بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

__________________

يصير الرّاجح مرجوحا كما لو توضّأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ولم تكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل ان المدار على الظن ما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف ) إنتهى.

ولا يخفى انه أعلى الله مقامه لا يلتزم باعتبار إفادة الظن في الإستصحاب في أبواب الفقه خصوصا في الشبهات الموضوعيّة ، فالصائم حيث لا يظنّ ببقاء النّهار يجوز له الإفطار ، والمرأة حيث لا تظن ببقاء الطهارة لا يجب عليها العبادة والزّوج حيث لا تظنّ حياته تنكح زوجته وهكذا ، كلاّ ثم كلاّ.

وأعجب منه ما ذكره المحقّق الخوانساري أعلى الله مقامه حيث قال بعد حكايته هذا الكلام : ( ولا يخفى ان هذا إنّما يصحّ لو بنى المسألة على ما تيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم طروّ ما يزيله يحصل الظنّ ببقاءه والشك في نقيضه لا يعارضه ؛ إذ الضعيف لا يعارض القوي ، لكن هذا البناء ضعيف جدّا ، بل بناءها على الرّوايات مؤيّدة بأصالة البراءة في بعض الموارد وهي تشمل الشك والظنّ معا ، فإخراج الظنّ عنه ممّا لا وجه له أصلا ) إنتهى.

فإنّه مع ما فيه من ارتضاءه له حكم باجتماع الظنّ الشخصي مع الشك وجعل متعلّق الشك نقيض ما تعلّق به اليقين ومع ذلك زعم أنّهما متعارضان ، وهو بالنسبة إلى الظنّ والشك غير معقول من جهات ويترجّح الظن على الشك لقوّته ، وحمل الشك على الإحتمال الموهوم لا ينفع في دفع الإشكالات ، نعم إنّما ينفع لتعقّل إجتماعهما ، وأمّا المعارضة والترجيح فلا ، ولا يرد هذا على ما في الذّكرى حيث قال قدس‌سره فيها :

( إن قولنا : « اليقين لا ينقضه الشك » لا نعني به اجتماع اليقين والشك ، بل المراد ان اليقين الذي كان في الزمان الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء ما كان فيؤول إلى إجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد فيترجّح الظنّ عليه كما هو مطّرد في العبادات ) إنتهى.

٦١

__________________

فإن كلامه قدس‌سره صريح في انّ الحكم إنّما هو عدم الخروج عن حكم اليقين الزائل وانه هو حقيقة الإستصحاب ، فالمراد بالظن إنّما هو هذا الأصل ، أي : عدم الخروج عن حكم اليقين السابق وانه هو حقيقة الإستصحاب ، ولهذا فرّع على انّ المراد بعدم نقض اليقين بالشك عدم الخروج عن حكم اليقين اجتماع الظن والشك في الزمان الواحد ؛ فإنّ مآل عدم انتقاض اليقين بالشك إلى اجتماع الظن مع الشك لأنّ مفاده أصالة بقاء ما كان.

توضيح ذلك :

أن الشهيد قدس‌سره : أراد أن يبيّن معنى الرّواية ويدفع الإشكال عنها مشيرا إلى حقيقة هذه القاعدة وسرّ حكومتها على ما تحكم عليه ؛ فإنّ المتراءى من الرواية اجتماع اليقين والشك والتعارض وترجيح اليقين على ما هو مقتضى نفي نقضه به ، ولكن الغرض ضرب قاعدة وبيان أصالة بقاء ما كان ، فمعنى عدم انتقاض اليقين عدم الخروج عن حكمه مع فرض إرتفاعه ؛ فإنه كان على يقين فشك ولهذا لا يختلف الحال بين نفي إنتقاض اليقين بالشك والنهي عن نقضه والتشبّث باليقين الزائل الذي هو عبارة أخرى عن تنزيل ما زال من اليقين منزلة الباقي فيؤول إلى كون الشاك عالما بحكم الشارع والعلم التنزيلي ظهورا شرعيّا وهذا معنى التفريع في قوله : ( فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ) على تفسير عدم إنتقاض اليقين بالشك بعد رفع اليد عن اليقين السابق والتشبّث به وعدم الخروج عن حكمه وإلاّ فعدم الخروج عن حكم اليقين الزائل بالشك لا يؤول إلى حصول الظنّ الشخصي بالضرورة ولا مناسبة بين كون مفاد الرّواية بقاء ما كان وبين حصول الظنّ الشخصي للشاك فكيف يتفرّع عليه؟

مع انه لو كان المراد بالشك الإحتمال الموهوم لكان الوجه أن يقول : ( فيؤول إلى حصول الظنّ ) فإن مجامعة الإحتمال الموهوم مع الرّاجح ممّا لا بد منها عقلا ، فنفس الإجتماع مقوّم لحقيقة الظنّ ولا معنى للتعبير عن حصول الظنّ باجتماع الظنّ مع الشك ، أي : اجتماع الرّاجح

٦٢

شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » هو الوجه الثّالث : وهو إناطة اعتباره بالظّن الشّخصي في موارد الأخذ به ، وارتضاه المحقّق الخوانساري (١) بناء على القول به : من باب الظّن ، كما حكاه عنه في « الكتاب » وإن ضعف القول به من جهة المنع الصّغروي ، كما ربّما يستظهر من كلامه ، أو الكبروي كما هو الظّاهر منه بعد التّأمّل فيه ، وبنى أمره على الرّوايات الشّاملة لصورتي الشّك والظّن معا فلا معنى للحكم باختصاص اعتباره بالظّن ، وإخراجه عنها ، وإفراده في الحجيّة من جهة توهّم إناطته بالظّن فتدبّر ، حتّى لا يختلط عليك الأمر في مراده من العبارة من جهة لفظة الإخراج.

بل ربّما يستظهر الإناطة بالظّن الشّخصي من الشّهيد في « الذّكرى » (٢) أيضا ؛ حيث إنّ مراده من الشّك هو خلاف اليقين المجامع مع التّسوية ورجحان

__________________

مع المرجوح.

فالحاصل : انه لا مناسبة بين ما أفاده الشهيد رحمه‌الله وبين ما توهّمه غيره فتفطّن.

وأشار بقوله : ( لأصالة بقاء ما كان ) إلى أنّ الشك الذي لا يوجب الخروج عن حكم اليقين إنّما هو الشك في البقاء لا الشك السّاري ولا الأعمّ ، فلا بد من إحراز الحدوث وعدم الخروج عن حكم هذا اليقين بالشك في البقاء ، فليس الأصل إلاّ بقاء ما كان لا نفس الكون ، وتبيّن من هذا : ان الإستصحاب عنده هو الإبقاء أيضا مع كونه مستفادا مع الأخبار ؛ فإنّ عدم الخروج والتشبّث عمل المكلّف ، والمستفاد من الرواية : النهي عن الخروج عن حكمه وهو عين كون البقاء أصلا ، فالعمل بهذا الحكم استصحاب فافهم » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٨٣ ـ ٨٥.

(١) مشارق الشموس : ١٤٢.

(٢) ذكرى الشيعة : ج ٢ / ٢٠٧.

٦٣

أحد الاحتمالين ، فهو مع قطع النّظر عن ملاحظة الحالة السّابقة متحقّق في ضمن الأوّل ، وبملاحظتها يتحقّق في ضمن الثّاني ، فقوله : « لأصالة بقاء ما كان » إشارة إلى علّة عدم نقض اليقين الموجود في الزّمان الأوّل بالشّك في الزّمان الثّاني ، ولا دخل له بأصل دفع التّنافي المتوهّم من قول : ( اليقين لا ينقض بالشّك ) الظّاهر في ابتداء النّظر في اجتماع الوصفين في آن واحد المستحيل عقلا بإرادة اليقين السّابق والشّك اللاّحق ، فالشّك بعد هذه الملاحظة ينطبق على الرّجحان.

وهو المراد بقوله : « فيؤول إلى اجتماع الظّن والشّك في الزّمان الواحد » (١) وإن كان المراد منه بقرينة المقابلة خلاف اليقين المتحقّق في ضمن الوهم ؛ لأنّ الشّك بالمعنى المذكور لا ينفكّ عن الظّن. وظاهر أنّ مراده من الظّن : هو الظّن الفعلي لا الشّأني والنّوعي ، كما يكشف عنه قوله ـ مضافا إلى ظهور الظّن فيه ـ : ( كما هو مطّرد في العبادات ) (٢) ؛ لأنّ المطّرد فيها في باب الشّك في الرّكعات والأفعال : هو ترجيح الظّن الشخصي على الشّك لا النّوعي.

نعم يوجد في العبادات ترجيح الظّن النّوعي على الشّك أحيانا كما في مسألة حفظ الإمام مع شكّ المأموم ، أو عكس ذلك.

نعم ، استظهار كون الأمر عنده من باب الأخبار أيضا على الظّن ؛ نظرا إلى التعبير بعدم نقض اليقين بالشّك محلّ تأمّل ؛ فإنّ كونه إشارة إلى الاستناد إلى الأخبار في باب الاستصحاب محلّ نظر ، فضلا عن تنزيل الأخبار على الظّن.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ج ٢ / ٢٠٧ ، عنها فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٢.

(٢) المصدر السابق عنه فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٣.

٦٤

فإنّ مجرّد الموافقة في التّعبير مع عدم ذكر خبر من الأخبار في كلامه لا يدلّ على ذلك أصلا كما لا يخفى ، بل ربما يستظهر من قوله : « قولنا : اليقين لا ينقض بالشّك » (١) من جهة الإضافة إلى نفسه ، عدم الاعتماد في ذلك على الأخبار. ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل عقيب قوله : « بل ظاهر كلامه : أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ... إلى آخره » (٢) (٣).

__________________

(١) المصدر السابق عنه فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٣.

(٣) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« يمكن منعه : بأنّ التعبير عن الإستصحاب بما هو عبارة أخبار الباب وإن كان لا يخلو عن إشعار بذلك إلاّ انّ في جعله مقولا لقوله : ( قولنا : اليقين ... الى آخره ) وفي التعليل بقوله : ( لأصالة بقاء ما كان ) شهادة بأنّ التعبير به إنّما هو عن الإستصحاب المشتهر بين الأصحاب لا مضمون أخبار الباب ولعلّه أشار بقوله : « فتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٩٤.

* وقال المحقق الأصولي موسى بن جعفر التبريزي رحمه‌الله :

« الأمر بالتأمّل إشارة إلى إمكان كون مراده بالظنّ هو الظنّ النوعي المجامع للشك بمعنى تساوي الطرفين وحينئذ لا يبقى في كلامه دلالة على اعتبار الظنّ الشخصي فلا يتم حينئذ ما استظهره منه أوّلا ، وحمل الظنّ على النوعي منه وإن كان خلاف الظاهر ، إلاّ أنّ حمل الشك على الوهم خلاف الظاهر أيضا ومع تعارضهما لا يتم الإستظهار المذكور.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى منع ما استظهره ثانيا بقوله : ( بل ظاهر كلامه : ... إلى آخره ) لأنّ منشأ الإستظهار هو التعبير بقوله : ( اليقين لا ينقضه الشكّ ) ولكن يوهن هذا الظهور نسبة هذا القول إلى نفسه بقوله : ( قلنا : اليقين لا ينقضه الشكّ ) » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٣٨.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

٦٥

* الأمر الخامس :

مقوّمات الاستصحاب

(٦) قوله قدس‌سره : ( إنّ المستفاد من تعريفنا السّابق ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤ )

__________________

« لعلّه إشارة إلى منع ما استظهره من كلام الشهيد : من ان المناط في اعتبار الإستصحاب من باب الأخبار أيضا هو الظن ؛ إذ لا وجه للإستظهار سوى تعبيره عن الإستصحاب بقوله : « اليقين لا ينقضه الشك » عين عبارة الخبر ، ولا دلالة في هذا التعبير بمجرّده على انه يتكلّم بناء على اعتبار الإستصحاب من باب الأخبار فتأمّل.

ويحتمل ان يكون إشارة إلى منع استظهار الظن الشخصي من كلامه.

وجه المنع : أنّا لا نعرف اعتبار الظن الشخصي في غير الصلاة من سائر العبادات ويبعد أن يريد بالعبادات بصيغة الجمع خصوص الصلاة من بينها وحينئذ يحمل كلامه على الظن النوعي واستشهاده بالعبادات باعتبار حجّيّة الظن النوعي من البيّنة وقول ذي اليد ويد المسلم ونحوها فيما يتعلّق بالعبادات من مقدّماتها وشرائطها وموانعها » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٨.

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« حاصله : أن المستفاد مما عرّف الإستصحاب به من قوله : ( الإستصحاب : إبقاء ما كان ) : إنه إنّما يتقوّم بأمرين :

أحدهما : اليقين بوجود شيء أو عدمه في السّابق.

وثانيهما : عروض الشّكّ في بقاء المتيقّن السّابق.

لكنك قد عرفت سابقا : عدم إفادة التعريف المذكور للأمر الثّاني. وكيف كان : فهذان الأمران

٦٦

__________________

يرجعان إلى اعتبار أمور في جريان الاستصحاب :

أحدها : حصول اليقين بالوجود السّابق مثلا حين عروض الشّك سواء كان اليقين حاصلا حين الوجود أيضا أم لا ، فلا فرق في جريان الاستصحاب بينما لو علم في الأمس بوجود شيء وشكّ اليوم في بقائه ، وبينما لو علم اليوم بوجوده في الأمس وشك في زمان اليقين أيضا في بقائه إلى حينه ، ومن هنا يخرج ما لو علم بوجود شيء في زمان ثم شكّ في وجوده في ذلك الزمان بأن شك في كون يقينه السّابق جهلا مركّبا أو موافقا للواقع وهو المسمّى بالشكّ السّاري ؛ لعدم جريان الاستصحاب فيه وإن زعم بعضهم عموم أخبار عدم جواز نقض اليقين بالشكّ له أيضا وسيأتي الكلام فيه.

قال كاشف الغطاء ـ بعد كلام له في الإستصحاب ـ : ( ولو لم يبق علمه باليقين السّابق مع علمه بأنه كان عالما فلا يخلو : إمّا أن ينسى طريق علمه السّابق ، أو يتردّد فيه ، أو يعلم عدم قابليّته ، والأقوى جريان الإستصحاب في القسمين الأولين ، وأمّا ما وقع منه من العمل فيحكم بصحّته ما لم يعلم بعدم مقتضى علمه ) إنتهى.

وثانيها : أن يكون الشكّ لا حقا باليقين بمعنى تقدّم المتيقن على المشكوك ، وإلاّ فقد عرفت : عدم اعتبار تقدم وصف اليقين في ماهية الإستصحاب ، وإنّما قيدنا بذلك احترازا عن الإستصحاب القهقرائي وهو : ما كان فيه المشكوك فيه سابقا على المتيقّن على عكس الاستصحاب المتعارف ، فينسحب فيه المتيقّن اللاّحق إلى زمان المشكوك فيه السّابق ، كما فى موارد أصالة عدم النقل ، وقد اشتهرت تسميته بما ذكرناه في لسان الوحيد البهبهاني ، وتلميذه صاحب الرّياض ـ وسيشير إليه المصنّف رحمه‌الله في التنبيهات ـ فإذا ثبت كون لفظ حقيقة في عرفنا وشك في كونه كذلك في عرف الشارع أو اللغة أيضا يقال : إنّ مقتضى الاستصحاب القهقرائي أن يكون كذلك في عرف الشارع أو اللغة أيضا.

والظاهر أنّ استنادهما في إثبات الحقيقة الشرعية أو اللغوية ليس إلى مثل هذا الإستصحاب

٦٧

أقول : لا ينبغي الإشكال ، بل لا ينبغي الخلاف في اعتبار الأمرين في مورد الاستصحاب ومحلّه ، بل كلماتهم على اختلافها في مقام تعريفه والتّعبير عنه بالإبقاء والإثبات ونحوهما على ما عرفت الكلام فيه منطبقة عليه.

أحدهما : المتيقّن السّابق : بمعنى لزوم إحرازه في زمان الحكم بالبقاء والإثبات والاستصحاب سواء كان هناك يقين سابق أيضا لوجوده السّابق في زمان وجوده أو لا ، بل حصل في زمان الشّك ؛ فإنّه لا يعتبر في الحكم بالبقاء شرعا وعقلا ، إلاّ إحراز كون المحكوم به البقاء والوجود الثّانوي للشّيء في زمان إرادة الحكم من غير نظر إلى سبق اليقين أصلا وهذا ممّا لا إشكال ، بل لا خلاف

__________________

لعدم مساعدة دليل عليه ، بل إلى أمر آخر مثل غلبة تشابه الأزمان ونحوها ، وإن عبّروا به في مقام الإثبات.

وثالثها : فعليّة الشكّ ، فلا يكفي الشكّ الشأني والتقديري ـ كما قرّره المصنّف رحمه الله ـ لأنه المنساق من الشك المأخوذ في الأخبار » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٣٨.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« حقّ التعريف أن يعرّف بإبقاء المتيقّن أو اليقين ، وعليه : فينبغي أن يجعل مقوّم الإستصحاب وجود الشيء في الزمن السابق بوصف كونه متيقنا لا مجرّد وجوده واقعا ويكون اليقين طريقا إليه وتظهر الثمرة : فيما إذا كان زيد مثلا عادلا يوم الخميس في الواقع إلاّ أنه لم يعلم به المكلّف وصلّى خلفه ، أو أوقع طلاقا عنده أو نحو ذلك يوم الجمعة حال كونه شاكّا في عدالته ثم علم يوم السبت انه كان عادلا قبل زمان شكّه ، فعلى ما ذكره المصنّف ميزان الإستصحاب كان موجودا حين العمل وإن لم يعلم به المكلّف فيحكم بصحّة عمله وعلى ما قرّرناه وشيّدناه ليس هاهنا استصحاب فيبطل ، الا على تقريب [ آخر ] » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٨.

٦٨

فيه ، وإن أوهم بعض العبارات في باديء النّظر اعتبار سبق اليقين ، لكنّه من جهة الغلبة لا من جهة اعتبار السّبق في جريان الاستصحاب كما هو ظاهر.

ويلحق بإحراز الوجود السّابق باليقين ، إحرازه بالظّن المعتبر من باب تحكيم دليل اعتباره ، لا من جهة دخوله موضوعا حقيقة ، كما ربّما يستظهر من « الكتاب ».

وأمّا إذا لم يكن هناك متيقّن سابق في زمان إرادة الاستصحاب ، بل كان هناك يقين سابق مع زواله حين إرادة الاستصحاب : بأن تعلّق الشّك بنفس ما تعلّق به القطع وهو المسمّى بالشّك السّاري في لسان بعضهم ، في قبال الشّكّ المتعلّق بالوجود الثّانوي المسمّى بالشّك الطّاري في لسانه ، فهو خارج عن موضوع الاستصحاب ؛ لأنّ الشّك فيه متعلّق بالحدوث لا البقاء حتّى يكون الحكم به استصحابا ، وإن كان هنا كلام في استفادة إلقاء (١) هذا الشّك من بعض أخبار الباب كاستفادة الاستصحاب منها بادّعاء الجامع بينهما كما ستقف على تفصيل القول فيه ، لكنّه لا تعلّق له بالمقام من كونه داخلا في الاستصحاب موضوعا.

نعم ، خالف فيه الشّيخ في « الفصول » ـ فيما عرفت من كلامه في تعريف الاستصحاب وإن اختار عدم اعتبار الاستصحاب فيه (٢). نعم ، ستقف على كلام له ـ عند التّكلّم في الأخبار ـ صريح في استفادة الأصلين منها ، أحدهما : الاستصحاب ، لكن لا تعلّق له بالخلاف في المقام ، والشّيخ الجليل فقيه عصره

__________________

(١) كذا والظاهر « الغاء ».

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٦٦.

٦٩

وفريد دهره قدس‌سره في « كشف الغطاء » مع حكمه باعتبار الاستصحاب فيه في الجملة ؛ حيث قال ـ بعد جملة كلام له في بيان حقيقة الاستصحاب ودليل اعتباره وأحكامه ـ ما هذا لفظه :

« ويتسرّى الاستصحاب إلى كلّ قطعي الثّبوت ، أو ظنّيّه بطريق شرعيّ من موضوع ، أو حكم عقليّين ، أو عاديّين ، أو شرعيّين مأخوذين من عقل ، أو كتاب ، أو سنّة ، أو إجماع ، ولو لم يبق علمه باليقين السّابق مع علمه بأنّه كان عالما فلا يخلو : إمّا أن ينسى طريق علمه السّابق ، أو يتردّد فيه ، أو يعلم عدم قابليّته ، والأقوى جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين [ خاصّة ](١).

وأمّا ما وقع منه من العمل فيحكم بصحّته ما لم يعلم بعدم مقتضى علمه ، ولو كان الحكم الثّابت أوّلا بطريق ظنّي وجرى الحكم الظّاهري فزال الظّهور ، بنى على صحّة ما تقدّم سواء كان عن اجتهاد أو تقليد ، ولو حصل القطع بخلافه أعاد ما فات (٢) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى خلاف صريح مقالة القوم في موضوع الاستصحاب وحقيقته ، بل خلاف صريح كلامه أيضا في بيان ماهيّة الاستصحاب ؛ فإنّه قال قبل ذلك بأسطر ـ بعد الحكم : بأنّ أصالتي الإباحة والطّهارة ترجعان إلى أصالة البراءة ، وبيان اشتراطهما بعدم الدّليل عموما أو خصوصا على الخلاف ـ ما هذا لفظه :

« وكذا الاستصحاب ، وهو الحكم باستمرار ما كان إلى أن يعلم زواله ؛ فإنّ

__________________

(١) أثبتناه من المصدر.

(٢) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء : ج ١ / ٢٠١.

٧٠

مجاري العادات في الشّرعيّات وغير الشّرعيات على العمل به ، وطلب الدّليل على رفع ما ثبت وثبوت ما انتفى ، مضافا إلى دلالة الأخبار عليه في مقامات عديدة كما لا يخفى (١) ». انتهى ما أردنا نقله.

فإنّ الحكم بحدوث ما شكّ في حدوثه في الزّمان اللاّحق مع القطع بحدوثه قبل ذلك ليس حكما باستمرار ما كان كما هو ظاهر. ومن هنا نلتجئ إلى حمل كلامه على الإلحاق الحكمي مع كمال بعده.

ثانيهما : المشكوك اللاّحق :بمعنى تعلّق الشّك بالوجود اللاّحق والثّانوي والمتأخّر وإن لم يكن زمان الشّكّ متأخّرا عن زمان اليقين كالاستصحاب في الأمور المستقبلة ؛ فإنّه لا إشكال في جريانه واعتباره فيما يترتّب أثر شرعيّ على الوجود المتأخّر ، وكما فيما عرفت في الأمر السّابق ، بل قد يفرض تقدّم الشّك وجودا على اليقين : بأن يشكّ في عدالة زيد مثلا في يوم الجمعة بالنّسبة إلى نفس هذا اليوم ، ثمّ حصل له القطع يوم السّبت بعدالته يوم الخميس مع استمرار الشّك فتأمّل. فلو لم يكن الوجود الثّانوي مشكوكا فعلا فلا يعقل جريان الاستصحاب هناك سواء علم بارتفاعه ، أو تحققه.

وإن فرض معه الشّك في الحدوث فلو حكم بالحدوث المشكوك فيه من جهة الوجود المتأخّر المعلوم كان على عكس الاستصحاب حقيقة ، ومن هنا أطلق عليه : الاستصحاب القهقري مجازا ؛ إذ مدار الاستصحاب على الحكم بالوجود الثّانوي : من جهة الوجود الأوّلي ، ومداره على الحكم بالوجود الأوّلي المشكوك

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٢٠٠.

٧١

من جهة الوجود الثّانوي المعلوم من جهة تشابه الأزمان ، ومنه الحكم بثبوت الحقيقة اللّغويّة : من جهة ثبوت الحقيقة العرفيّة في زماننا لا من جهة الاستناد إلى أصالة عدم النّقل لينفى احتمال الوضع لغيره في اللّغة ؛ فإنّه يرجع إلى الاستدلال بالاستصحاب الاصطلاحيّ ، بل من جهة مجرّد تشابه الأزمان وكونه في العرف المتأخّر حقيقة في المعنى الفلاني. ومن هنا يعلم عدم اعتباره لعدم الدّليل عليه أصلا كما لا يخفى.

أو فرض الغفلة عن حاله فلم يحصل هنا شكّ في الوجود المتأخّر فعلا ، وإن حصل الشّكّ فيه على تقدير الالتفات إليه ؛ ضرورة أنّ المعتبر في حقيقة الاستصحاب ـ كما هو الشّأن في سائر الأصول بل جميع الأحكام الظّاهريّة ـ هو الشّك الفعلي لا الفرضي المتحقّق على تقدير الالتفات.

بل التّحقيق : كون المعتبر من اليقين بالوجود الأوّلي أيضا : هو اليقين الحاصل فعلا لا اليقين المتحقّق تقديرا وعلى فرض الالتفات. فكما أنّ المتيقّن بالحدث مثلا لو لم يلتفت إلى حاله بحيث لو التفت لشكّ في بقائه ورفعه بالطّهارة لم يجر استصحاب الحدث في حقّه ، كذلك الشّاك في الطّهارة مثلا لاحقا لو لم يلتفت إلى حاله السّابق بحيث لو التفت لحصل له العلم بالطّهارة السّابقة لم يجر استصحاب الطّهارة في حقّه أيضا ؛ ضرورة عدم تمكّنه من الحكم بالبقاء إستنادا إلى الوجود السّابق وإن كان المشكوك في الواقع بقاء الطّهارة ، إلاّ أنّه لا يلتفت إلى هذا العنوان ، إلاّ بعد إحراز الوجود الأوّلي الحاصل باليقين الفعلي كما هو ظاهر.

ويتفرّع على ما ذكر : صحّة صلاة من غفل عن حاله بعد العلم بصدور الحدث إلى أن فرغ عن العمل المشروط بالطّهارة ، ثمّ حصل له الشّك بعد العمل في

٧٢

تحصيل الطّهارة بعد الحدث ؛ فإنّه وإن كان مقتضى الاستصحاب حينئذ بطلان العمل وكونه محدثا ـ ولذا يحكم بلزوم تحصيل الطّهارة عليه لما يشترط بالطّهارة من الأعمال المستقلة ـ إلاّ أنّه لما كان محكوما أو مختصّا بقاعدة الشّك بعد العمل يبنى على صحّة عمله الّذي حصل الشّك بعده ، فيحكم بكونه محدثا ومتطهّرا بالنّسبة إلى ما مضى وما سيأتي ، وليس فيه إلاّ التّفكيك بين الأحكام الظّاهريّة والجمع بين الضّدين ، أو النّقيضين في مرحلة الظّاهر ، ولا ضير فيه أصلا بعد ابتنائه على ترتيب الآثار في مرحلة الظّاهر كما هو ظاهر.

نعم ، لو حصل له الشّك في أثناء الصّلاة بعد العلم بالحدث لم يجر القاعدة في حقّه في وجه فيحكم ببطلان صلاته : من حيث عدم إمكان تحصيل الطّهارة له للأجزاء الباقية حتّى يحكم بصحّة ما مضى من عمله ، وإن أمكن الحكم بصحّتها :من حيث إن محلّ الطّهارة لمجموع أجزاء الصّلاة قبل الاشتغال بها ، فبمجرّد الدّخول فيها يتحقّق التّجاوز بالنّسبة إليها ، وإن لم يتحقّق بالنّسبة إلى ما لم يشتغل به من الأعمال المشروطة بالطّهارة هذا. وسيجيء تحقيق القول فيما هو الحقّ من الوجهين عند التّكلم في القاعدة في آخر المسألة.

ويتفرّع على اعتبار ما ذكرنا من اليقين الفعلي : بطلان الصّلاة وغيرها ممّا كان مشروطا بالطّهارة فيما أراد الدّخول في العمل مع الشّك ، لا من جهة الحكم بكونه محدثا ؛ لأنّ المفروض عدم سبق الحدث في حقّه ، بل من جهة عدم إمكان القصد المعتبر في العبادة في حقّه فيحكم ببطلان صلاته إذا دخل متردّدا وإن انكشف كونه متطهّرا في الواقع.

نعم ، لو فرض عروض الغفلة في حقّه بعد الشّك عند إرادة الدّخول في العمل

٧٣

فدخل ناويا للتّقرب فالتفت بعد العمل ؛ فإن حصل له اليقين بالطّهارة السّابقة المتيقّنة قبل عروض الشّك ، فلا إشكال في الحكم بصحّة ما أتى به وبجواز ما لم يأت به من حيث جريان استصحاب الطّهارة في حقّه بعد الالتفات إلى اليقين السّابق. وإن لم يحصل له التفات ويقين بحالته السّابقة ، فيحكم بصحّة ما أتى به من جهة القاعدة ، ولا ينافيها الحكم بالبطلان فيما لو دخل في العمل متردّدا كما هو ظاهر. هذا كلّه فيما لو فرض عروض الغفلة بعد اليقين بالحدث ، ولم يحصل له شكّ فعلا ، إلاّ بعد الفراغ عن الصّلاة.

وأمّا إذا التفت إلى حاله قبل الدّخول فعرض له الشّك في رفع الحدث المتيقّن بتحصيل الطّهارة ؛ فإن دخل في العمل شاكّا متردّدا لم يكن إشكال في بطلانه لما عرفت : من عدم التّمكن من قصد القربة والحال هذه ، وإن لم نقل بحجيّة الاستصحاب أصلا. وإن ذهل عن حاله فغفل فدخل في العمل جازما فالتفت إلى حاله بعد الفراغ ؛ فإن احتمل تحصيل الطّهارة بعد الشّك العارض له قبل الدّخول ، فيمكن الحكم بجريان القاعدة في حقّه. وإن لم يحتمل ذلك ، حكم ببطلانه من حيث سبق الحكم بكونه محدثا بمقتضى الاستصحاب قبل الدّخول في العمل فيما لم يكن هناك محلّ للقاعدة أصلا. والمفروض حصول القطع له بعدم الامتثال والعمل بالحكم الظّاهريّ المفروض.

فهو في هذا الفرض حاكم على القاعدة لا محكوم ، وإن هو إلاّ نظير ما أسمعناك في طيّ الجزء الثّاني من التعليقة : من أنّ أصل البراءة وإن كان مورودا ، أو محكوما بالنّسبة إلى الاستصحاب إذا كان بناؤه على العقل ، أو الشّرع ، إلاّ أنّه قد يكون حاكما على الاستصحاب كأصل البراءة الجاري في دوران الأمر بين الأقلّ

٧٤

والأكثر الحاكم على استصحاب الاشتغال لو سلّم جريانه على ما عرفت تفصيل القول فيه.

والقول : بأنّه إذا فرض عروض الغفلة حين الدّخول كما هو المفروض ، فلا استصحاب هناك حتّى يحكم بمقتضاه بدخوله في العمل محدثا ؛ نظرا إلى ما بني الأمر عليه : من اعتبار الشّكّ الفعلي فهو في حكم ما لو غفل بعد الحدث رأسا ولم يحصل له شكّ إلاّ بعد العمل على ما عرفت حكمه ، فاسد.

فإنّك قد عرفت : أنّ الحكم ببطلان عمله ليس من جهة جريان الاستصحاب في حقّه في زمان الدّخول في العمل ، بل من جهة القطع بكون عمله مخالفا للحكم الظّاهري المتحقّق في حقّه آنامّا قبل العمل فتدبّر.

ومن هنا يفرّق بين الفرض وما لو شكّ قبل الدّخول وكانت حالته السّابقة الطّهارة ولم يلتفت إليها حين الشّك ، ثمّ غفل فدخل في العمل فالتفت بعد الفراغ حيث إنّ الحكم بعدم جواز الدّخول له في حال الالتفات والشّك لم يكن من جهة الحكم بكونه محدثا ، بل من جهة عدم إمكان تأتّي القربة منه ما دام ملتفتا هذا.

ولكن قد يقال : بأنّ الحكم ببطلان الصّلاة ووجوب إعادتها مع العلم بوقوعها في الحدث إذا فرض عدم اختلال سائر الأمور المعتبرة فيها حتّى القصد ليس من جهة حكم الشارع به ، بل من جهة حكم العقل من حيث إنّ الشّرط وإن كان شرعيّا ، إلاّ أنّ انتفاء المشروط بانتفاء شرطه من اللّوازم العقليّة لا الشّرعيّة ، فإذن لا يجدي استصحاب الحدث للحكم ببطلان الصّلاة ووجوب إعادتها في الفرض ؛ فإنّه إنّما يجدي لو كان الحكم المترتّب على المستصحب من الآثار الشّرعيّة والمفروض خلافه.

٧٥

وإن شئت قلت : إنّ الاستصحاب إنّما يجدي فيما لو كان الحكم بالبطلان على تقدير الدّخول شاكّا مستندا إلى الاستصحاب وليس الأمر كذلك ؛ لأنّك قد عرفت : بطلان العمل مع الدّخول في حال الشّك واقعا وإن انكشف كونه متطهّرا ؛ نظرا إلى عدم تأتّي القربة منه ، فإذا لم يكن الحكم بالبطلان مع الشّك الفعلي مستندا إلى الاستصحاب ، بل إلى نفس الشّك فكيف يجعل دليلا على البطلان عند عروض الغفلة حين الدّخول؟ هذا كلّه بالنّسبة إلى الإعادة.

وأمّا القضاء ؛ فإن كان بالأمر الأوّل ، فحاله حال الإعادة في الوقت. وإن كان بالأمر الجديد وقلنا بكونه مترتّبا على مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به في وقته وتركه فيه ، فيمكن إثباته باستصحاب الحدث : من حيث رجوعه إلى عدم الإتيان بالمأمور به حقيقة ، وإن كان هناك واسطة فهي من الوسائط الخفيّة. وسيجيء ما يوجّه به عدم قدحها في الرّجوع إلى الاستصحاب في التّنبيهات. إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو فيما لو كانت الحالة السّابقة الحدث ، وأمّا لو كانت الطّهارة ، فلا إشكال في الحكم بصحّة الصّلاة ظاهرا سواء التفت إلى حاله وشكّ في صدور الحدث منه قبل الدّخول في الصّلاة ، أو لم يلتفت إلاّ بعد الفراغ ، والوجه فيه ظاهر. وأمّا لو لم يعلم بالحالة السّابقة ، فإن التفت إلى حاله حين الدّخول في الصّلاة فلا إشكال في الحكم ببطلان صلاته ، لما عرفت : من عدم تأتّي القصد والحال هذه. وإن لم يلتفت حين الدّخول والتفت بعد الفراغ ، فلا إشكال في الحكم بصحة صلاته أيضا. وإن التفت قبله فشكّ ، ثمّ غفل فدخل في العمل والتفت بعد الفراغ ، فإنّه وإن كان في حكم المحدث حين عروض الشّك ، إلاّ أنّه من جهة عدم

٧٦

إحرازه للطّهارة لا من جهة الحكم بكونه محدثا في مرحلة الظّاهر كما فيما كانت الحالة السّابقة الحدث.

والحاصل : أنّ نفس الشّك في الشّرط وإن كان في حكم العقل مقتضيا لعدم القناعة باحتماله وتحصيل العلم بتحقّقه : من جهة قاعدة الشّغل وعدم جواز الدّخول في العمل معه بعد حكم العقل بعدم المعذوريّة معه ، إلاّ أنّه مبنيّ على مجرّد احتمال عدم الشّرط ، لا على البناء على عدم الشّرط. والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى وقد عرفت الإشارة إليه في طيّ كلامنا السّابق عن قريب.

* * *

٧٧

* الأمر السادس :

تقسيم الإستصحاب

(٧) قوله قدس‌سره : ( في تقسيم الاستصحاب إلى أقسام ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦ )

أقول : ما ذكره من الأمور من أوّل المسألة إلى هنا : يرجع حقيقة إلى بيان المباديء التصوّرية لها من حيث تصوّر نفس موضوع الاستصحاب ، وشروط جريانه ، وتحرير ما هو محلّ الكلام منه.

ولمّا كان للاستصحاب أركان ثلاثة : المستصحب ، واليقين ، والشّك ، فلا بدّ من أن يلاحظ تقسيمه بالنّسبة إليها. ولمّا كان لليقين سبب لا محالة لوحظ التّقسيم الرّاجع إليه بالنّسبة إليه ؛ لأنّ التّفصيل والكلام فيه إنّما هو بالنّسبة إلى سببه لا نفسه ، ولمّا كان المقصود من التّقسيم يعيّن ما هو مورد الخلاف ، وما توهّم كونه مورد الوفاق ، وبعبارة أخرى : تعيين ما وقع الكلام فيه ، إقتصر الأستاذ العلاّمة في تقسيم كلّ منها على أقسام ثلاثة ، وإلاّ فلا إشكال في عدم حصر أقسامه فيما ذكره. ولمّا كان البناء في زيادة الأقسام على ترتّب نفع معتدّ به زادها ، وإن أمكن جمعها في تقسيم واحد ، بل كرّر بعضها من جهة فائدة سيجيء الإشارة إليها.

ثمّ إنّ تقسيم الاستصحاب إلى ما سيجيء من الأقسام إنّما هو مبنيّ على مذاق القوم وجري على طريقتهم ، وإلاّ فالحقّ : أنّ الاستصحاب لا يصدق موضوعا في بعضها ولا يجري أصلا.

٧٨

(٨) قوله : ( أمّا دعوى الإجماع فلا مسرح لها في المقام مع ما سيمرّ بك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨ )

أقول : كان الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث يريد أن يجعل هذا الكلام جوابين.

أحدهما : عدم الجدوى للإجماع هنا : من حيث رجوع الكلام في المسألة إلى الصّغرى ، ومن المعلوم : أن الاتّفاق فيه ممّا لا يكشف عن قول المعصوم.

نعم ، لو كان نزاعهم مختصّا بالكبرى وهو اعتبار الظّن العقلي في المقام ، أمكن أن يقال : إنّ اتّفاقهم عليه في العدميّات يكشف عن قول المعصوم فتدبّر.

ثانيهما : المنع من تحقّقه بملاحظة ما سيجيء من نقل الخلاف.

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« حاصله : منع اعتبار الإجماع في المقام أوّلا ومنع تحقّقه ثانيا.

ولعلّ الوجه في الأوّل : كون النّزاع في المقام صغرويّا من حيث إفادة الاستصحاب للظنّ وعدمه ـ كما يشير إليه قول المثبت : بأن ما ثبت دام ، وقول المجيب : بأن ما ثبت جاز أن يدوم » وجاز أن لا يدوم. ـ وقال شارح المختصر : اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادته الظنّ بالبقاء وعدمها لعدم إفادته إياه لعدم كشف الاتفاق حينئذ عن رضا المعصوم ، نعم ، لو كان النّزاع فيه بحسب الكبرى لم يكن وجه لمنع اعتبار الإجماع فيه إلاّ أن يقال : إنّ المعروف بين العامّة والخاصّة في محل البحث هو اعتبار الاستصحاب من باب العقل دون الشرع ، ومرجع النّزاع فيه ـ على تقدير كونه كبرويا ـ : إلى النّزاع في اعتبار مطلق الظنّ ، ولا مسرح للإجماع في المسائل العقليّة كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في صدر الكتاب ، اللهمّ إلاّ أن يريد به بناء العقلاء فتدبّر » إنتهى.

أنظر أوثق الوسائل : ٤٣٩.

٧٩

(٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا سيرة العلماء ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ جريان السّيرة واستقرارها على التمسّك بالأصول في باب الألفاظ وجوديّة كانت ، أو عدميّة ليس من جهة الاستصحاب ، بل من حيث الظّهور النّوعي الّذي جرت طريقة أهل اللّسان على الاتّكال عليه في باب الألفاظ حسبما سيجيء الإشارة إليه في كلام الأستاذ العلاّمة ، فلا ينفع هذه السّيرة للمستدلّ أصلا ، مضافا إلى عدم الشّهادة فيها على مطلبه لجريانها في الوجودي أيضا.

(١٠) قوله : ( وأمّا استدلالهم على إثبات الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٩ )

أقول : ذكر الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث جوابا آخر عن الاستدلال

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« ممّا يوهنها ما ذكره الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ؛ لأنه بعد أن عزّى حجية الإستصحاب إلى الأكثر قسّمه إلى أربعة أقسام :

استصحاب النفي في الحكم الشّرعي إلى أن يرد دليل ، واستصحاب العموم إلى أن يرد مخصّص وحكم النّص إلى أن يرد ناسخ ، واستصحاب حكم ما ثبت شرعا واستصحاب حكم الإجماع إلى موضع النّزاع ، ثم ذكر للخلاف فروعا من الإستصحاب الوجوديّة والعدميّة ؛ لأن ظاهره كون هذه الفروع بأسرها محلّ ثمرة بين قول الأكثر وغيره.

نعم ، ما ذكره في جملة الفروع ـ : ( من أنّه لو شكّ في الطهارة مع تيقن الحدث أو بالعكس فإنّه يستصحب حكم ما علمه ويطرح المشكوك فيه ) إنتهى. ـ ليس في محلّه ؛ لعدم الخلاف فيه ، ويؤيّده أيضا : أن الأمين الأسترآبادي في الفصل السادس من فوائده المدنية قد نسب القول باعتبار استصحاب نفي الحكم الشرعي إلى المتأخرين من أصحابنا ، وهو مؤذن بوجود الخلاف بينهم » إنتهى. أنظر أوثق الوسائل : ٤٤٠.

٨٠