بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

بمعنى عدم اعتباره مع حصول الظّن النّوعي منه ، بل بمعنى عدم حصول الظّن النّوعي منه ، بل من حيث إنّ إفادته له مشروطة بعدم حصول العلم على الخلاف ، وليس هذا مختصّا بالاستصحاب بل يجري في جميع ما يكون اعتباره من باب الطّريقيّة ؛ فإنّ حيثيّة الطّريقيّة ولو بحسب النّوع لا تجامع القطع بالخلاف.

ومن هذا يحكم بإجمال ظاهرين علم بصرف أحدهما عن ظاهره ، كما في العامّين من وجه مع البناء على كون اعتبار الظّهور اللّفظي من باب الظّن النّوعي.

نعم ، لو جعل معنى الظّن النّوعي كون الأمارة بالنّظر إلى نوعها وطبعها مفيدة للظّن ـ وإن منع من حصوله عنها في خصوصيّات المقام بعض الموانع وإن كان هو العلم ـ لصحّ القول بتحقّقه في صورة وجود العلم على الخلاف ، هذا كلّه.

مضافا إلى أنّ الغرض ممّا أفاده شيخنا : هو امتناع جعل الاستصحاب من الأمارات مع ما ترى من جريانه في طرفي الضّدين : كالقلّة والكرّية بالنّسبة إلى مقدار معيّن من الماء من الحوض. فتأمّل حتّى لا يختلط عليك الأمر.

(٨٥) قوله : ( وخصوصا في الشّبهة الموضوعيّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ دعوى انعقاد الإجماع من الكلّ على عدم اعتبار الغلبة في الموضوعات في غاية الإشكال.

نعم ، القول باعتبارها في الشّبهة الحكميّة من جهة برهان الانسداد لا يقتضي القول باعتبارها في الشّبهة الموضوعيّة ؛ لعدم جريان مقدّماته فيها على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة هذا.

مضافا إلى ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة : من أنّه لا معنى لكون مبنى

٣٦١

الاستصحاب عندهم على الغلبة ؛ مع ما يشاهد منهم : من تقديم الاستصحاب على الغلبة الموجودة على خلافه في موارد كثيرة كما في طين الطّريق (١) ، وغسالة الحمّام (٢) ، وقول المدّعي مع غلبة صدقه في إخباره ، إلى غير ذلك.

(٨٦) قوله : ( فإنّ اعتبار استصحاب طهارة الماء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٤ )

أقول : المقصود من هذا الكلام على ما يظهر منه ليس هو منع تحقّق الغلبة أو الظّن في طرف الاستصحاب ومقابله حتّى يقال : بأنّ المعتبر هو الظّن النّوعي فيمكن اجتماع السّببين للظّن ، بل المقصود : أنّه بعد كون الوجه في اعتبار الاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة هي الغلبة ليس إلاّ ـ حسب ما هو قضيّة ظاهر كلام الموجّه ـ لا معنى للتّفكيك في اعتبارها وإنّها لو كانت على طبق الحالة السّابقة يكون معتبرة بخلاف ما لو كانت على خلاف الحالة السّابقة أو لم يكن هناك حالة سابقة أصلا فتدبّر.

__________________

(١) انظر : منتهى المطلب : ج ٣ / ٢٩٢ ، ونهاية الإحكام : ج ١ / ٢٧٦.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ج ١ / ٢٩٠.

٣٦٢

(٨٧) قوله : ( ومنها : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٤ )

الوجه الرابع من وجوه القول الأوّل :

بناء العقلاء

أقول : الوجه في اعتبار بناء العقلاء في المقام على فرض تحقّقه ، بل في كلّ مقام : هو كشفه عن حكم العقل ، كإجماعهم القولي. غاية ما هناك : أنّ بناء العقلاء وحكم العقل في طريق الإطاعة والامتثال معلّق على عدم جعل المولى طريقا غير ما يسلكونه في طريق الامتثال وعدم نهيه عن سلوك ما بنوا على طريقيّته. فنقول في المقام :

إنّه على فرض تسليم وجود بناء العقلاء على سلوك الاستصحاب في إطاعة الأحكام الواصلة إليهم من الموالي العرفيّة يحكم بجواز سلوكه في إطاعة الأحكام الشّرعيّة وأنّ الشّارع أمضاه ما لم نجد له طريقا مخترعا لإطاعة أحكامه أوردعه عن سلوك هذا الطّريق الخاصّ في أحكامه ، وهذا نظير ما ذكرناه وذكره الأستاذ العلاّمة في حجيّة الظّن في مسألة حجيّة خبر الثقة باستقرار طريقة العقلاء على سلوكه وجعله واسطة بين الموالي والعبيد.

لا يقال : ما دلّ على النّهي عن العمل بما وراء العلم من الآيات والأخبار رادع عن العمل بالاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة وما يتعلّق بها من موضوعاتها.

٣٦٣

لأنّا نقول : ما دلّ على حرمة العمل بغير العلم لا يصلح ردعا في المقام ؛ لأنّا قد حقّقنا في محلّه : أنّه لم يدلّ دليل من العقل ولا من النّقل على ثبوت الحرمة الذّاتيّة للعمل بما وراء العلم وإنّما الّذي ثبت من الدّليل هو الحرمة التّشريعيّة أو طرح الأصل أو الواقع.

ومن المعلوم أنّ قبح التّشريع ثابت عند العقلاء مطلقا من غير فرق بين الأحكام الشّرعيّة وغيرها ؛ لأنّ التّشريع والافتراء على المولى قبيح مطلقا والأصول معتبرة عندهم أيضا كذلك ، فإذا كان بناؤهم مع ذلك على سلوك طريق والالتزام به فيكشف ذلك عن عدم ثبوت الحرمة من الجهتين فيه.

وأمّا حرمته من حيث طرح الواقع فغير لازمة في المقام ؛ حيث إنّ الاستصحاب مشروط بالعجز عن تحصيل العلم في الشّبهة الحكميّة ولا محذور لطرح الواقع أحيانا من العمل بالأصل أو الأمارة في الشّبهات الموضوعيّة هذا. وقد ذكرنا تفصيل الكلام في المقام من النّقض والإبرام فيما علّقناه على « رسالة حجيّة الظّن » من أراده فليراجعه هذا.

وقد كان الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث بانيا على كون الوجه في اعتبار بناء العقلاء بقول مطلق هو التّقرير نظير سيرة المتشرّعة.

والفرق بين ما ذكره وما ذكرنا لا يكاد يخفى على المتأمّل ؛ حيث إنّ الوجه في اعتبار بناء العقلاء بناء على ما ذكره : هو كشفه عن السّنة ، وبناء على ما ذكرنا : هو كشفه عن حكم العقل. غاية الأمر : أنّ الرّدع من الشّارع على ما اخترناه رافع لموضوع ما بنوا عليه ، وما ذكرنا وإن لم ينفك عن الإمضاء والتّقرير من الشّارع

٣٦٤

بقاعدة التّلازم إلاّ أنّ جهة الاعتبار ليست هو التّقرير.

ثمّ إنّ لازم ما ذكره ( دام ظلّه ) عدم نفع بناء العقلاء ، إلاّ بعد ثبوته في الأمور الشّرعيّة بخلاف ما ذكرنا ؛ فإنّ ثبوته في إطاعة أحكام الموالي العرفيّة يكفي بعد عدم ثبوت الرّدع من الشّارع.

وممّا ذكرنا يظهر لك فساد ما قد يورد على الوجه المذكور : من أنّ استقرار طريقة العقلاء على سلوك الاستصحاب في أمور معايشهم ؛ من حيث إنّ بناءهم فيها على دفع الضّرر المظنون وجلب المنفعة المظنونة ـ سواء كان الظّن على طبق الحالة السّابقة أو على خلافها ـ لا يلزم الحكم باعتباره في الشّرعيّات وعند الشارع ، وإلاّ لزم الحكم بحجيّة مطلق الظّن في الأحكام الشّرعيّة من غير حاجة إلى دليل الانسداد ونحوه هذا. مضافا إلى أنّ بناءهم عليه ليس مقصورا على الأمور العادية بل يتحقّق بالنّسبة إلى الموضوعات الّتي تعلّق بها الأحكام الشّرعيّة.

ألا ترى جريان طريقتهم على الحكم ببقاء ما له دخل حدوثا وبقاء بالنّسبة إلى مستقبل الأوقات عند إرادة الاشتغال بالعبادة المشروطة بالحياة والاختيار وغيرهما من الشّروط وعدم الموانع مع احتمال زوالها قبل الفراغ عن العمل ، وليس ذلك من جهة وصول دليل تعبّدي من الشارع إليهم؟

ودعوى : كون الاشتغال منهم بالأعمال المشروطة بالشّروط المذكورة من جهة غفلتهم عن احتمال زوالها كما هو الوجه في سلوك الحيوانات على تقدير ثبوت الاختيار لهم ، كما ترى ، فتأمّل. هذا مجمل القول في الكبرى. أي : حجيّة بناء العقلاء.

٣٦٥

ملخّص الكلام في صغرى حجّيّة بناء العقلاء

وأمّا الصّغرى وهي وجود بنائهم في المقام فملخّص الكلام فيها :

أنّك قد عرفت في مطاوي كلماتنا السّابقة : أنّ بناء العقلاء في أمورهم على سلوك طريق من دون حصول الظّن لهم منه ـ ولو نوعا ـ ممّا لم يثبت في مورد من الموارد. وقد عرفت أيضا : أنّ الصّالح لحصول الظّن منه في باب الاستصحاب ليس إلاّ الغلبة الّتي قد عرفت : عدم وجودها إلاّ في الشّبهة الموضوعيّة على حسب اختلاف مراتب الأصناف فيها ، وبنائهم على العمل بالغلبة في الموضوعات ثابت سواء وافقت الحالة السّابقة أو خالفتها.

ألا ترى أنّهم لا يكاتبون ولا يبنون على حياة من عهدوه على حال لا يغلب فيها السّلامة؟

نعم ، ربما يكتبون إليه من باب الاحتياط ولهذا لا يرسلون إليه البضائع والأمتعة للتّجارة ، فيمكن أن يحكم باعتبار الاستصحاب في الموضوعات من جهة البناء المذكور فيما كان الشّك فيه من قبيل الشّك في الرّافع ـ حسب ما هو الأكثر في الشّبهات الموضوعيّة ـ دون ما كان الشّك فيه من قبيل الشّك في المقتضي ؛ لعدم تحقّق الغلبة فيه فتأمّل.

ولا يحتاج في الحكم باعتباره حينئذ إلى ضمّ مقدّمات الانسداد القاضية لحجيّة مطلق الظّن ، بل يصير الاستصحاب حينئذ من الظّنون الخاصّة الثّابت اعتباره من حيث قيام الدّليل عليه بالخصوص ، لكن قد عرفت : أنّ البناء على

٣٦٦

اعتبار الاستصحاب من باب الظّن الشّخصي والغلبة ممّا يوجب سقوط اعتباره في كثير من الموارد ، وهو ممّا لم يلتزم به أحد إلاّ قليل ممّن تأخّر.

وأمّا الشّبهات الحكميّة فقد عرفت : منع تحقّق الغلبة المعتبرة فيها في غير الشّك في النّسخ.

نعم ، ذكر الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث : أنّه يمكن الحكم باعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة في الشّك في الرّافع من جهة بناء العقلاء لا بمعنى استقراره على العمل باستصحاب المقتضى ـ بالفتح ـ حتّى يقال : إنّك قد منعت تحقّق سبب الظّن والغلبة بالنّسبة إليه ، بل بمعنى استقراره على استصحاب عدم وجود الرّافع للحكم الشّرعي الّذي فرض وجود المقتضي لثبوته بعد الفحص والبحث عمّا يقتضي الرّفع في مظانّه.

ولازم هذا وإن كان هو البناء على وجود المقتضى ـ بالفتح ـ إلاّ أنّه ليس من جهة استصحاب نفسه ، بل من جهة استصحاب عدم ما يرفعه ، فبناء العقلاء ـ على تقدير تسليم وجوده ـ إنّما ينفع للقول باعتبار الاستصحاب في الشّك في الرّافع ، لا في الشّك في المقتضي ، فيصير دليلا على القول المختار ، هذا ملخّص ما ذكره.

ويمكن الخدشة فيه : بأنّ هذا يرجع إلى التمسّك بطريق آخر : وهو قاعدة عدم الدّليل دليل العدم بعد الفحص في مظانّ الوجود والحكم بالبقاء من جهته لا دخل له بالاستصحاب فتأمّل.

ومن هنا تعرف النّظر فيما ذكره شيخ الطّائفة المحقّة النّاجية في بيان الاستدلال بالاستصحاب. مضافا إلى ما يرد عليه : من عدم دليل على اعتبار هذا الظّن الحاصل من القاعدة المذكورة. اللهمّ إلاّ أن يدّعى بناء العقلاء على الأخذ به

٣٦٧

والاتّكال عليه والرّكون إليه هذا.

مضافا إلى إمكان المناقشة فيما ذكره في الشّك في المقتضي أيضا بطريق المعارضة فنقول ـ كما يقال ـ : لو كانت الحالة الثّانية معتبرة للحكم الأوّل لكان عليه دليل كذلك نقول : إنّ القدر الثّابت من الدّليل هو ثبوت الحكم في الحالة الأولى ولو كان ثابتا في الحالة الثّانية أيضا لكان عليه دليل فإذا لم يكن فيبنى على عدمه فتدبّر ، هذا.

مع أنّ حصول الظّن مطلقا : من عدم وجدان الدّليل على الحكم وعلى مغايرة الحالة الثّانية للحالة الأولى ممنوع ؛ لأنّ عدم الوقوف على الدّليل بعد الفحص عنه ليس أمارة على عدم الدّليل في نفس الأمر إلاّ بانضمام مقدّمة خارجيّة وهي بقاء ما ورد من الشارع لبيان الأحكام ووصوله إلينا ولو بالنّسبة إلى غالبه وأكثره فتأمّل.

ثمّ إنّ ذكر الأستاذ العلاّمة كلام الشّيخ هنا إنّما هو من جهة الإشارة بأدنى مناسبة إلى ثبوت طريق أخر في باب الاستصحاب ، لا من جهة كونه عين ما ذكره في قوله : ( ولعلّ هذا ... إلى آخره ) (١) كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٩٦.

٣٦٨

* ( القول الثاني ) :

حجج النافين

(٨٨) قوله : ( منها : ما عن « الذّريعة » وفي « الغنية » من أنّ المتعلّق بالاستصحاب يثبت الحكم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٧ )

تقرير توهّم : ان العمل بالإستصحاب تمسّك بالقياس حقيقة

أقول : ظاهر هذا الوجه كما ترى ، يرجع إلى التّمسّك بالأصل في المنع عن العمل بالاستصحاب وهو مستقيم ؛ حيث إنّه لا يرتاب أحد في أنّ قضيّة الأصل الأوّلي عدم اعتباره لو لا الدّليل عليه ، ولكن قد أفرط بعض المنكرين من الأخباريّين في المقام كبعض أصحابنا الأصوليّين ، وحكم بأنّ المتعلّق بالاستصحاب حقيقة يثبت الحكم بالقياس ويرجع تمسّكه إليه.

بيان ذلك : أنّه لا شبهة في تغاير الحالتين ، وهما حالتي فقدان الماء ووجدانه في مسألة المتيمّم الواجد للماء في أثناء الصّلاة ، أو تغيّر الماء وزواله عنه في الماء الّذي نجس بالتّغيّر ثمّ زال تغيّره بنفسه مثلا ، وإلاّ لما قطع في إحداهما وشكّ في الأخرى. وإذا تغايرت الحالتان وجدت هناك قضيّتان ، الموضوع في إحداهما غير الموضوع في الأخرى.

وإذا تعدّدت القضيّتان بتغاير موضوعهما والمفروض أنّه لا دلالة للدّليل المثبت للحكم في إحداهما على ثبوته في الأخرى ، وإلاّ لما جرى الاستصحاب ،

٣٦٩

أو لما احتجنا إليه ، فإثبات حكم الحالة الواجدة للدّليل في الحالة الخالية عنه لا يمكن بتنقيح المناط ظنّا ، وأنّه هو القدر المشترك بين الحالتين ، وأنّه الموضوع الحقيقي في نظر الشّارع كما في مسألة القياس ؛ فإنّ إلحاق النّبيذ بالخمر إنّما هو من حيث الظّن بأنّ علّة الحرمة في الخمر هو الإسكار الموجود في النّبيذ أيضا ، ولا فرق عند التّحقيق بين إلحاق عصير الزّبيب بعصير العنب من جهة القياس أو من جهة استصحاب حالة العنبيّة كما صدر عن بعض.

ففي المثالين : لا بدّ من أن يظنّ أوّلا : أنّ العلّة في حكم الشارع هو القدر المشترك بين الحالتين ، ثمّ إلحاق إحداهما بالأخرى فيظنّ في مسألة المتيمّم الواجد للماء في الأثناء أنّ العلّة هو مجرّد فقدان الماء قبل الصّلاة ، وهذا الوصف موجود قطعا بعد وجدان الماء في الأثناء أيضا وفي مسألة الماء المتغيّر الّذي زال عنه التّغير أنّ المناط هو مجرّد حدوث التّغيّر في الماء وإن زال عنه من دون أن يكون زواله بما ثبت كونه مطهّرا كإلقاء الكرّ ونحوه وهكذا في باقي الأمثلة ، وإلاّ لم يكن إلحاق إحداهما بالأخرى.

وبعبارة أخرى : تعدّد القضيّتين وتغايرهما : إمّا بتغاير الموضوع ، أو المحمول ، أو بتغايرهما معا. والمفروض في المقام وفي باب القياس وحدة المحمول ، فينحصر جهة التّغاير في الموضوع ، فنقول : هنا مسألتان وقضيّتان : إحداهما : أنّ الماء المتلبّس بالتّغيّر نجس ، أو المتيمّم الفاقد للماء حكمه كذا. والأخرى : أنّ الماء الّذي زال عنه التّغيّر نجس ، أو المتيمّم الواجد للماء حكمه مثل حكم الفاقد. فإن قلت : إنّهما ليستا بقضيّتين ، فقد خالفت الوجدان وكابرت العيان. وإن قلت : إنّهما قضيّتان متغايرتان لكن يلحق إحداهما بالأخرى من غير دليل ،

٣٧٠

فقد قلت مقالة غير معقولة لم يقل بها أحد من العقلاء.

وإن قلت : يلحق إحداهما بالأخرى مع الدّليل وهو الظّن بكونها مثلها في الحكم حسب ما هي مقالة القائلين بالاعتبار فنقول : إنّ الظّن بكونهما مثلهما في الحكم لا يعقل إلاّ بالظّن بكون المناط والعلّة هو القدر الجامع بينهما ، وهذا ما ذكرنا من رجوع التّمسك بالاستصحاب إلى التّمسك بالقياس هذا في الشّك في المقتضي.

وبمثله يقال في الشّك في الرّافع ؛ فإنّ المتطهّر الّذي لم يخرج منه المذي مثلا غير المتطهّر الّذي خرج منه المذي ، فإلحاق أحدهما بالآخر في الحكم لا ينفك عن القياس بالبيان الّذي عرفت تفصيله وتوضيحه.

هذا ملخّص ما ذكره الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث لتوضيح مرام المتوهّم وقد ارتضاه ( دام ظلّه ) وبنى على تماميّته لو لا ورود الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ، بل بعد ملاحظته أيضا بالنّسبة إلى الشّك في المقتضي.

وأمّا بالنّسبة إلى الرّافع فلا يتمّ ما ذكر بعد ملاحظة الأخبار ؛ فإنّا لم نسلّم أنّ هنا قضيّتين : الموضوع في إحداهما غير الموضوع في الأخرى ، إلاّ أنّ من المقرّر في محلّه بل الواضح الّذي لا يحتاج إلى البرهان بل البيان : أنّ القياس ليس هو مجرّد الحكم في موضوع بما حكم به في غيره ولو كان من جهة قيام دليل عليه ، وإلاّ لكان أكثر الأحكام الثّابتة في الموضوعات من باب القياس ، بل هو ذلك مع كون الحكم في الفرع من جهة استنباط كون العلّة في الأصل هو القدر المشترك بينهما ظنّا فيؤخذ بالجامع ويلقى الفارق بينهما بحسب الظّن.

فإلحاق النّبيذ بالخمر في الحكم من جهة الظّن بكون المناط هو الإسكار

٣٧١

الموجود فيهما قياس ، لكن إلحاقه به من جهة ورود الدّليل على وجود الحكم في النّبيذ بما حكم به في الخمر ليس من القياس في شيء ، فإثبات الحكم في المقام في الحالة الثّانية : من جهة دلالة الأخبار على وجوب إجراء الحكم الثّابت في الحالة الأولى في الحالة الثّانية خارج عن القياس موضوعا ، لا أن يكون مخصّصا لما دلّ على حرمة العمل بالقياس ومنافيا له هذا.

مع أنّ هناك وجها آخر يمكن أن يحكم بملاحظته على عدم كون إثبات الحكم في المقام من جهة الأخبار قياسا وخروجه عنه موضوعا وهو أنّه لا شكّ ولا ريب أنّه كما لا يتحقّق القياس إلاّ مع تعدّد الموضوع وكون الحكم من جهة استنباط المناط ، كذلك لا ريب في عدم تحقّقه إلاّ مع وحدة المحمول. ومن الظّاهر أنّ الحكم الثّابت بالأخبار غير الحكم الثّابت أوّلا في الحالة السّابقة.

ضرورة أنّ الحكم الثّابت بالأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك حكم ظاهري من حيث تقيّده بالشّك وعدم العلم بالخلاف ، والحكم الثّابت في الحالة السّابقة حكم واقعيّ فلا دخل لأحدهما بالآخر. هكذا أفاده الأستاذ العلاّمة ( دامت إفادته ) هذا كلّه على المختار : من اختصاص دلالة الأخبار بالشّك في الرّافع.

وأمّا إن قلنا بشمولها للشّك في المقتضي أيضا حسب ما عليه بناء الأكثرين ممّن تمسّك بها ، فالتّفصّي عن الإشكال على تقديره كالتفصّي على تقدير التّخصيص بما هو المختار ، هذا كلّه على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

* * *

٣٧٢

الفرق بين الإستصحاب والقياس

بناء على اعتبار الأوّل من باب بناء العقلاء

وأمّا على القول باعتباره من باب حكم العقل وبناء العقلاء ـ على التّمسك به حسب ما عليه بناء المتقدّمين من الخاصّة وجميع العامّة ـ فقد ذكر الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) في التفصّي عن الإشكال على تقديره في طيّ جملة كلام له في أثناء البحث : أنّ بناء العقلاء على الأخذ به دليل على الإلحاق كالأخبار فيخرج عن القياس.

أقول : ويشكل ما ذكره ( دامت إفادته ) : بأنّه لو كان المراد من الخروج هو الخروج الموضوعي ـ حسب ما هو الظّاهر من الكلام المذكور ـ فكيف يجتمع ذلك مع كون بناء العقلاء على الأخذ بالاستصحاب من جهة حصول الظّن بأنّ المناط هو القدر المشترك بين الحالتين؟ فهذا كما ترى ، بناء منهم على الأخذ بالقياس في بعض الموارد.

وإن كان هو الخروج الحكمي ، فكيف يجتمع ذلك مع قيام الإجماع ودلالة الأخبار المتواترة بل الضّرورة على حرمة العمل به؟

لا يقال : حرمة العمل بالقياس ليست بحسب الذّات وإنّما هي من جهة التّشريع ، كما في الأمارات الّتي يحكم بعدم اعتبارها وحرمة العمل بها ؛ من حيث الشّك في حجّيتها غاية ما هناك : أنّ حرمة العمل بالقياس بهذا العنوان إنّما ثبت من جهة الدّليل الخاصّ ، وحرمة العمل بها إنّما ثبت من جهة ما دلّ على حرمة التّشريع

٣٧٣

عموما من العقل والنّقل.

فإذا كانت حرمة العمل به من باب التّشريع فلا مانع من الأخذ ببناء العقلاء على العمل به من حيث ارتفاع موضوع التّشريع ببناء العقلاء على سلوكه ؛ من حيث إنّ قبح التّشريع ثابت عندهم ، فبناؤهم على سلوكه لا يجامع مع التّشريع. وإن هو إلاّ نظير بنائهم على الأخذ بخبر الثّقة في الأحكام الشّرعيّة بل في مطلق أحكام الموالي.

لأنّا نقول : حرمة العمل بالقياس وإن كانت تشريعيّة إلاّ أنّ قطعيّتها تمنع من قيام الدّليل على جواز العمل به الّذي يلازم ارتفاع موضوع التّشريع ، وإلاّ لما بقي فرق بين القياس وغيره ممّا يحكم بحرمته : من جهة عموم ما دل على حرمته التشريع ؛ فإنّ حرمة العمل بكلّ أمارة من حيث التّشريع قطعيّة ، فخصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات إنّما هي من حيث قابليّتها لقيام الدّليل على اعتبارها ، فيرتفع موضوع التّشريع وعدم قابليّته لذلك.

وبالجملة : القطع بحرمته من حيث الخصوص من جهة التّشريع يقتضي القطع بعدم ارتفاع موضوع التّشريع بالنّسبة إليه.

ولأجل ما ذكرنا ضاق المجال على القائلين بحجيّة مطلق الظّن من جهة برهان الانسداد بحرمة العمل بالقياس مطلقا ـ ولو في زمان الانسداد ـ ووقعوا من جهته في حيص وبيص ولم يأتوا مع كثرة ما جرى الكلام بينهم بشيء يندفع به الإشكال ، وإن كان الأمر كما ذكرت فأيّ احتياج إلى ارتكاب هذه التّجشّمات الّتي ذكروها في التّفصّي عن خروجه؟ هذا ملخّص ما جرى في المقام من النّقض والإبرام.

٣٧٤

ولكن الّذي يحسم أصل الإشكال : هو أن يقال بفساد جعل الاستصحاب من القياس موضوعا ـ مع قطع النّظر عن الأخبار وغيرها من أدلّة اعتباره ـ أمّا في الشّك في الرّافع فواضح ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ صدق القياس لا يمكن إلاّ مع تعدّد الموضوع ، والموضوع في الحالتين في الشّك في الرّافع متّحد وإلاّ لما تحقّق الشّك في الرّافع ؛ ضرورة أنّ الشّك في ثبوت حكم موضوع لموضوع آخر لا دخل له به لا يسمّى بالشّك في الرّافع.

وبعبارة أخرى أوضح : أنّه لا شكّ في صدق الإبقاء على الالتزام بالحكم في الشّك في الرّافع وفي صدق النّقض على عدمه فيه حقيقة ، وهما لا يصدقان إلاّ مع وحدة الموضوع ، وهي تنافي صدق القياس حسب ما هو قضيّة الفرض : من اشتراط تعدّد الموضوع في موضوع القياس.

فإن قلت : إنّ الالتزام بالحكم في الشّك في الرّافع لا يسمّى إبقاء فقد خالفت الوجدان. وإن قلت : بمنع الملازمة بين صدق الإبقاء ووحدة الموضوع فقد التزمت بما هو أوضح فسادا ، فلا مناص عن الالتزام بتغاير الاستصحاب موضوعا في الفرض مع القياس ، وإن قلنا بحرمة العمل به لو لم يكن هناك ما يدلّ على جواز التّعبّد به في الشّرعيّات من حيث عموم ما دلّ على حرمة التّدوين بما وراء العلم.

فإن قلت : لو كان الموضوع في الشّك في الرّافع متّحدا وموجودا بعينه في الحالة الثّانية فكيف يشكّ في الحكم.

قلت : قد عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة أنّه قد يكون الشّك مع القطع بوجود الموضوع في القضيّة الشّرعية من جهة الشّك في بقاء الموضوع الأوّلي العقلي الّذي هو المناط في الحكم الشّرعي.

٣٧٥

فإن قلت : كيف تنكر تعدّد الموضوع في الشّك في الرّافع ، ونحن نعلم أنّ قولنا « من توضّأ ولم يخرج عنه الوذي » قضيّة متغايرة لقولنا « من توضّأ وخرج عنه الوذي »؟ وقد عرفت : أنّ تعدّد القضيّة بعد فرض اتحاد المحمول لا يمكن إلاّ بتعدّد الموضوع.

قلت : المناط في تعدّد القضيّة واتّحادها وتعدّد الموضوع واتّحاده هو التّعدّد والاتّحاد في كلام الشّارع لا في فرضنا ، والمفروض أنّ الحكم في الحالة الأولى لم يترتّب على المتطهّر الّذي لم يخرج عنه الوذي وإلاّ لما كان الشّك في الرّافع ، بل على المتطهّر هذا.

مضافا إلى أنّه مع تسليم تعدّد الموضوع إمّا من جهة عدم صدق الإبقاء أو من جهة عدم ثبوت الملازمة بينه وبين وحدة الموضوع لنا أن نمنع كون الاستصحاب قياسا ؛ إذ إثبات الحكم في الحالة الثّانية يمكن أن يكون من جهة ملاحظة الغلبة كما يدّعيه القائل باعتباره من باب الظّن. والحكم بأنّ الغلبة أيضا من أفراد القياس ، فيه : ما لا يخفى ، هذا في الشّك في الرّافع.

وأمّا الشّك في المقتضي : فإن قلنا بصدق الاستصحاب فيه موضوعا أيضا حقيقة ـ كما يدّعيه القائل بتعميم اعتبار الاستصحاب ـ فلا إشكال في عدم صدق القياس عليه ؛ ضرورة أنّ الاستصحاب ـ حسب ما عرفت من تعريفه ـ هو الإبقاء المستلزم لوحدة الموضوع. وإن لم نقل بصدق الاستصحاب وهو الإبقاء فيه حقيقة وإنّما كان الصّدق مبنيّا على التّسامح العرفي.

ففيه : إشكال ، والله العالم بحقائق الأحكام.

٣٧٦

(٨٩) قوله : ( ولكنّه فاسد من جهة أنّ وجدان الماء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٨ )

أقول : ومن هنا يعرف الفرق بين القول بكون التّيمّم رافعا للحدث وبين القول بكونه مبيحا ؛ فإنّه على القول بكونه رافعا يكون نظير الوضوء والغسل فيحصل منه الطّهارة المقتضية للبقاء والاستمرار ما لم يحصل الرّافع لها.

نعم ، هنا كلام في تصوير كون التّيمّم رافعا للحدث وموجبا لحصول الطّهارة مع ارتفاع أثره بوجدان الماء ؛ فإنّ غاية تصويره : الالتزام بكونه مؤثّرا في حقّ الفاقد ما دام فاقدا كالوضوء العذري مثلا بناء على القول بكونه رافعا ما دام العذر ، وكذا الغسل العذري. وهو كما ترى ؛ فإنّا وإن قلنا بأنّ التّيمّم والطّهارات العذريّة تؤثّر في النّفس أثرا نافعا ويترتّب عليه إباحة الأعمال المشروطة بالطّهارة ، إلاّ أنّ الالتزام بكونها رافعة للحدث مع الالتزام بتقييد تأثيرها في الرّفع كما ترى ، هذا. وتفصيل القول في ذلك يطلب من الفقه.

(٩٠) قوله : ( وقد عرفت : بأنّ دعوى حصول الظّن أيضا ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٩ )

أقول : وقد عرفت أيضا منع اعتباره على فرض حصوله ومنع حصوله أيضا على فرض إرجاعه إلى عدم الدّليل بعد الفحص فراجع.

(٩١) قوله : ( ومنها : أن الاستصحاب لو كان حجّة لوجب فيمن علم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩٩ )

الوجه الثاني من وجوه المنكرين لحجيّة الإستصحاب

أقول : ذكر الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث : أنّ المقصود من هذا الكلام ليس هو القطع ببقاء المستصحب واقعا حسب ما هو قضيّة ظاهره الأوّلي حتّى يرد

٣٧٧

عليه : أنّ أحدا لم يتوهّم أنّ الاستصحاب يفيد القطع ومعتبر من جهته ، بل المقصود هو البناء عليه من العقلاء والحكم به على سبيل القطع بمعنى كون بنائهم على سلوكه غير مبنيّ على التردّد هذا.

ولكن الّذي يختلج ببالي القاصر كون المراد منه هو الّذي يتبادر منه ؛ لأنّ المتمسّك هو السيّد وأتباعه القائلون بانفتاح باب العلم ، فلمّا كان عدم حجيّة غير العلم عندهم مفروغا عنه ، فبنوا على أنّ الاستصحاب ولو كان معتبرا فلا بدّ من أن يحصل منه القطع بالحكم ، ولمّا رأوا عدم حصول القطع منه فبنوا على عدم اعتباره هذا.

مضافا إلى إمكان ابتنائه على ما يقتضيه بعض أدلّة المثبتين بظاهره : من إفادة الاستصحاب القطع بالبقاء ، مثل : أنّ العلّة المحدثة علّة للبقاء ، أو أن الأكوان في البقاء لا يحتاج إلى المؤثّر ونحو ذلك ؛ فإنّ القول بذلك وإن كان فاسدا جدّا ؛ حيث أنّ مقتضاه عدم انعدام الموجود أصلا ، بل عدم وجود شيء أصلا ؛ حيث إنّ الاستصحاب ليس مختصّا بالوجودي ، بل يجري في العدمي أيضا ، فيلزمه ما ذكر ، إلاّ أنّ لزوم هذا المحذور واقعا وبزعمنا لا يوجب صرف ما ذكروه عن ظاهره فتدبّر.

ثمّ إنّ الجواب عن هذا الدّليل : هو أنّا لا ندّعي القطع بالبقاء حتّى يدفع بشناعتها ولا الظّنّ به حتّى يتكلّم عليه صغرى وكبرى ، بل ندّعي أنّا مع الشّك في البقاء مأمورون على الأخذ بمقتضى اليقين السّابق تعبّدا : من جهة الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بغير اليقين.

٣٧٨

(٩٢) قوله : ( ومنها : أنّ الاستصحاب لو كان حجّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ١٠١ )

الوجه الثالث من الوجوه المزبورة

أقول : ظاهر هذا الدّليل كما ترى ، يعطي استحالة حجيّة الاستصحاب واعتباره ؛ إذ لازم المحال محال ، إلاّ أنّ مقتضى التّأمّل : أنّه ليس مراده من التّناقض هو التّناقض المعروف ، بل هو التّعارض في جميع موارد إرادة إجراء الاستصحاب. فلزوم التّعارض في جميع المقامات مع فرض عدم دليل على ثبوت الترجيح أو التّخيير في المقام يكشف عن أنّ الشّارع لم يجعل الاستصحاب حجّة ، وإلاّ لزم اللّغوية ؛ حيث إنّ المفروض عدم جواز الأخذ به ولو في الجملة ، فيكون جعله عبثا وقبيحا على الشّارع لو لم يرجع إلى الاستحالة الذّاتيّة بالملاحظة المذكورة.

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« الظاهر انه أراد استلزامه غالبا ، وإلاّ فربّما كان بيّنه الإثبات معتضدة بالاستصحاب كبيّنة من يدّعي بقاء ذمة مديونة مشغولة بدينه وهو يدّعي عدم اشتغالها به كما لا يخفي ، فالأولى أن يقرّر الاستدلال بأنّ الإستصحاب لو كان حجّة لكان ما يوافقه من البيّنتين أرجح بما يخالفه لاعتضادها به.

والتّحقيق في الجواب أن يقال : انّ الإستصحاب ان قيل بحجّيّته من باب الأخبار تعبّدا فلا يصلح لترجيح البيّنة أبدا ، إذ ليس من واديها كي يقويها وإن قيل بحجّيته من باب الظّنّ فلم ينهض دليل على التّرجيح به من خارج ، ولا دلالة لدليل اعتباره ولا لدليل اعتبارها على ذلك. نعم ، يرجع إليه في خصوص ترتيب آثار الواقع ، وأمّا مثل الحكومة وفصل الخصومة ممّا له موازين خاصّة فلا ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٢٣.

٣٧٩

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الجواب عن هذا الوجه ما ذكره المحقّق قدس‌سره : من أنّ التّعارض الدّائمي ممنوع ، والتّعارض في الجملة لا ينافي الحجيّة (١). فإنّه وإن نوقش فيما وقع في كلماتهم بما أفاده قدس‌سره : من فرض التّعارض ومثاله ، إلاّ أنّه لا يمكن إنكاره رأسا كما هو ظاهر ، فالجواب هو ما ذكره حقيقة ، بل يمكن أن يقال :إنّ التّعارض في بعض الموارد مضافا إلى عدم منافاته للحجيّة يؤكّدها ويثبتها فافهم.

(٩٣) قوله : ( إذ قلّما ينفكّ مستصحب عن أثر حادث ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ١٠٠ )

بيان المراد من الأثر الحادث

أقول : المراد بالأثر الحادث هو الأثر الغير المترتّب على وجود المستصحب في الزّمان السّابق منجّزا بل على وجوده في زمان الشّك كاستصحاب حياة زيد للحكم بتوريته عن مورثه الميّت ، وكاستصحاب طهارة الماء للحكم بحصول التّطهير للمغسول به في حال الشّك ، وكاستصحاب الطّهارة للحكم بجواز الصّلاة في حال الشّك إلى غير ذلك ؛ فإنّ هذه الآثار لم يكن مترتّبة على المستصحب في الزّمان السّابق تنجيزا وإن ترتّبت عليه تعليقا.

ثمّ إنّ الوجه في تقييد الأثر بالحادث حسب ما صرّح به في مجلس البحث هو : أنّ الأثر المترتّب على المستصحب في زمان اليقين يمكن أن يجعل نفسه موردا للاستصحاب على مذاق بعض وإن لم يجز عندنا : من حيث إنّ الشّك فيه مسبّب عن الشّك في بقاء الموضوع ، فمع إمكان جريان الاستصحاب فيه لا معنى

__________________

(١) المعارج : ٢٠٩.

٣٨٠