بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٦

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-285-2
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٤٦

__________________

يهوّن الخطب أنّ المصنّف صرّح في التنبيهات بصحّة استصحاب الموضوع ووجّهه بما يقرب ممّا بيناه أو عينه.

بقي الكلام فيما ذكره في المتن من عدم جواز استصحاب حكم العقل مستندا إلى تغيّر الموضوع فنقول : إنّه يكفي بقاء الموضوع عرفا كما في استصحاب حكم الشرع بعينه فيقال :إنّ ردّ الوديعة الفلانية كان حسنا في السابق والأصل بقاؤه على حسنه ، فيترتّب عليه حكم الشرع بالوجوب ، ففي الحقيقة يرجع استصحاب حكم العقل إلى استصحاب موضوع حكم الشرع.

وأمّا المعنى الرابع وهو استصحاب حكم الشرع المستند إلى حكم العقل فيظهر من المتن أيضا عدم جوازه ؛ نظرا إلى أنّه تابع لحكم العقل ، وإنتفاء المتبوع يستلزم انتفاء التابع ، وتوجيهه : أنّه نظير ما قدّمناه من أنّه إذا كان الحكم الشرعي تابعا لحكم غير الشرع من مثل أمر المولى أو الوالدين لا يمكن جريان الإستصحاب فيه عند الشكّ في تحقّق المتبوع.

وفيه : أنّه ليس هذا من ذاك فإنّه لو لم يحرز أمر المولى هناك لا يكاد يتحقّق عنوان الإطاعة الذي تعلّق به أمر الشارع ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّه قد ثبت الوجوب الشرعي لردّ الوديعة في الزمان الأوّل وإن كان بواسطة حكم العقل ، فإذا شك في الزمان الثاني في بقاء ذلك الوجوب فلا مانع من استصحابه هذا » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٥٦ ـ ٦٢.

* وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أنّ الأحكام العقليّة إنّما تكون مبنيّة ومنفصلة بما هي أدلّة على الحكم الشرعي ، لا بما هي مناطات وعلل له ، وذلك لأنّها إنّما تكون أدلّة عليه إذا كانت أحكاما فعليّة للعقل ، وهو لا يحكم بشيء فعلا إلاّ بعد تعيّن موضوعه ولو إجمالا بخصوصيّاته ومشخّصاته الّتي لها دخل أو محتمل الدّخل ، ضرورة توقّف الحكم على تصوّر موضوعه وتشخيصه كذلك ، إذ به

١٠١

__________________

تشخّصه ولا يكاد أن يوجد بدونه ، فلا يتطرق إليه الإهمال والإجمال والتحيّر والتردّد محمولا وموضوعا ، وليست بما هي أحكام كذلك مناطاة للأحكام الشرعيّة ، بل بمناطاتها الواقعيّة ، فهي كذلك لا يكون مبنيّة ومفصلة للعجز عن التميز بين ما له دخل في ذلك وما لا دخل له ممّا عليه العقل من الخصوصيّات ، أو للعجز عن تعيين انحصار الملاك فيها ، واحتمال أن يكون فيها ملاك آخر غير متقوّم بما عليه من الخصوصيّات.

وبالجملة : انّ الأحكام العقليّة بما هي مناطات للأحكام الشرعيّة ، ليس بلازم أن يكون مبيّنة ، بل ربّما يكون بما هي كذلك مجملة غير مبنيّة لأنّها بملاكاتها يكون مناطات لها ، ومناطاتها قد لا يكون بما يتقوّم بها من الخصوصيّات معلومة ، ضرورة إمكان اطلاع العقل على مصلحة فعل أو مفسدته مع العجز عن تعيين ما له دخل من خصوصيّاته فيها ، أو مع احتماله فيه مصلحة أو مفسدة أخرى غير متقوّمة بما تتقوّم به الأولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّه اذا ارتفع بعض ما احتمل دخله في حسن فعل أو قبحه عقلا ، وفي وجوبه أو حرمته شرعا وهو يوجب انتفاء حكم العقل بأحدهما فعلا بلا شكّ فيه ولا ريب يعتريه ، فإنّه من الوجدانيّات ، ولا يكاد ان يدينها الشكّ بالبداهة أصلا ، فلا مجال فيه لتوهّم استصحابه ، كما لا يخفى.

وأمّا حكم الشّرع بوجوبه أو حرمته ، فلا قطع بانتفائه لاحتمال بقائه ببقاء مناطه وانتفاء كاشفه ودليله لا يوجب إلاّ انتفاء كشفه لا بنفسه ، فلا وجه لمنع جريان الاستصحاب فيه إلاّ لأجل عدم إحراز الموضوع ، لاحتمال اعتبار المرتفع فيه ، كما أفاده قدس‌سره وهو وجيه لو كان ذلك ، أي إحراز الموضوع في هذا الباب منوطا بنظر العقل. وعليه فلا مجال لجريان الاستصحاب في الشكّ في الحكم الشّرعي ، ولو كان دليل النّقل ، كما يأبى تفصيله لا بنظر العرف ، وإلاّ فربّما لا يكون انتفاء ذلك موجبا له بنظره ، بل يكون القضيّة المشكوكة بعينها تلك المعلومة سابقا موضوعا ومحمولا ، من غير حصول تفاوت بينها بذلك ، فيكون حينئذ محرزا ، ومعه لا مجال

١٠٢

عدم معقوليّة استصحاب الأحكام العقليّة

أقول : ظاهر هذا الكلام بل صريحه : يعطي كون الكلام في الحكم الشّرعي المتوصّل إليه من الحكم العقلي بقاعدة التّلازم لا في نفس الحكم العقلي ، ولا بدّ أن يكون هذا أيضا هو مراد من توهّم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ؛ لأنّ الاستصحاب في نفس الأحكام العقليّة ممّا لا يتعقّل له معنى قطعا ؛ لأنّ الشّك في الحكم للحاكم ممّا لا يتعقّل أصلا ، فهو في الزّمان الثّاني : إمّا أن يحكم كما حكم به في الزّمان الأوّل ، أو لا يحكم. وعلى الثّاني : يقطع بعدم وجود الحكم في الزّمان الثّاني ؛ لأنّ عدم حكمه يكفي في القطع بعدم حصول إنشاء الحكم منه. وهذا نظير استصحاب نفس الإجماع في مورد الخلاف ؛ فإنّه من غير المعقولات البديهيّة.

وإجراء الاستصحاب في الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي وإن كان لا معنى أيضا له حسب ما ستقف عليه ، إلاّ أنّه ممّا يمكن أن يتوهّم جريان الاستصحاب فيه : من حيث إنّ حكم العقل إنما صار دليلا على وجود الحكم الشرعي وحدوثه بطريق اللّم ، فلا مانع من الحكم ببقائه في صورة عدم وجود

__________________

لمنع الاستصحاب بلا ارتياب. نعم إذا كان موجبا للتفاوت بينهما عرفا ، فلا مجال له أيضا.

فانقدح بذلك انّه لا وجه للتّفصيل بين أن يكون الدّليل عليه حكم العقل أو النقل ، إذ قد عرفت انّه إن كان الحاكم في باب الموضوع هو العقل ، فلا مجال للاستصحاب في الحكم الشّرعي أصلا وإن كان هو العرف ، فالحال كما عرفت من التّفصيل بين الخصوصيّات مطلقا ، من غير فرق في ذلك بحسب الدّليل » إنتهى. انظر درر الفوائد : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

١٠٣

الدّليل على انتفائه من جهة الاستصحاب ، كما في استصحاب الحكم الثّابت من الإجماع. ومن هنا كان ظاهرهم جريان الاستصحاب فيه أيضا كما عرفته من الشّيخ كاشف الغطاء. ومن هنا قال شيخنا الأستاذ العلاّمة « دام ظلّه » : ( ولم نجد من فصّل بينهما ) (١) هذا. مضافا إلى أنّ استصحاب الحكم العقلي ممّا لا ينفع في ترتيب الحكم الشّرعي ، إلاّ على تقدير كون الملازمة بين الحكمين شرعيّة لا عقليّة فتأمّل.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٧.

١٠٤

عدم جريان الإستصحاب في الحكم العقلي

من حيث عدم تصوّر الشك فيه

ثمّ إنّ الكلام في المقام حسب ما صرّح به الأستاذ العلاّمة ليس في اعتبار الاستصحاب في الأحكام العقليّة بعد تحقّق موضوعه ، بل إنّما الكلام في أصل تحقّق موضوعه ، فنقول :

إنّه لا إشكال ولا ريب في أنّه يشترط في تحقّق موضوع الاستصحاب وصدقه : كون القضيّة المشكوكة عين القضيّة المتيقّنة من جميع الجهات المأخوذة فيه ، إلاّ أنّ الفرق بينهما كون المحمول في القضيّة المتيقّنة متيقّن الثّبوت للموضوع المفروض فيها ، وفي القضيّة المشكوكة مشكوك الثّبوت بحيث يصدق على الحكم بالمحمول في القضيّة المشكوكة : أنّه إبقاء للحكم وإثبات له في موضوعه الأوّلي على ما هو معنى الاستصحاب حسب ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا ، فالاستصحاب لا يصدق أبدا ، إلاّ على تقدير كون الشّك في الزّمان الثّاني متعلّقا ببقاء المحمول مع القطع بوجود الموضوع.

ومن المعلوم ضرورة عند ذوي الأفهام المستقيمة والعقول الكاملة : أنّ القضايا العقليّة كلّها مبيّنة ومفصّلة لا يمكن عروض الشّك فيها من حيث المحمول أبدا ؛ لأنّ العقل لا يحكم بشيء ، إلاّ بعد الإحاطة بجميع ما له دخل في وجوده من الأعدام والوجودات المقتضية له اقتضاء العلّية التّامة الّتي يمتنع انفكاك المعلول عنها ، وإلاّ لا يعقل له الحكم به ؛ لأنّ احتمال مدخليّة شيء فيه مع عدم إحرازه

١٠٥

يوجب الشّك في علّة وجوده ، فلا يمكن معه القطع بالمعلول ؛ لأنّ الشّك في العلّة لا ينفكّ عن الشّك في المعلول عقلا ؛ لأنّه قضيّة العلّية.

وهذا الّذي ذكرنا لا يختصّ بالقضايا العقليّة الّتي يكون الحاكم فيها العقل ، بل يجري في جميع القضايا من الشّرعيّة والعرفيّة وغيرهما بالنّسبة إلى الحاكم فيها فإنّ الحاكم ما لم يحرز العلّة التّامّة للحكم في القضيّة لا يعقل له الحكم به فيها ، فالشّك في القضايا العقليّة لا يمكن أن يكون في المحمول مع القطع بوجود الموضوع.

بل لا بدّ أن يكون من جهة الشّك في ارتفاع ما له دخل في الموضوع من القيود المعتبرة فيه ، وإلاّ لزم انفكاك العلّة عن المعلول ، لما قد عرفت : من أنّ الموضوع في القضايا العقليّة لا بدّ من أن يكون علّة تامّة لوجود المحمول ، وإلاّ امتنع الحكم به.

ولمّا كان الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي عارضا لما هو معروض للحكم العقلي ـ حسب ما هو قضيّة التّلازم ـ فلا بدّ من أن يكون الشّك فيه دائما من جهة الشّك في نفس الموضوع ، فلا يصدق معه الاستصحاب موضوعا حسب ما عرفت.

فإن قلت : الحاكم إنّما يحتاج إلى إحراز العلّة التّامّة للحكم في زمان الحكم به ، لما قد ذكرت : من استحالة الحكم بشيء من دون إحراز العلّة التّامّة له ، وهذا لا ينافي الشّك في بقاء الحكم الّذي يسمّى بالوجود الثّانوي من جهة الشّكّ في نفس المحمول ، لأجل احتمال وجود الرّافع ، أو رافعيّة الموجود مع إحراز الموضوع في زمان القطع به.

١٠٦

نعم ، قضيّة ما ذكر عدم إمكان الحكم في زمان القطع به ، إلاّ بعد الإحاطة بجميع ما له دخل فيه من الوجودات والأعدام ، لكن الحاكم بالاستصحاب ليس نفس ما دلّ على ثبوت الحكم في الزّمان الأوّل حتّى يحتاج إلى إحراز العلّة التّامّة ، وإلاّ لم يكن من الاستصحاب في شيء ، بل الحاكم فيه : إمّا الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ، أو الحكم العقلي الظّني بالبقاء.

قلت : بعد تسليم أنّ العقل لا يحكم بشيء ، إلاّ بعد الإحاطة بالعلّة التّامّة لا وقع للسّؤال المذكور ؛ لأنّ الشّك في بقاء الحكم في الزّمان الثّاني لا يعقل ، إلاّ من جهة الشّك في وجود العلّة التّامّة فيه ، إمّا من جهة الشّك في وجود ما لعدمه دخل فيه ، أو عدم ما لوجوده دخل فيه ، وإلاّ لزم تفكيك العلّة عن المعلول الّذي يقضي صريح العقل باستحالته.

فبعد وجود ما يشكّ في رافعيّته للحكم في الزّمان الثّاني لا بدّ من أن يشكّ في بقاء الموضوع في القضيّة العقليّة ، بل يقطع بعدمه ؛ لأنّ العقل إنّما حكم مع أخذ عدمه في الموضوع ، وإلاّ لم يعقل الشّك في بقاء المحمول من جهته ، فمع وجوده يتبدّل موضوع الحكم إلى موضوع آخر ، فالرّافع ممّا لا يتصور له معنى في القضايا العقليّة المستندة إلى العلّة التّامة للشّيء ؛ لأنّ الرّافع عبارة : عمّا يكون مانعا من اقتضاء المقتضي للاقتضاء أينما وجد ، فإن وجد في الزّمان الأوّل فيسمّى دافعا وإن وجد في الزّمان الثّاني فيسمّى رافعا ، فالرّافع : هو المانع حقيقة.

ومعلوم أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التّامّة.

فمتى شكّ في وجوده يشكّ في بقاء ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة على ما عرفت : أنّ الموضوع في القضايا العقليّة : هو العلّة التّامّة.

١٠٧

ومن هنا أطبق الأصوليّون على عدم تطرّق النّسخ في الأحكام العقليّة ؛ من حيث إنّ وجود العلّة الّتي هي الموضوع في حكمه لا ينفكّ عن الحكم ، والمفروض : أنّه ليس له قضيّة لفظيّة يتوهّم الاستمرار الظّاهري فيها كما في القضايا الشّرعيّة ، ولأجل ما ذكر أوردوا على من ذهب إلى كون الحسن والقبح ذاتيّين في جميع الأفعال : بأنّهما لو كانا ذاتيّين لما وقع النّسخ في الشّريعة. وإن أجابوا عنه بما لا ينافي ما ذكرنا ، وليس هنا محلّ ذكره ، ومن أراده فليراجع إلى ما كتبناه في التّحسين والتّقبيح مفصّلا.

فإن قلت : كيف ينكر حكم العقل بشيء مع عدم إحرازه جميع ما يعتبر فيه من الأعدام والوجودات من حيث المدخليّة؟ مع أنّه يرى بالوجدان والعيان حكمه بشيء على سبيل الاستقلال مع عدم إحاطته بما ذكر في مورد يقطع بتحقّق جميع ما له دخل في تحقّق الشّيء إجمالا على فرض المدخليّة ، وإن لم يعلم أصل المدخليّة.

وهذا معنى تمسّكهم كثيرا بقاعدة الاشتغال وتحصيل القطع بالبراءة في دوران الأمر بين التّخيير والتّعيين كثيرا في الأحكام العقليّة في الأصول والفروع ، فما ذكرته : من أنّه لا بدّ في حكم العقل أن يحرز مدخليّة عدم ما شكّ في رافعيّته في زمان الحكم لا وجه له ، لم لا يحكم به من جهة العلم إجمالا بوجود ما له دخل في الحكم بحسب الواقع : بأن يقطع بعدم ما شكّ في رافعيّته في زمان الحكم؟

قلت : أوّلا : إنّ ما ذكرته من إمكان الشّك للحاكم في أنّ أيّ شيء له مدخل في حكمه وإن علم إجمالا بتحقّق ما له دخل فيه في الواقع في زمان الحكم مع عدم علمه بأنّه أيّ شيء؟ وكيف هو؟ غير معقول بالنّسبة إلى نفس الحاكم ؛ لأنّ

١٠٨

المدخليّة الواقعيّة وعدمها إنما هو بالنّظر إلى حكمه ، وإلاّ فلا واقعيّة لما له دخل في الحكم من حيث الوصف بالنّظر إلى نفس الحاكم كما هو غير مخفيّ على ذوي الأفهام المستقيمة. ودعوى الوجدان والعيان فيه مخالفة للوجدان والعيان ، بل الضّرورة من جميع ذوي الأفهام.

وأمّا التّمسّك بتمسّكهم بقاعدة الاشتغال في دوران الأمر في الأحكام العقليّة الّذي يلزمه جهل العقل بما هو المناط في الحكم ، فقد ذكرنا شطرا من الكلام عليه فيما علّقناه على الجزء الأوّل والثّاني من « الكتاب » فراجع إليه حتىّ تكون على بصيرة منه.

وثانيا : سلّمنا تعقّل ما ذكرته ، لكنّه أيضا لا يضرّ ما نحن بصدده ؛ لأنّ الشّك في الحكم العقلي في الزّمان الثّاني بناء على ما ذكرته مستندا إلى وجود ما يحتمل مدخليّة عدمه في وجود الحكم ، غاية الأمر : أنّه لمّا كان معدوما في الزّمان الأوّل على سبيل الإجمال حكم العقل بما حكم به ، فلمّا وجد في الزّمان الثّاني شكّ فيه.

ومعلوم : أنّ هذا الشّك أيضا يرجع إلى الشّكّ في بقاء الموضوع ؛ إذ يحتمل أن يكون عدم الموجود جزءا له فبوجوده يشكّ في بقائه. فأين القطع بوجود الموضوع في القضايا العقليّة في زمان الشّك؟ وأين الشّك الغير المستند إلى الشّك في بقاء الموضوع فيها؟

نعم ، هنا شيء قد يقال علي تقديره بإمكان تحقّق الاستصحاب موضوعا في الأحكام الشّرعيّة المستندة إلى القضيّة العقليّة. وهو : القول بكون الحاكم في إحراز الموضوع ، والبقاء ، والنّقض في باب الاستصحاب هو العرف ولو من باب المسامحة ، فكلّ ما حكم العرف به في الزّمان الثّاني : أنّه كان كذا فشكّ في بقائه

١٠٩

كلّية يحكم بتحقّق الاستصحاب موضوعا ، وإن رجع الشّك بمقتضى الدّقة العقليّة إلى الشّك في بقاء الموضوع.

فإذا حكم العرف بكون هذا المائع حراما سابقا من جهة حكم العقل بحرمته من حيث صدق عنوان المضرّ عليه مع كونه مشكوك الضّرر في الزّمان الثّاني الّذي يلزمه الشّك في موضوع الحكم بمقتضى الدّقة العقليّة : من حيث إنّ الموضوع في حكمه : هو نفس عنوان المضرّ لا المائع المخصوص من حيث كونه مائعا ، وإلاّ لم يعقل الشّك في بقاء حرمته غاية الأمر : أنّه حكم بحرمته في السّابق من جهة وجود ما هو معروض للحرمة فيه وصدقه عليه ، إلاّ أنّ العرف ربّما يتسامحون ويقولون : إنّ هذا المائع كان حراما فشكّ في حرمته ، من غير أن ينظروا إلى كون الحرمة عارضة للعنوان المضرّ الموجود فيه سابقا لا لنفسه هذا. ولعلّه يأتي بعض الكلام منّا في ذلك على هذا التّقدير أيضا فانتظر.

ثمّ إنّ الكلام في المقام إنّما هو بالنّظر إلى استصحاب الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي ، وأمّا استصحاب الموضوع كاستصحاب الضّرر في المثال المذكور ليترتّب عليه الحكم فهو كلام آخر لا دخل له بالكلام في المقام وسنتكلّم فيه إن شاء الله.

١١٠

(٢٣) قوله : ( وهذا بخلاف الأحكام الشّرعيّة (١) ؛ فإنّه قد يحكم الشّارع على الصّدق ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨ )

أقول : أراد بذلك دفع ما ربّما يتوهّم : من جريان ما ذكره في استصحاب الأحكام الشّرعيّة أيضا فيما لم يكن مستندا إلى القضيّة العقليّة ؛ فإنّ الشّك في الحكم دائما لا بدّ أن يكون مستندا إلى الشّك في المناط والعلّة التّامّة ، فيلزم منه سدّ باب الاستصحاب في جميع الأحكام.

وحاصل الدّفع : أنّ الشّك في الحكم الشّرعي وإن كان مستندا إلى الشّك في بقاء المناط والعلّة له دائما ـ بل الشّك في جميع الأشياء وجودا وبقاء لا بدّ من أن يستند إلى الشّك في العلّة التّامة ـ إلاّ أنّه لا ملازمة بين العلّة التّامة والموضوع في القضايا الشّرعيّة ، بمعنى : أن يكون الموضوع فيها هو العلّة التّامة دائما.

فيمكن أن يحكم الشّارع بحرمة عنوان شكّ في بقاء حرمته في ثاني الزّمان مع القطع ببقاء أصل العنوان المعروض للحكم في القضيّة من جهة الشّك فيما هو

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لا يخفى ما فيه من سوء التأدية ؛ إذ لا فرق بين ان يكون موضوع حكم العقل عنوان المضرّ وبين أن يكون موضوع حكم الشرع هذا العنوان ، فلو لم ينفع هذا الحكم الكلّي على الموضوع الكلّي في استصحابه عند الشك في بقاء قبح الصدق الخاص بالنسبة إلى حكم العقل لم ينفع في استصحاب حكم الشرع أيضا في المثال المفروض وإلاّ فما الفرق؟

والتحقيق : صحّة الإستصحاب في المقامين ، وشبهة عدم بقاء الموضوع قد عرفت جوابها فإذا كان الصدق الخاص قبيحا في السابق أو حراما من حيث كونه مصداقا لعنوان المضرّ فلا مانع من استصحاب قبحه أو حرمته » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٣ / ٦٢.

١١١

المناط للحكم في نظر الشّارع واقعا ، وأنّه هل هو موجود أم لا؟ فيقال حينئذ : إنّ العنوان الكذائي كان حراما سابقا والأصل بقاء حرمته ، وهذا بخلاف الحكم العقلي ؛ فإنّه إنما يعرض لما هو المناط والعلّة أوّلا وبالذّات.

(٢٤) قوله ١ : ( فإن قلت : على القول ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٩ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفي الإعتراض نظر ؛ لعدم ابتناءه على قاعدة التطابق ؛ فإن المراد به إن كان استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ـ على ما عليه العدليّة ـ فلأنّ المدّعى رجوع القيود إلى الموضوع في القضيّة الواقعيّة من حيث هي كذلك.

وإن كان مناط الحكم غير الحسن والقبح أو كان جزافيا إقتراحيّا لا مناط له أصلا فلا قيد له إلاّ إرادة الحاكم.

ومقتضي ما ذكر رجوعها إلى الموضوع ، والمراد بالإرادة هي التكوينيّة وإلاّ فالتشريعيّة عين الحكم قال الاستاذ ـ بعد ما أبطل ما نسبه الى الفاضل التوني رحمه‌الله ـ :

( ثم اعلم انه بقي هنا شبهة أخرى في منع جريان الإستصحاب في الأحكام التكليفيّة مطلقا : وهي ان الموضوع للحكم التكليفي ليس إلاّ فعل المكلّف ، ولا ريب ان الشارع بل كلّ حاكم إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخصاته التي لها دخل في ذلك الحكم ثم يحكم عليه.

وحينئذ فإذا أمر الشارع بفعل كالجلوس في المسجد مثلا ، فإن كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه الغير المقيّد بشيء أصلا ، فلا إشكال في عدم ارتفاع وجوبه إلاّ بالإتيان ؛ إذ لو ارتفع الوجوب بغيره كان ذلك الرّافع من قيود الفعل وكان الفعل المطلق مقيّدا بعدم هذا القيد من أوّل الأمر والمفروض خلافه ... ).

إلى أن يقول :

( وبالجملة : فينحصر مجرى الإستصحاب في الأمور القابلة للإستمرار في موضوع وللإرتفاع

١١٢

__________________

عن ذلك الموضوع بعينه كالطهارة والحدث والنجاسة والملكيّة والزوجيّة والرّطوبة واليبوسة ونحو ذلك ) إنتهى. [ فرائد الأصول : ٣ / ١٤٥ ـ ١٤٦ ].

فانظر بعين الإنصاف في انه صرّح بأنّه لا يختلف الحال باختلاف الحكّام وأنحاء الحكم ، بل كلّ حاكم إنّما يلاحظ كلّ ما له دخل في حكمه حتى عدم الرّافع في موضوع حكمه.

ومن المعلوم انّ هذه القضيّة واقعيّة والمقصود رجوع كلّ ما له دخل في ثبوت المحمول للموضوع إلى الموضوع من غير فرق بين ان يكون الحاكم حكيما يلاحظ المصالح والمفاسد ، أو غيره ممّن يجازف في حكمه ، غاية الأمر : أن هذا المعنى بالنسبة إلى الحكيم أظهر ، كما انه بناء على التحسين والتقبيح أظهر ، فلا وجه لتفريع الإشكال في هذا المقام على التطابق.

وقد ظهر بما حقّقناه صحّة ما رام إبطاله من الفرق بين قيد الموضوع وبين قيد النسبة.

وإن كان المراد منها الملازمة وتبعيّة الأحكام لما في متعلّقاتها من المصالح والمفاسد فقد اتّضح عدم ابتناء الإشكال عليها أيضا ، فيمكن أن يكون المراد تقرير الإشكال على الوجه الأوضح لا الإبتناء فتفطن » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ١٠٧ ـ ١٠٦.

* وقال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« هذا إعتراض على قوله : ( بخلاف الأحكام الشرعيّة ... إلى آخره ) وتقرير السؤال : أن نتيجة القضيتين أعني : ما تقرّر من كون أحكام الشّرع ناشئة من المصالح والمفاسد الواقعيّة ، ومن التّلازم بين حكم العقل والشّرع أنه إذا حصل القطع بحكم الشارع في مورد ، فلا بد أن يكون ذلك ناشئا من حسن أو قبح ، وأنّ العقل إذا فرض اطلاعه على جهة الحكم الّتي حكم الشّارع من جهتها فلا بد أن يحكم العقل أيضا على سبيل القطع على طبق حكم الشّرع.

وبالجملة : إنّه لا بدّ أن يكون مناط حكم الشّرع هو مناط حكم العقل أيضا وهو : إن اطلع عليه وعلم به تفصيلا كما في موارد المستقلاّت العقليّة فهو ، وإلا فالعقل يقطع إجمالا بوجود

١١٣

__________________

المناط الواقعي في مورد حكم الشّرع لامتناع تخلف المعلول عن علّته ، فإذا فرض الشّك في بقاء حكم الشّرع في الزّمان الثّاني في الموارد الّتي لا يستقل بها العقل ، فلا بدّ أن يكون هذا الشك ناشئا من الشك في بقاء المناط الواقعي المعلوم إجمالا لامتناع الشك في بقاء الحكم مع القطع ببقاء مناطه لامتناع تخلف العلّة عن معلوله ، ففي كل مورد يشك في بقاء الحكم الشّرعي التعبّدي لا بد أن يكون هذا الشك ناشئا من بقاء مناطه الّذي هو موضوع الحكم الّذي يقوم به في الواقع ، ومقتضاه عدم جواز استصحاب الأحكام الشّرعيّة كالعقليّة لاشتراكهما في علّة عدم الجريان.

وحاصل الجواب : أن السؤال إنما يتجه على القول باعتبار الإستصحاب من باب الظنّ لما عرفت : أنّ الشكّ في بقاء الحكم الواقعي أو الظن به لا ينفك عن الشك في بقاء موضوعه الواقعي أو الظنّ به ، وأمّا إن قلنا باعتباره من باب التعبّد والأخبار فلا ريب في أنّ المدار في بقاء الموضوع حينئذ إنّما هو على بقاء ما جعل موضوعا للحكم في الأدلّة بحسب العرف.

وبقاء هذا الموضوع عرفا قد يكون مع الشك في بقائه ، وقد يكون مع الظنّ به ، وقد يكون مع الظنّ بخلافه كما أوضحناه عند شرح قوله : ( نظرا إلى أن الأحكام العقليّة كلّها مبنيّة ... إلى آخره ).

وبالجملة : إنّ موضوع الحكم العقلي هو علّته التّامة كما أوضحناه هنا وهناك ، وأمّا موضوع الحكم الواقعي الّذي لا يدور مدار العلم والجهل فهو كذلك أيضا ، وأمّا موضوع الأحكام الفعليّة المتوجّهة إلى المكلّفين فهو المذكور في الأدلّة وهو أعمّ من موضوع الحكم الواقعي فقد يوافقه وقد يتخلّف عنه ولا يدور مدار العلم بالحكم ولا الظنّ به ، بل قد يقطع به مع الشكّ في حكمه كما أوضحناه هناك.

نعم لو بيّن الشّارع الحكم الواقعي وموضوعه الواقعي الذي قام به لم يصح الاستصحاب حينئذ مع الشكّ في بقاء موضوعه لعدم صدق بقاء الموضوع حينئذ » إنتهى. أنظر أوثق

١١٤

__________________

الوسائل : ٤٤٥.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : حاصل الإيراد : أنّه يشكل بناء على ما ذكرت إجراء الاستصحاب في مطلق الأحكام الشّرعيّة على مذهب العدلية من كونها تابعة للمصالح والمفاسد وأنّها ألطاف في الواجبات العقليّة لأنّه بناء على هذا يتّحد موضوع الواجب العقلي والواجب الشّرعي في جميع الواجبات كما يشهد به قاعدة التطابق فما هو حسن واقعا موضوع للوجوب شرعا كما هو موضوع حكم العقل بلزوم ارتكابه وما هو قبيح واقعا موضوع للحرمة شرعا كما انّه موضوع لإلزام العقل بالتحرّز عنه ، ولا يختصّ هذا بالمستقلاّت العقليّة بل هو عام في مطلق الأحكام الشّرعيّة على حسب ما يقتضيه قاعدة التطابق ، فالموضوع لحكم العقل والشّرع هو الحسن والقبح الواقعيّان ، فكما أنّ الشكّ في بقاء الحسن أو القبح راجع إلى الشك في الموضوع كذلك الشكّ في بقاء الحكم الشّرعي راجع إلى الشكّ في بقاء موضوعه.

وحاصل دفع الإشكال : أنّ ما ذكرت من اتّحاد مناط الحكمين وكذا موضوعهما واقعا مسلّم ، ولكنّه مانع ، عن التفكيك بين الحكمين في إجراء الاستصحاب في احدهما دون الآخر إذا كان مبني الاستصحاب على الظنّ ، إذ لا يعقل حصول الظنّ ببقاء الحرمة دون القبح بعد إثبات الملازمة بينهما ، وأمّا لو كان بناء الإستصحاب على التعبّد فلا ، إذ المدار حينئذ على ما يستفاد من دليل الاستصحاب ، ومن المعلوم أنّه لا يدلّ إلاّ على التعبّد بالحالة السّابقة في الشرعيّات.

وأمّا ما ذكرت : من أنّ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي مرجعه إلى الشكّ في بقاء عنوان الموضوع الواقعي الّذي هو المناط في الحكم العقلي فهو مسلّم ، إلاّ أنّ قوام الاستصحاب ليس على إحراز الموضوع بهذا المعنى ، وإلاّ لم يعقل الشكّ في الحكم ، بل المناط إحراز ما هو الموضوع في ظاهر الأدلّة أو بحكم العرف ، ومن المعلوم إمكان تغاير الموضوع في

١١٥

__________________

الاحكام الشرعيّة ، نظرا إلى ظواهر الأدلّة مع ما هو المناط الواقعي.

والسّر في ذلك : أنّ للشارع أن يعبّر عن الموضوع الواقعي بعناوين أخر ملازمة لما هو الموضوع في حكم العقل أو أخصّ منه إذا لم يتعلّق غرضه إلاّ ببيان الحكم في بعض المصاديق أو بعنوان أعمّ لإمكان أن يؤدّي غرضه بذلك.

والحاصل : أنّه لا يجب أن يعبّر عن الموضوع في مقام التّعبير بالعنوان الّذي هو موضوع في الحكم العقلي ومناط للحكم واقعا وهذا بخلاف الحكم العقلي حيث إنّه لا طريق للعقل إلى تشخيص الموضوع إلاّ بهذا العنوان الّذي أدرك حكمه وليس له لسان حتّى يأخذ بعض العناوين الملازمة له موضوعا لحكمه.

مثلا إذا حكم الشّارع بحرمة الخمر لكونه مسكرا فقد جعل عنوان الخمريّة موضوعا لحكمه مع كونه أعمّ من وجه من المناط الّذي هو عنوان للموضوع الواقعي فلو شكّ في حرمتها للشكّ في بقاء وصف الإسكار يصحّ أن يقال : إنّ هذا الخمر كان حراما في السّابق والآن شكّ في بقاء حرمتها فيستصحب ، ولكنّ التّغاير بين المناط وعنوان الموضوع في العقليّات غير معقول فلا يصحّ الاستصحاب فيها ولا في الشّرعيّات المستكشفة بها ، أمّا في العقليّات فواضح ، وأمّا في الشّرعيّات فلأنه لا يستكشف الحكم الشّرعي من الحكم العقلي إلاّ للموضوع الّذي أدرك العقل حكمه كما لا يخفي » إنتهى. انظر حاشية فرائد الأصول :٣٢٣ ـ ٣٢٥.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى عدم ابتناء الإشكال على هذا القول ، فانّ ملاكه ليس إلاّ الشكّ في مناط حكم الشّارع وموضوعه كان مناطه ما هو المناط في حكم العقل ، كما على هذا القول أو غيره ، كما على قول الأشاعرة ، إذ لا بدّ في الحكم الشّرعي من مناط لا محالة ، بحيث لا يتطرق إليه الشّكّ أبدا ما لم يشكّ في مناطه ، ولذا كان النّسخ حقيقة دفعا لا رفعا عند الكلّ.

١١٦

أقول : هذا ردّ على ما ذكره من التّفرقة بين الأحكام العقليّة والشّرعيّة بقوله :« وهذا بخلاف ... إلى آخره » (١).

وحاصل الإيراد : أنّ من المقرّر عند العدليّة من الإماميّة والمعتزلة بالبراهين العقليّة وبالأدلّة القطعيّة النقليّة : كون الأحكام الشّرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد النّفس الأمريّة العارضة للأفعال ، وإن اختلفوا في كون عروضها بالذّات ، أو بالاعتبار ، وكونها ألطافا في الأحكام العقليّة.

ولهذا اتّفقوا على : أنّ ما حكم به الشّرع حكم به العقل أيضا. كما أنّ ما حكم به العقل حكم به الشّرع أيضا ، خلافا للأشاعرة المنكرين للتّحسين والتّقبيح العقليّين وتبعيّة الأحكام الشّرعيّة للجهات ، لزعمهم كون نفس الإرادة مرجّحة ، فالحسن عندهم : ما أوجبه الشرع. كما أنّ القبيح : ما نهى عنه الشرع ، من غير أن يكون للأمر والنّهي تأثير في الفعل ، كما أنّهما ليسا من آثار الجهات.

ومعنى القضيّة : أنّه بعد ما أدرك العقل كون حكم الشارع مسبّبا عن الجهات

__________________

نعم يمكن الشكّ بدون ذلك في غير الأحكام الشّرعيّة من أحكام ساير الموالي ، لإمكان رفع المولى في الزّمان الثّاني حكمه مع بقاء ما أخذه أوّلا حقيقة بلا تغيير أصلا بفقد ما أخذ وجوده أاً وجود ما اعتبر عدم فيه ، بل انّما يرفعه لما بدا له الآن مع بقاء المناط على ما كان ، لكنّه بمعزل من الإمكان في الأحكام الشّرعيّة.

وانقدح بذلك أيضا انّ تخصيص الإشكال بما استند إلى العقل بلا مخصّص ، بل الأحكام هي متساوية الإقدام في ذلك ، كانت مستندة إلى العقل أو النّقل ، كما أشرنا إليه في الحاشية السّابقة ، فلا تغفل » إنتهى. انظر درر الفوائد : ٢٩٩.

* أقول : ولاحظ تعليقة صاحب قلائد الفرائد في قلائده : ٢ / ٧١ ـ ٧٨.

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٨.

١١٧

المقتضية له في نفس الأمر ، وإلاّ لزم التّرجيح بلا مرجّح وقطع بحكمه في قضيّة يحكم إجمالا : بأنّه لا بدّ من أن يكون كذلك في الواقع من حيث كونه مسبّبا عمّا يقتضيه واقعا وفي نظر الشّارع الّذي لا يتخلّف عن الواقع أبدا وإن لم يعلم تفصيلا بما هو المناط له في نظر الشّارع ، إلاّ أنّه يعلم إجمالا بوجوده من جهة حكم الشّارع المعلول له بالفرض. فالحكم الشّرعي لا ينفكّ أبدا عن حكم العقل بالمعنى الّذي عرفته ، ففي الحقيقة يرجع حكم العقل إلى تصديق الشّرع في حكمه من جهة علمه إجمالا بوجود المرجّح لحكمه.

وإليه يرجع ما عن بعض الأفاضل في معنى القضيّة : أنّ العقل على تقدير علمه تفصيلا بالجهة يحكم حكما إنشائيّا على طبق حكم الشّرع ، فليس حكم الشّرع دليلا على حكم العقل. كما في حكم العقل بالنّسبة إلى حكم الشّرع ، كيف! ويمتنع حكم العقل مع عدم علمه تفصيلا بالمناط والجهة ، فالمناط في حكم العقل والشّرع لا بدّ من أن يكون واحدا ، وإلاّ لم يكن معنى لتطابقهما.

فإذا حكم الشّارع بحرمة شيء كالكذب مثلا فلا بدّ من أن يكون مناطه هو الجهة المقتضية للحرمة عند العقل واقعا بحيث لو علم به مع قطع النّظر عن بيان الشّرع لحكم بها ، فإذا بني على عدم تحقّق موضوع الاستصحاب في الأحكام العقليّة لا بدّ من أن يبنى عليه في الأحكام الشّرعيّة أيضا ؛ لعدم انفكاكها عن الأحكام العقليّة بمقتضى التّلازم الثّابت من الطّرفين.

وهذا البيان كما ترى ، صريح في النّقض بالأحكام الشّرعيّة الثّابتة بالأدلّة الشّرعيّة الغير المستندة إلى التّحسين والتقبيح العقليّين من حيث اتحادها بحسب المناط للحكم العقلي الموجود في مورد حكم الشّرع بقاعدة التّطابق ، فالنّقض إنّما

١١٨

هو بالنّسبة إلى الحكم الابتدائي للشّرع الّذي هو المتبوع ، لا الحكم الثّانوي التّابع في الاستكشاف لحكم العقل ، فليس المراد منه : النّقض بالأحكام الشّرعيّة الثّابتة من التّحسين والتّقبيح بملاحظة قاعدة التّلازم. كيف؟ ومحلّ الكلام والمنقوض هو نفس هذا الحكم.

وهذا هو مراد الأستاذ العلاّمة أيضا ممّا ذكره في العبارة حسب ما صرّح به في مجلس البحث وإن كان ربّما يظهر من العبارة في باديء النّظر خلافه من حيث وقوع التمثيل في كلامه لحكم الشّرع بما يحكم به العقل أيضا ابتداء ، لكنّه محمول على مجرّد الفرض كما هو ظاهر ، فلا تغترّ بالتّمثيل بعد كون المقصود معلوما.

١١٩

حاصل ما أفاده في دفع الإشكال المذكور (١)

__________________

(١) قال المحقق المؤسّس الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفي الجواب نظر ، وذلك لأنّ المستفاد من الدليل من موضوعيّة شيء للحكم :

إمّا بمعنى كونه مستجمعا لجميع ما له دخل فيه حتّى عدم الرّافع ، فلا يعقل الشك في البقاء بحيث يجري فيه الأصل ؛ لأنّ المفروض قيام الدليل الذي هو حاكم عليه ، ولا منافات بين ما حكم به العقل وبين ما دلّ عليه الدليل.

وإمّا بمعنى كونه علّة مادّيّة وإن لم يستجمع لجميع ما له دخل في الحكم كي لا ينافي الشك في البقاء من حيث الشك في الرّافع ، فهذا لا ينفع بعد العلم بأن الموضوع في الواقع ونفس الأمر إنّما هو المستجمع لجميع ما له دخل في ثبوت الحكم وانه ملحوظ في نظر كلّ حاكم خصوصا الشارع في الموضوع وانه لم يحكم إلاّ على المستجمع لجميع الجهات ، وكيف يتّجه الحكم بجريان أخبار الباب بالنسبة إلى ما لم يعلم انّه موضوع في نظر الحاكم؟ لعدم استفادة إقترانه بعدم المانع كما هو المفروض وحكم العرف بان الحكم الشرعي الذي ثبت لما هو الموضوع له في الأدلّة الشّرعيّة كان موجودا ويشك في بقاءه لا معنى له في المقام بعد العلم بان الموضوع في نظر الشارع ليس إلاّ المستجمع الذي لم يظهر إنطباقه على ما هو في الدليل.

فإنّ العرف إمّا يستفيد الموضوعيّة من الدليل على ما حكم به العقل فلا يبقى مجرى للأصل. وإمّا يحكم بان الموضوع أعمّ مما يحكم به العقل ونعلم بانه في الواقع موضوع لحكم الحاكم ؛ لأن صدق العنوان المستفاد من الأخبار لا يدور مداره ، فهذا عدول عن الواقع إلى العرف ومثله يجري فيما لو اطّلعنا على جميع ما له دخل في الحكم أيضا ، ومعرفة المناط لا تصلح للفرق ، مع ان العرف إنّما يحكم بالأعمّيّة في أحكامه كالكرّيّة لا في الأحكام المجعولة ؛ فإن اختلاف الموضوع حينئذ تابع لنظر الحاكم لا غير ؛ فإنّ اعتبار أمر من الأمور وعدمه لا مرجع

١٢٠