بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

__________________

اختصاص هذا بين الأشخاص بنظم هذه المملكة بنظر السّلطان بمخصّص من داخل أو خارج ، فيكون الجعلان بجهة كشفيهما عن ذلك مشأين للانتزاع.

فتلخّص : أنّ جعل هذه الاعتبارات أصالة على اختلاف العبارات فيه حقيقة ومجازا بخطاب قصد منه ذلك يستتبع جعل آثارها بالعرض كما أنّ جعل الآثار كذلك يستتبع بالعرض جعلها ولو كان بخطابها فيما أريد منه جعل تلك الآثار لا جعلها ، فيكون كلّ واحد منهما مجعولا بالعرض تشريعا بعين جعل الآخر بالذّات كذلك ، وهذا كما أنّه كان جعل الماهيّة تكوينا موجبا لجعل لوازمها بالعرض ، كذلك يعين ذلك الجعل فافهم وتأمّل في أطراف ما ذكرنا من الكلام في المقام.

وبما حقّقناه من عدم سراية الجعل إلى سببيّة شيء للتّكليف وعدم قابليّتها له مطلقا ، ظهر انّ ما انتزع من مثل خطاب « اغرم ما أتلفته » من المعنى لا يصحّ أنّ يعبّر عنه بالسّببيّة إلاّ مجازا ، ولذا قال المصنّف العلاّمة رحمه‌الله : « انتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه ... إلى آخره ـ » ولم يقل انتزعت عنه السّببيّة ، كما لا يخفى » انتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٢٤ ـ ٣٢٩.

قوله قدس سره : إذ الفرق بين الوضع والتّكليف مما لا يخفى ... ـ إلى آخره ـ. [ الفرائد : ٣ / ١٢٧ ] قد عرفت انّ الفرق بينهما بحسب المفهوم واضح لا يكاد يخفى ، وكذلك قابليّة كلّ للتّعبير عنه إنشاء أو إخبارا بخطاب يخصّه ، إلاّ أنّ ذلك غير مجد فيما هو المهمّ في المقام ومحلّ النّقص والإبرام من أنّ الوضع كالتّكليف يؤثّر إنشائه بخطابه في تحقّقه بحيث يصحّ حمله عليه بالحمل الشائع كما مرّ ، وقد عرفت تفصيل المقام ، واختلاف الحال بحسب اختلاف أنحاء الوضع وأنّ إنشاء السّببيّة لشيء يكون بنفسه إيجادا للسّبب كالوعد والعهد ، لا إيجاد السّببيّة فيه وانّ استتباعه للتّكليف بمعنى تأثير السّبب المجعول لا يكون لأنّه فرع سببيّته وبمعنى انّه قصد بخطابه كناية ، فهو ليس من الاستتباع ، وكذلك بمعنى أنّ كليهما قصدا

٤٤١

عدم تعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة

أقول : توضيح القول في المقام بحيث يرفع به غواشي الأوهام والغبار عن وجه المرام يتوقّف على ذكر أمور :

الأوّل : أنّه قد تقرّر في محلّه : أنّ الموجود على ثلاثة أقسام : الموجود

__________________

بالخطاب كما في الدّلالة الالتزاميّة فان الإيجاب حينئذ يكون على حدة وبالاستقلال ، مع أنّ إنشائها حينئذ يكون لغوا كما لا يخفى.

وأمّا ما أورده قدس‌سره عليه :

بقوله : « أقول لو فرض نفسه حاكما ... ـ إلى آخره ـ ».

ففيه : انّه لا شهادة في مجرّد كون ( أكرم زيدا إن جاءك ) خطابا واحدا لإنشاء خصوص أحد الحكمين وانتزاع الآخر عنه لصدق ما ادّعاه قدس‌سره لأعميّته منه ، لوضوح عدم الملازمة بينه وبين صلاحية الوضع للجعل بخطاب آخر يخصّه كما لا يخفى.

وبقوله : « مع أنّ قول الشّارع ـ ... إلى آخره ـ ».

ففيه : أنّه إنّما يكون إخبارا عن تحقّق الوجوب عند الدّلوك إذا لم يمكن إنشاء الإيجاب قبل الدّلوك بملاحظته ، لعدم صلاحيته لأن يكون داعيا إليه لأجل ملائمته ومناسبته معه ، وإلاّ كان الخطاب بها يستتبع الإيجاب لاستلزام سببيّة المستكشفة به كذلك ، ويمكن أن يكون منشأ توهّم ذلك ، توهّم : انّ قضيّة السّببيّة هو الإيجاب بعد تحقّق الدّلوك ، كما هو الشأن في كلّ سبب مع سببه ، وهو فاسد أيضا ، فانّ سببيّته إنّما هو للفعل الاختياري للشّارع ، والسّبب بالنّسبة إليه ليس إلاّ الدّاعي ، ومن المعلوم أنّه بوجوده الإخطاري موثّر ، لا بوجوده الخارجي ، فافهم » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٢٤ ـ ٣٣٠.

٤٤٢

الذّهني : كالمفاهيم ، والموجود الخارجي ، والموجود الاعتباري. وأمّا التّقرّر الماهيّتي حسب ما قضت به كلماتهم : من أنّ للماهيّات تقرّرا في حيالها فليس من الوجود في شيء ؛ إذ المقصود بالتّقرّر في كلماتهم غير الوجود الذّهني كما لا يخفى على من راجع إليها.

والمراد من الأوّل والثّاني ظاهر ؛ لأنّ المقصود من الأوّل : ما يكون ظرف تحقّقه ووجوده الذّهن. ومن الثّاني : ما يكون ظرف وجوده الخارج ولكلّ منهما تأصّل بحسب تحققه. وأمّا المراد بالثّالث : فهو ما يكون الخارج ظرفا لوجود منشأ اعتباره وانتزاعه ولا يكون ظرفا لوجود نفسه ، بل إنّما وجوده بالاعتبار.

وقد اختلفت كلمتهم في هذا القسم ، فبعضهم : على أنّه من المعدوم. وبعضهم :

على أنّه من الموجود. وبعضهم : على أنّه واسطة بين الموجود والمعدوم. ويكون نزاعهم مبنيّا على أنّ الوجود هل هو منحصر في الذّهني والخارجي ، أو يشملهما والاعتباري. ولسنا في المقام في صدد تحقيقه لخروجه عن الفنّ ، ولكن الّذي عليه أكثر المحقّقين : أنّ الأمور الاعتباريّة لها حظّ من الوجود.

ثمّ إنّ الموجود الخارجي على قسمين :

أحدهما : ما إذا وجد وجد لا في موضوع ويعبّر عنه بالجوهر والذّات.

ثانيهما : ما إذا وجد وجد في موضوع ويعبّر عنه بالعرض. وهو تارة : يكون من الأفعال ، وأخرى : من الأوصاف ، وثالثة : من غيرهما.

ثمّ إنّ هذا التّقسيم بالنّسبة إلى غير ذات الباري تعالى شأنه. والغرض من ذكر هذا الأمر هو التّنبيه على بيان حقيقة أقسام الموجود على الإجمال لكي يعلم أنّ الموجود الاعتباري لا يمكن أن يصير موجودا خارجيّا ، وإلاّ لزم انقلاب

٤٤٣

الشّيء عمّا هو عليه ، وهو ممّا لا شبهة في استحالته.

الثّاني : أنّه لا شبهة ولا ريب أنّ الحكم من أقسام الإنشاء الّذي هو بمعنى إيجاد ما لا يكون موجودا ولهذا لا صدق ولا كذب فيه لعدم واقعيّة له بالمعنى المعتبر في الصّدق والكذب حتّى يلاحظان بالنّسبة إليه ، ويطلق في الجملة على الطّلب الّذي هو عين الإرادة بمذهب أكثر المتكلّمين ، وغيره بمذهب جماعة من المحقّقين ، وعينه على تقدير وغيره على تقدير آخر على مذهب الأستاذ العلاّمة.

ومرجع اختلافهم هذا إلى الاختلاف في المراد من الإرادة والطّلب ، ولسنا في صدد تحقيقه في المقام ، وإنّما المقصود التّنبيه على كون الحكم من الموجودات الخارجيّة ؛ لأنّه فعل الحاكم. وقد يطلق على معان أخر كالنّسب الجزئية وخطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين وغيرهما ممّا ذكر في محلّه.

الثّالث : أنّه لا ريب أنّ المركّب على قسمين : خارجيّ وحقيقيّ وجعليّ واعتباريّ. والمراد من الثّاني : هي الأشياء الغير الملتئمة في النّظر ، الملحوظة شيئا واحدا بلحاظ الجاعل ، أي : تصوّره إيّاها بوصف الاجتماع لمدخليّة كلّ منها في حصول ما هو المقصود من المركّب من الخواص والمصالح.

وقد ينقسم إلى الذّهني والخارجي ، ويجعل المراد من الثّاني : ما يشمل الاعتباري بالمعنى الّذي عرفته ، وهو ما كان أجزاؤه موجودة في الخارج ـ سواء كانت من مقولة الذّات كالمعاجين وغيرها ـ وهو المراد من الخارجي في التّقسيم الأوّل ليس إلاّ ، أو كانت من مقولة العرض والفعل ، وهو المراد من القسم الثّاني في ذلك التّقسيم. ومنه يعلم المراد من المركّب الذّهني أيضا. وقد يكون لشيء واحد جزء ذهنيّ وجزء خارجيّ كالصّلاة مثلا بالنّسبة إلى الشّرط بناء على اعتبار

٤٤٤

تقييده في المشروط والجزء ؛ فإنّ الأوّل من الأوّل والثّاني من الثّاني.

الرّابع : أنّ الحكم ينقسم في لسان جماعة إلى تكليفيّ ووضعيّ. والمراد من الأوّل معلوم ، ومن الثّاني ما هو في مقابله. والأوّل ينقسم إلى خمسة أقسام في الاصطلاح : وهو الوجوب والتّحريم والنّدب والكراهة والإباحة باعتبار تعلّقها بفعل المكلّف ، وإن لم يصدق على جميعها التّكليف بحسب اللّغة كما هو ظاهر هذا.

وأمّا ما يتوهّم : من تعميم الحكم بالنّسبة إلى عدم كلّ من هذه الخمسة ، ـ فهو كما ترى ـ ، ناش من الغفلة عن كلماتهم ، بل عن حكم العقل ؛ فإنّ العقل يحكم أيضا بعدم قابليّة عدم الأحكام للجعل كما لا يخفى.

وأمّا الحكم الوضعي فقد اختلفوا في أقسامه فبعضهم على أنّها ثلاثة : السّببيّة والجزئيّة والشّرطيّة. وبعضهم على أنّها خمسة بزيادة الصّحة والفساد ، وبعضهم على أنّها ستّة بزيادة المانعيّة ، وبعضهم على أنّها تسعة ، وبعضهم على أنّها أربعة عشر ، وبعضهم على أنّها لا حصر لها ؛ لأنّ كلّ ما لم يكن من الحكم التّكليفي ممّا يصحّ جعله من الشّارع يدخل في الوضع ، فيشمل مثل الضّمان والملكيّة والحرّيّة والطّهارة والنّجاسة إلى غير ذلك. ويظهر ذلك من بعض أفاضل من تأخّر (١) هذا.

ولكن قد ناقش فيه الأستاذ العلاّمة : بأنّ مورد الحكم الشّرعي حسب ما يفصح عنه مقالتهم لا بدّ من أن يكون فعل المكلّف ليس إلاّ ومورد المذكورات هي

__________________

(١) وهو صاحب الفصول قدس‌سره.

٤٤٥

الأعيان الخارجيّة كما لا يخفى ، وهذا بخلاف مورد الأحكام المعروفة ؛ فإنّه من هذا القبيل هذا.

ويمكن المناقشة فيما ذكره : بأنّه قد اشتهر بينهم تمثيل السّببيّة بالدّلوك ، والمانعيّة بالحيض ، حسب ما اعترف به سابقا ، مع أنّ الدّلوك والحيض ليسا من الأفعال ، مع أنّ من الأحكام الوضعيّة ما لا يمكن عروضه للفعل أبدا كالشّرطيّة على ما اختاره الأستاذ العلاّمة : من كونها من مقولة الكيف. فعلم ممّا ذكرنا : أنّ إطلاق كلّ من الحكمين على مورده ومتعلّقه مبنيّ على المسامحة لا محالة.

الخامس : أنّه لا نزاع لأحد في أنّ الأمر بالمركّب ـ سواء كان خارجيّا أو ذهنيّا ـ وكذا بذي السّبب ـ إلى غير ذلك ـ يستلزم تصوّر أجزائه الذّهنيّة والخارجيّة وسببه كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(١) فتصوّر نفس الأجزاء والشّرائط والأسباب وغيرها من موارد الأحكام الوضعيّة ممّا لم ينكره أحد وفي أنّه ممّا لا بدّ منه ، ولكنّه لا دخل له بالحكم الوضعي ، وبكونه مجعولا في قبال (٢) الحكم التّكليفي.

وكذا لا نزاع لأحد في أنّه بناء على مذهب العدليّة يكون لكلّ من الأجزاء والشّرائط والأسباب ونحوها مدخليّة في مصلحة المأمور به حتّى يتحقّق الارتباط بينها وبينه ، وإلاّ لزم التّرجيح بلا مرجّح في التّخصيص كما لا يخفى ، وهذا أيضا ممّا لم ينكره أحد ولا دخل له أيضا بالحكم الوضعيّ أصلا ، بل هو نظير

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) وفي نسخة البحر المطبوعة في هامش الفرائد : ( في قبالها ).

٤٤٦

نفس الأجزاء والشّرائط وغيرهما من الموجودات الخارجيّة الّتي لا ربط لها بجعل الشارع.

وكذا لا نزاع في اختلاف الحكم التّكليفي والوضعي مفهوما وعدم اتحادهما ؛ إذ هو ممّا لا يدّعيه جاهل فضلا عن عالم ، كيف؟ وتغايرهما مفهوما من البديهيّات الأوّليّة ، وإنّما النّزاع في أنّ الأحكام الوضعيّة هل هي مجعولة بالجعل الشّرعي كالأحكام التّكليفيّة سواء كان جعل كلّ من التّكليف والوضع بجعل مستقلّ أو بجعل واحد وعلى القول بجعل الأحكام الوضعيّة في قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) أنشأ الشّارع وأوجد شيئين : أحدهما : وجوب الصّلاة عند الدّلوك ، ثانيهما : سببيّة الدّلوك لوجوب الصّلاة. وكذا في قوله للحائض : ( دعي الصّلاة أيّام أقرائك ) (١) أنشأ إنشاءين : أحدهما : حرمة الصّلاة حال الحيض ووجوب تركها. ثانيهما : مانعيّة الحيض عن وجوب الصّلاة ، وهكذا الأمر في سائر الأحكام الوضعيّة ـ أو أنّ المجعول بجعله هو نفس الحكم التّكليفي ليس إلاّ ـ وأمّا الحكم الوضعي فإنّما هو اعتبار يعتبره المعتبر بعد جعله للحكم الشّرعي على وجه خاصّ ، فالمنشأ بالإنشاء الشّرعي في قوله :

( أَقِمِ الصَّلاةَ ) الآية ، ليس إلاّ وجوب الصّلاة عند دلوك الشّمس إلاّ أنّ العقل ينتزع من هذا الطّلب المقيّد سببيّة الدّلوك لوجوب الصّلاة ، وكذا المنشأ في قوله : ( صلّ متطهّرا ) بالفرض ليس إلاّ وجوب الصّلاة مع الطّهارة ، إلاّ أنّ العقل ينتزع من

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٨٥ باب « جامع في الحائض والمستحاضة » ـ ح ١ ، عنه التهذيب :ج ١ / ٣٨١ باب « الحيض والاستحاضة والنفاس » ـ ح ٦ ـ والوسائل : ج ٢ / ٢٧٦ باب « ما يعرف به دم الحيض من دم الاستحاضة » ـ ح ٤.

٤٤٧

هذا الخطاب أمرا يعبّر عنه بشرطيّة الطّهارة للصّلاة إلى غير ذلك.

فهذا هو محلّ النّزاع في جعل الحكم الوضعي وعدمه حسب ما يشهد به معنى الحكم أيضا على ما عرفت ، وإلاّ فلم ينكر أحد تصوّر مورد الحكم الوضعي في مقام الجعل ولا وجود ارتباط بينه وبين المأمور به ، ولم يدّع أيضا اتّحاد الحكمين مفهوما كيف؟ وهو ممّا يشهد الضّرورة بخلافه على ما عرفت الإشارة إليه. فما ربّما يتراءى من بعض العبائر من الاتّحاد المفهومي ، فليس المراد منه ظاهره ، بل ما ذكرنا.

هذا كلّه بناء على اختصاص الحكم الوضعي بالسّببيّة والشّرطيّة والجزئيّة والمانعيّة وأشباهها.

وأمّا بناء على التّعميم وعدم الحصر ، فالّذي ينكره المنكر هو تعلّق الجعل الشّرعي بالحكم الوضعي ، بمعنى : كونه من مقولة فعل الشارع ؛ من حيث إنّه شارع سواء كان من الأمور الاعتباريّة الانتزاعيّة حسب ما عرفت ، أو من الموجودات الخارجيّة الّتي لا دخل لها بالشّارع من حيث إنّه شارع ، وإن كان له دخل فيها من حيث إنّه خالق ؛ حيث إنّ إفاضته الوجود ليست إلاّ منه تعالى.

وأيضا المراد من الجعل الّذي يدّعيه قائله ليس هو خصوص الجعل بالإنشاء المستقلّ المنفرد من إنشاء الحكم التّكليفي ، بل أعمّ منه ومن أن يكون بجعل الحكم التّكليفي ، فيكونان مجعولين بجعل واحد.

ثمّ إنّ المراد من انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التّكليفي ليس هو انتزاعه من الحكم التّكليفي المنجّز ـ حسب ما توهّمه جماعة ممّن غفل عن مراد

٤٤٨

المنكرين للجعل ـ بل أعمّ منه ومن الحكم التّكليفي المعلّق ؛ ضرورة أنّ القضيّة التّعليقيّة موجودة فعلا وإن لم يوجد المعلّق عليه ؛ لأنّ صدق الشّرطيّة لا يتوقّف على صدق الشّرط ، فلا يقال : إنّه كيف يمكن وجود الحكم الوضعي مع عدم وجود الحكم التّكليفي فعلا كالضّمان بالنّسبة إلى الصّبي حسب ما صدر عن بعض الغافلين عن مراد المنكر للجعل.

السّادس : أنّه لا إشكال بل لا خلاف بينهم في أنّ الحكم التّكليفي ممّا لا يوجد إلاّ بالجعل ، غاية الأمر : أنّه قد ينتقل إلى جعله على طريق الكشف من القضيّة الظّاهرة في جعل الحكم الوضعي.

فما يظهر من بعضهم : من أنّه قد يكون الحكم التّكليفي تابعا للحكم الوضعي ، وقد يكون بالعكس ليس مراده ما يسبق إلى الذّهن في بادىء النّظر ، بل مراده ما ذكرنا من التّبعيّة بحسب الكشف ، أو التّبعيّة بالمعنى الّذي ذكره الحكماء في مسألة الماهيّة والوجود.

الأقوال في جعل الحكم الوضعي

إذا عرفت ما قدّمنا لك من الأمور ، فاعلم : أنّهم اختلفوا في جعل الحكم الوضعي بالمعنى الّذي عرفته على أقوال :

أحدها : الإثبات مطلقا ، صرّح به جماعة من أفاضل من تأخّر من الخاصّة منهم : السيّد الكاظمي في « شرحه على الوافية » في مقام التّعريض على السيّد صدر الدّين ، ويظهر من بعض العامّة أيضا حيث زاد في تعريف الفقه قيد : ( أو

٤٤٩

الوضع ) (١) بل نسبه في « المناهج » و « الإشارات » إلى المشهور ، وذكر الأستاذ العلاّمة : أنّ هذه النّسبة لا أصل لها يظهر وجهه من الرّجوع إلى كلماتهم في تعريف الحكم.

ثانيها : النّفي مطلقا ، ذهب إليه جماعة تصريحا ، منهم : البهائي في « الزّبدة » حيث قال : والوضع ليس عندنا حكما ، وأخرى ظهورا من حيث اقتصارهم في تعريف الحكم على ما يختصّ بالتّكليفي ، بل نسبه في « شرح الوافية » للسيّد صدر الدّين إلى المحقّقين ، بل نسبه في « شرح الزّبدة » للمازندراني إلى المشهور حسب ما حكاه الأستاذ العلاّمة عنه وإن لم أجد فيه ، وإنّما نسبه الفاضل الجواد رحمه‌الله إليه.

ثالثها : التّفصيل بين الشّرطيّة والجزئيّة وغيرهما ، بالنّفي في الأوّلين والإثبات في الأخير. يظهر من بعض أفاضل من تأخّر (٢) في جملة كلام له في أصالة العدم هذا.

مختارنا عدم إمكان الجعل في الأحكام الوضعيّة

والأظهر من هذه الأقوال هو الثّاني حسب ما قوّاه الأستاذ العلاّمة أيضا وفاقا للمحقّقين من الخاصّة والعامّة ، بل ربّما يستظهر من كلام شيخنا البهائي ـ المتقدّم نقله ـ كونه اتّفاقيّا عند الخاصّة.

ثمّ إنّ الثّابت عندنا وإن كان هو عدم إمكان جعل الحكم الوضعي كما أنّ

__________________

(١) الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) الورقة ٢٤٣.

(٢) صاحب الفصول قدس‌سره.

٤٥٠

لازم القول بالجعل هو عدم إمكان وجوده بدونه وإن كان مرجع النّزاع في الاحتياج وعدمه إليه أيضا ؛ ضرورة أنّ ما يحتاج في الوجود إلى شيء لا يمكن وجوده بدونه ، إلاّ أنّا نسلك أوّلا مسلك عدم الاحتياج تقريبا وتبعا لما عنون به المسألة في كلام جماعة ، ثمّ نتبعه بإثبات ما هو المحقّق الثّابت عندنا ببيان شاف كاف مزيل للشّك والإرتياب عمّن يسلك مسلك الإنصاف ، فنقول :

لنا على عدم احتياج الحكم الوضعيّ إلى الجعل هو : أنّا نشاهد بالضّرورة صحّة اعتبار الحكم الوضعي واستناده إلى الشارع مع صدور الحكم التّكليفي منه ليس إلاّ ، ومن هنا قد اشتهر بين الفقهاء : سببيّة الدّلوك لوجوب الصّلاة ، ومانعيّة الحيض عن وجوبها ووجوب سائر العبادات ، وسببيّته لتحريم جملة من الأفعال ، وشرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ ، مع أنّ الّذي ورد من الشّارع ليس إلاّ أحكاما تكليفيّة في مواردها كما هو معلوم لكلّ من له أدنى تتبّع في الأدلّة.

لا يقال : مجرّد عدم صدور جعل الحكم الوضعيّ من الشارع في الظّاهر لا يدلّ على عدم جعله واقعا لم لا يكون مجعولا واقعا أو مجعولا بنفس جعل الحكم التّكليفي فيكونان مجعولين بجعل واحد كالكلّي والفرد ، وقد عرفت : أنّ القائل بالوضع لا يذهب إلى أنّه لا بدّ من جعل مستقلّ بالنّسبة إلى الحكم الوضعي فما ذكر لا يدلّ على المدّعى.

لأنّا نقول : المفروض القطع بعدم صدور جعل الحكم الوضعي من الشارع في الواقع مطلقا ، وإن صعب عليك فرض ذلك بالنّسبة إلى الشارع فافرض ذلك في الأحكام الصّادرة من الموالي بالنّسبة إلى عبيدهم ؛ فإنّ المناط واحد ؛ حيث إنّ

٤٥١

الحكم الوضعي لو كان محتاجا إلى الجعل ومتوقّفا عليه لم يعقل الفرق فيه بين كون الحاكم به الشّرع أو غيره.

كما أنّ الحكم التّكليفي الّذي قضت كلمتهم بافتقاره إلى الجعل ـ حسب ما عرفت نفي الخلاف فيه في الأمر السّادس ـ لا يعقل الفرق فيه بين كون الحاكم به الشّرع أو غيره ، ونحن نرى بالوجدان صحّة انتزاع سببيّة المجيء لوجوب الإكرام لو قلنا لعبدنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، مع فرض أنّه لم يوجد في أنفسنا إلاّ إنشاء الحكم التّكليفي وهو وجوب الإكرام عند المجيء ليس إلاّ ، ولو فرضت نفسك حاكما لصدقت ما ذكرنا ، هذا مجمل القول في وجه عدم الاحتياج إلى الجعل.

وأمّا الدّليل على عدم معقوليّة الجعل بالنّسبة إلى الحكم الوضعي فهو ممّا لا يحتاج إلى البيان بعد ملاحظة ما ذكرنا في وجه عدم الاحتياج ، وما ذكرنا في المقدّمات ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ الوجه في عدم احتياجه إلى الجعل كونه اعتباريّا ومنتزعا عن الحكم التّكليفي ، وقد عرفت في المقدّمات : أنّ الموجود الاعتباري لا يمكن وجوده في الخارج ، وإنّما يكون باعتبار المعتبر وانتزاعه بحيث لو لم يعتبره لم يكن شيء أصلا والحكم الّذي يوجد من الحاكم إنّما هو من الموجودات الخارجيّة حسب ما عرفت سابقا ، فكيف يمكن أن يوجد بالاعتبار؟ ضرورة تباين الوجودين وتنافي الاقتضاءين.

فإن قلت : إنّ الّذي سلّمنا في المقام الأوّل هو صحّة اعتبار الحكم الوضعي في الجملة لا دائما ، فلم لا يكون لوجوده علّتان يوجد إحداهما في بعض المقامات والأخرى في بعض الآخر؟

٤٥٢

قلت : ما ذكرته لا يصدر عن جاهل فضلا عن العالم ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ الموجود الاعتباري لا يقبل الوجود الخارجي بالنّظر إلى ذاته وماهيّته ، فكيف يمكن تخلّف مقتضى الذّات عنها؟ فالالتزام بما ذكرنا في بعض الموارد يستلزم الالتزام به في جميع المقامات ، فحينئذ لو لم يصدر من الشّارع بالنّسبة إلى الحكم الوضعي شيء أصلا فلا كلام ، وإن صدر منه بالنّسبة إليه ما ظاهره تعلّق الجعل به كقوله : جعلت الشّيء الفلاني سببا ، أو من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، أو جعلت فلانا حاكما إلى غير ذلك ، فلا بدّ من صرفه عن ظاهره وجعله إخبارا عن جعل الحكم التّكليفي ؛ حيث إنّ احتياجه إلى الجعل ممّا لا خلاف فيه حسب ما عرفت ، هذا مجمل القول في الحكم الوضعي على تقدير التّخصيص بالثّلاثة أو الأربعة.

وأمّا على تقدير التّعميم والتّعدّي عنها إلى غيرها من المراتب الّتي عرفتها فمجمل القول فيه بناء عليه : أنّه إن جعلنا سائر الأحكام الوضعيّة كالأربعة من الأمور الاعتباريّة الانتزاعيّة كما ربّما يظهر من الشّهيد ؛ حيث إنّه فسّر الملكيّة ـ في جملة كلام له ـ : بأنّها ممّا يجوز الانتفاع بالملك ، والنّجاسة : بأنّها عبارة عن وجوب الاجتناب ، فحالها حال ما عرفت. وقد علمت استحالة تعلّق الجعل بالأمور الاعتباريّة.

وإن جعلناها من الأمور الواقعيّة الموجودة في الذّوات أو الأفعال بأن يقال : إنّ الملكيّة كالزّوجيّة مثلا علقة واقعيّة بين الملك والمالك ، والزّوج والزّوجة ، وكذلك الطّهارة والنّجاسة حالتان في الطّاهر والنّجس إلى غير ذلك ، فلا إشكال أيضا في استحالة تعلّق الجعل الشرعي على ما هو محلّ الكلام.

٤٥٣

فإنّك قد عرفت : أنّ الحكم من قبيل الفعل القائم بالحاكم وهذه الأشياء على التّقدير المذكور من الأوصاف الموجودة في متعلّقاتها واقعا ، فيستحيل قيامها بالحاكم.

نعم ، قد يصير حكم الحاكم كاشفا عن وجودها الواقعي بمقتضى علمه ، فهو إخبار حينئذ عن وجودها لا جعل له بالجعل الشّرعي.

نعم ، قد عرفت : أنّ إفاضة الوجود لا تكون من غير الشّارع لكن لا من حيث إنّه شارع حسب ما هو المقصود بالبحث في المقام ، بل من حيث إنّه خالق وموجد للأشياء. وقد عرفت : أنّه لا كلام فيه لأحد من المنكرين ، وإنّما الّذي ينكره المنكر هو تعلّق الجعل الشّرعي بها كالحكم التّكليفي ، وقد عرفت : استحالته بالنّسبة إليها.هذا مجمل ما استفدناه من إفادات الأستاذ العلاّمة في مجلس البحث وفي « الكتاب ».

ثمّ إنّ هذا الّذي عرفت كلّه هو دليل المختار ، وأمّا دليل القولين الآخرين فيظهر من ملاحظة ما ذكرنا وما ذكره الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » ، ولكن لا بأس بالإشارة إلى بعض الكلام فيه فنقول :

أمّا دليل القول بالجعل مطلقا فوجوه ـ حسب ما يستفاد من مطاوي كلماتهم ـ :

أحدها : أنّه لو لم يكن الحكم الوضعي مجعولا بل كان منتزعا عن الحكم التّكليفي لاستحال تخلّفه عنه ؛ ضرورة استحالة تخلّف الأمر الانتزاعي عن منشأ انتزاعه على ما يقتضيه قضيّة التّبعيّة ، ونحن نرى بالوجدان تخلّفه عنه كثيرا كما في

٤٥٤

الضّمان الموجود في حقّ الصّغير والنّائم والمجنون وغيرهم ممّن لا تكليف عليه المسبّب عن إتلافهم مال الغير وهكذا.

ثانيها : ما ورد في الشّرع من القضايا الظّاهرة في جعل الحكم الوضعيّ كقوله : ( من أتلف مال الغير ... ) (١) الحديث وقوله « عجّل الله فرجه » في بعض الرّوايات : ( أنّي قد جعلته حاكما ) (٢) وقوله عليه‌السلام : ( الماء كلّه طاهر ... ) (٣) إلى غير ذلك من القضايا الظّاهرة في جعل الحكم الوضعي ، وليس هنا ما يقتضي بصرف هذه الرّوايات عن ظاهرها فيحكم بمقتضاها.

__________________

(١) لم يرد بهذه الألفاظ حديث عن أهل البيت عليهم‌السلام لكنه عنوان لقاعدة ذكرها الفقهاء في غير موضع من أبواب الفقه تصيّدوها من لسان عدّة من الأدلّة الواردة في الأبواب المختلفة انظر « القواعد الفقهيّة » للفقيه المتضلّع آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي ج ٢ / ٢٥ و « العناوين » للسيّد الفقيه المحقق السيّد عبد الفتّاح المراغي ج ٢ / العنوان ٥٨ و « القواعد الفقهيّة » لشيخنا الأستاذ الفقيه الرّاحل محمّد الفاضل اللنكراني ج ١ / ٤٥ والقواعد الفقهيّة لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج ٢ / ١٩٣ ومهذّب الأحكام للعلاّمة الفقيه المحقق السيّد عبد الأعلى السبزواري ١٩ / ١٠٤.

(٢) هذا هو مضمون ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة التي أوردها المشايخ الثلاثة في جوامعهم لكنها عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام ولم يرد بهذه الألفاظ خبر عن الإمام الحجة من آل محمّد صلوات الله تعالى عليهم.

(٣) الكافي الشريف : ج ٣ / ١ باب « طهور الماء » ـ ح ٢ و ٣ ، والتهذيب : ج ١ / ٢١٥ باب « المياه وأحكامها وما يجوز التطهر به وما لا يجوز » ـ ح ٢ ، والوسائل : ج ١ / ١٣٤ باب « انه طاهر مطهر يرفع الحدث ويزيل الخبث » ـ ح ٥ ، وفي الفقيه : ١ / ٥ باب « المياه وطهرها ونجاستها ... ـ ح ١ : قال الصادق جعفر بن عليهما‌السلام : « كلّ ماء طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر ».

٤٥٥

ثالثها : ما يستفاد من كلام السيّد المحقّق الكاظمي : من أنّ ادّعاء كون الحكم الوضعي عين الحكم التّكليفي ، وأنّ معنى سببيّة الدّلوك هو وجوب الصّلاة عنده مخالف لما نشاهد بالوجدان ونرى بالعيان من تغايرهما هذا (١)(٢).

__________________

(١) الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) الورقة ٢٤٣.

(٢) قال المحقق المدقّق الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« ولقد أجاد [ المحقق الكاظمي قدس‌سره ] فيما حكم به من أن الفرق بين الوضع والتكليف ممّا لا يخفى على من له أدنى مسكة ، وأنّ توهّم : كون الحكم الوضعي عين الحكم التكليفي بطلانه غني عن البيان وقد أشار إلى بعض ما حقّقناه بقوله : ( والتكاليف المبتنية على الوضع غير الوضع ).

فإن كون وجوب دفع البدل معلولا للضّمان المعلول للإتلاف من أقوى الأدلّة على المغايرة وكذا إستناد الإعادة إلى الحدث المستند إلى خروج البول مثلا وهكذا إلى ما لا يتناهى ممّا ورد في الشرع ، وقد أشار إلى ان محلّ النّزاع غير محرّر وانّ من المحتمل ان يكون القائل خلط بين الإستتباع والعينيّة ؛ فإن كون الشيء سببا لواجب إنّما يقتضي الإستتباع ، ومن المعلوم أن الإستتباع يختلف ولا يختص به الحكم التكليفي ، كما أنه أشار إلى الوجه الآخر وهو كون النّزاع في احتسابه في عداد الأحكام لا في المغايرة الواقعيّة.

ومن الغريب ما صنعه الأستاذ قدس‌سره في هذا المقام حيث قال :

( والعجب ممّن ادّعي بداهة بطلان ما ذكرنا مع ما عرفت من انه المشهور واستقرّ عليه رأي المحقّقين ).

ثمّ نقل كلام الشهيد قدس‌سره ؛ فإن التعجّب من وضوح الواضح عجيب ، وأعجب منه : خفاء بداهته عليه حتى بعد قيام الحجّة.

وقد تصدّى لإبطال ما حقّقه السيّد بما لا يرجع إلى محصّل حيث قال :

( لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده لوجد في نفسه صدق ما

٤٥٦

__________________

ذكرناه ... ).

إلى أن قال : ( ولا إلى بيان مخالف لبيانه ).

وفيه : ان وجوب إكرام زيد عند مجيئه إن كان التعليق فيه لتحقّق الموضوع كما في قولك : ( إن رزقت ولدا فاختنه ) فهو خارج عمّا نحن فيه. وإن كان الغرض إفادة العلّيّة ودوران وجوب الإكرام مداره فلا إشكال في انّ وجوب الإكرام معنى وكونه معلولا للمجيء وإناطته به معنى آخر ، والجمع بينهما في كلام واحد وتقييد أحدهما بالآخر ليس قابلا للنّزاع ، ولا معنى للإنتزاع ، واتّحاد الجعل مع مباينة الحكمين في الواقع.

ثم قال : ( ولهذا إشتهر في السنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعيّة الحيض ولم يرد من الشارع إلاّ إنشاء طلب الصّلاة عند الأوّل وطلب تركها عند الثاني ).

وفيه : ما عرفت : من ان النسبة تستفاد من التقييد وهو تصرّف مغاير للإيجاب فلا معنى لكون سببيّة الدلوك لوجوب الصّلاة مجعولا بجعل الإيجاب والإيجاب عند الدلوك جمع بين الجعلين وخلط بين المقامين ، وطلب الترك حال الحيض إنّما يستفاد منه المانعيّة ، لما عرفت : من أنّ النهي إنّما اريد به المنع وضعا لا تكليفا ، كما أن الأمر بالعمل بالخبر والنهي عن العمل بالقياس إنّما أريد بهما الحجّيّة وعدمها لا الوجوب والحرمة وليس كلّ نهي تكليفا كي يتوهّم : أنّ مانعيّة الحيض انتزاع من حرمة الصلاة حال الحيض.

ألا ترى ان النّجاسة تستفاد من الأمر بالغسل مع انه ليس واجبا؟ كما ان الحدث يستفاد من الأمر بالتطهير ، واستفادة النجاسة من الأمر بالإهراق وكونه ممحّضا لبيانه أوضح من أن يخفى.

ثمّ قال : ( فإن أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى ... ) إلى قوله : ( بل هو إخبار عن تحقّق الوجوب عند الدلوك ).

وفيه : ان الإعتراف بتباينهما مفهوما يكفي في إثبات المدّعي ؛ فإن ما استند إليه لذلك وهو

٤٥٧

__________________

إختلاف الموضوع لا يجامع العيّنيّة والإتّحاد وانتزاع أحدهما من الآخر ؛ فإن اختلاف موضوعهما يستلزم اختلافهما ، فالموضوع للنجاسة مثلا هو الجسم ، والتكليف وهو وجوب الإجتناب إنّما يتعلّق بالفعل وهكذا الحال في سائر الأحكام الوضعيّة بالنسبة إلى التكاليف كما لا يخفى.

ومنه يظهر : انه لا معنى لكون الحكم الوضعي منجعلا بجعل التكليف وانه لا جعل له أصلا ؛ فإن الجعل في المقام لا تعني به إلاّ إفتقار الحكم في تحقّقه إلى إرادة الشارع وتصرّف منه. ولا إشكال أن كون الدلوك في المثال علّة للوجوب أو وقتا للواجب منوط باختياره ولا يتحقّق إلاّ بجعله ، ومجرّد إيجاب الصلاة لا يكفي في ذلك بالضّرورة ، والإستناد لهذا إلى ما ادّعاه : من ان السببيّة والمانعيّة اعتباران منتزعان كالمسبّبية والممنوعيّة لا محصّل له ؛ فإنّ السببيّة صفة في السبب يتوقّف حدوثها على جعل الشارع ، وأمّا المسبّبيّة فلا جعل لها وإنّما هي منتزعة من علّيّة العلّة ، وكذا المانعيّة ؛ فإنّ كون الحيض مانعا عن الصلاة وإشتراطها بالطهارة يتوقّف على جعل الشارع.

نعم ، ممنوعيّة الصّلاة ليس إلاّ أمرا منتزعا من مانعيّة الحيض لا يعقل انفكاكها عنها ولا معنى لجعلها ، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الإضطراب ؛ فإن الذي يستفاد منه أوّلا : الإعتراف بتباين الوضع والتكليف ، وان الذي ينكره إنّما هو الإفتقار إلى الجعل ، والذي يظهر من آخر كلامه : إنّما هو رجوع الوضع إلى التكليف كرجوع المسبّبيّة والممنوعيّة إلى السببيّة والمانعيّة.

ثم إن كون نسبة الوضع إلى التكليف من هذا القبيل بديهي الفساد ؛ حيث إن وجوب الصّلاة لا يعقل ان ينتزع منه سببيّة الوقت له ؛ فإنّ الإنتزاع إنّما هو لوجود الجمع وكون احد الأمرين طرفا للعلقة كالأبوّة والبنوّة المتنزعين من العلقة والمعلول لكونه أحد طرفي النسبة فينتزع له المعلوليّة والسببيّة قائمة بالدلوك والوجوب بالصّلاة ولا معنى للإنتزاع ورجوع أحدهما إلى

٤٥٨

وأنت بعد التأمّل فيما ذكرنا من الأمور وما ذكرنا في دليل المختار تعلم بفساد هذه الوجوه :

أمّا الأوّل : فلأنّك قد عرفت : أنّ الّذي يحتاج إليه القائل بعدم الجعل هو وجود الحكم التّكليفي المتعلّق بالمكلّف ولو معلّقا ؛ فإنّه إذا قال الشّارع : ( يجب على كلّ بالغ عاقل غرامة ما أتلفه في حال صغره وجنونه ) ينتزع منه سببيّة الإتلاف للغرامة كما لو قال للمكلّف : ( أغرم ما أتلفته ) من غير فرق بينهما في الصّلاحيّة لانتزاع السّببيّة منهما أصلا ؛ فإنّ وجوب الغرامة المتعلّق بالإتلاف حال الصّغر كوجوبها المتعلّق بالإتلاف حال الكبر فيستفاد من كلّ منهما سببيّة الإتلاف.

على أنّه يمكن فرض وجود خطاب وتكليف في حال الصّغر أيضا لكن لا بالنّسبة إلى الصّبي ، بل بالنّسبة إلى وليّه ، ولا ريب في اكتفاء هذا المقدار أيضا : ضرورة أنّ الّذي يقتضيه قضيّة التبعيّة هو وجود حكم تكليفي يصلح لانتزاع الحكم الوضعي منه سواء كان متعلّقا بنفس الفاعل أو بغيره. ولا إشكال في صلاحيّة التّكليف المتوجّه إلى الوليّ بغرامة ما أتلفه الصّبي لانتزاع سببيّة إتلافه لوجوب غرامة الوليّ كما هو واضح.

__________________

الآخر.

فظهر : ان البرهان والوجدان يشهدان على ان الإنتزاع لا معنى له.

وأمّا دعوى : ان قول الشارع دلوك الشمس سبب إخبار لا جعل.

فمن الغرائب ؛ ضرورة أنّ الوجوب حينئذ لا يحتاج إلى تصرّف آخر ، بل يكفي في تحقّقه جعل الوقت سببا له ، وإن أبيت إلاّ عن توقّف الأحكام على الإنشاء فليفرض هذا الكلام خبرا في مقام الإنشاء » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٤٥٩

وأمّا الثّاني : فلأنّك قد عرفت : وجود الصّارف للقضايا الظّاهرة في الجعل وكونها إخبارا عن جعل الحكم التّكليفي محضا وهو حكم العقل باستحالة تعلّق الجعل بالحكم الوضعيّ على ما عرفت تفصيل القول فيه في بيان دليل المختار.

وأمّا الثّالث : فلأنّك قد عرفت أيضا : أنّ أحدا لم يدّع اتّحاد الوضع والتّكليف مفهوما ؛ ضرورة استحالة ذلك على ما عرفت. وقد عرفت أيضا : أنّ مراد من عبّر بما هو ظاهره ذلك ليس ظاهره قطعا وإنّما هو في مقام نفي الجعل ليس إلاّ ، فراجع.

ثمّ إنّه ربّما يتمسّك لهذا القول أيضا بوجوه أخر ضعيفة مبنيّة على الخلط بين ما هو محلّ النّزاع وغيره ، فالإعراض عن ذكرها والقدح فيها أجدر.

وأمّا دليل القول بالتّفصيل ، فمركّب عمّا ذكرنا وذكره القائل بالجعل مطلقا. والجواب عنه ظاهر بعد التّأمّل ، هذا مجمل القول في أصل المسألة.

* * *

٤٦٠