بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

اعتراض صاحب الفصول والجواب عنه

أقول : المعترض بعض أفاضل المتأخّرين (١) فيما ذكره في تقسيم الاستصحاب حيث قال :

« واعلم أنّه ينقسم الاستصحاب باعتبار مورده إلى استصحاب حال العقل ، والمراد به : كلّ حكم ثبت بالعقل سواء كان تكليفيّا كالبراءة حال الصّغر ، وإباحة الأشياء الخالية من أمارة المفسدة قبل الشّرع ، وكتحريم التّصرّف في مال الغير ، ووجوب ردّ الوديعة إذا عرض هناك ما يحتمل زواله كالاضطرار والخوف ، أو كان وضعيّا سواء تعلّق الاستصحاب بإثباته كشرطيّة العلم لثبوت التّكليف إذا عرض ما يوجب الشّك في بقائها مطلقا ، أو في خصوص مورد ، أو ينفيه كعدم الزّوجيّة ، وعدم الملكيّة الثّابتين قبل تحقّق موضوعهما. وتخصيص جمع من الأصوليّين لهذا

__________________

الخارجة الّتي لا دخل لها في الأحكام العقليّة لأنّ عدمهما عند عدم موضوعهما ثابت بالوجدان دون العقل وقد تعرّض المصنّف ; لكلام المعترض في التّنبيه الثّالث ولحال الأمثلة الّتي ذكرها فانتظره.

وأمّا ثانيا : مع تسليم صحّة استصحاب الأحكام العقلية فكان تفسير القوم لاستصحاب حال العقل بالبراءة الأصليّة في مقابل استصحاب حال الشّرع إنّما هو من جهة أنّ الثّابت بالبراءة الأصليّة هو نفي الحكم الشرعي وهو ليس من الأحكام الشّرعيّة ففسّروا استصحاب حال العقل بها لأجل إدراج الإستصحابات الوجوديّة العقليّة في استصحاب حال الشّرع لكون العقل من أدلّة الشّرع ». أنظر أوثق الوسائل : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(١) صاحب الفصول الغرويّة قدس‌سره.

١٤١

التّقسيم ، أعني : استصحاب حال العقل بالمثال الأوّل ، أعني : البراءة الأصليّة ممّا لا وجه له » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وحاصل ما ذكره الأستاذ العلاّمة في دفعه : هو أنّ الأصوليّين ليسوا مفصّلين في جريان الاستصحاب بين القضايا الوجوديّة المستندة إلى العقل والعدميّة المستندة إليه. كيف! وقد عرفت : أنّ الاستصحاب لا يتحقّق موضوعا في كلّ قضيّة مستندة إلى العقل سواء كانت وجوديّة أو عدميّة.

وهم مطبقون على عدم الفرق أيضا ، فمرادهم من حال العقل الّتي يذكرونها في تقسيم الاستصحاب ليس هو الحال المستندة إليه ، بل مرادهم من حال العقل : هو الحال الّتي تثبت في مورد حكم العقل من غير استناد إليه ، وإن كان للعقل مدخل في الحكم باستمراره.

ولمّا كان هذا المعنى مختصّا بالبراءة الأصليّة فلهذا اختصّوا حال العقل بها. وأمّا الاختصاص بها فلما قد عرفت : أنّ الوجود المستند إلى القضيّة العقليّة ليس له حالة سابقة يقينيّة مع قطع النّظر عن حكم العقل ، فالشّك فيه دائما يكون من جهة الشّك في الموضوع.

وأمّا العدم المستند إليه غير البراءة الأصليّة ـ كما فيما ذكره من المثالين ـ فهو وإن كان له حالة سابقة ، إلاّ أنّ بعد وجود الموضوع ليس ما يقتضي هناك باستمراره ، فلهذا اختصّ الحال بالمعنى المذكور بالبراءة الأصليّة ولا يتحقّق في غيرها. هذا ملخّص ما ذكره « دام ظلّه العالي ».

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٦٦.

١٤٢

ويمكن أن يورد عليه ـ على فرض صحّة ما ذكره من الفرق ـ : بأنّه خلاف الظّاهر من كلماتهم ؛ حيث إنّ الظّاهر منها كون المراد من حال العقل المستندة إليه لا الثّابتة في مورده وإن كان من غير جهته ، ويشهد لما استظهرنا ـ مضافا إلى كونه الظّاهر من اللّفظ ـ مقابلة الحالين. أي : حال العقل ، وحال الشّرع ؛ ضرورة أنّ المراد من الثّاني هو الحال المستندة إلى الشّرع ، لا الحال الثّابتة في مورد حكم الشّرع كما لا يخفى هذا.

مضافا إلى أنّ ما ذكره في بيان الفرق بين عدم التّكليف الثّابت حال الصّغر وقبله ، وبين سائر الأعدام الثّابتة في حال عدم الموضوع فيما إذا شكّ في ارتفاعها بعد وجود الموضوع بعد كون الحالة السّابقة في كلّ منهما مستندا إلى عدم الموضوع ممّا لم يعلم له معنى محصّل هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ مرادهم من تخصيص استصحاب حال العقل بالبراءة الأصليّة ليس هو عدم جريان الاستصحاب في سائر الأحكام العقليّة حسب ما هو مبنى الاعتراض ، بل إدراج البراءة الأصليّة في أقسام الاستصحاب ، أو بيان الفرد الظّاهر من حكم العقل إلى غير ذلك.

ثمّ إنّ في كلام المعترض جملة من المناقشات لا بأس بالإشارة إليها.

أحدها : ما مثّل به للحكم التّكليفي المستند إلى العقل من البراءة والإباحة ؛ ضرورة أنّهما ليستا من الأحكام التّكليفيّة قطعا ، ولو تكلّف بإدراج الثّاني فيها لم يعقل معنى لإدراج الأوّل قطعا. كيف؟ وعدم الحكم ليس حكما سيّما في حقّ غير القابل لتوجّه التّكليف إليه كالصّغير ، اللهم إلاّ أن يقال : إنّ مراده من الحكم التّكليفي الثّابت بالعقل أعمّ من أن يتعلّق حكمه بثبوته ، أو بنفيه كما ذكره في

١٤٣

الحكم الوضعي ، لكنّه أيضا كما ترى.

ثانيها : ما جزم به : من أنّ الحكم الثّابت بالعقل قد يكون وضعيّا كشرطيّة العلم لثبوت التّكليف ؛ ضرورة أنّ الثّابت بالعقل ليس هو شرطيّة العلم ، بل عدم الوجوب الفعلي عند عدم العلم. نعم ، ينتزع من هذا شرطيّة العلم.

ثمّ إنّ هنا أمورا ينبغي التّنبيه عليها :

الأوّل : أنّ ما ذكره الأستاذ العلاّمة في تصحيح استصحاب البراءة الأصليّة إنّما هو من حيث دفع توهّم عدم الفرق بينه وبين استصحاب سائر الأحكام العقليّة من حيث جريان الاستصحاب ، وإلاّ فالتّحقيق : عدم صحّة جريان الاستصحاب المذكور من جهات يأتي الإشارة إليها إن شاء الله.

الثّاني : أنّ ما ذكره من الإشكال في تحقّق الاستصحاب موضوعا في الأحكام العقليّة : قد يجري في الأحكام الشّرعيّة أيضا كالحكم الثّابت بالإجماع على غير مذهب القدماء ؛ حيث إنّه لا يعلم به غالبا موضوع الحكم ، بل قد يجري في غير الإجماع أيضا كما لا يخفى.

الثّالث : أنّه يمكن القول بصحّة جريان استصحاب البراءة بعد البلوغ مع قطع النّظر عمّا يرد عليه ، وإن قلنا بكون البراءة في حال الصّغر وعدم قابليّة التكليف مستندة إلى حكم العقل ؛ فإنّ المفروض ثبوت البراءة بعد التّميّز والقابليّة في الجملة بحكم الشّرع ؛ فإنّ الصّبي بعد التّميز وقبل البلوغ إنّما لا يكون مكلّفا بحكم الشّرع لا العقل كما لا يخفى.

ولك أن تجعل هذا من أحد وجوه تخصيص القوم استصحاب حال العقل بالبراءة الأصليّة مع كون بنائهم على عدم صحّة جريان الاستصحاب في الأحكام

١٤٤

العقليّة بقول مطلق ، ولكنّه خلاف الظّاهر من كلامهم ؛ فإنّ الظّاهر منه إرادتهم استصحاب نفس ما ثبت بالعقل لا ما حكم العقل به في زمان وإن زال مناط حكمه بعده لكن كان الحكم باقيا من جهة الشّرع وهو العالم.

(٢٩) قوله : ( وما ذكره من الأمثلة يظهر الحال فيها ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠ )

أقول : وجه الظّهور : أنّ جميع الأمثلة الّتي ذكرها غير البراءة الأصليّة الّتي عرفت حالها لا يمكن وقوع الشّك فيها أصلا ؛ فإنّ حكم العقل بقبح التّصرف في مال الغير ، أو حسن ردّ الوديعة الكاشف عن حكم الشّرع بالحرمة والوجوب ، لا يمكن أن يكون على سبيل الإهمال. فبالنّسبة إلى الخوف والاضطرار : إمّا أن يكون لا بشرط ، أو بشرط شيء. وعلى كلّ تقدير لا يمكن فرض الشّك فيه أصلا.

وكذا حكمه بشرطيّة العلم بالنّسبة إلى حالتي الإجمال والتّفصيل لا يعقل فرض الشّك فيه. فكيف يجوز للحاكم أن يحكم في مورد لا يعلم بما هو الموضوع لحكمه وإلاّ لم يكن حاكما؟

ومن هنا ذكرنا وذكروا : أنّ الموضوع من الوجدانيّات للحاكم. وهكذا الكلام بالنّسبة إلى حكمه بعدم الشّيء من جهة عدم موضوعه لا يتصوّر فيه شكّ ، فتكثير الأمثلة والتّقسيم لا يجدي في شيء أصلا كما لا يخفى.

وبالجملة : لو قيل بجريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي المستند إلى القضيّة العقليّة فلا بدّ من أن يفرض هناك شكّ ، وقد عرفت : عدم وقوع الشّك في الأمثلة المذكورة أصلا بالنّظر إلى الموضوع الكلّي ، وإنّما قيل بتصوّره بالنّسبة إلى الموضوع الخارجي الجزئي. وسيجيء الكلام فيه في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.

١٤٥

(٣٠) قوله : ( وتخيّل بعضهم تبعا لصاحب المعالم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤١ )

أقول : الّذي يقتضيه النّظر القاصر : هو أنّ صاحب « المعالم » لم يتخيّل خروج ما فهمه من كلام المحقّق عن محلّ النّزاع : من التّفصيل في اعتبار الاستصحاب بين الشّك في المقتضي والشّك في الرّافع ، بل إنّما تخيّل من كلام المحقّق : كون مراده تخصيص اعتبار الاستصحاب بما إذا كان الدّليل بنفسه متعرّضا لحكم الزّمان الثّاني كتعرّضه للزّمان الأوّل ، كما ربّما يتوهّم في باديء النّظر : من ملاحظة بعض كلماته ، ولهذا تخيّل كونه من المنكرين. وهذا هو الّذي ظهر لي من كلام صاحب « المعالم » ، وقد صرّح بهذا التخيّل بعض من تبعه ممّن تأخّر عنه (١) ، فافهم وانتظر لتمام الكلام.

(٣١) قوله : ( وبين ما يظهر من بعض استدلال المثبتين ). ( ج ٣ / ٤٢ )

أقول : أمّا استدلال المثبتين فهو قولهم : إنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود والعارض لا يصلح أن يكون رافعا إلى آخر ما سيجيء.

وأمّا استدلال النّافيين : فهو أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكانت بيّنة النّفي أولى ، لاعتضادها بالاستصحاب بناء على ما استظهره الأستاذ العلاّمة : من كون الشّك في ارتفاع العدم من الشّك في الرّافع حسب ما سيجيء.

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« قد تقدّم ذلك عن محمد بن علي بن أحمد الحرفوشي في شرح قواعد الشهيد وسيحكيه المصنّف رحمه‌الله أيضا عن الفاضل الجواد في شرح الزبدة » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٤٧.

١٤٦

تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك المأخوذ فيه

(٣٢) قوله : ( الثّالث : من حيث إنّ الشّك في بقاء المستصحب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٤٦ )

صور الشك في المقتضي والشك في الرافع

أقول : لا يخفى عليك : أنّ الشّك من حيث المقتضي والرّافع على أقسام.

أمّا أقسام الشّك في المقتضي :

فهي أنّه قد يكون الشّك في أصل الاقتضاء بمعنى : الشّك في كونه آنيّ الوجود ، فيرجع في الأحكام إلى الشّك في الفوريّة.

وقد يكون في مقداره مع القطع بثبوته في الجملة.

__________________

(١) قال المحقّق الأصولي الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« لا يخفى أن الشك في الغاية على أقسامه على هذا الوجه الثالث خارج من محلّ النّزاع بناء على خروج الشكّ في المقتضي منه بمعنى عدم خلافهم في عدم حجّيّة الاستصحاب فيه لكونه من قبيله وكذا على الوجه الثالث من وجوه التقسيم الثاني خارج من محلّ النّزاع لكنه مبني على عدم خلافهم في حجّيّة الاستصحاب عند الشكّ في الغاية وكذا الرّافع على ما تقدّم هناك لأنّ مبنى التقسيم هناك على دلالة الدّليل على استمرار الحكم وعدمها مع قطع النّظر عن كون الشكّ في بقائه من قبيل الشك في الرّافع أو المقتضي وهنا على كون الشكّ من أحد القبيلين مع قطع النّظر عن دلالة الدّليل على الاستمرار وعدمها فتدبّر » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٤٧.

١٤٧

وقد يكون في انقضاء المقدار مع القطع به.

وأمّا أقسام الشّك في الرّافع :

فهي أنّه قد يكون في وجود الرّافع إلى ما علم بثبوت وصف الرّافعيّة والنّاقضيّة له ، وهذا قد يكون في الشّبهة الحكميّة كما في الشّك في النّسخ بناء على كون استصحاب عدم النّسخ من الاستصحاب الاصطلاحي.

وقد يكون في الشّبهة الموضوعيّة كما إذا شكّ بعد الطّهارة في وجود نواقضها من البول ، والغائط ، والرّيح ، والنّوم ، وغير ذلك.

وقد يكون في رافعيّة الموجود من حيث تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعا له وبين ما لا يكون.

وقد يكون في رافعيّة الموجود من حيث الشّك في كونه رافعا مستقلاّ في الشّرع كالمذي مع القطع بعدم كونه مصداقا للرّافع المعلوم رافعيّته.

وإمّا من حيث الشّك في كونه مصداقا للرّافع المعلوم مفهومه كالرّطوبة المردّدة بين البول والمذي.

وإمّا من حيث الشّك في كونه مصداقا للرّافع المجهول مفهومه ، أو معلوم المفهوم المشكّك ببعض التشكيكات المانعة عن الاستدلال.

ويسمّى الأوّل من القسمين الأخيرين : بالشّبهة في الموضوع الخارجي والموضوع الصّرف في لسان بعض. والثّاني منهما : بالشّبهة في الموضوع المستنبط. أي : المستنبط منه الحكم الّذي يوجب الشّك فيه الشّك في الحكم الكلّي الصّادر من الشّرع.

أمّا الشّك في المقتضي : فالظّاهر أنّ جميع أقسامه محلّ للخلاف ، بمعنى :

١٤٨

وجود القائل باعتبار الاستصحاب فيه وعدم الاتّفاق على عدم اعتباره فيه ، وإن كان ظاهر بعض استدلال المثبتين : بأنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ربّما يوهم الخلاف وكون عدم اعتباره فيه موضع وفاق ، وأنّ مقصود المثبت غيره. لكن من المعلوم لكلّ من راجع إلى كلماتهم كونه مشمولا لمحلّ الخلاف ، بل ربّما قيل باختصاص محلّ الخلاف به.

عدم خروج الشك في الرّافع عن حريم النزاع

وأمّا الشّك في الرّافع : فالظّاهر أنّ جميع أقسامه محلّ للخلاف ، بمعنى :توجّه إنكار المنكر المطلق إليها أيضا كما يظهر من استدلال المثبتين لما عرفت سابقا : من أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ... إلى آخره.

فإنّه لو كان اعتبار الشّك في الرّافع من الاتّفاقيّات واختصّ الخلاف بالشّك في المقتضي لم يكن معنى للتمسّك بالدّليل المذكور كما لا يخفى. ومن استدلال النّافين : بأنّه لو كان حجّة لكانت بيّنة النّافي أولى لاعتضادها بالاستصحاب. ومن إنكار السيّد لاعتباره في البلد المبني على ساحل البحر ، وزيد الغائب عن النّظر إلى غير ذلك. ومن إنكار صاحب « المدارك » لاستصحاب عدم التّذكية مع كون الشّك في جميعها من الشّك في الرّافع ، هكذا ذكره الأستاذ العلاّمة في « الرّسالة » وفي مجلس البحث.

لكن قد يتأمّل في كون الشّك في الموت في استصحاب الحياة ، والشّك في الوجود في استصحاب العدم من الشّك في الرّافع ؛ حيث إنّ الحياة ليس لها اقتضاء استمرار دائما بالنّسبة إلى جميع أفراد الإنسان حتّى يكون الموت رافعا لها ، بل أصل اقتضائها ينقضي كثيرا فيحصل الموت.

١٤٩

نعم ، لو شكّ في الموت العارض وسانح اتّفاقيّ مع وجود المقتضي للحياة بحسب الحرارة العريزيّة كان من الشّك في الرّافع ، وكذلك العدم ليس له مقتضي (١) يقتضي استمراره إلى زمان الوجود ، بل العدم مستند إلى عدم المقتضي للوجود ، فإذا حصل فليس هنا شيء يرفعه. ومثل الموت والوجود ـ في عدم كونهما من الرّافع ـ الزّمان فيما يجعل غاية لحكم كما في اللّيل بالنّسبة إلى وجوب الصّوم ؛ فإنّ وجود اللّيل ليس رافعا لوجوب الصّوم ، بل ينقضي اقتضاؤه بوجوده من حيث عدم صلاحيّة موضوعه لأزيد من ذلك. فاللّيل ليس رافعا للحكم ولا للموضوع المعلّق عليه الحكم حتّى يكون استصحابه من استصحاب الشّيء مع الشّك في وجود الرّافع له ؛ لأنّ اليوم الّذي هو موضوع لوجوب الصّوم ليس له اقتضاء الاستمرار والبقاء دائما وإنّما هو برهة من الزّمان سمّي باليوم بملاحظة سير الكوكب فما دامت الشّمس فوق الأفق يسمّى الزّمان يوما ، فليس له اقتضاء استمرار حتّى يكون اللّيل رافعا له. وسيجيء الكلام في توضيح ذلك في تنبيهات المسألة إن شاء الله هذا.

ولكن يمكن التّفصّي عن هذا الإشكال : بأنّ الموت والوجود واللّيل وإن لم يكن كلاّ منهما من الرّافع حقيقة إلاّ أنّه لا شكّ ولا ريب أنّ كلاّ من هذه باق ما لم يوجد هذه الأشياء المقابلة لها ، فكأنّها من الرّافع من حيث إنّها ما لم توجد لم ينقض اقتضاؤها.

وإن شئت قلت : إنّها من الرّافع عرفا وإن لم يكن منه حقيقة. وإن شئت قلت :إنّها ملحقة به حكما من حيث إنّ في زمان الشّك فيها لو رفع اليد عن الحالة السّابقة صدق النّقض عليه ، ولو لم يرفع اليد عنه صدق البقاء عليه ، وهما المناط في اعتبار

__________________

(١) كذا والصحيح : « مقتض ».

١٥٠

الاستصحاب من باب الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك كما ستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى هذا.

ثمّ إنّ الفرق بين الرّافع والمانع مع كون عدم كلّ منهما من أجزاء العلّة التّامّة لوجود الشّيء : هو أنّ الأوّل يلاحظ بالنّسبة إلى الوجود الثّانوي والثّاني بالنّسبة إلى مطلق الوجود ، كما أنّ الدّافع يلاحظ بالنّسبة إلى الوجود الأوّلي فالرّافع أيضا مانع من اقتضاء المقتضي وتأثيره لكن بالنّسبة إلى الزّمان الثّاني والوجود اللاّحق لا أن يكون رافعا للوجود الأوّلي ؛ ضرورة أنّه بعد الوجود يمتنع عروض ما يرفعه ، فلا بدّ أن يكون الرّافع أيضا عدمه جزءا من العلّة التّامة حتى يستحيل بوجوده المعلول ويلحق الممتنع بالعرض.

* * *

١٥١
١٥٢

* الأقوال في حجّيّة الإستصحاب

* أدلّة المختار :

ـ الدليل الأوّل : الإتّفاق

ـ الدليل الثاني : الإستقراء

ـ الدليل الثالث : السنّة

* حجّة القول الأوّل ( المثبتون لحجّية الإستصحاب )

* حجّة القول الثاني ( النافون لحجّيّة الإستصحاب )

* حجّة القول الثالث ( المفصّلون بين العدمي والوجودي )

* حجّة القول الرابع ( المفصّلون بين الأمور الخارجيّة والحكم الشرعي مطلقا )

* حجّة القول الخامس ( المفصّلون بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره )

* حجّة القول السابع ( تفصيل الفاضل التوني بين الحكم التكليفي والوضعي )

١٥٣
١٥٤

* حجّة القول الثامن ( التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره )

* حجّة القول التاسع ( التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع )

* حجّة القول العاشر ( التفصيل بين الشك في وجوب الغاية وعدمه )

* حجّة القول الحادي عشر ( التفصيل المتقدم مع زيادة الشك في مصداق الغاية )

١٥٥
١٥٦

الأقوال في حجّيّة الإستصحاب (١)

__________________

(١) قال المؤسّس المجدّد الطهراني قدس‌سره :

« قد يتوهّم : انّ في حجّيّة الإستصحاب أحد عشر قولا أو أزيد.

والتحقيق : أنّ الإستصحاب بمعنى التعويل على الحالة السابقة المعبّر عنه باستصحاب الحال واستصحاب حال الشرع وحال الإجماع ليس فيه إلاّ قولين ، ولم يذهب إلى اعتباره أحد ممّن يعتدّ بمقالته من العامّة فضلا عن أصحابنا ممّن سلف وإنّما شاعت النسبة إلى بعض الأواخر وهو أيضا عند التأمّل إشتباه.

توضيح الحال : ان الإستصحاب في لسان القوم يطلق على أربعة أمور :

استصحاب حال العقل الذي هو عبارة عن الإعتماد على قبح العقاب بلا بيان في نفي تنجّز التكليف المجهول ، وعدم الدليل دليل العدم الذي هو دليل اجتهادي ، واستصحاب حكم النّص والإطلاق والعموم الذي هو عبارة عن الإعتماد على الإقتضاء وعدم الإعتداد باحتمال المانع ، واستصحاب حال الشرع الذي يعبّر عنه باستصحاب حال الإجماع أيضا ويراد باستصحاب الحال بقول مطلق.

ولا إشكال ولا خلاف في اعتبار ما عدا الأخير ، والذي عقدوا له الباب إنّما هو الأخير ، ولكن اضطربت كلماتهم فيه ؛ حيث انه اختلف مورد النفي والإثبات ، مع ان العنوان إنّما هو استصحاب حال الشرع.

ففي العدّة ـ بعد ما جعل العنوان استصحاب الحال ومثّل له بالمثال المعروف وهو المتيمّم الواجد للماء في أثناء الصّلاة وإختار عدم الحجّيّة ـ :

« والذي يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال : لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل لكان عليه دليل وإذا تتبّعنا جميع الأدلّة فلم نجد فيها ما يدلّ على انّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى دلّ على أنّ حكم الحالة الأولى باق على ما كان.

١٥٧

__________________

فإن قيل : هذا رجوع إلى الإستدلال بطريق آخر وذلك خارج عن استصحاب الحال.

قيل : إن الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه ، وأمّا غير ذلك فلا يكاد يحصل غرض القائل به » إنتهى.

فهو في استصحاب الحال من المنكرين وإنّما اعتمد في إثبات الحكم على الدليل الذي هو عدم الدليل على الحكم بعد تتّبع جميع الأدلّة ، مع العلم بأنه لو كان هناك حكم مخالف للحكم الثابت المعلوم لدلّ عليه دليل ما ذكره في الفوائد المدنيّة فيما يأتي من كلامه إن شاء الله تعالى.

فهو قدس‌سره أراد أن ينبّه على ان استصحاب الحال من الخرافات ولا يكاد يعلم له معنى والذي نعتمد عليه في الحكم على طبق الحالة الأولى إنّما هو هذا الدليل وإن لم يكن مراد القوم باستصحاب الحال هذا المعنى ، فالحاصل : موافقته للمثبتين في الحكم ومخالفتهم في المدرك.

وقد صرّح علم الهدى قدس‌سره بانّ الّذي نعتمد عليه في الإجماع إنّما هو قول المعصوم عليه‌السلام لا نفس الإتفاق من حيث هو ، وإنّ تسميته إجماعا إنّما هو للتحفّظ على ما جرت عليه سيرة أهل الفن ، فكأن شيخ الطائفة أراد أن لا يغيّر العنوان وإن كان مخالفا في المدرك ».

[ محجة العلماء : ج ٢ / ١٢١ ]

إلى أن قال :

« وفي المعتبر : وأما الإستصحاب فأقسامه ثلاثة : استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ... الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاءه ... ومنه : القول بالإباحة ؛ لعدم دليل الوجوب والحظر. الثالث : استصحاب حال الشرع ، كالمتيمّم يجد الماء في أثناء الصلاة فيقول المستدل على الإستمرار : الصلاة مشروعة قبل وجود الماء ، فيكون كذلك بعده. وليس هذا حجّة ؛ لأنّ شرعيّتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه ، ثم مثل هذا

١٥٨

__________________

لا يسلم عن المعارضة بمثله ؛ لأنّك تقول : الذمّة مشغولة قبل الوجدان بالإتمام فتكون مشغولة بعده » إنتهى.

وفيه فوائد جليلة خفيت على الناظرين فيه فوقعوا في تشويش وحيرة :

منها : ما عرفته من العدّة أيضا : من الإستناد إلى عدم الدليل في الحكم بالعدم واشتراطه بأن يعلم انه لو كان هناك دليل لظفرنا به وانه لو لم يكن كذلك لم يكن هذا الإستدلال صحيحا ولم يكن مجرى لهذا الدليل ، فزعم الناظرون في كلامه : أن مراده التفصيل والفرق بين ما يعمّ به البلوى وغيره وهو وهم ؛ فانه اعتبر في الدليل المذكور الملازمة بين وجود الدليل والعثور عليه ، لا بين الثبوت في الواقع وإمكان الإطلاع ، والذي يمكن أن يوجب التوهّم المزبور إنّما هو الثاني لا الأوّل ، وهذا لا ينافي توقّف إنتاج الأوّل على الثاني ».

إلى أن قال :

قال المحقق قدس‌سره في المعارج :

« أن الأصل خلوّ الذمّة من الشواغل الشرعيّة فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه التمسّك في انتفاءه بالبراءة الأصليّة فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه.

ولا يتمّ هذا الدليل إلاّ ببيان مقدمتين : إحداهما : انه لا دلالة عليه شرعا بان ينضبط طرق الإستدلالات الشرعيّة ويتبيّن عدم دلالتها عليه. الثانية : أن يبيّن انه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ؛ لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به وهو تكليف بما لا يطاق ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها لكنّا بيّنّا انحصار الأحكام في تلك الطرق وعند ذلك يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم » إنتهى.

فهو قدس‌سره كما ترى لم يعتبر عموم البلوى في الإستدلال وليس في كلامه ما يوهم ذلك ، ولم

١٥٩

__________________

يحصل وجه للملازمة بين ثبوت الحكم في الواقع ووصوله إلينا عموم البلوى به ، بل اقتصر في بيان الملازمة على انه لو كان ثابتا وجب على الشارع بيانه ، ولو بيّنه لكان بإحدى تلك الطرق ، وهو ١ لم يبيّن سر عدم إمكان الإختفاء من جهة ان البيان لا يجب الاّ تدريجا على ما جرت عليه العادة فلعل الشارع لم يتمكّن من بيانه ولهذا تصدّى في الفوائد المدنيّة لبيانه.

إلى أن قال ـ بعد ذكر كلام الأستر آبادي وما يرد عليه ـ :

ومن الفوائد المستفادة من كلام المحقق قدس‌سره في المعتبر : ان إستصحاب حال الشرع عبارة عن إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر كما يستفاد هذا المعنى من كلام جميع أهل الفن حيث علّل عدم حجّيّته بان شرعيّة الصّلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه ؛ فإن هذا ينادي بأعلى صوته على أن استصحاب حال الشرع عبارة عن إبقاء الحكم مع احتمال تبدّل الموضوع كما هو الحال في المثال فإن الأمر فيه دائر بين كون فقدان الماء واسطة في الثبوت وبين كونه واسطة في العروض يدور الحكم مداره ، فعلى الأوّل : يبقى الحكم إلى ان يثبت ما يرفعه ويزيله كما هو الحال في كلّ من الطهارة والحدث بالنسبة إلى ضدّه. وعلى الثاني : يزول الحكم بتبدّل العنوان ، ولم يتوهّم أحد : كون وجود الماء ناقضا ، بل إنّما احتمال زوال الحكم مستند إلى احتمال تبدّل الموضوع والواسطة في العروض.

إلى أن قال :

فالذي تلخّص من المعتبر والمعارج : ان الإستصحاب ينقسم إلى قواعد أربع ذكر ثلاثة منها في المعتبر وواحدة منها في المعارج وان محل النزاع إنّما هو استصحاب حال الشرع ؛ حيث انه لا إشكال في التعويل عليه بالمعاني الأخر وأنه لا قائل به من الإماميّة وانه من الخرافات وانه قول بلا دليل وانه عبارة عن تشريك موضوعين متغايرين في الحكم.

إن قلت : ان كلماته في غاية الإضطراب بحيث لا يكاد يرجع إلى محصّل فإنه قسّم

١٦٠