بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

تعريف المحقّق القمّي والوجوه التي وجّه بها والمناقشة فيها

وأمّا ما أفاده المحقّق القمّي في تعريفه فالظّاهر منه في ابتداء النّظر جعل الاستصحاب عبارة عن محلّه ومورده. ومن هنا حكم شيخنا قدس‌سره بكونه أزيف التّعاريف (١) ؛ لأنّ الإيراد على سائر التعاريف إنّما هو بملاحظة الإخلال الواقع

__________________

(١) قال المحقّق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« لم يظهر لنا وجه [ الأزيفيّة كالأسدّيّة ] ؛ إذ قد عرفت : ان الإبقاء ليس دليلا ، بل إنّما هو عمل المكلّف بل هو معنى الإستصحاب لغة ؛ لأن اتخاذ الشيء مصاحبا وإبقاءه على ما كان عند المكلّف معنى واحد فهو في الحقيقة تمسّك بالحدوث وإنكباب عليه وأين الإستدلال من الدليل؟!

ويندفع عنه الإشكال بالإستقراء والتمثيل وكون الشيء يقيني الحدوث مشكوك البقاء أقرب إلى الدليل من الإبقاء وإن كان الثاني أنسب بالمعنى اللغوي ؛ فإنّ للحالتين دخلا في الحكم الظاهري ، فكلّ منهما ركن في الإستصحاب ، فالدليل هو الحدوث فقط ، لكنّ الإستدلال يتوقّف على إحرازه والجهل بالبقاء ، ومن المعلوم ان ما يتوقّف عليه الإستدلال أقرب إلى الدليل من نفس التشبّث والإستناد وليس المقام ممّا يلاحظ فيه معنى الكلمة وليس تفسيرا للّفظ وشرحا لمدلوله.

[ نعم ، يرد على تعريف القمّي ] : أن اليقين بالحدوث طريق إلى إحراز الوجود السابق ، بل هو عين الإحراز ، والشك في البقاء مجرى الأصل ولا دخل لشيء منهما في الدليليّة وإن كان الإستدلال متوقّفا عليها ؛ فإنّ العلم بالنتيجة يتوقّف على العلم بالمقدّمتين وإنّما الدليل هو المعلوم ، وعدم كون الجهل دليلا أوضح ، فالشك له جهتان : كونه جهلا وكونه حالة وجوديّة

٢١

فيها ببعض القيود المعتبرة ، فيرجع إلى كونه أعمّ من المحدود.

وأمّا التعريف المذكور ففيه : إخلال بتمام الحقيقة والقيود ولكن وجّه بوجوه ، بعضها يرجع إلى إبقائه على ظاهره وبعضها يرجع إلى التّصرف فيه.

أحدها : ما في « الكتاب » : من أنّ المحدود هو الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام ، أي : الاستصحاب الحكمي ، مع ابتنائه على الظّن وليس الدّليل عندهم إلاّ ما أفاد العلم بالحكم ، أو الظّن ؛ لأنّ المراد من التّوصل إلى الحكم الشّرعي المأخوذ في الدّليل عبارة عن : أحدهما. أي : التّوصّل العلمي ، أو الظّني ، وليس ما يوجب الظّن بالبقاء إلاّ كونه متيقّن الحصول في الآن السّابق ، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب الّذي هو من أدلّة الأحكام إلاّ بما ذكره قدس‌سره.

وفيه أوّلا : المنع من كون الدّليل عندهم ما ذكره ، كيف! والحجّة للمجتهد في الأحكام الشرعية والدّليل عليها على زعم المحقّق المذكور الظّن بها من غير مدخليّة للأسباب ، هذا.

مع أنّ التّوصّل بما يوجب الظّن إلى الحكم الشّرعي من غير ضمّ دليل اعتباره لا معنى له أصلا كما لا يخفى. وبعد ضمّه يتوصّل به إلى الحكم الفرعي الظّاهري على سبيل القطع واليقين من غير فرق بين جعل الدّليل ما يوجب الظّن بالحكم ، أو نفس الظّن بالحكم.

__________________

متوقّفة على الإلتفات ، والتي يتوقّف عليها الاصل إنّما هي الجهة الأولى ، والذي يتوقّف على الجهة الأخيرة إنما هو العمل بالأصل ؛ فإنّ الغافل وإن كان جاهلا إلاّ انه لا يتمكّن من العمل بوظيفة الجاهل كما انه لا يعقل ان تكون له وظيفة من حيث هو كذلك ، ولذا جعل المقسم للأصول العمليّة حالة المكلّف الملتفت » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٦٤ ـ ٦٧.

٢٢

نعم ، ما قام على حجيّة الظّنون الخاصّة إنّما أفاد اعتبار ما يوجب الظّن بالحكم من حيث إفادته له شخصا أو نوعا. وأين هذا من جعل الدّليل في كلّ مورد ما يفيد الظّن لا نفس الظّن؟

فإذا فرض هناك إجماع من العقلاء على حجيّة الظّن الاستصحابي كما ادّعي يحصل بملاحظته التّوصّل بالظّن الاستصحابي ، إلى الحكم الشّرعي من غير مدخليّته لسبب الظّن في التّوصّل إلاّ من حيث كونه سببا لما يتوصّل به إلى الحكم ، وكذا إذا قيل باعتباره من جهة دليل الانسداد المقتضي لحجيّة مطلق الظّن من حيث وصف الظّنّ ؛ نظرا إلى كونه أقرب إلى الواقع ـ على ما هو المختار في تقرير الدّليل على وجه الحكومة ـ على ما أسمعناك في الجزء الأوّل.

وإن أوهم كلام المحقّق القمّي : كون الحجّة ـ بمقتضى الدّليل ـ الأمارات الظّنية دون مطلق الظّن النّفس الأمري ، على ما وجّه به خروج القياس وأشباهه من الدّليل العقلي كما عرفت في محلّه. وبالجملة : ما ذكر لا يصلح وجها للعدول عن تعريف القوم.

وثانيا : أنّ سبب الظّن بالبقاء في الاستصحاب ـ على ما صرّح به المحقّق القمّي فيما سيأتي من كلامه ـ غلبة البقاء في الموجودات السّابقة لوجودها الأوّلي. وأين هذا ممّا ذكر؟

وثالثا : أنّ سبب الظّن على زعم القوم : هو الثبوت في السّابق من غير مدخليّة لاعتبار المشكوك لاحقا فيه ، وظاهره اعتبارهما معا.

ورابعا : أنّ المحدود في كلامه ليس هو خصوص الاستصحاب الحكمي الّذي هو من أدلّة الأحكام على العقل ، بل يعمّه والاستصحاب الموضوعي الّذي

٢٣

هو من الحكم الفرعي ، وإن قلنا باعتباره من باب الظّن كما ستقف عليه.

وخامسا : أنّ التّحديد بما ذكر يوجب إلقاء اعتبار ملاحظة الحالة السّابقة المعتبرة في الاستصحاب جزما ، اللهم إلاّ أن يقال : إنّ إلقاءه ليس أشدّ من إلقاء أصل الحكم في التّعريف مع ظهور أخذه فيه.

وسادسا : أنّه مناف لما أفاده في أوّل « القوانين » (١) في ردّ الزّاعم بكون الاستصحاب دليلا مستقلاّ في قبال الأدلّة الأربعة : من أنّ الاستصحاب إن أخذ من العقل فهو داخل في الدّليل العقلي ، وإن أخذ من الأخبار فهو داخل في السّنة ، فلا يصلح جعله دليلا مستقلاّ : من حيث إنّ الثّابت بالشّرع والعقل على ما عرفت ليس إلاّ الحكم بالبقاء ، فكيف يستقيم تعريف الاستصحاب ـ الّذي هو دليل عقليّ بمعنى الحكم العقلي المتوصّل به إلى الحكم الشّرعي على ما قضت به كلمتهم في تعريف الدّليل العقلي بما ذكره ـ؟

وهذا الكلام منه قدس‌سره في أوّل الكتاب وإن كان منظورا فيه : حيث إنّه بناء على أخذه من السّنة يكون مدلول السّنة على ما ستعرفه ، ولا يدخل في السّنة ، إلاّ أنّ الكلام في المقام مبنيّ على ما ذكره بزعمه لا في صحّته في نفسه ، إلى غير ذلك ممّا يتوجّه عليه مع إبقائه على ظاهره.

ثانيها : أن يجعل الكون في قوله : ( كون حكم أو وصف ) (٢) بمعنى الثّبوت ، فيقال : الاستصحاب هو ثبوت حكم أو وصف موصوف بالصّفة المذكورة بجعل

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ١ / ٩.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٥٣.

٢٤

قوله : ( يقينيّ الحصول في الآن السّابق مشكوك البقاء في الآن اللاّحق ) (١) وصف لهما. ويحتمل كونهما حالين لهما فينطبق على ما ذكره غير واحد في تعريفه : بأنّه ثبوت حكم ، فيرجع إلى التّعريف المشهور ؛ لعدم الفرق بين الثّبوت والإثبات كالبقاء والإبقاء ، إلاّ بالاعتبار ؛ لأنّ المراد بهما الثّبوت الحكمي والبقاء كذلك لا الواقعي. ومن هنا عرّفه غير واحد : بالبقاء أيضا. وهذا وإن كان خلاف الظّاهر ، إلاّ أنّه لا بأس به في مقام التّوجيه.

نعم ، فيه إخلال تقييد الاستناد إلى الوجود السّابق ، وجعل الوصف دليلا عليه قد عرفت ما فيه ، مضافا إلى لزوم التّفكيك بين الوصفين ؛ حيث إنّ كونه مشكوكا لاحقا لا يلاحظ إلاّ كونه معتبرا في الموضوع.

ثالثها : أن يجعل الكون ناقصة مع جعل قوله : ( في الآن اللاّحق ) (٢) متعلّقا به ، لا بقوله : ( مشكوك البقاء ) (٣) فتأمّل حتى لا يختلط عليك الأمر فتتوهّم رجوعه إلى الوجه السّابق.

ولا بدّ أن يعتبر وجوده في اللاّحق على سبيل الحكم حتّى ينطبق على تعريف المشهور ، مع تكلّف اعتبار الحيثيّة مع عدم كفايته ، مضافا إلى عدم استقامته إلاّ بالتّفكيك فتدبّر.

رابعها : أن يجعل المراد من قوله : ( مشكوك البقاء ) (٤) مظنون البقاء ، فيرجع

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ٥٣.

(٢) قوانين الأصول : ج ٢ / ٥٣.

(٣ و ٤) قوانين الأصول : ج ٢ / ٥٣.

(٣ و ٤) قوانين الأصول : ج ٢ / ٥٣.

٢٥

تعريفه : إلى تعريف العضدي إذا جعل الحدّ خصوص الكبرى. فكأنّه قال : الاستصحاب عبارة : عن كون الشّيء سواء كان حكما أو وصفا متّصفا بكونه متيقّنا في السّابق مظنون البقاء في اللاّحق ، فينطبق على تعاريف المشهور بناء على ما عرفت : من كون التّغاير بين الظّن ببقاء الشّيء وكونه مظنون البقاء اعتباريّا ، وكون المراد من حكم العقل بالبقاء ليس إلاّ التّصديق الظّني وإدراك البقاء ظنّا ، وهو عين الظّن بالبقاء.

ضرورة كون التّصديق الظّني بثبوت القيام لزيد مثلا عين الظّن بثبوت القيام لزيد. وإن جعل الظّن إذا كان هناك قضيّة لفظيّة ، وهو قولنا : « زيد قائم » جهة للقضيّة ، وحمل القيام على زيد ، إلاّ أنّه في عالم اللّب ليس إلاّ الظّن بثبوت القيام لزيد ، وبعد أخذ الحيثيّة في التّعريف يكون المراد : أنّ الاستصحاب عبارة : عن كون الشّيء الموصوف بالوصف المذكور مظنون البقاء من حيث كونه متيقّنا في السّابق وثابتا في الزّمان الأوّل.

نعم ، على القول باعتبار الاستصحاب : من باب الأخبار ، لا مناص من التّعبير بالحكم بالبقاء ، أو ما يرجع إليه ، لما عرفت : من كون الاستصحاب بناء على الأخبار من مقولة الإنشاء ، لا الإدراك. لكن مبناه عند المشهور لمّا كان على الظّن وقع التّعبير عنه في كلمات الأكثرين بما يدلّ عليه ، وهذا ينطبق على ما ذكره في أوّل « القوانين » كغير الوجه الأوّل من الوجوه السّابقة هذا.

ولكن يتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما في جعل الشكّ بمعنى الظّن من التكلّف على تقدير صحّته باستعماله في معناه اللّغوي وهو خلاف اليقين وإرادة خصوص المظنون منه بقرينة خارجيّة ، أو مجازا باستعمال اللّفظ الموضوع للعامّ في

٢٦

الخاصّ ـ : بأنّه مناف لما صرّح به قدس‌سره في « القوانين » من إرادة المعنى الأعمّ من الظّن منه من جهة كون الاستصحاب عنده معتبرا من جهة الأخبار أيضا ، اللهم إلاّ أن يحمل تعريفه على العقل ، وإن كان اعتبار الاستصحاب عنده غير متوقّف على الظّن بالبقاء بملاحظة الأخبار ، فتأمّل.

ثمّ إنّه يرجع إلى تعريف المشهور ما في كلام بعض في تعريفه : من أنّه الحكم باستمرار أمر كان يقينيّ الحصول في وقت أو حال ، مشكوك البقاء بعد ذلك الوقت والحال (١) ـ بعد أخذ الحيثيّة فيه ، وإلاّ كان محلاّ للمناقشة وإن كان سالما عمّا أورد عليه غير واحد.

تعريف الفاضل النّراقي وغيره للإستصحاب

وقال الفاضل النّراقي في « المناهج » ـ بعد نقل جملة من التّعاريف والمناقشة فيها وتعريفه على سبيل الإجمال.

أوّلا : بأنّه إبقاء ما كان على ما كان ما هذا لفظه : « ولو عرّف : بأنّه الحكم على حكم مثبت في وقت أو حال ببقائه بعده من حيث ثبوته في الأوّل مع عدم العلم بالبقاء ولو تقديرا ، لكان خاليا عن النّقض ، والمدلول : هو إثبات الحكم في الثّاني ، فلا يلزم اتّحاد الدّليل والمدلول. والقيد الأخير لإدخال ما يدلّ دليل آخر أيضا على البقاء كما يقولون : هذا الحكم للإجماع والاستصحاب. وفائدته : إثبات الحكم لو تطرق نقض على الدّليل الآخر فالاستصحاب فيه فرضيّ أيضا ، يعني : إذا

__________________

(١) انظر : قوانين الأصول : ج ٢ / ٥٣.

٢٧

حصل الشّك يستصحب » (١). انتهى كلامه رحمه‌الله.

وهو كما ترى ، لا يخلو عن بعض المناقشات.

وقال الفاضل الدّربندي قدس‌سره في « الخزائن » في تعريفه ـ بعد الإيراد على ما حكاه المحقّق الخوانساري عن القوم في تعريفه وغيره من التّعاريف ـ ما هذا لفظه : « فالأولى أن يقال في تعريفه :

أنّه عبارة عن إبقاء ما كان في الزّمن الثّاني تعويلا على ثبوته في الزّمن الأوّل ولو تقديرا مع عدم العلم بالبقاء ولو تقديرا ، فبأخذ قيد التّقدير الأوّل يشمل الحدّ ما فيه تحقّق الحكم في الزّمن الأوّل شأني ، كما يشمل ما فيه تعدّد الزّمان فرضيّ ، بل يشمل ما على خلافه دليل مطلق أيضا ، وبالأخير يشمل ما فيه على طبق الاستصحاب دليل منجّز قطعيّا كان أو ظنّيا » (٢). انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأنت خبير : بأنّ ما ذكره لا يخلو عن مناقشة ، بل مناقشات.

فالأولى ما عرفت في تعريفه الرّاجع إلى تعريف القوم على ما عرفت ؛ فإنّه يستفاد منه بالدّلالة الظّاهرة الواضحة : حقيقة الاستصحاب وما له دخل في مجراه ومحلّه : من إحراز المتيقّن السّابق ـ في زمان إرادة الحكم بالبقاء ؛ من حيث إنّ البقاء عبارة : عن الوجود الثّانوي للشيء ، فلا بدّ أن يكون الوجود الأوّلي متحقّقا ـ والمشكوك اللاّحق ، وكون الحكم به مستندا إلى وجود الأوّلي عند الحاكم ؛ فإنّه لو

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٢٢٣.

(٢) الخزائن : مخطوط.

٢٨

لا الشّك كان الاستناد في البقاء إلى نفس وجود العلّة والدّليل في الزّمان اللاّحق كالزّمان الأوّل.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الاستصحاب الّذي هو من مقولة الحكم سواء كان من باب الأخبار ، أو العقل على جهة الإنشاء ، أو الإخبار وإن تعلّق بالبقاء ، إلاّ أنّ إنشاء البقاء في مرحلة الظّاهر عبارة : عن جعل نفس المستصحب في زمان الشّك إن كان قابلا كالاستصحاب الحكمي وجعل آثاره الشّرعيّة إن لم يكن قابلا كالاستصحاب الموضوعي كما ستقف على تفصيل القول فيه. ومتعلّق هذا الحكم على كلّ تقدير فعل المكلّف ، والظّن بالبقاء وإن كان راجعا إلى الظّن بوجود المستصحب في الزّمان الثّاني شخصا أو نوعا ، إلاّ أنّه بملاحظة دليل اعتباره يرجع إلى جعل الشّارع في مرحلة الظّاهر على ما عرفت ، مع تفاوت بينهما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

* * *

٢٩
٣٠

* تقديم أمور ستّة

* الأوّل : الإستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنّيّة؟

* الثاني : وجه عدّ الإستصحاب من الأدلّة العقليّة

* الثالث : الإستصحاب مسألة أصوليّة أو فقهيّة؟

* الرّابع : مناط الإستصحاب على المباني المختلفة

* الخامس : مقوّمات الإستصحاب

* السادس : تقسيم الإستصحاب :

الف : باعتبار المستصحب

ب : باعتبار دليل المستصحب

ج : باعتبار الشك في البقاء

٣١
٣٢

* الأمر الأوّل :

الإستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنيّة

(٢) قوله قدس‌سره : ( إن عدّ الاستصحاب من الأحكام الظّاهريّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٣ )

دفع توهم : أن للحكم الظاهري معنيين وإطلاقين

أقول : لا يخفى عليك : أنّ التكلّم في هذا الأمر كالتّكلّم فيما يتلوه من الأمور من التكلّم في المباديء التّصوريّة للمسألة كالتّكلّم في بيان حقيقة الاستصحاب ؛ حيث إنّه من جهة كثرة مباحثه وشدّة الحاجة إليه في المسائل الفقهيّة صار عندهم بمنزلة علم مستقلّ ، فوضعوا له دفترا وكتابا.

ثمّ إنّا ذكرنا المراد من الحكم الواقعي والظّاهري فيما قدّمنا لك من المباحث في طيّ الجزء الأوّل من التعليقة (١) ، وإنّ الحكم الثّابت بالأدلّة الظّنية حكم ظاهريّ فيما كان الظّن طريقا إلى متعلّقه وملحوظا بهذه الملاحظة كالحكم الثّابت في مجاري الأصول ، وقد أذعن بذلك شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم من أجزاء « الكتاب » ، بل هو من الأمور الواضحة عندهم بحيث لا يرتاب فيه على القول

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٢ وفي الجزء الثاني منه أنظر بحر الفوائد : ج ٢ / ٣.

٣٣

بالتخطئة في ظنون المجتهد ، فقد يزعم الجاهل بكلمات شيخنا : أنّ للحكم الظّاهري عنده ، بل عندهم : إطلاقين : أحدهما أعمّ من الآخر ، الأوّل : ما ثبت للجاهل بالواقع ، الثّاني : ما ثبت للشّاك بالواقع ، أو ما ثبت للشّيء من حيث الشّك في حكمه الأوّلي. والأوّل أعمّ من الثّاني ؛ فإنّ الحكم الثّابت للشيء من حيث الجهل بحكمه الأوّلي قد يتعلّق به من حيث الظّن به ، وقد يتعلّق به لا من الحيثيّة المذكورة ، بل من حيث عدم العلم به والشّك فيه ، فيشمل الحكم الظّاهري على الإطلاق الثّاني. فقوله : « إن عدّ الاستصحاب من الأحكام الظّاهريّة » (١) جار على الإطلاق الثّاني الأخصّ ، المختصّ بموارد الأصول التّعبّدية هذا.

وأنت خبير بعدم الإطلاقين للحكم الظّاهري.

نعم ، وجود القسمين له ليس محلاّ للإنكار ، فالمراد من الحكم الظّاهري في قوله ـ كما يفصح عنه صريح كلامه ـ : هو الثّابت للموضوع من حيث عدم العلم بحكمه الأوّلي لا من حيث الظّن به شخصا ، أو نوعا ، فلا شبهة في المراد من العبارة ، ولا حاجة إلى إثبات الإطلاقين والمعنيين للحكم الظّاهري.

والمقصود ممّا أفاده : بيان أنّ عنوان الاستصحاب في الأصول العمليّة وعدّه منها على ما اقتضاه التّقسيم في الجزء الأوّل من « الكتاب » (٢) : إنّما هو إذا قيل به :

من باب الأخبار ، ولم نقل بكونها ناظرة إلى بيان حجيّة ظن الاستصحاب بحيث يكون الملحوظ فيها ذلك كما احتمله المحقّق القميّ قدس‌سره ومال إليه بعض من تأخّر ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٣.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٢٥.

٣٤

وإنّه إذا قيل بكونه : من العقل الظّني لا بدّ أن يعدّ في الأدلّة العقليّة الظّنية كغيره ممّا عدّوه فيها.

ومن هنا عنونه الأكثرون في الأدلّة العقليّة ، وإن وافقهم في العنوان بعض من ذهب إليه من باب التّعبّد : من جهة مجرّد الموافقة والتّبعيّة وبيان عدم صلاحيّة ما أقاموا عليه من باب الظّن ، فالاستصحاب على القول به : من باب الأخبار من الأصول العمليّة لا مطلقا ، وهذا بخلاف الأصول الثّلاثة ؛ فإنّه لا فرق في عدّها من الأصول بين الاستناد فيها إلى الأدلّة الشّرعيّة ، أو العقل ؛ حيث إنّ الثابت بالعقل فيها حكم ظاهريّ على ما عرفت الكلام فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة على تقدير كون الثّابت في باب البراءة بالعقل هو الحكم الشّرعي ، بل قد عرفت ثمّة : أنّ التخيير الّذي هو من الأصول ليس إلاّ عقليّا.

نعم ، لو كان الاستناد في باب البراءة والاحتياط إلى استصحابها واستصحاب الشّغل ، أو التّكليف الثابت في موارد وجوب الاحتياط ، وقيل باعتباره من باب العقل الظّني كانا من الأدلّة الظّنية أيضا كالاستصحاب ، على ما يظهر من غير واحد كصاحب « المعالم » وغيره على ما أسمعناك في محلّه ، وإن كان القول به في كمال الضّعف والسّقوط على ما عرفت في محلّه.

ثمّ إنّ أوّل من تمسّك بالأخبار للاستصحاب الشّيخ الجليل [ الشيخ حسين بن ](١) الشّيخ عبد الصّمد والد شيخنا البهائي قدس‌سرهما في « العقد

__________________

(١) لم تكن في الأصل أضفناها تصحيحا للعبارة.

٣٥

الطّهماسبي » (١) على ما في « الكتاب » وشاع بين من تأخّر عنه ولم يظهر ممّن تقدّم عليه التمسّك له بها ، وإن استنصر الشّيخ قدس‌سره في « العدّة » (٢) للقائل بحجّيّته بما رواه عنه في « الكتاب » وهذا محلّ التعجّب جزما ؛ لأنّ هذه الأخبار الصّحاح الواردة في باب « الاستصحاب » ، المعدود بعضها في حديث الأربعمائة قد وصلت منهم إلينا فلم لم يتمسّكوا بها مع صحّة سندها ووضوح دلالتها سيّما بالنّسبة إلى ما استنصر به الشيخ قدس‌سره؟ واحتمال غفلتهم عنها وعدم وقوفهم عليها كما ترى ، هذا.

وربّما قيل : بتمسّك القدماء كافّة بها لإثبات قاعدة اليقين ، وأنّها عندهم غير الاستصحاب الّذي قالوا به : من باب العقل والظّن ، وهذا أيضا كما ترى ، فإنّي بعد التتبع التّام في كلماتهم لم أقف على ذكر لقاعدة اليقين فيها إلاّ في كلام شاذّ لا يعبأ به ، وإن كنت في ريب من ذلك فراجع إليها فإنّها بمرأى منك.

وأمّا استظهار التمسّك من الحلّي في « السرائر » (٣) : من حيث تعبيره ـ عن بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زواله بنفسه ـ بعدم نقض اليقين [ إلاّ ](٤) باليقين الموجود في أخبار الباب من جهة ظهوره في الاعتماد عليها كما يظهر من شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » فهو ضعيف ؛ من حيث إنّ الاتّفاق في التّعبير لا ظهور له

__________________

(١) العقد الطهماسبي : الورقة ٢٨ مخطوط.

(٢) عدّة الأصول : ٢ / ٧٥٧ ـ ٧٥٨.

(٣) السرائر : ١ / ٦٢ والعبارة في السرائر كما يلي : « وإن ارتفع التغيّر عنه من قبل نفسه ، أو بتراب يحصل فيه ، أو بطروّ أقلّ من الكرّ من المياة المطهّرة لم يحكم بطهارته ؛ لإنه لا دليل على ذلك ونجاستها معلومة بيقين ، فلا يرجع عن اليقين إلاّ بيقين مثله » إنتهى.

(٤) أثبتناها من الكتاب.

٣٦

في الاستناد أصلا ، وإلاّ فهذا التعبير موجود في كلام الشيخ في مواضع من « مبسوطه » وفي كلام الشّهيد قدس‌سره كما سيأتي في « الكتاب » ، ومن هنا أمر شيخنا قدس‌سره بالتّأمّل فيه بعد الاستظهار من كلام الشّهيد فيما سيأتي (١).

__________________

(١) أنظر آخر البحث في الأمر الرابع.

٣٧

* الأمر الثاني :

الوجه في عدّ الإستصحاب من الأدلّة العقليّة

(٣) قوله قدس‌سره : ( إن عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب الظّن من الأدلّة العقليّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٦ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسّس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ما عرفت من انه أصل مطلقا لا دليل ، مع انّه لو كان دليلا اجتهاديّا على الحكم الشرعي فليس الوسط في إثباته إلاّ البقاء الذي يستقلّ العقل بإدراكه ، وأمّا الحدوث فهو دليل على الدليل كما انّه لو ثبت حسن شيء أو قبحه بدليل فالدليل على الحكم الشرعي إنّما هو الحسن والقبح لا ما استدلّ به عليهما ، هذا بناء على تفسير الحكم في تعريف الدليل العقلي بالوسط ، وأمّا على تقدير تفسيره بالتصديق فالدليل هو الظن كما يوهمه كلام شارح المختصر فعدم كون الحدوث دليلا عقليّا على الحكم الشرعي واضح ، مع انّ قوله : ( بواسطة خطاب الشرع ) الظاهر انّه سهو من القلم حيث انّ التوصّل ليس بواسطة خطاب الشرع فيما لا يستقلّ به العقل ، بل العقل مستقلّ بالتوصّل ضرورة الفرق بين كون المتوصّل به خطابا شرعيّا وبين كون المتوصّل به بواسطة خطاب الشرع فافهم.

والحاصل : انه عرّف الإستصحاب بالإبقاء المفسّر بالحكم بالبقاء ، وصرّح انّ مستند الحكم هو الحدوث ، فكيف يمكن جعل الدليل على الحكم الشرعي الحدوث؟ وهذا تفكيك بين دليل الحكم وبين الإستصحاب وجعل الإستصحاب مدلولا عليه ؛ فإنّ الحكم بالبقاء يستدلّ بالحدوث عليه ، فهذا تهافت واضح وخلط بين ما جعله القوم وسطا في القياس الأوّلي وبين ما رامه من دليل الحكم الشرعي الذي هو نتيجة ذلك القياس مع انّ في جعله من العقليّات الغير المستقلّة أيضا إشكالا » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٧٦.

٣٨

بيان المراد من العقل المستقل وغير المستقل

أقول : لا يخفى عليك أنّ من التّقسيم المسلّم عندهم للدّليل العقلي في الأدلّة العقليّة تقسيمه : إلى المستقلّ وغيره. وليس المراد بغير المستقل كما ربما يتوهّمه الجاهل : كون العقل غير مستقلّ في الحكم في القضيّة الّتي يحكم فيها إنشاء ، أو إدراكا ؛ ضرورة عدم معنى له أصلا بل المراد به : أنّه لا يتوصّل به فقط إلى الحكم الشّرعي ، بل يحتاج في التوصّل إلى ضمّ مقدّمة أخرى : غير حكم العقل ، وإن كان مستقلاّ فيما يحكم به.

فإنّهم بعد تعريف الدّليل العقلي ـ : بأنّه حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، ووجدان عدم التّوصل بحكم العقل فقط من دون ضمّ مقدّمة إليه إلى الحكم الشّرعي في بعض موارد حكمه ـ ألجئوا إلى التّقسيم المذكور ، ومثّلوا للمستقلّ : بالتحسين والتّقبيح العقليّين على القول بكون الملازمة عقليّة. ولغير المستقلّ : بالاستلزامات كوجوب المقدّمة ، وحرمة الضّد ، والمفاهيم بناء على كون الدّلالة من الالتزام الغير البيّن ، أو البيّن بالمعنى الأعمّ ، لا البيّن بالمعنى الأخصّ ؛ فإنّه على التقدير المذكور من مداليل اللّفظ عند الأصوليّين.

ولذا عنونها غير واحد في باب الألفاظ ، وإن كان على التّقديرين الأوّلين أيضا : من دلالة اللّفظ عند المنطقي المخالف للاصطلاح في دلالة اللّفظ مع الأصولي ؛ فإنّ العقل في الاستلزامات مثلا إنّما يحكم : بثبوت التّلازم بين وجوب الشّيء ووجوب ما يتوقّف عليه ، ويحكم بالحكم الإدراكي : بأنّ طالب الشّيء

٣٩

طالب لمقدّماته ، وكذا يحكم : بثبوت التّلازم بين الأمر بالشّيء وحرمة أضداده الخاصّة.

ومن المعلوم : أنّه لا يمكن التوصّل بهذا الحكم الكلّي إلى وجوب الوضوء مثلا إلاّ بعد إثبات وجوب الصّلاة وتوقّفها عليه ، فيقال ـ إذا أريد ترتيب القياس وأخذ النّتيجة ـ : أن الصّلاة الواجبة تتوقّف على الوضوء ، ومقدّمة الواجب واجبة عقلا ، فالوضوء واجب.

ومن هنا يعلم : أنّه لو كان الحاكم بالملازمة الشّرع في مسألة التّحسين والتّقبيح لم يصح عدّ الحكم المذكور من العقل المستقلّ ، فالمدار في الاستقلال على كون مجموع المقدّمتين في القياس عقليّا ، وفي عدمه على كون إحدى المقدّمتين غير عقلية.

ومن هنا يظهر : أنّه فيما يكون وجوب ذي المقدّمة بحكم العقل ، ومقدّميّة المقدّمة بحكم العقل أيضا كوجوب المعرفة المتوقّفة على النّظر فهو من العقل المستقلّ ، فالمدار على ما ذكرنا من المناط فتدبّر.

وهكذا الأمر في باب المفهوم ؛ فإنّ حكم العقل في موارده إنّما هو على الوجه الكلّي وهو : أنّ الارتباط بين الشّيئين إذا كان على وجه السّببيّة التّامة لزمها انتفاء التّالي من انتفاء المقدّم. وأمّا أنّ التّعليق بالشّرط ، أو الغاية ، أو الوصف مثلا يدلّ على الارتباط المذكور ، فلا دخل للعقل فيه ، لكنّه ممّا يتوقّف عليه أخذ النّتيجة.

إذا عرفت ذلك لم يبق لك ريب في كون الدّليل العقلي في المقام من العقل الغير المستقلّ ؛ فإنّ الّذي يحكم به العقل على الوجه الكلّي : كون الثّابت في السّابق

٤٠