بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

١
٢

٣
٤

المقام الثاني (١)

في الإستصحاب

__________________

(١) وكان المقام الأوّل في البراءة والإشتغال والتخيير ، حسب ما عقده الشيخ الأعظم قدس‌سره في رسائله.

٥
٦

* الإستصحاب لغة وإصطلاحا

* تقديم أمور ستة

* الأوّل : الإستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنّيّة؟

* الثاني : وجه عدّ الإستصحاب من الأدلّة العقليّة

* الثالث : الإستصحاب مسألة أصوليّة أو فقهيّة؟

* الرابع : مناط الإستصحاب على المباني المختلفة

* الخامس : تقسيم الإستصحاب :

ـ باعتبار المستصحب

ـ باعتبار دليل المستصحب

ـ باعتبار الشك المأخوذ فيه

* الأقوال في حجّيّة الإستصحاب

* أدلة المختار :

ـ الدليل الأوّل : الإتفاق

الدليل الثاني : الإستقراء

الدليل الثالث : السنّة

٧
٨

* حجّة القول الأوّل ( المثبتون لحجّيّة الإستصحاب )

* حجّة القول الثاني ( النافون لحجّيّة الإستصحاب )

* حجّة القول الثالث ( المفصّلون بين العدمي والوجودي )

* حجّة القول الرابع ( المفصّلون بين الأمور الخارجيّة والحكم الشرعي مطلقا )

* حجّة القول الخامس ( المفصّلون بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره )

* حجّة القول السابع : ( تفصيل الفاضل التوني بين الحكم التكليفي والوضعي )

* حجّة القول الثامن : ( التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره )

* حجّة القول التاسع : ( التفصيل بين ما شك في المقتضي والشك في الرّافع )

* حجّة العاشر : ( التفصيل بين ما شك في وجوب الغاية وعدمه )

* حجّة القول الحادي عشر : ( التفصيل المتقدم مع زيادة الشك في مصداق الغاية )

* تنبيهات الإستصحاب

* التنبيه الأوّل : أقسام الإستصحاب الكلّي

٩
١٠

الإستصحاب

(١) قوله : ( في الاستصحاب : وهو لغة : أخذ الشيء مصاحبا ، ومنه : استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصّلاة وعند الأصوليّين عرّف بتعاريف ، أسدّها وأخصرها « إبقاء ما كان » ، والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء ، ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيته للحكم ، فعلّة الإبقاء هو أنّه كان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٩ )

تعريف الاستصحاب اصطلاحا وأن مرجع التعاريف إلى أمر واحد

أقول : الاستصحاب : استفعال من « صحب » ، وفي كونه في اللّغة بالمعنى الّذي ذكره لا إشكال فيه ، كما صرّح به غير واحد من اللّغويّين وهو الظّاهر منه في العرف العام أيضا ، ولم يتعلّق بهذا اللّفظ حكم في الكتاب والسّنة حتّى يتكلّم في معناه في زمان الشارع ، أو المراد منه وأنّه منطبق على العرف واللّغة أو لا ، وإنّما وقع التّعبير به من الأصوليّين في الأدلّة العقليّة وغيرها ، واستعمله الفقهاء عند الاحتجاج به في الفروع ، والمراد به عندهم في الأصول والفروع أمر واحد ، وإن استعمله الفقهاء في باب الصّلاة كالاستعمال المذكور في « الكتاب » عنهم في معناه العرفي.

ولا إشكال ظاهرا في كونه منقولا عندهم من معناه العرفي المتّحد مع اللّغة ، فيكون في العرف الخاصّ حقيقة في معنى آخر بالوضع التّعييني لا من نقل العام

١١

إلى الخاصّ كما توهم ؛ ضرورة أنّ الاستصحاب ليس من فعل المكلّف عندهم حتّى يقال ـ بعد تعميم المصاحب المأخوذ بالنّسبة إلى الحسّي الحقيقي والمعنويّ الحكميّ مع منع يتطرّق إليه ؛ نظرا إلى كونه خلاف ظاهره ، أو تنزيل غير المحسوس منزلة المحسوس بالتصرّف في الأمر العقلي ـ : إنّ النّقل من العام إلى الخاصّ ـ كما ربّما يتوهّمه الجاهل بمقالتهم ـ وإنّما هو حكم الشارع ، أو العقل ـ إنشائيا على الأوّل وإدراكيّا على الثّاني ـ بالبقاء بالمعنى الّذي يأتي الكلام فيه ، وأين هذا من معناه العرفي حتّى يقال : بالنّقل من العام إلى الخاصّ؟

نعم ، لا إشكال في وجود مناسبة بينهما كما هو ظاهر ، ولا ثمرة مهمّة لنا في تحقيق ذلك ، فلنصرف الكلام إلى بيان معناه في عرف الأصوليّين المتّحد لعرف الفقهاء.

فنقول : لا ينبغي الإشكال في أنّ المراد به أمر واحد ، وإن اختلفت كلمتهم في التّعبير عنه وتأديته حسبما هو دأبهم وديدنهم في غالب التّعاريف واكتفائهم بالرّسم والتّعريف في الجملة ، وذكر بعض اللّوازم من جهة وضوح الأمر عندهم وقلّة الاهتمام بالمطلب وعدم الاعتناء بشأنه ، وإن كان ظاهر كلماتهم في باديء النّظر الاختلاف المعنوي إلاّ أنّ التأمّل فيها يشهد بخلافه ، ومن هنا نسب المحقّق الخوانساري في « مشارق الشموس » (١) ـ الّذي هو لسان القوم ـ التّعريف الّذي ذكره ـ الرّاجع إليه ما وقع التّعبير عنه في كلماتهم ـ إلى القوم ، فقال : « إنّ القوم

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٦ ، وفيه : تقييد الحكم بالشرعي ، إذ قال قدس‌سره : « إثبات حكم شرعي ... ».

١٢

ذكروا ... إلى آخر ما حكاه عنه في « الكتاب » (١) وإن أوهم ما عن الشّيخ في « العدّة » فيما سيجيء : أنّ الاستصحاب عنده غير ما عند القوم ، وكذا ما عن العضدي ، وصاحب « الوافية » ، والمحقّق القمي قدس‌سره في « القوانين » كما تعرفها ، ويشهد لما ذكرنا مع وضوحه : إشكالاتهم في الطرد والعكس ، فلو كان المعنى مختلفا عندهم لم يكن معنى للإشكال على المختلفين كما هو ظاهر ، وستقف على ما يوجّه به كلامهم بحيث ينطبق على ما نسبه المحقّق المتقدّم ذكره إلى القوم ، وعلى تقدير عدم انطباق بعض التعاريف عليه يحكم بعدم صحّته وابتنائه على المسامحة ، أو اشتباه المراد منه عند القوم ، وهذا غير عزيز ، بل واقع كثيرا في غير المقام.

ثمّ في كون المراد من الاستصحاب عندهم ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » المنطبق على ما ذكره الشّيخ في « الزّبدة » مما لا إشكال فيه ، وإليه يرجع ما في « المعالم » ؛ فإنّه إذا كان المراد من الإبقاء : الحكم بالموجود الثّانوي ، ومن الإثبات : الحكم بالثّبوت في الزّمان الثّاني ، وقلنا بدلالة الصّلة ـ الّتي هي المراد من الوصف في كلام شيخنا قدس‌سره على العلّية ؛ فإنّ المراد من الوصف في باب المفاهيم ليس هو خصوص الوصف النّحوي ، بل ما يعمّ المقام ونحوه قطعا كما تبيّن في محلّه ، وكذا دلالة المفعول بواسطة الحرف في تعريف « المعالم » على ما كان على العلّيّة انطبقت التّعاريف الثّلاثة ورجعت إلى أمر واحد وهو الّذي نسبه المحقّق الخوانساري قدس‌سره إلى القوم ، فقال : « إنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٠.

١٣

زمان لوجوده في زمان سابق عليه » (١).

نعم ، يتوجّه على ما أفاده شيخنا قدس‌سره والشّيخ في « المعالم » : أنّ الاكتفاء في الحدّ بما له إشعار بالقيد المعتبر في المحدود وليس له ظهور ودلالة عرفيّة عليه لا يجوز في مقام التّحديد ، بل في غيره أيضا ؛ لأنّه لا يفي بالمقصود فيكون نقضا للغرض وهو الدّلالة على المراد ، بل الاهتمام بشأن التّعاريف يقتضي ذكر ما يكون صريحا في الدّلالة على ما له دخل في المعرّف ، فلا يجوز الاكتفاء بالإشعار ، والاهتمام بشأن الاختصار لا يوجب الإخلال بما له دخل في المراد.

فالأولى أن يعرّف الاستصحاب : « بأنّه الحكم ببقاء ما كان لكونه كان » ؛ فإنّه مشتمل على جميع ما له دخل فيه ومنطبق عليه من غير أن يكون أخصّ منه أو أعمّ ، من غير فرق بين أن يكون مبناه على العقل أو الشّرع.

وهو سالم عمّا يتوجّه على التّعاريف الثّلاثة المذكورة : من الاكتفاء بالإشعار على تقدير تسليمه وجعل الإبقاء والإثبات بمعنى الحكم بالبقاء والثّبوت. وأمّا أخذ خصوص الحكم في تعريف شارح « الدّروس » الّذي نسبه إلى القوم ؛ فإنّما هو من جهة كون المحدود عندهم الاستصحاب الحكمي. وجعل المراد منه مطلق المحمول وتعميمه للوجود الّذي يحمل على الماهيّات حتّى يشمل جميع الاستصحابات الموضوعيّة كما ترى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٦.

١٤

في بيان ما يعتبر في حقيقة الإستصحاب

توضيح ما ذكرنا : أنّ الاستصحاب المقابل للأصول الثّلاثة عندهم : عبارة عن حكم العقل أو الشّرع ببقاء ما ثبت بالمعنى الأعمّ من الوجود والعدم سواء كان حكما شرعيّا ، أو موضوعا خارجيّا ، أو غيرهما من حيث ثبوته سابقا ، فمجرّد الحكم بوجود الشّيء في الزّمان اللاّحق على طبق الحالة السّابقة من غير استناد إليها وملاحظتها فيه ـ المتحقّق في البراءة والاشتغال ـ ليس من الاستصحاب في شيء. وإن لوحظ من حيث كونه مشكوكا ، كما أنّ الحكم بوجوده لا حقا الّذي يعبّر عنه بالبقاء من حيث وجود علّته ودليله ليس منه جزما.

ومن هنا جعل الاستصحاب دليلا على البراءة والاشتغال في مجاريهما ، فالمتيقّن السّابق المشكوك لا حقا وإن كان معتبرا فيه ، إلاّ أنّه من حيث كونه موردا للحكم المتحيّث بالحيثيّة المذكورة لا من حيث كونه مأخوذا في الحقيقة والماهيّة ، فالحكم ببقاء المتيقّن السّابق المفروض من حيث كونه كذلك استصحاب.

نعم ، المراد من الحكم المذكور على التعبّد والأخبار : الحكم الإنشائي من الشارع في مرحلة الظّاهر بالبقاء بالملاحظة المذكورة. وعلى العقل : الحكم الإدراكي والتّصديق الظّني بالبقاء من الحيثيّة المذكورة ، ولو كان منشأ الظّنّ غلبة البقاء في الموجودات السّابقة كما سيأتي عن بعض ؛ فإنّ لوجود السّابق مدخلا فيه أيضا كما هو ظاهر.

والقول : بأنّه لا جامع بين المعنيين فلا يستقيم تعريف الاستصحاب بقول

١٥

مطلق بالحكم بالبقاء ، كما ترى.

ضرورة وجود الجامع بينهما ، ومن هنا ذكروا في تعريف الدّليل العقلي : بأنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ ، ثم قسّموه إلى المستقلّ ، وغير المستقلّ ، وإلى القطعي ، والظّني ، وإلى الواقعي ، والظّاهري ، وجعلوا من غير المستقلّ : الاستلزامات مع أنّها من الإدراكات العقليّة ، وكذا الظنّي. ودعوى : اختصاص التّعريف بمسألة التّحسين والتّقبيح على تقدير كون الملازمة عقليّة ، كما ترى ، فتأمّل.

في إمكان إرجاع تعريف العضدي إلى المشهور

وأمّا ما ذكره العضدي في « الشرح » (١) فيمكن تطبيقه على ما ذكره المشهور بجعله بيانا لمحلّ الاستصحاب وحقيقة معا بجعل الصّغرى : بيانا لمحلّه ، والكبرى : بيانا لحقيقته ، فكأنّه قال : « استصحاب الحال بحسب المحلّ والماهيّة » هذا.

فالاستصحاب عنده : « كون الحكم مظنون البقاء من حيث إنّه كان » ، وبعد جعل الفرق بين كون الشيء مظنون البقاء والحكم ببقائه ظنّا ـ الّذي يرجع إلى الإدراك الظّني وهو الظّن بالبقاء بمجرّد اللّحاظ والاعتبار ـ انطبق على تعريف المشهور ، فلا فرق بين أن يقال ـ بناء على العقل في باب الاستصحاب ـ : إنّه عبارة عن الظّن ببقاء الحكم من حيث ثبوته في السّابق ، أو كونه مظنون البقاء من الحيثيّة المذكورة ، فالحيثيّة مأخوذة فيه لا محالة ، ومن هنا قال شيخنا قدس‌سره : ( وإن جعل الحدّ

__________________

(١) شرح مختصر الأصول : ج ٢ / ٤٥٣.

١٦

خصوص الكبرى انطبق على تعاريف المشهور ) (١)(٢) فتأمّل :

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ١١.

(٢) قال المحقّق المؤسّس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انه حدّ للإستدلال لا الدليل ، فالمجموع هو الحدّ ، ومن المعلوم : أن الإستدلال هو المجموع.

بل إنّ التعريف بالإبقاء أيضا كذلك فإنه عبارة عن التشبّث بالوجود السابق وهو المراد بالإثبات في التعريف المنسوب إلى القوم ، ومع صراحة كلامه في أنّ التعريف بالمجموع لا وجه للترديد المذكور ؛ فإن المجموع هو المحمول لإفادة التصوّر لا أحد الجزئين على سبيل الإجمال كي يكون مجال للترديد المذكور.

فالحق ما فهمه منه صاحب الوافية وينطبق عليه أيضا ما عرّفه به : من انه التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقاءه فيما بعد ذلك الوقت أو غير تلك الحال فيقال : إن الأمر الفلاني كان ولم يعلم عدمه وكلّ ما كان كذلك فهو باق.

فالتعاريف كلّها متطابقة ، وليس هذا التسامح إلاّ كتسمية الإستدلال بأحد الجزئيّين على الآخر تمثيلا ؛ فإنّه من حيث انه دليل إجتهادي حكم بالمماثلة ، وهذا من حيث انّه حكم ظاهري ليس إلاّ المعاملة مع مشكوك البقاء معاملة الباقي فسمّي إبقاء ، ويطابقه الإثبات والتمسّك والإنكباب والتفصيل الذي ذكره شارح المختصر وغيره ، وإليه يرجع ما في القوانين أيضا.

وبالجملة : فما في القوانين عبارة عن الوسط على ما هو مقتضى كونه حدّا للدليل والصغرى في شرح المختصر مركّبة من موضوع وهو معروض الحدوث ومحمول مركّب من الحدوث والشك في البقاء ، فجعل ما في القوانين منطبقا على مجموع الموضوع والمحمول بديهيّ الفساد ؛ لأنّه ليس إلاّ المحمول المنتسب.

فإن كان الغرض : انّه ينطبق عليه محمول الصّغرى الذي هو عبارة عن الوسط.

١٧

ثمّ إنّ مبنى الاستصحاب عنده لمّا كان على الظّن الشّخصي وأنّه سبب لذلك لو لا الظّن على الخلاف ، أخذ فيه قوله : ( ولم يظنّ عدمه ) (١). ولمّا لم يكن هذا مرضيّا عند الفاضل التّوني قدس‌سره خالفه في كيفيّة ترتيب القياس وجعل الكبرى قوله : ( وكلّ ما كان كذلك فهو باق ) (٢) أي كلّ ما لم يكن معلوم العدم في الزّمان اللاّحق فهو باق أي يحكم ببقائه شرعا أو عقلا من حيث إنّه كان.

نعم ، كلامه في جعل الاستصحاب مجموع المقدّمتين أظهر من كلام العضدي في ذلك ؛ فإنّه جعل حقيقة الاستصحاب التمسّك وترتيب القياس فلا معنى لحمله

__________________

ففيه : ان الوسط في شرح المختصر مركّب من نفس الحدوث والشك في البقاء بحسب الظاهر ، مع انّ اتّحاد المحمول مع ما في القوانين عبارة أخرى عن إتّحاد التعريفين ؛ لأنّ الدليل عندنا ليس إلاّ الوسط فلا معنى لإنطباق الصغرى خاصّة عليه.

ومنه يظهر : فساد تخصيص الكبرى بالإنطباق على تعاريف القوم ؛ فإنّ هذا التفكيك لا معنى له ؛ لأنّ الموضوع في الكبرى عين الوسط والمحمول فقط ليس إبقاء والتصديق ليس محمولا ؛ فإنّ المحمول هو البقاء ، والظنّ هو الحاصل من القياس وإنّما تسامح فيه كتسامحه في ضمّ الشكّ إلى الحدوث ، بل المجموع حدّ واحد منطبق على تعريف القوم وهو الإستصحاب حقيقة بعد التسامح في ضمّ الشكّ الى الحدوث ؛ فإنّ الوسط إنّما هو الحدوث في القياس الأوّل والبقاء فقط في الثاني.

نعم ، في مقام تطبيق مجرى الأصل الكلّي على المورد يقال : إنّ هذا معلوم الحدوث مشكوك البقاء ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ، ولكن هذا ليس إستدلالا ، كما انّ قولنا : هذا ما أدّى إليه ظنّي وكلّ ما كان كذلك فهو حجّة في حقّي وحقّ مقلّدي أيضا ليس من الإستدلال في شيء ، بل إنّما هو تطبيق فافهم » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٦٩ ـ ٧٠.

(١) شرح مختصر الأصول : ج ٢ / ٤٥٣.

(٢) الوافية : ٢٠٠.

١٨

على بيان المحلّ والمورد والماهيّة معا.

وإلى تعريف المشهور يرجع أيضا ما ذكره الشّيخ قدس‌سره في « الفصول » بعد رعاية قيد الحيثيّة المذكورة ، وإن كان كلامه في بيان الوجه في أخذ القيود والخصوصيات في الحدّ لا يخلو عن مناقشة ؛ فإنّه قال ـ بعد تعريف الاستصحاب بإبقاء ما علم ثبوته في الزّمن السّابق فيما يحتمل البقاء فيه من الزّمن اللاّحق ـ ما هذا لفظه :

« والمراد بالموصولة : ما يتناول الأمر الثّابت بالحسّ كالرّطوبة ، أو بالعقل كالبراءة حال الصّغر وبالشّرع كالوجوب والتّحريم والصّحة والبطلان وأخواتهما ».

إلى أن قال :

« والمراد بمعلوميّة ثبوته : ما يعمّ معلوميّته بحسب الظّاهر والواقع ؛ فإنّ الأحكام الثّابتة بحسب الظّاهر قد يستصحب كالأحكام الثّابتة بحسب الواقع فيدخل فيه ما قطع بثبوته في زمان ، ثمّ شكّ في ثبوته في ذلك الزّمان وإن كان المختار عدم حجيّة الاستصحاب هنا ؛ وذلك لأنّ العمل بالمقطوع به أمر معلوم حال الشكّ من جهة القطع به ، وإن لم يكن في نفسه معلوما فدخوله في الحدّ بالاعتبار الأوّل دون الأخير ، وباحتمال البقاء احتماله واقعا وظاهرا مع قطع النّظر عن وجوه حجيّة الاستصحاب.

فلا يرد : أنّه إن اعتبر البقاء بالقياس إلى الواقع انتقض طرد الحدّ بما علم عدم بقائه ظاهرا ، لقيام أمارة معتبرة عليه ؛ فإن الاستصحاب قد يطلق عليه عرفا.

وإن اعتبر بالقياس إلى الظّاهر فهو معلوم ؛ لأدلّة الاستصحاب ، ويدخل فيه مشكوك البقاء ومظنونه وموهومه ، ويخرج مقطوع البقاء وعدمه ؛ لخروجه عن مورد الاستصحاب.

١٩

أمّا في جانب العدم فواضح ، وأمّا في جانب البقاء فثبوته حينئذ باليقين لا بالاستصحاب ؛ لاختصاص مورده عقلا ونقلا بمورد عدم العلم بالبقاء. لكن يشكل : بأنّ هذا إنّما يتمّ فيما علم بقاؤه واقعا ، فإن علم بقاؤه في الظّاهر بغير دليل الاستصحاب قد يستند فيه إلى الاستصحاب ، وأيضا هو متداول بين الفقهاء ودفع هذه الوصمة عن الحدّ لا يخلو عن ارتكاب تعسّف أو تمحّل (١) ». انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأنت خبير بتطرّق المناقشة إلى ما أفاده في تحقيق المقام من وجوه ، سيّما في جعل الحكم في موارد الشّك السّاري من الاستصحاب حقيقة وموضوعا ، مع أخذه الحكم بالبقاء في الحدّ والحكم بجريان الاستصحاب واعتباره في مورد وجود الدليل على البقاء ، مع أنّ الاستناد فيه ليس إلى الوجود السّابق أصلا ، بل إلى وجود الدّليل عليه لاحقا. وأمّا تمسّك الأصحاب بالاستصحاب وساير الأصول في موارد وجود الأدلّة على الحكم فإنّما هو بملاحظة الواقعة من حيث الشّك فيها مع الإغماض عن الأدلّة القائمة عليها. ومن هنا يتمسّك بها مع وجود الأدلّة القطعيّة أيضا ، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم في موارد الاستدلال فراجع.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٦٦.

٢٠