليس هناك ما يدلّ على عدم قدح الزّيادات المذكورة فليجعل قدحها حسب ما هو قضيّة القاعدة قرينة على كون المراد هو الرّكعة المتّصلة.

قلت : لا إشكال في استفادة عدم قدحها بعد ما عرفت : من عدم جواز إرادة الوجه الأوّل ؛ لأنّه يتعيّن الوجه الثّاني على هذا التّقدير ، فيستدلّ به على عدم قدحها عند الشارع. وإن هذا إلاّ كاستفادة سقوط الجهر والإخفات : من اكتفاء الشّارع بثلاث صلوات فيما إذا علم المكلّف بفوت صلاة مردّدة بين صلوات الخمس مع تعليله الإتيان بالثّلاثة بتحصيل القطع بالبراءة هذا.

مضافا إلى إمكان استفادة عدم قدحها من الرّوايات الأخر ، وأنّ الرّاوي أيضا كان عالما بذلك هذا كلّه. مضافا إلى أنّ جعل قدح الزّيادات قرينة على كون المراد هو الوجه الأوّل ممّا لا معنى له ؛ حيث إنّ المفروض أنّ الرّكعة المتّصلة مبطلة للعمل إجماعا ، بل ضرورة كما عرفت. فلا معنى للفرار عن القدح إلى

٢٤٢

ما يوجب القدح ، بل إن هو إلاّ مورد قول القائل ( حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ) (١).

وممّا ذكرنا أخيرا يمكن الذّب عمّا قد يورد أيضا : بأنّ قوله : « ولا تنقض اليقين بالشّك ... إلى آخره » (٢) في قوة التّعليل والتّعليل بالأمر التّعبدي ممّا لا معنى له. مضافا إلى ورود هذا الإيراد على تقدير حمل الرّواية على الوجه الأوّل أيضا كما لا يخفى. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأخذ بالحالة السّابقة ممّا أطبق عليه بناء العقلاء في أمورهم ، فالتّعليل به تعليل بما هو مركوز في الأذهان فتأمّل.

وبالجملة : لا إشكال في عدم ظهور الرّواية بعد ملاحظة ما ذكرنا في الاستصحاب ، فهي إمّا ظاهرة في خلافه ، أو مجملة. فعلى كلّ تقدير يسقط الاستدلال كما لا يخفى.

(٥٠) قوله : ( وأمّا احتمال كون المراد من عدم نقض اليقين بالشّك ... إلى آخره ) (٣). ( ج ٣ / ٦٥ )

__________________

(١) عجز لبيت قاله أبو نؤاس الحسن بن هانىء الشاعر المعروف بخمريّاته ضمن قصيدة تعرّض فيها لشيخ المعتزلة أبي إسحاق ابراهيم بن سيّار بن هاني البصري المعروف بالنّظّام وهو ممّن يتعشّق أبا نواس. وصدر البيت الذي جرى مجرى المثل فيما بعد لكلّ من يبدي رأيا قبل الإحاطة بجوانب الموضوع ويدّعي علما دون إلمام هو كالتالي :

قل للّذي يدّعي في العلم فلسفة

[ حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ]

أنظر ديوان أبي نواس : ٧ والقصيدة وردت في أعيان الشيعة أيضا : ج ٥ / ٣٦٧ وعدّة مصادر أخرى.

(٢) مضى تخريجه آنفا.

(٣) قال المحقق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

٢٤٣

__________________

« ذكره صاحب الفصول وحاصله :

الجمع بين دلالة الصّحيحة على اعتبار الاستصحاب وعدم منافاته لوجوب البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات كما هو مذهب الخاصّة قال ـ في مقام دفع ما أورد على الصّحيحة من قصور الدّلالة ـ :

إن قوله عليه‌السلام : ( لا ينقض اليقين بالشك ) مسوق لبيان أنّه لا ينقض يقينه بعدم فعل الرابعة سابقا بالشكّ في فعلها لاحقا بأن لا يعوّل على شكّه فيبني على وقوعها ويؤيّده قوله : ( ولا يدخل الشّكّ في اليقين ولا يختلط أحدهما بالآخر ) بناء على أنه مسوق لبيان أنه لا يدخل الركعة المشكوكة فيها في اليقين أعني الصّلاة المعلومة اشتغال الذمّة بها أولا يضمها إلى الرّكعات الثلاث اليقينيّة فتكون الظرفية على التوسيع ولا يختلط الشك أعني تلك الركعة المشكوكة في وقوعها باليقين أعني الصلاة أو الركعات الثلاث اليقينية بأن يبني على وقوع الأربع بل ينقض الشّك في لحوق فعل الرابعة بيقين عدمها السابق فينفي فعلها بالأصل فيبني عليه ويأتي بها على الوجه المقرّر تحصيلا للبراءة اليقينية ويتمّ عليه ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات بل يبني على بقائه ما لم يتيقّن بثبوته ) إنتهى.

وحاصل ما أورد عليه المصنف رحمه‌الله : أن تقتضي ما ذكره أن يكون المراد باليقين في قوله : ( لا ينقض اليقين بالشك ) اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة وبالشّكّ فيه الشّكّ في الإتيان بها فيفيد اعتبار الإستصحاب. وفي قوله : « ولا يدخل الشك في اليقين » هو اليقين بما اشتغلت الذمّة به أو الركعات الثلاث اليقينية وبالشك الرّكعة الرّابعة المشكوك فيها وبعدم خلط أحدهما بالآخر وجوب البناء على الأقل والإتيان بالركعة المشكوك فيها منفصلة فيفيد كبقيّة عمل الشّاك الموافقة لمذهب الخاصة إذ لا فرق بين البناء على الأقل والإتيان بالركعة المشكوك فيها منفصلة كما هو مقتضى البيان المذكور وبين البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الإحتياط بعده كما هو مقتضى لمذهب إلا بحسب المفهوم والاعتبار لا بحسب العمل ويظهر

٢٤٤

__________________

المراد باليقين والشك في سائر الفقرات أيضا ممّا ذكرناه.

ويرد عليه حينئذ : أن ظاهر الفقرات أنها بأجمعها إنما وردت لبيان أمر واحد على نحو التأكيد والاهتمام وعلى الاحتمال المذكور يلزم التفكيك بينها بكون المراد ببعضها بان قاعدة الاستصحاب كالفقرة الأولى وببعض آخر منها بيان كيفيّة عمل الشّاك كالفقرة الثانية والثّالثة فهذا التفكيك مخالف لظاهر الفقرات السّت إن قلنا بكون قوله فيبني عليه تفريعا على سابقه وكونه مع سابقه في حكم كلام واحد أو السّبع إن قلنا بكونه كلاما مستقلا.

مع أنّ قولنا ( إذ لا فرق ) منظور فيه إذ لو كان المراد بقوله في الصّحيحة : ( ولا ينقض اليقين بالشكّ ) بيان قاعدة الإستصحاب والإتيان بالركعة المشكوك فيها منفصلة كانت الصّحيحة دليلا على كون صلاة الاحتياط جزءا من الصّلاة بخلاف ما لو كان المراد به وجوب العمل بما يوجب اليقين بالبراءة كما اختاره المصنف رحمه‌الله في معنى الصّحيحة.

مضافا إلى ما قيل : من أنّه إذا شكّ بين الثلاث والأربع حال القيام وحصل العلم بترك التّشهد في الرّكعة الثّانية فإن قلنا بوجوب البناء على الأقلّ وجب القعود لقراءة التّشهد وإن قلنا بوجوب البناء على الأكثر وجب قضاؤه بعد الفراغ من الصّلاة وكذا لو حصل العلم بترك إحدى السّجدتين من الرّكعة الثّانية وحينئذ إن قلنا بوجوب البناء على الأقل وجب القعود لتدارك السّجدة المتروكة وحينئذ يرجع الشكّ بعد هدم القيام إلى الشّك بين الثنتين والثلاث قبل إكمال السّجدتين فتبطل الصّلاة وإن قلنا بوجوب البناء على الأكثر يجب قضاؤه بعد الفراغ من الصّلاة لفوات محلها بالبناء على كون الرّكعة المشكوك فيها رابعة » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى انّ قضيّة الاستصحاب لزوم البناء على عدم الوقوع ، ولزوم الإتيان بركعة أخرى موصولة ، لا عدم جواز البناء عليه كيف! وهذا المقدار لا ينافي إيجاب الإحتياط ، إذ معه لا

٢٤٥

أقول : المحتمل بعض أفاضل المتأخّرين حيث قال ـ في دفع ما أوردوا على الرّوايات المتمسّك بها لاعتبار الاستصحاب بضعف السّند في بعض ، وقصور الدّلالة في بعض أخر ـ ما هذا لفظه :

__________________

يجوز البناء أيضا على الوقوع فلا يجدي البناء على هذا الإحتمال في صحّة الاستدلال بالرّواية على الإستصحاب.

نعم يمكن أن يقال : ليس قضيّة الاستصحاب وحرمة نقض اليقين مطلقا ترتيب جميع الآثار الواقع ، كي كان قضيّته هنا إتيان ركعة موصولة ، كما هو مقتضي عدم الإتيان بالرّكعة المشكوكة ، بل ذلك قضيّة إطلاق دليله وقد قيّد ببيان كيفيّة الإتيان في الرّواية ، فيكون لزوم البناء على عدم الوقوع بلحاظ خصوص أثر لزوم الإتيان بالرّكعة ، لا بلحاظ تمام آثاره.

ولا يخفى انّ حملها على هذا لا يستلزم إلاّ التّقييد بالقرينة ، بخلاف حملها على التقيّة من دون أماراتها ، بل دلالة صدرها على خلافها ، أو حملها على ما أفاده من المعنى ، فانه خلاف ما هو المعهود منها من المعنى في سائر الرّوايات.

ثمّ انّ الحمل على هذا المعنى لا يستلزم إستفادة كيفيّته المقصودة من بقيّة فقراتها فيورد عليه بمخلافته لظاهر سائر الفقرات ، كما أورده قدس‌سره على الإحتمال ، فإنّ الظّاهر اتّحاد معنى اليقين والشّك فيها وانّما أتى بها تأكيدا أو تأييدا ، لا لبيان كيفيّة ما ألزم عليه بقوله عليه‌السلام « قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليها ولا تنقض اليقين بالشك » فانّه مستلزم لإرادة المتيقن والمشكوك في قوله عليه‌السلام : « ولا يدخل اليقين ... إلى آخره » وسائر الفقرات ، بل استفادة هذه الكيفيّة إمّا من تعيين الفاتحة في صدر الرّواية أو لسائر الرّوايات الواردة في بيان ذلك.

فتلخّص ممّا ذكرنا : انّه لا مانع من حملها على ما هو المعهود الظّاهر من معنى هذه العبارة في سائر الرّوايات إلاّ لزوم التّقييد وهو غيره بعيد ، لأنّه خفيفة المؤونة مع القرينة لا يزاحمه غيره من سائر الأحوال عند الدّوران ، فيوجب الإجمال المانع عن الإستدلال ، فتأمّل جيّدا » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٠٩.

٢٤٦

« وأمّا ما ذكره في الرّواية الثّانية فيمكن دفعه : بأنّ قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين بالشّك » مسوق لبيان أنّه لا ينقض يقينه بعدم فعل الرّابعة سابقا بالشّك في فعلها لاحقا ، بأن لا يعوّل على شكّه ، فيبني على وقوعها. ويؤيّده قوله عليه‌السلام : « ولا يدخل الشّك في اليقين ولا يختلط أحدهما بالآخر » (١) بناء على أنّه مسوق لبيان أنّه لا يدخل الرّكعة المشكوكة فيها في اليقين ، أعني : الصّلاة المعلوم اشتغال الذّمة بها ، أو لا يضمّها إلى الرّكعات الثّلاث اليقينيّة فيكون الظّرفيّة على التوسّع ولا يختلط الشّك أعني تلك الرّكعة المشكوك في وقوعها باليقين ، أعني : الصّلاة والرّكعات الثّلاث اليقينيّة : بأن يبني على وقوع الأربع ، بل ينقض الشّك في لحوق فعل الرّابعة بيقين عدمها السّابق فينفي فعلها بالأصل فيبني عليه ، ويأتي بها على الوجه المقرّر تحصيلا للبراءة اليقينيّة ويتمّ عليه ولا يعتدّ بالشّك في حال من الحالات ، بل يبني على بقاء ما تيقّن ثبوته » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

__________________

(١) مضى تخريجه آنفا.

(٢) الفصول : ٣٧١.

٢٤٧

في توضيح ما أفاده في الفصول

وبيان عدم استقامته من وجوه

وحاصل ما ذكره بتوضيح منّا : أنّه لا منافاة بين دلالة الرّواية على اعتبار الاستصحاب كلّية حتّى في المورد بالبناء على عدم وقوع المشكوك ، وما استقرّ عليه مذهب الخاصّة : من البناء على الأكثر والإتيان بالرّكعة المنفصلة ، بل في الرّواية ما يدلّ عليه ، وهو : قوله عليه‌السلام : « ولا يدخل أحدهما في الآخر ... إلى آخره » فالرّواية صدرا : تدلّ على اعتبار الاستصحاب ، وأنّه لا بدّ من البناء على عدم وقوع المشكوك. وذيلا : تدلّ على كيفيّة الإتيان به وأنّه لا بدّ من أن يؤتى به على ما هو مذهب الشّيعة ، فلا احتياج إلى حمل المورد على التّقيّة ، ولا إلى ارتكاب خلاف الظّاهر في شيء.

نعم ، لو لم يبيّن الذّيل لكيفيّة الإتيان بالمشكوك لكنّا محتاجين إلى استفادته من سائر ما ورد في باب « الشّكوك » ، والحكم بمقتضاها : بأنّه لا بدّ من أن يؤتى به مستقلاّ. ومعلوم أنّ هذا ممّا لا ينافي الاستصحاب في شيء ؛ لأنّ مقتضى الاستصحاب : هو الحكم بعدم إتيان ما وقع الشّك في وقوعه ، لا الإتيان به متّصلا أو منفصلا هذا.

ولكنّك خبير بعدم استقامة ما ذكره :

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يمكن الجمع بين العمل بالاستصحاب في المقام وما استقرّ

٢٤٨

عليه مذهب الخاصّة : من البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك مستقلاّ ؛ ضرورة أنّ البناء على الأكثر الّذي استقرّ عليه مذهب الخاصّة ونطقت به أخبارهم ينافي البناء على الأقلّ الّذي هو لازم للعمل بالاستصحاب.

وأمّا القول : بأنّ الاستصحاب لا يقتضي إلاّ البناء على الأقلّ والإتيان بالمشكوك متّصلا بل غاية ما يقتضيه هو البناء على عدم وقوع المشكوك.

فممّا لا يصغى إليه أصلا ؛ ضرورة أنّ مقتضى الاستصحاب هو فرض المشكوك كأن لم يكن كما في صورة القطع بعدمه.

فإن قلت : ليس المذكور في الرّواية هو البناء على الأكثر وإنّما المذكور فيها هو الإتيان بالرّكعة المشكوكة منفصلة.

قلت : لا بدّ من أن تحمل الرّواية على ذلك إن لم تكن ظاهرة فيه بملاحظة الأخبار الأخر السّابقة الآمرة بالبناء على الأكثر ، وأنّه لا بدّ من البناء حين العمل على وقوع المشكوك وبعده على عدمه والإتيان به مستقلاّ.

فإن قلت : أيّ ثمرة بين البناء على الأكثر والبناء على الأقلّ؟ وإنّما الّذي عليه مذهب الخاصّة هو التّسليم في الرّكعة المردّدة والإتيان بالمشكوك منفصلا.

وقد ذكرنا : أنّه يستفاد من الرّواية ، فإن شئت عبّر عنه بالبناء على الأكثر.

وإن شئت عبّر عنه بالبناء على الأقلّ ؛ إذ بعد فرض عدم الثّمرة بينهما لا يتفاوت التّعبير.

ان قلت : لا إشكال في وجود الثّمرة بين البناء على الأكثر والبناء على الأقلّ حسب ما صرّحوا به في الفقه في باب « الخلل »

٢٤٩

فمنها : أنّه لو قطع بعد البناء على الأربع على فوت التّشهّد منه في الرّكعة السّابقة ؛ فإنّه بعد البناء على الأربع ليس عليه شيء أصلا ؛ لأنّ عدم إتيانه بالتّشهد فيها كان في محلّه ؛ لأنّها من الرّكعة الثّالثة على هذا التّقدير ، وهذا بخلاف البناء على الأقلّ ؛ فإنّه يجب عليه الإتيان بالتّشهّد بعد الفراغ عن الصّلاة مع السّجدة للسّهو ؛ لأنّه فات منه التّشهّد على هذا التّقدير من الرّكعة الثّانية.

ومنها : أنّه لو علم في حال القيام بعد الشّك بين الثّلاث والأربع بعدم إتيانه بسجدة واحدة من الرّكعة الّتي انتقل منها إلى القيام ؛ فإنّه لو بنى على الأقلّ يرجع شكّه بعد العود لإتيان السّجدة وانهدام القيام إلى الشّك بين الاثنين والثّلاث قبل إكمال السّجدتين فيحكم بفساد صلاته ، بخلاف ما لو بنى على الأكثر ؛ فإنّه بعد البناء عليه تصير الرّكعة القائمة فيها بحكم الرّكعة الرّابعة والسّابقة عليها بحكم الرّكعة الثّالثة فعود الشّك على هذا التّقدير لا ثمرة له ، بل لا معنى للعود حينئذ بعد حكم الشارع بالبناء على كونها ثالثة هكذا ذكره بعض الأصحاب.

ولكنّه لا يخفى عليك ما فيه ؛ فإنّه بعد علمه بفوت السّجدة منه مع بقاء محلّه لا يكون لشكّه حكم في الشّرع أصلا ؛ لأنّ الشّك الّذي له حكم في عدد الرّكعات :هو الشّك المستقرّ. ومعلوم أنّه بعد القطع بفوت السّجدة منه لا معنى لإعمال دليل الشّك ، فعلى كلّ تقدير يرجع شكّه بعد انهدام القيام إلى الشّك بين الاثنين والثّلاث قبل الإكمال ، فيحكم بفساد الصّلاة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره بعد الغضّ عمّا ذكرنا أوّلا مخالف لظاهر الرّواية ؛ فإنّ المقصود من عدم دخول الشّك في اليقين وعدم اختلاطهما ليس ما ذكره : من عدم الإتيان بالمشكوك والمتيقّن مجتمعين ، بل هما كناية عن عدم دخل الشّك في

٢٥٠

اليقين وتصرّفه فيه بحيث يلغى اليقين ويؤخذ بالشّك ، بل لا بدّ من البناء على تحصيل اليقين وعدم الاعتداد بما يوجب الشّك في حصول الرّكعة على تقدير اعتباره في حال من الحالات.

وبالجملة : ما ذكره مخالف لظاهر الفقرات السّت لو لم يكن قوله : ( فيبني عليه ) شيئا مستقلاّ بل تفريعا على ما قبله ، أو السّبع لو كان أمرا مستقلاّ. وهذا معنى قوله « دام ظلّه » في « الرّسالة » : « ففيه : من المخالفة لظواهر الفقرات السّت ، أو السّبع » (١) حسب ما صرّح به في مجلس البحث.

وله وجه آخر ، وهو : أنّه لو بني على إرادة المتيقّن والمشكوك من اليقين والشّك ـ على ما هو لازم مذهبه من جميع الفقرات ـ لزم ارتكاب خلاف الظّاهر في الفقرات السّبع ، ولو بني على إرادتهما منهما بالنّسبة إلى غير الفقرة الأولى ـ كما هو ظاهر كلامه ـ لزم ارتكابه في الفقرات السّت.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٦٥.

٢٥١

(٥١) قوله : ( وأضعف من هذا دعوى : أنّ حمله على وجوب تحصيل اليقين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٦٦ )

أقول : ربّما يستظهر الدّعوى المذكورة من كلام الفاضل المتقدّم وقد صرّح بها بعض المتأخّرين.

ووجه الأضعفيّة ـ على ما صرّح به الأستاذ العلاّمة ـ : هو عدم وجود القدر الجامع بين المعنيين. أعني : الاستصحاب وقاعدة الشّغل ؛ لأنّك قد عرفت سابقا :أنّ معنى عدم نقض اليقين بالشّك في الاستصحاب : هو انسحاب اليقين السّابق والالتزام بآثاره في زمان الشّك. ومعناه في القاعدة : هو لزوم تحصيل ما يوجب اليقين بالامتثال وعدم الأخذ بما يوجب الشّك. ومعلوم أنّه لا جامع بين هذين المعنيين وإن كان لفظ اليقين والشّك والنّقض موجودا فيهما.

(٥٢) قوله : ( فالوجه فيه : إمّا الحمل على التّقيّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٧ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ إرادة القاعدة من الموثّقة أولى من إرادتها من

__________________

(١) قال المحقّق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : إن أراد المدّعي منع المنافاة بين إرادة قاعدة الاحتياط في الصّلاة والبناء على اليقين السّابق في غيرها بدعوى : أنّ كلاّ منهما مصداق للبناء على اليقين : ففيه : ما سيذكره المصنف رحمه‌الله : من عدم إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من العمل على اليقين.

وإن أراد دعوى : أنّ المراد من اليقين هو اليقين السّابق مطلقا إلاّ أنّ اليقين المعتبر في باب الصّلاة هو اليقين بالاشتغال فلا ينقضه بالشّك في البراءة يعني استصحاب الاشتغال لا القاعدة أو أراد توجيه البناء على الأكثر على وجه لا ينافي الاستصحاب كما تقدّم منّا تقريبه فلا يتوجّه عليه هذا الإيراد كما لا يخفى » انتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٤٣.

٢٥٢

الصّحيحة المتقدّمة ؛ لأنّها كانت ظاهرة في الاستصحاب بخلاف هذه ؛ لأنّها إمّا ظاهرة في القاعدة ، أو مردّدة بينها وبين الاستصحاب في نفسها ، فيجعل ما جعله الشّارع أصلا في سائر الأخبار من البناء على الأكثر بضميمة سائر القرائن المتقدّمة قرينة للمقصود ورافعة لإجمالها.

نعم ، بعض القرائن الّتي ذكرناها في الصّحيحة لا يجري في المقام ، لكن فيما تجري غنى وكفاية. والمفروض أنّه لا جامع بين القاعدة والاستصحاب حتّى تحمل عليه مع عدم الدّليل عليه كما تقدّم تفصيل القول فيه فتحمل على القاعدة.

فيصير حاصل معنى الرّواية على هذا التّقدير : أنّه إذا شككت فابن علي تحصيل ما هو المتيقّن لك من العمل.

نعم ، لا بدّ من أن يكون الرّاوي عالما بالمراد من الموثّقة ؛ إمّا ببيان الإمام عليه‌السلام له من الخارج ، أو بملاحظة سائر الرّوايات على تقدير عدم الظّهور فيها ، بل على تقدير الظّهور ؛ لأنّ غاية ما يكون الموثّقة ظاهرة فيها : هو البناء على قاعدة الشّغل وتحصيل اليقين بالفراغ ، وأمّا أنّ الأخذ بأيّ شيء يوجب هذا؟فالرّواية ساكتة عنه قطعا.

(٥٣) قوله : ( نعم ، يمكن أن يقال بعدم الدّليل على اختصاص الموثّقة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٧ )

أقول : لا إشكال في عدم وجود شيء في الموثّقة يدلّ على اختصاصها بشكوك الصّلاة فضلا عن الشّكّ في ركعاتها ، فلو استظهر من لفظ « البناء » سبق اليقين أمكن أن يقال : بظهورها في الاستصحاب ؛ إذ لا ينافي جعله أصلا جعل البناء على خلافه أصلا في خصوص شكوك الرّكعات من باب التّخصيص ، فالمدار

٢٥٣

في ظهورها وعدمه على استظهار سبق اليقين وعدمه ، وإن كان صريح « الكتاب » :المنع من ظهورها على تقدير تسليم الظّهور المذكور.

فإنّ مقتضى قوله : ( فهي أضعف دلالة ... إلى آخر ما ذكره ) (١) ما ذكرنا : من المنع على تقدير التّسليم ؛ نظرا إلى ما سنذكره في رواية [ ال ] « خصال » (٢) في أوّل النّظر ، وإن كان مقتضى استدراكه أخيرا ظهورها في الاستصحاب. ولذا فرّع قوله فيما سيأتي : ( فالإنصاف : أنّ [ الرّواية سيّما بملاحظة ] قوله عليه‌السلام ... إلى آخره ) (٣) عليه.

وأمّا قوله قدس‌سره : ( لاحتمالها ... إلى آخره ) (٤) فلا ينافي ما استظهرناه : من إفاداته من المنع ، فإنّ المراد من احتمال إرادة إيجاب العمل بالاحتياط في الموثّقة ليس هو الاحتمال الموهوم الغير المنافي لظهورها في الاستصحاب كما هو ظاهر فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٦٨.

(٢) الخصال : ٦١٩ الحديث ٦٢٩ / عنه الوسائل : ج ١ / ٢٤٦ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ـ ح ٦.

(٣) نفس المصدر : ج ٣ / ٧٠.

(٤) نفس المصدر : ج ٣ / ٦٨.

٢٥٤

(٥٤) قوله : ( أقول : لا يخفى عليك أن الشّك واليقين لا يجتمعان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٧ )

في انه لا يمكن إرادة الاستصحاب والقاعدة معا من الرواية

أقول : من الواضحات الغير المحتاجة إلى البيان : أنّ اليقين والشّك ممّا لا يجتمعان بأن يتعلّقا بشيء واحد من جميع الجهات في زمان واحد ؛ ضرورة تقابلهما وتنافيهما من حيث المفهوم ، فوجودهما لا يمكن إلاّ بتعدّد المتعلّق ، أو بتعدّد زمان وجودهما.

والتّعدد في المتعلّق : إمّا أن يكون بحسب الذّات وبحسب قيد من قيودها كالزّمان والمكان ونحوهما ، فالّذي هو معتبر في الاستصحاب هو تعدّد زمان متعلّق الشّك واليقين وإن اتّحد زمان الوصفين كما فيما فرضه الأستاذ العلاّمة من المثال ؛ لأنّك قد عرفت ـ في طيّ بعض كلماتنا السّابقة ـ : أنّه مع وحدة زمان المتعلّق وتعدّد زمان الوصفين لا يصدق الاستصحاب موضوعا الّذي قد عرفت :أنّه عبارة عن الإبقاء وإثبات ما ثبت في زمان ونحوهما من العبائر القريبة منها.

والّذي هو معتبر في القاعدة هو تعدّد زمان الوصفين مع وحدة زمان المتعلّق الّذي لازمه سراية الشّك اللاّحق إلى اليقين السّابق ، ولهذا يسمّى في لسان جمع بالشّك السّاري.

وقد عرفت معنى عدم نقض اليقين بالشّك في الاستصحاب ، وأنّه عبارة عن : انسحاب اليقين والالتزام بترتيب آثاره في زمان الشّك. وأمّا معناه في القاعدة : فهو الحكم بصحّة الاعتقاد في السّابق ومطابقته للواقع والالتزام بآثاره

٢٥٥

في زمان وجوده وعدم رفع اليد عنها بالشّك السّاري إليه.

وهذه القاعدة هي الّتي تسمّى في لسان بعض المشايخ بأصالة الصّحة في الاعتقاد ؛ حيث إنّه قسّم أصالة الصّحة إلى أقسام أربعة : أصالة الصّحة في الأفعال ، وأصالة الصّحة في الأقوال ، وأصالة الصّحة في الاعتقادات ، وأصالة الصّحة في جميع الموجودات الّتي هي أعمّ من الثّلاثة السّابقة عليها. فالجمع بين القاعدة والاستصحاب ممّا لا معنى له كما قد يتوهّم.

كما أنّك قد عرفت : أنّ الجمع بين الاستصحاب وقاعدة الشّغل أيضا ممّا لا يمكن ، فلنا قواعد ثلاثة لا يمكن الجمع بينها في إطلاق واحد ، قد كانت الرّوايات السّابقة غير الصّحيحة (١) والموثّقة ظاهرة : في الاستصحاب ، والصّحيحة والموثّقة ظاهرتين : في قاعدة الشّغل بالبيان المتقدّم ، والرّوايتان ظاهرتين : في قاعدة الصّحة حسب ما استظهره الأستاذ العلاّمة أوّلا ولهذا تمسّك بهما بعض المشايخ لها حسب ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

(٥٥) قوله : ( فضلا عن تأخّر الأوّل عن الثّاني ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٩ )

أقول : ربّما يستشعر من هذه العبارة بل يظهر منها : أنّه يمكن في الاستصحاب فرض تقدّم زمان الشّكّ على زمان اليقين ، وهو من حيث الحصول ممّا لا إشكال فيه بمعنى : كون الشّك حاصلا قبل اليقين كما لو كان يوم الجمعة شاكّا في عدالة زيد وفي السّبت حصل له العلم بكونه عادلا في يوم الخميس ،

__________________

(١) أي : ما خلا الصحيحة والموثقة ويعني بهما صحيحة زرارة وموثقة عمّار وقد تقدّم تخريجهما فلا نعيد.

٢٥٦

فيستصحب عدالته في زمان القطع لو لم يكن قاطعا بزواله. وأمّا من حيث الانعدام ، بمعنى : انعدام الشّك في زمان اليقين ، كما لو كان زمان اليقين مقدّما ؛ فإنّه بعد وجود الشّك ينعدم فلا ، فلهذا ربّما يدخل في فرض وحدة زماني الشّك واليقين مع تعدّد زمان المتعلّق فتدبّر.

(٥٦) قوله : ( وحيث إنّ صريح الرّواية ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الصّراحة إنّما استفيدت من « الفاء » الظّاهرة في التّعقيب ، ولهذا قد يناقش فيما ذكره « دام ظلّه » من لفظ الصّراحة ، إلاّ أنّ مراده من الصّراحة الظّهور القوي الّذي ربما يسمّى بالاسم المذكور في كلماتهم من باب المسامحة. والرّواية الثّانية : أظهر من الأولى في الدّلالة على التّعقيب كما لا يخفى ، لكن من المحتمل قريبا كون ذكر ما يدلّ على التّعقيب وترتدب الشّك زمانا على اليقين مبنيّا على الغالب ، فلا دلالة فيه على إناطة الحكم في القضية على تأخّر الشّك عن اليقين المنوطة به قاعدة « البناء على اليقين » كما هو ظاهر ، فلا دلالة للرّواية بهذه الملاحظة على القاعدة كما سنشير إليه فافهم.

وأمّا ظهور اتّحاد المتعلّق فإنّما جاء من عدم ذكره ، أو غلبة الوحدة فيصير حاصل المعنى على هذا التّقدير : أنّ من كان على يقين من شيء في زمان ثمّ حصل له الشّك في زمان آخر بعده في ذلك الشّيء فليمض على يقينه به ولا يعتن بشكّه ، فتصير الرّواية حينئذ ظاهرة في القاعدة ، لا في الاستصحاب ، فيسقط الاستدلال بها على اعتباره كما صدر عن جماعة ممّن تأخّر.

(٥٧) قوله : ( ويؤيّده : أن النّقض حينئذ محمول على حقيقته ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٩ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّ استعمال النّقض في المعنى المذكور مجاز أيضا

٢٥٧

حسب ما يستفاد من تصريح اللّغويّين : من كونه ضدّ الإبرام ، فلا معنى لإطلاقه حقيقة عليه.

ويمكن دفعه : إمّا بدعوى حصول الوضع العرفي لنقض اليقين في المعنى المذكور فتأمّل ، أو كون الإطلاق مبنيّا على التّسامح : من حيث كونه أقرب المجاز إليه ، أو بدعوى كونه مستعملا في معناه اللّغوي بعد تنزيل اليقين منزلة الحبل كما هو أحد الوجهين في استعماله في العقد والعهد ؛ حيث إنّه بعد جعل اليقين ادّعاء من أفراد الحبل يكون استعمال ما يناسبه فيه حقيقة. وكيف كان : الأمر في ذلك سهل.

(٥٨) قوله : ( وهذا ليس نقضا لليقين السّابق ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٦٩ )

أقول : الوجه فيما ذكره ظاهر بعد البناء على كون النّقض بمعنى الرّفع ؛ فإنّ من لا يعمل بالاستصحاب لا يرفع يده عن آثار اليقين المترتّبة عليه في زمان وجوده ، وإنّما هو لا يلتزم بترتيبها في زمان انعدامه بحصول الشّك. ومعلوم أنّ هذا ليس رفع اليد عن آثار اليقين ؛ لأنّ المفروض الالتزام بآثاره في زمان وجوده ، وإنّما لا يلتزم بها في زمان عدم وجوده.

ومن الواضح : أنّ تعلّق اليقين بشيء في زمان لا يقتضي بنفسه ترتيب آثاره عليه وإن زال عنه اليقين.

نعم ، لو قطع النّظر عن تعلّق اليقين به في زمان تعلّقه به وجعل متعلّقه باللّحاظ هو نفس الشّيء صحّ إطلاق النّقض عليه ، هكذا ذكره الأستاذ العلاّمة.

٢٥٨

(٥٩) قوله : ( ثمّ لو سلّم أنّ هذه القاعدة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٦٩ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّه لا إطلاق للرّواية بناء على حملها على القاعدة

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« فيه نظر وتوضيحه :

أن الشك في المتيقن السّابق إمّا من جهة تبين فساد مدرك الاعتقاد السّابق إذ تبين فساد المدرك لا يستلزم تبيّن فساد المدرك أو من جهة أخرى كنسيان المدرك وعلى الأوّل إمّا أن يعمل في زمان اليقين على طبق اعتقاده كالاقتداء بمن اعتقد عدالته أو العمل بفتواه أو شهادته أو نحو ذلك أو لا.

وحينئذ إن أريد بتأسيس هذا الأصل إثبات وجوب البناء على صحّة الاعتقاد السّابق وإمضاء ما عمل به في زمان الإعتقاد وترتيب آثار المعتقد في زمان الشكّ فهو خلاف الإجماع لإجماعهم على عدم الاعتداد بالاعتقاد السّابق في زمان الشك مع تبيّن فساد مدرك اعتقاده.

وإن أريد به البناء عليها مع تخصيص ما أخرجه الدّليل بان يقيد إطلاق هذا الأصل بأحد الوجهين اللّذين أشار إليهما المصنف رحمه‌الله فهو موجب لتخصيص الأكثر إذ الغالب تبيّن فساد مدرك الاعتقاد عند زواله فإخراج مورد الإجماع موجب للمحذور المذكور بل يمكن دعوى مخالفة هذه القاعدة للإجماع من رأس ومخالفة كاشف الغطاء غير قادحة فيها كما لا يخفى.

وأمّا حكم العلماء بصحة الأعمال الواقعة على طبق الاعتقاد السّابق فلعلّه لأجل قاعدة الشك بعد الفراغ لا للقاعدة المذكورة فإنّهما قاعدتان مختلفتا المؤدّى فإنّ مؤدّى هذه القاعدة هو تصحيح الاعتقاد السّابق بالبناء على مطابقته للواقع وإن لم يرتب عليه عملا بعد ومؤدّى قاعدة الفراغ تصحيح العمل بالبناء على مطابقة للواقع وإن لم يقع عن اعتقاد أو شك في وقوعه كذلك كما إذا صلّى من دون التفات إلى استجماعه للشرائط ثمّ شكّ فيه أو شكّ فيه بعد الفراغ من دون تذكر لاعتقاده به حين الصّلاة ومن هنا يظهر أنّ الرّواية إن صحّت سندا ودلالة لا تصلح لتأسيس هذه القاعدة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٥٨.

٢٥٩

المذكورة ؛ لأنّها لا تقتضي إلاّ الحكم بعدم نقض اليقين بالنّسبة إلى الأعمال الّتي رتّبها سابقا ، أو الآثار المترتّبة عليه في زمانه ولو بعده فتأمّل.

وأمّا ترتيب الآثار الغير المترتّبة على اليقين السّابق أصلا وإنّما يريد ترتيبها في زمان الشّك فلا يدلّ عليه الرّواية فتأمّل.

ثمّ إن تنزيل القاعدة على ما ذكر وتقييد إطلاقها على الصّورة المذكورة ، يعني : صورة عدم التّذكّر لمستند القطع ، وإخراج صورة التّذكر مع العلم بعدم الصّلاحيّة يستفاد من فقيه عصره في « كشفه » (١) فراجع إليه.

__________________

(١) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء : ج ١ / ٢٠١.

٢٦٠